11 مارس، 2025

نظّم مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية بالتعاون مع معهد السياسة والمجتمع ورشة عمل تحت عنوان “سوريا ما بعد الأسد: السيناريوهات والديناميات الإقليميّة” بمشاركة مجموعة واسعة من الخبراء والأكاديميين وصانعي السياسات من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والولايات المتحدة وأوروبا وروسيا. كما حضر الورشة التي استمرّت لمدّة يومين مجموعة من المحلّلين السوريين والناشطين في المجتمع المدني وصانعي السياسات لمناقشة الأحداث التي أدّت إلى سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024. وتناول المشاركون مجموعة متنوّعة من المواضيع، مع التركيز على المسار الذي تسلكه سوريا وانعكاساته على الأوضاع الجيوسياسة الإقليمية. 

 يقدّم هذا التقرير الذي اعدّته ميسّرة ورشة العمل ملخّصاً حول القضايا التي تناولها الاجتماع والتوصيات الصادرة عنه. 

النقاط الرئيسيّة: 

  • يجب رفع العقوبات المفروضة على سوريا بشكل كامل ومن دون شروط، بصورة عاجلة وإلزامية بموجب القانون، وأيضاً من أجل إعادة إعمار الدولة السورية. فلا ينبغي لسوريا أن تستمرّ في دفع ثمن جرائم الحرب التي ارتكبها نظام بشار الأسد ضد شعبها. 
  • في ظلّ بطء المجتمع الدولي في دعم التعافي الاقتصادي السوري، ينبغي على القيادة السورية الجديدة عقد مؤتمر اقتصادي لمدّة يومين يهدف لاستقطاب المساعدات والاستثمارات الدولية والمطالبة بإعفاءات من العقوبات. 
  • يعيش السوريون نشوة سقوط الأسد، ولكن عبء الحرب والنظام الذي حكم طوال عقود خلّفا دولة منهكة وممزّقة، وبحاجة ماسّة لتعاف حقيقي. 
  • بموجب بنود قرار الأمم المتحدة رقم 2254 ذات الصلة، يتوجّب على الآليات الدولية المدعومة بقيادة جديدة لبعثة الأمم المتحدة في سوريا أن تمدّ البلاد بالمساعدة الفنيّة. وتشمل هذه الآليات المؤسّسة المستقلّة المعنية بالمفقودين في سوريا (IIMP) والآلية الدولية المحايدة والمستقلّة (IIIM). 
  • تراقب إيران التطورات في سوريا عن كثب، وتقيّم حجم الانخراط الذي قد تقدم عليه في المستقبل، معترفةً بالعبء الثقيل الذي فرضه نظام الأسد عليها. من ناحية أخرى، تسعى روسيا إلى التوصّل إلى تسوية تفاوضية تسمح لها بالاحتفاظ بجزء من وجودها العسكري في سوريا، خاصة في قاعدة حميميم. 
  • لا يُتوقّع أن تقدم تركيا على أي تدخّل عسكري مباشر أو رسمي في سوريا لتأمين حدودها. ومع ذلك، تحتاج أنقرة إلى ضمانات وتطمينات أمنية حول ترتيبات عملية قابلة للتنفيذ يتمّ التفاوض عليها مع الفصائل الكردية. 
  • سيكون الدعم السعودي لدمشق حاسماً في سياق إعادة توزيع النفوذ في المنطقة، خاصّة بين القوى غير العربية مثل تركيا وإسرائيل وإيران. 

 

الملخّص

 

أحدث سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد زلزالاً هزّ السياسة العربية والشرق أوسطية، وشكّل لحظة مفصلية في تاريخ الشعب السوري، محدثاً تغييراً جذرياً في وجه المنطقة. لكن بعد أسابيع على هذا السقوط المدوّي، بدأت نشوة الانتصار تتلاشى، مع إدراك السوريين العائدين لزيارة وطنهم بعد فرارهم من النظام، أو الذين بقوا في سوريا حجم التحدّيات التي تنتظرهم. فبعد سنوات من الصراع الذي مزّق البلاد، يجد السوريون أنفسهم اليوم أمام واقع مليء بالصعوبات تطال أرجاء وطنهم كافة. 

تشهد الساحة السياسية السورية، على الصعيدين المحلّي والدولي، تحوّلات متسارعة تحت قيادة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، وسط مخاوف من غياب تحرّك سياسي فعّال على الأرض والاعتماد المفرط على المجتمع المدني لسدّ الفراغ، لا سيّما في قضايا المساءلة. أمّا القوى الدولية والإقليمية، فلا تزال متردّدة حيال التعامل مع الشرع، فيما يبدي المجتمع المدني تفاؤلاً حذراً إزاء تقدّم الحوار معه. في غضون ذلك، يُظهر الشرع حنكة في موازنة المصالح المتشابكة المرتبطة ببلاده وبالمرحلة الانتقالية وبقيادته، مُتقناً فنّ “إسماع كلّ طرف ما يرغب بسماعه“. 

تشكّل العقوبات الاقتصادية على سوريا القضية الأكثر إلحاحاً اليوم، ورفعها ضروري للإفساح في المجال أمام تحقيق تحوّل إيجابي. ومع ذلك، لا تبدو الولايات المتحدة وأوروبا في عجلة من أمرهما لاتّخاذ هذه الخطوة، ويرجّح أن تواصلا سدّ أذانها عن مطالب مختلف أطياف النخب السياسية السورية برفع العقوبات كافة من دون قيد أو شرط. ففي ظلّ استمرار العقوبات، سيكون من الصعب على سوريا التخلّص من أعبائها الاقتصادية، سواء العاجلة ذات الطابع الإنساني أو البنيوية طويلة الأمد. 

أدّى سقوط الأسد إلى تحوّل كبير في المشهد الجيوسياسي الإقليمي، فهل يمكن للنظام الإيراني الصمود بالقوة نفسها من دون حليفه الكبير في دمشق؟ يرى البعض أنّ هناك من يستخفّون بمدى استقرار إيران. في المقابل، تأمل روسيا في التوصّل إلى تسوية تضمن استمرار وجودها العسكري في سوريا وتحفظ مصالحها. أمّا الدول الخليجية، الساعية إلى تجنّب أخطاء حرب العراق، فلها حساباتها الخاصة. ورغم أنّ تركيا قد تبدو “الرابح الإقليمي” من سقوط الأسد، فإنّ دمشق لا تراها في موقع القيادة. 

القدرات والحوكمة والأمن 

 

ظننت أنّني سأموت قبل أن أعود إلى سوريا” عبارة يردّدها ملايين السوريين الذين يسعون اليوم لزيارة وطنهم بعد عقد أو أكثر من المنفى القسري الذي فرضه عليهم النظام. ولكن رغم النشوة التي يشعر بها السوريون وكلّ من دعموا نضالهم سواء في منطقة الشرق الأوسط أو خارجها، تبقى التحدّيات التي تترصّد بالبلاد مقلقة وحادّة وملحّة. 

ولعّل الأضرار التي لحقت بالاقتصاد والبنية التحتية من أكبر هذه التحدّيات. فنظام الأسد لم يُعِد اعمار المناطق التي دمرّتها الحرب، ما خلّف مساحات مهجورة على امتداد البلاد. ومن يعودون إلى منازلهم في ريف دمشق وغرب حلب وحمص ودرعا، يجدون خراباً أو دماراً شاملاً. ورغم أنّ احتياجات الطاقة والغذاء والعملات تأتي في مقدّمة الأولويات، فإنّ الأزمات طويلة الأمد مثل الإسكان، والأراضي والممتلكات، وإعادة الإعمار، والتحوّلات السكّانية، والتماسك الاجتماعي تطرح تحدّيات مستمرّة في هذه المرحلة الانتقالية. 

 

على الصعيد الاجتماعي، اكتسبت قضية المحاسبة بشأن معاناة المفقودين والمعتقلين السوريين المزيد من الزخم مع مطالبة المواطنين باستجابة ملموسة من القيادة الجديدة في دمشق. مع ذلك، لا يزال ملفّ العدالة يسير بخطى بطيئة في ظلّ فجوات كبيرة في الثقة بين الإدارة الجديدة والمجتمع المدني، خاصة في ما يتعلّق بالإصلاح القضائي، والافتقار إلى الشرعية بشكل عام، لا سيّما مسألة شخص وزير العدل. يأتي ذلك وسط محاولات لتنفيذ هجمات انتقامية وإثارة توترات مذهبية وانتشار للمعلومات المضلّلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يقود إلى تصاعد أعمال العنف وتدهور الأوضاع الأمنية في مناطق مثل حمص واللاذقية. في غضون ذلك، تبدو حكومة الشرع عاجزة عن السيطرة على الأجهزة الأمنية على امتداد البلاد، وتواجه صعوبة في دمج المجموعات المسلّحة كافة تحت مظلّة وزارة الدفاع المُعاد هيكلتها مؤخّراً.  

تبرز أيضاً مخاوف بشكل عام حيال شخصية الشرع نفسه، إذ شهدت محافظة إدلب في مطلع العام 2024 احتجاجات ضدّ القمع وسوء الإدارة في ظلّ حكم هيئة تحرير الشام تحت قيادته. إلى ذلك، لا تزال عمليات صنع القرار تفتقر إلى الشفافية، فيما تعاني الإدارة الحكومية نقصاً في القدرات، ويرجع ذلك جزئياً إلى عملية تفكيك نفوذ حزب البعث في المؤسّسات السورية. في المقابل، يرى بعض الخبراء المطّلعين على طريقة إدارة هيئة تحرير الشام لإدلب أنّ ما حققّته هناك يتعذّر تكراره في دمشق أو سائر أنحاء سوريا. ومع ذلك، أقرّوا بأنّ الشرع والهيئة يستجيبان للانتقادات وحاجات البلاد، ويظهران قدراً من البراغماتية. لكن آخرين حذّروا من أنّ الأيديولوجية التي حكمت إدلب كانت مزيجاً من الاستبداد والتكنوقراطية والتوجهّات الدينية، وقد يتكرّر هذا النهج تحت سلطة الشرع. فقد تُستخدم الثورة السورية لصياغة أهداف وطنية، لكن تتداخل معها عناصر من الطائفية السنية والسلفية وربما الجهادية، ما يمهّد لاستمرار الأيديولوجيا الهجينة. 

 

المسألة الكردية، تحدّيات لدمشق 

 

رغم المساعي الجارية للتوصّل إلى اتفاق مع دمشق يمنح قوّات سوريا الديمقراطية حكماً ذاتياً على غرار أربيل، فإنّ توازنات القوى الكردية في سوريا تختلف جدّاً عن تلك القائمة في العراق. فالنفوذ الفاعل لحزب العمّال الكردستاني يواجه رفض الجار التركي والمجتمع الدولي الذي يصنّف حزب العمّال الكردستاني مجموعة إرهابية. 

ومع ذلك، يبرز توافق عام، بما في ذلك بين المجموعات الكردية، على أنّ أيّاً من الأطراف لا يسعى إلى الحرب أو المواجهة. يحرص الشرع على تقديم نفسه كرئيس لسوريا موحّدة، ساعياً لتجاوز هذه الانقسامات. في المقابل، يحاول الأكراد استكشاف أشكال مختلفة من اللامركزية في شمال شرق البلاد، بما في ذلك عفرين. وعليه، يواجه الشرع تحدّي موازنة مصالح الجهّات الفاعلة المحليّة، إضافة إلى المصالح السعودية والتركية. 

تسعى قوّات سوريا الديمقراطية، باعتبارها “الرابح في المسألة الكردية”، إلى فرض شروط على اندماجها في مشروع بناء الدولة الذي يطرحه الشرع. وتؤكّد أنّ نموذجها يستند إلى تفاهمات سابقة توصّلت إليها مع هيئة تحرير الشام في خلال الحرب، رغم التباينات الأيديولوجية الكبيرة بينهما. وتطمح هيئة تحرير الشام إلى ترسيخ دورها ضمن الهيكل العسكري الجديد كجزء من المشروع الوطني، مع احتفاظها بإدارة محلّية خاضعة لها بالكامل. وقد أشار أحد الخبراء من بين الحاضرين إلى وجود توتّرات اجتماعية متجذّرة حول هذا الملف الأمني، خصوصاً في ظل وجود أغلبية عربية في تلك المناطق، ما يستدعي جهود مصالحة أوسع على المستوى الاجتماعي لتجنّب أي تداعيات محتملة. 

 

التعافي الاقتصادي: التحدّيات والاحتياجات 

 

من شأن صمود سوريا الاقتصادي أن يرسم مسار تحوّلها السياسي والاجتماعي وقدرتها على التعافي من السنوات العجاف تحت حكم الأسد. وفي هذا الإطار، أشار أحد الخبراء إلى أنّ سوريا تمتلك تاريخياً عقلية ريادية وروح مبادرة تستمدّهما من إرثها الصناعي الغني. إلى ذلك، يمكن للجالية السورية الضخمة المنتشرة حول العالم أن تسهم في دعم الاقتصاد الوطني عبر التحويلات المالية وغيرها من وسائل ضخّ السيولة، لكن هذا لا يلغي الحاجة إلى تأمين رؤوس الأموال الكبرى من أجل إعادة استثمارها. 

أسهمت أيضاً الأعمال الخيرية والمبادرات المجتمعية في الصمود في خلال سنوات الحرب، وحافظت على دوران العجلة الاقتصادية في عدد من المناطق، رغم الدمار الهائل الذي خلفته سنوات القتال. 

في غضون ذلك، لا تزال العقوبات تلقي بظلالها السلبية على الاقتصاد السوري، لا سيّما بعد تشديدها في السنوات الأخيرة. وقد أكّد جميع المشاركين على ضرورة إعطاء الأولويّة لرفع العقوبات بشكل كامل عن سوريا، رغم استبعادهم حدوث ذلك في خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب. كما رأى عدد من المشاركين أنّه من غير المنصف أن تتحمّل حكومة الشرع تبعات عقوبات فُرِضت أصلاً على نظام الأسد بسبب جرائمه. 

تناول الخبراء أيضاً تبعات العقوبات على المدى البعيد. فكما أظهرت تجربة إيران مع خطّة العمل المشتركة، يحتاج المستثمرون إلى وقت طويل لإعادة بناء الثقة بعد رفع العقوبات، وحتّى تعليق هذه العقوبات قد يؤدّي إلى تأخير الاستثمارات في البنية التحتية والقطاع المصرفي، نظراً لكونهما من أكثر القطاعات عرضة للمخاطر. 

إلى جانب العقوبات، حذّر أحد خبراء التنمية الذي عمل لفترة طويلة في سوريا من “تراكم مشكلات خطيرة ومتعدّدة”، ذكر منها “تدهور الأمن الغذائي وانهيار القطاع الزراعي الذي تُرك يترنّح وفي حاجة ماسّة لإطار عمل حكومي، بالإضافة إلى تفاقم تحدّيات الأمن المائي في خلال العقد الماضي، ومشكلة حقوق الملكية العقارية التي ازدادت تعقيداً منذ بداية الثورة في العام 2011 مع ظهور أشكال جديدة من الاستيلاء على الممتلكات، واستنزاف الطاقة والموارد، بما في ذلك مصفاة النفط الرئيسية وتوزيع النفط عبر البلاد، وتراجع مقدّرات الدولة على جميع المستويات، وهو ما تفاقم في ظلّ تراجع إمكانياتها المالية”. وحذّر من أنّ “الدولة تفتقر إلى البنية التحتية اللازمة لصنع السياسات، مع تلاشي الذاكرة المؤسّسية في السنوات الأخيرة“. 

تتمحور تحدّيات اقتصادية أخرى حول تدفّق السيولة والعملة الصعبة والسلع الأساسية، بما في ذلك مسألة الضرائب (التي طُبّقت في إدلب لكنها غير قابلة للتطبيق على مستوى البلاد حالياً). كما تبرز الحاجة إلى خطّة إغاثة إنسانية واضحة، فضلاً عن التركيز على إعادة تنشيط قطاع النفط، ما سيتطلّب رفع العقوبات (بما يتجاوز الإعفاءات المحدودة) وقد يستوجب استثمارات أجنبية لتحديث قطاع النفط والغاز من خلال إحياء خطوط أنابيب النفط وإعادة تشغيلها. يمكن لهذه الخطوات، إلى جانب اعتماد خطّة وطنية شاملة لإعادة الإعمار، أن تساعد في خلق فرص عمل ترافق عملية إعادة بناء قطاع الطاقة. ومع ذلك، أشار المشاركون إلى أنّ تحقيق ذلك سيتطلّب إطاراً قانونياً وأمنياً جديداً تحت قيادة جديدة. 

حذّر المشاركون أيضاً من تكرار التجربة الليبية المستمرّة منذ 14 عاماً، وحثّوا السوريين على عدم إغفال الاقتصاد في أثناء تركيزهم على التعافي. إلّا أنّ كلّ مؤسّسة تنظر إلى هذا المفهوم من زاويتها الخاصة، ولذلك يترتّب على الدولة أن تجري تقييماً شاملاً للاحتياجات. ويمكن تحقيق ذلك من خلال مؤتمر اقتصادي يمتدّ ليومين تستضيفه القيادة الجديدة في دمشق، بهدف استقطاب الدعم والاهتمام بالمرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا واحتياجاتها الاقتصادية. 

سوريا والمنطقة 

 

ألقت ديناميات الساحة السورية بثقلها على الكثير من المقاربات السياسية التقليدية في الشرق الأوسط منذ العام 2011. فمن جهّة، أدّت إلى توسيع “محور المقاومة”، فيما دفعت من جهّة أخرى ببعض الدول الإقليميّة لاتخاذ مواقف معارضة للثورات في إطار سياساتها الأوسع المناهضة الإسلاميين. كلّ ذلك في ظلّ التنافس مع الدول الإقليمية غير العربية التي تنامى دورها في المنطقة. إلّا أنّ سقوط نظام الأسد غيّر هذه الديناميات سريعاً، فسوريا التي كانت حتى 8 ديسمبر معقلاً لإيران، أصبحت اليوم حليفاً رئيسياًّ للدول الخليجية وشريكة لتركيا. 

تُعَدّ سوريا حلقة وصل في علاقة أنقرة مع الدول العربية. إلّا أنّ تواجد القّوات الكردية في شمال شرق سوريا تسبّب في توتّرات متكرّرة بين تركيا وكلّ من الولايات المتحدة وروسيا وإيران على مدى العقد الماضي. فبالنسبة إلى تركيا، لا تقتصر المسألة الكردية على الجانب الأمني فحسب، بل هي أيضاً قضية سياسية داخلية، ما يجعلها مسألة وجودية بالنسبة إليها. 

رغم التركيز الكبير على دور تركيا والجيش الوطني السوري والعلاقة بين تركيا والشرع، أكّد المشاركون أنّ الدول الخليجية، خاصّة السعودية وقطر، تضطلع بالدور الأبرز في هذا السياق. كما أنّ التطوّرات في سوريا تنعكس بشكل عميق على العراق والأردن ولبنان، بالإضافة إلى تأثيرها في موازين القوة الجيوسياسية. وأوضح أحد صانعي السياسات الإقليميين الحاضرين أنّ “الشكل الذي ستتّخذه سوريا في هذه المرحلة الانتقالية سينعكس على المنطقة بأسرها، سواء بأسلوب مشابه لتأثير نظام الأسد على الجوار السوري أو بأسلوب معاكس له”. 

انتقل النقاش بعد ذلك إلى الأردن، الذي سرعان ما استضاف “اجتماع العقبة” بعد أيام قليلة على سقوط نظام الأسد. وشهد الاجتماع مشاركة أطراف إقليميّة رئيسيّة بهدف تنسيق الأدوار وتحليل التحدّيات المقبلة في سوريا والتوصّل إلى اتفاق حول “مسارات إستراتيجية مشتركة” تصبّ في مصلحة استقرار سوريا والمنطقة ككلّ. 

تسعى الدول الخليجية، وخصوصاً السعودية، إلى تصحيح المسار السياسي الذي تسلكه المنطقة منذ غزو العراق في العام 2003، ما يدفعها إلى احتضان الشرع والبحث عن آليات للتعاون معه بثقة وفعّالية. ويمكن للقيادة السورية الجديدة أن تستفيد أيضاً من الدعم الذي قد تقدّمه لها الدولتان المجاورتان، الأردن ولبنان، رغم أنّ لبنان يواجه هو الآخر تحدّيات كبرى. 

أمّا بالنسبة إلى العراق، فالتعامل مع الواقع الجديد في سوريا يتطلّب توازناً دقيقاً. فرغم موقعه المزدوج داخل “محور المقاومة”، للعراق إرثه وتاريخه الخاص مع حزب البعث، بما في ذلك علاقاته المباشرة مع نظام الأسد. ومع ذلك، الأولوية الحالية لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، هي “حماية الأجندة الوطنية العراقية واعتماد نهج تعاوني في العلاقات مع سوريا، باعتبار أنّ عودة تنظيم الدولة الإسلامية تشكّل التهديد الأمني الرئيسي على الحدود العراقية”. 

في غضون ذلك، تراقب إيران التطوّرات عن كثب وبحذر. فقد أقرّ الخبراء الإيرانيون الحاضرون بأنّ سقوط الأسد شكّل “انتكاسة إستراتيجية في سوريا”، رغم تقلّص الدعم الشعبي داخل إيران لمساندة النظام في دمشق. ويبدو أنّ الشعور السائد في طهران هو: “تخلّصنا من عبء ثقيل، كان منذ 2017 تحديداً يستنزف الكثير من الموارد من دون أي عائد”. 

لا شكّ أنّ سقوط الأسد قد أضعف النفوذ الإقليمي الإيراني، لكن الانتكاسات العسكرية لحزب الله في لبنان شكّلت التحدّي الأكبر لطهران التي تواجه اليوم خيارين متناقضين لحماية مصالحها: إعادة بناء محور المقاومة وتبنّي سياسة ردع دبلوماسية عبر التحالف مع الدول العربية. ومع ذلك، أكّد معظم الخبراء في جلسة الحوار أنّ التهديد الأكبر لسوريا والمنطقة يبقى إسرائيل وحملتها العسكرية الجارية. 

سوريا والشؤون الجيوسياسية: روسيا والولايات المتحدة 

تمرّ القوى العظمى التي لديها مصالح في سوريا، مثل الولايات المتحدة وروسيا، بتحوّلات كبرى هي الأخرى، لكنّها لم تضع بعد تصوّراً واضحاً حيال الطريقة التي ستتعامل بها مع القيادة السورية الجديدة. 

أشار أحد الخبراء في سياسات الولايات المتحدة تجاه سوريا إلى أنّ سقوط الأسد يمثّل فرصة إستراتيجية لواشنطن، لكنّه استبعد أي تقارب إضافي بين إدارة ترامب والقيادة السورية الحالية. كما أنّ الحكومة الأمريكية ما زالت تصنّف هيئة تحرير الشام كمنظّمة إرهابية أجنبية، ورأى الخبير أنّ تغيير هذا التصنيف غير مرجّح في ظل الإدارة الحالية. كما رأى الباحثون أنّ الوقت قد حان لتجاوز الجدل حول وجود قوّات أمريكية في شمال شرق سوريا“، بدون الخوض في احتمالية انسحابها القريب. ومع تصاعد التوتّرات بسبب الغارات الإسرائيلية الأخيرة على الأراضي السورية خارج الجولان المحتّل، رأى الباحثون أنّ على الدول الإقليمية الموقّعة على اتفاقيات ابراهام، خاصّة الإمارات العربية المتحدة، “العمل على الحدّ من المخاوف الإقليمية وتهدئة إسرائيل“. 

بالانتقال للحديث عن روسيا، ركّز النقاش على أنّ سقوط نظام الأسد وجّه ضربة قويّة لموسكو. وأشار أحد المشاركين إلى أنّ هذا الحدث “يُضعف مصداقية روسيا كضامن للأمن في المنطقة”. تسعى روسيا اليوم إلى تقليل خسائرها من خلال التواصل مع الشرع، بهدف التوصّل إلى ترتيبات تسمح لها بالحفاظ على بنيتها التحتية العسكرية في سوريا وحمايتها، بالإضافة إلى التمسّك بالاتفاقيات الاقتصادية القائمة بين البلدين. تبدو مفاوضات روسيا حول الحفاظ على تواجدها في سوريا معلّقة على عرض موسكو الاستمرار في توفير إمدادات القمح لدعم الأمن الغذائي السوري، مقابل الاحتفاظ بقاعدة حميميم الجويّة بدلاً من قاعدة طرطوس البحريّة، في حال اضطرت لتقليص تواجدها. وتُعدّ قاعدة حميميم ذات أهمية إستراتيجية لروسيا، حيث تمثل مركزاً لأنشطتها العسكرية في منطقة الساحل الأفريقي ودول أفريقيا جنوب الصحراء. بالتالي، فإنّ الهدف الروسي هو “التوصّل إلى ترتيبات مشابهة لتلك التي تم التوصّل إليها مع طالبان في أفغانستان“. 

 

الخاتمة 

 

في الوقت الذي تطرح فيه القوى الإقليمية الكبرى، مثل إيران وتركيا وإسرائيل، رؤاها الخاصة لمستقبل المنطقة، أعرب بعض المشاركين عن أسفهم لغياب رؤية عربية، معتبرين أنّ “سوريا تمثّل فرصة للدول العربية لصياغة رؤيتها الخاصّة”. 

ومع ذلك، يصعب فصل سوريا عن التعقيدات الجيوسياسية الإقليمية والتنافسات بين القوى العظمى. فقضايا مثل تراجع النفوذ الإيراني وصعود دور السعودية وتزايد نفوذ تركيا وزعزعة الاستقرار بسبب إسرائيل، كلّها عوامل تؤثّر في مسار المرحلة الانتقالية في سوريا. 

أوّلاً، حتى تحقّق سوريا تحوّلاً ديمقراطياً ملموساً أو لتتقدّم نحو تحقيق السلام، هي تحتاج إلى انخراط أمريكي وأوروبي قويّ وفعّال. ويُعدّ رفع العقوبات خطوة أساسيّة لإنجاح العملية الانتقالية في سوريا، حيث إنّ الاستمرار في فرضها قد يستجلب الفشل أو تبعات أسوأ. على المدى البعيد، يثير غياب الانخراط السياسي والافتقار إلى خارطة طريق واضحة مخاوف كبرى. بالإضافة إلى ذلك، أمام القيادة الجديدة في دمشق مهمّة ضخمة لمعالجة التحدّيات الاقتصادية المرتبطة بالتعافي والإصلاح البنيوي. 

ومن أجل تحقيق المصالحة السياسية والاجتماعية، لا بدّ من إيلاء الاهتمام الكافي لأجندة تطبيق العدالة وأنظمة المحاسبة. في الوقت الراهن، يسود شعور بأنّ البراغماتية التي يظهرها الشرع والمقرّبين منه ستتيح للقيادة الجديدة في سوريا الوقت لمحاولة إعادة اعمار البلاد. مع ذلك، لا يزال الوضع الأمني هشّاً في ظلّ محدودية الموارد البشرية الحكومية واستمرار التوترات بين الفصائل المسلّحة، مثل الجيش الوطني وقوّات سوريا الديمقراطية وفصائل أخرى في الجنوب. بالتالي، يتطلّب الوضع التيقّظ الحذر وبذل الجهود من أجل تحقيق المصالحة والتعاون الإقليمي لضمان دمج الفصائل المسلّحة ضمن جيش وطني سوري ممثّل للجميع.  

بالنسبة إلى السوريين، لم تنتهِ بعد فترة “شهر العسل” التي تلت سقوط الأسد، وربما ستستمرّ لفترة أطول. ومع ذلك، فإنّ هذه البداية الجديدة تحمل معها تحدّيات كبرى وأسئلة وجودية ومخاوف حقيقية بشأن المستقبل. ستكون الأشهر الستّة المقبلة حاسمة في تحديد مسار المرحلة الانتقالية التي ستتطلّب معالجة قضايا سياسية وأمنية بالغة الأهمية. تبدي الجهات الإقليمية والدولية استعداداً واضحاً للاستثمار في مرحلة ما بعد الأسد، رغم أنّها لم تُعلن عن ذلك صراحة بعد. في غضون ذلك، يواجه السوريون تحدّيات كثيرة وأسئلة أكثر، لكنّهم بلا شك يرغبون في العودة إلى ديارهم والمشاركة في إعادة بناء وطنهم. 

فعاليات ذات الصلة

13 فبراير, 2025 سوريا ما بعد الأسد: السيناريوهات والديناميات الإقليمية

قراءة المزيد