تسليح/سلاح الكلمات:

سُبُل/آليّات تهدئة الصراع بين الجزائر والمغرب

مذكرة سياسات، سبتمبر 2025
زميلة أولى ومديرة برنامج

4 سبتمبر، 2025

إنّ انعدام الثقة العميق بين الجزائر والمغرب، والمظالم التاريخيّة وتصاعد حرب المعلومات بين الدولتين، والتي تتجلّى في السرديّات الإعلامية العدائية وحملات التضليل عبر الانترنت، تُسلّط الضوء على الحاجة الملحّة إلى تحسين آليّات إدارة الأزمات. وفي غياب قنوات اتّصال رسمية بين الدولتين، تُنذر حرب المعلومات باحتمال الانزلاق إلى تصعيدٍ غير مقصود. تُناقش مذكّرة السياسات هذه حاجة الجزائر والمغرب لخفض التصعيد فوراً في الهجمات الإعلاميّة التي ترعاها الدولتان، ولإنشاء قنوات تواصل مباشرة ومتينة بينهما. وتقترح المذكّرة فرض وقفٍ إلزامي للخطاب العدائي في وسائل الإعلام الرسمية، وإنشاء نظام خط ساخن متعدّد المستويات بغية الحدّ من سوء التقدير وإرساء الحدّ الأدنى من الثقة. وقد تهدف هذه التدخّلات، من خلال تعزيز قنوات التواصل المباشر وإدارة الأزمات الاستباقية  وتبنّي الممارسات الإعلامية المسؤولة، إلى التخفيف من حدّة التوتّرات الحالية ومنع التصعيد غير المقصود والمساهمة في تحقيق الاستقرار في شمال أفريقيا.

 

المقدّمة

تمرّ العلاقات بين الجزائر والمغرب بمرحلةٍ حرجة يُخيّم عليها غياب الاستقرار ويؤجّجها انعدام الثقة العميق والمظالم التاريخيّة وتصوّرات التصعيد المشوّهة، ناهيك عن السباق المتسارع نحو التسلّح  والطموحات الإقليمية المتنافسة. ونتيجة لذلك، يزداد اعتماد الدولتين على الردع العسكري على حساب الحلول الدبلوماسيّة. ويتفاقم هذا الوضع بسبب التباين الحاد في وجهات نظر الدولتين إزاء عددٍ من القضايا، لا سيّما قضية الصحراء الغربية. وقاد تمسّكُ الدولتين بمواقفهما المتصلّبة تجاه هذه القضية إلى حالةٍ خطيرة من الجمود، حيث تَحول الضغوطُ السياسية الداخلية دون تقديم أيّ تنازلات مُجدية، وهي ديناميّةٌ تُعرف باسم “قوّة الضعف”.1 وفي هذا السياق المتقلّب، تُسهم التغطية الإعلامية المكثّفة في تضخيم تَبعات أيّ مظهر من مظاهر ضعفٍ محتمل، ما يدفع الطرفين نحو التصعيد.

 

وتؤجّج حربُ معلومات خطيرة هذه التوتّرات. فقد تحوّلت المنصّات الاعلاميّة في الدولتين إلى ساحات لمعركةٍ من التضليل الإعلامي والخطاب العدائي. وإذ تتفاقم الحرب الكلامية بسبب الاستخدام الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي، تُنذر بعواقب غير مقصودة. وعلى الرغم من القلق من احتمال وقوع أعمال انتقامية تستهدف المواطنين المُقيمين في أيّ من الدولتين أو في الخارج، وتحديداً في الدول التي تضمّ جاليات جزائرية ومغربية كبيرة مثل فرنسا، فإنّ الشواهد تُشير إلى أنّ العلاقات بين الشعبين لا تزال طبيعيّة إلى حدّ ما. من هذا المنطلق، تُركّز مذكّرة السياسات هذه على مخاطر التصعيد الذي تقوده الدولة أو تُغذّيه، مسلّطةً الضوء على حاجة الدولتين الملحّة لكبح التضليل الإعلامي والخطاب العدائي الصادر عن وسائل الإعلام الرسمية وإنشاء خطّ ساخن مباشر أو قناة اتّصال خلفيّة.

 

للتخفيف من حدّة هذه الأزمة المتصاعدة، تقترح مذكّرة السياسات هذه تدخّلَين رئيسيين:

أوّلاً، يجب على كلّ من الجزائر والمغرب وقف الهجمات الاعلاميّة المتبادلة كافة نظراً لنفوذهما وسيطرتهما على وسائل الإعلام الحكومية، وهو إجراء ضروريّ لبناء الثقة. لذا يجب على الطرفين التركيز على وقف التغطية الإعلامية التهويليّة والعدائية في وسائل الإعلام الحكومية (التلفزيون والإذاعة والبوّابات والحسابات الإلكترونية الحكومية)، والتركيز بدلاً من ذلك على نقل الأخبار المبنيّة على الوقائع فقط. ولا بدّ من أن يلي ذلك تطبيق الدولتين مدوّنة سلوك إعلامي مشتركة لتعزيز بيئة إعلامية أكثر استدامة ومسؤولية، بحيث تُركّز هذه المدوّنة على الدقة والموضوعية والتغطية المتوازنة، وتُثني عن الخطاب التحريضي، وتُعزّز الحوار البنّاء. وبينما يُعدّ الوقف الفوري للعدائية التي ترعاها الدولة جوهرياً، يمكن تطبيق مدوّنة السلوك الأوسع هذه في مرحلةٍ لاحقة لترسيخ المسؤولية الإعلامية وتعزيز التفاهم على المدى البعيد. وعلاوة على ذلك، يجب على الحكومتَين العمل مع شركات التواصل الاجتماعي على الحدّ من انتشار المحتوى الضار عبر الإنترنت.

 

ثانياً، يجب على الرباط والجزائر إنشاء نظام متعدّد المستويات وآمن ومباشر للتواصل عبر قنوات خلفيّة. ويجب أن يشمل هذا النظام، في الحدّ الأدنى، خطّ اتصال مباشراً وجِهّة اتّصال مخصّصة لدى وزارة الخارجية في كلّ من الدولتين. وعلى الرغم من إمكانية وجود خطوط غير رسمية، فإنّ موثوقيّتها تبقى غير مؤكّدة في وجه أيّ تصعيد. ومن شأن الخط الساخن أن يُضفي طابعاً رسمياً على التواصل ويضمن الجهوزيّة التشغيليّة لإدارة الأزمات لدى الطرفين، ما يُعزّز الثقة ويُمَكّن من التواصل السريع والسرّي من أجل إدارة الأزمات المحتملة واحتوائها، لا سيّما تلك الناجمة عن حملات التصعيد والتضليل الإعلامي على وسائل التواصل الاجتماعي. وسيعمل هذا الخط الساخن على مستويات متعدّدة، بحيث يُمثّل خطّاً مباشراً بين رئيسَي الحكومتين للتواصل الإستراتيجي الرفيع المستوى من جهة، ويشكّل قنوات منفصلة ومخصّصة بين وزارتَي الدفاع والخارجية في الدولتين بهدف التنسيق التشغيلي والدبلوماسي من جهة ثانية، ما قد يضمن التدخّل في الوقت المناسب ويساهم في التخفيف من حدّة الأزمات المحتملة.

 

وأخيراً، تؤكّد مذكّرة السياسات هذه أهميّة هذا الإطار الذي يهدف إلى نزع فتيل التوتّرات الحاليّة ومنع نشوب صراع محتمل وفسح المجال أمام تعزيز الثقة وتحقيق السلام في نهاية المطاف بين الدولتين المجاورتَين في شمال أفريقيا.

 

الشبكة السّامة في المغرب العربي

شهد الصراع الجزائري المغربي حول قضيّة الصحراء الغربية حالةً من الغليان دامت لعقودٍ، وتصاعدت وتيرة هذه التوتّرات تصاعداً ملحوظاً منذ العام 2020. في الواقع، لطالما دعمت الجزائر سعي جبهة البوليساريو لنيل استقلال هذه المنطقة، وهو مطلبٌ ترفضه الرباط بشدّة، إذ تَعتبر الصحراء الغربية جزءاً لا يتجزأ من أراضيها السيادية. وقد اشتدت حدّة هذا النزاع الطويل الأمد في العام 2020 عندما طبّع المغرب علاقاته مع إسرائيل مقابل اعتراف الولايات المتّحدة بسيادته على الصحراء الغربية، في مناورةٍ دبلوماسية ساهمت في تأجيج التوتّرات، إذ أطلقت العنان لسلسلةٍ من الأحداث التصعيديّة في العام 2021.

 

ففي يوليو 2021، أدلى ممثّل المغرب الدائم لدى الأمم المتّحدة، عمر هلال، بتصريحٍ مثير للجدل أكّد فيه حقّ شعب القبائل في الجزائر في تقرير مصيره، ما أزّم العلاقات المتوتّرة أصلاً بين البلدين. وفي الشهر التالي، زار وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك، يائير لابيد، الرباط حيث أجرى محادثات مع نظيره المغربي، ناصر بوريطة، وأعرب عن مخاوفه من تنامي نفوذ الجزائر في المنطقة.

 

بعد ذلك بأيام قليلة، كشفت وسائل الإعلام عن عمليّة تجسّس واسعة النطاق نظّمتها أجهزة المخابرات المغربيّة، واستخدمت فيها برنامج التجسّس الإسرائيلي “بيغاسوس” (Pegasus) لاستهداف عددٍ من الشخصيّات الأجنبية، من بينهم مسؤولون ومواطنون جزائريون. وقد أفضى الكشف عن هذه العمليّة إلى تذكية التوتّرات، وبلغ الحدّ بالجزائر أن قطعت علاقاتها الدبلوماسيّة مع المغرب في 24 أغسطس 2021، مستشهدةً بسلسلةٍ من “الأعمال العدائية” التي ارتكبها المغرب. وفي نوفمبر من العام نفسه، وقع تفجيرٌ أودى بحياة ثلاثة سائقي شاحنات جزائريين كانوا عائدين إلى بلادهم من موريتانيا، وقد حمّلت الجزائر المغرب مسؤولية هذا التصعيد الخطير. وفي سبتمبر 2023، أطلق خفر السواحل الجزائري النار على مغربيَّين  كانا على دراجات مائية بعد عبورهما الحدود البحريّة إلى المياه الساحلية الجزائرية، ما أدّى إلى مقتلهما وساهم في تعميق الخلاف.

 

يتخطّى الصراع بين الجزائر والمغرب حدود الدبلوماسيّة، إذ يُهيمن على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي سواء داخل الدولتين أم في صفوف الجاليات المقيمة في الخارج. فقد أصبحت هذه المنصّات ساحات معارك في حرب المعلومات، يلجأ فيها كلا الطرفين إلى التضليل الإعلامي وتحريف الحقائق وسوء تفسير المعلومات وتلفيق الأخبار بهدف دعم سرديّته. وتتغلغل هذه الحملات الدعائية في شرائح المجتمع كافة، ويشمل ذلك المجال الثقافي، حيث اندلعت حربٌ كلامية تخلّلتها حملةٌ شرسة من التشهير المتبادل. ويصيغ كلّ طرف سرديّات تُشيد بثقافته وتُشوّه في الوقت نفسه “الآخر”،2 ما يخلق مناخاً من العداء والكراهية وانعدام الثقة.

 

وفيما تسعى الحكومتان إلى استغلال وسائل الإعلام المحليّة بغية تعزيز سرديّاتهما، يبدو أنّهما تستهينان بامكانيّة تحوّل هذه الحرب الكلامية التصعيديّة إلى مواجهةٍ خطيرة تحمل في طيّاتها تداعيات كفيلة بزعزعة استقرار المنطقة بأكملها.3 وحتى لو كان الطرفان يسعيان إلى استخدام نفوذهما الإعلامي استخداماً إستراتيجياً، فإنّهما يُخاطران بإشعال فتيل صراعٍ قد يخرج عن السيطرة في نهاية المطاف. ويتجلّى ذلك في التقارير الإعلامية التي زادت من حدّة الخطاب التصعيدي، مشيرةً إلى أنّ الجزائر تستعدّ لـ”حرب ضارية” مع المغرب.4

 

لقد أظهرت الدراسات أنّ التغطية الإعلامية يمكنها تأجيج الصراعات، لا سيّما عندما تُضخّم وسائل الإعلام الكبرى الخلافات وتَعرض سرديّاتها بأسلوبٍ يُذكّي مشاعر العداء.5 وقد لا تقلّ طبيعة محتوى التقارير الإعلامية وطريقة تقديمها أهميّةً عن التغطية الإعلامية بحدّ ذاتها، إذ تؤثّران في تشكيل الرأي العام وربما تدفعان الأطراف المتنازعة إلى اتّخاذ مواقف أكثر عدوانية.6 وباختصار، ما إن تتناول وسائل الإعلام الرئيسيّة صراعاً ما حتّى يزداد خطر التصعيد ازدياداً ملحوظاً.

 

ويزداد هذا المسار الخطير تعقيداً بسبب الطبيعة المتغيّرة لنشر المعلومات في العصر الرقمي. فلم تعد التغطية الإخبارية حكراً على الصحافة التقليدية والتحقّق من صحّة الخبر، بل أصبحت تتشكّل من خلال مجموعةٍ متنوّعة من الجهات الفاعلة والأدوات. ويمكن لأيّ فرد يمتلك هاتفاً ذكياً واتصالاً بالإنترنت أن يصنع سرديّة، لا سيّما في ظلّ التقدّم المتسارع في مجال تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.

 

ويشكّل هذا النشر المفتوح للمعلومات تحدّياً للدور التقليدي الذي تؤدّيه وسائل الإعلام في الرقابة على المحتوى، ويُقوّض تدريجيّاً قدرة الحكومات على السيطرة على تدفّق المعلومات. وقد شهد انتشار الإنترنت في كلّ من الجزائر والمغرب نمواً سريعاً، حيث بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في الجزائر 33,4 مليون مستخدم (72,9 في المئة من السكان) في أوائل العام 2024،7 مقابل 34,4 مليون مستخدم (90,7 في المئة من السكان) في المغرب في الفترة نفسها.8 ويُشكّل هذا الوصول الواسع إلى المنصّات الرقمية، إلى جانب بروز وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر أساسي للأخبار، أرضاً خصبة لانتشار المعلومات والتضليل الإعلامي بسرعةٍ فائقة وغير مسبوقة.

 

لقد أشار استطلاع حديث إلى أنّ 43 في المئة من الشعب الجزائري و36 في المئة من الشعب المغربي يعتبرون وسائل التواصل الاجتماعي مصدرهم الرئيسي للأخبار العاجلة.9 ويسهم هذا الاعتماد في خلق بيئة إلكترونيّة سامة، حيث أصبحت منصّات مثل فيسبوك ويوتيوب وإكس (تويتر سابقاً) حاضنة لخطاب الكراهية والمعلومات المضلّلة والإهانات بين الشعبين المغربي والجزائري، بما في ذلك الجاليات في الخارج.10 وتتصدّر وسوم مشحونة بالنقد اللاذع منصّات التواصل الاجتماعي بشكلٍ منتظم، ما يسلّط الضوء على حجم الحقد الذي يجتاح حتى أبسط التفاعلات الرقمية. وتسهم ساحة المعركة الرقميّة هذه في تضخيم التوتّرات القائمة، ما يعزّز مناخاً من انعدام الثقة والعداء يتجاوز الحدود الجغرافية. وقد توثّر التغطية عبر وسائل التواصل الاجتماعي في السياسة الخارجية تأثيراً عميقاً، كما تنعكس على العلاقات الدبلوماسية وتشكيل الرأي العام وحتى على مسار الصراعات الدولية.11

نحو تخفيف حدّة الخلاف

 

في ظلّ تردّد الجهات الفاعلة الخارجية، ولا سيّما الدول الأوروبية والولايات المتحدة، في التدخّل، وفي بعض الحالات، مساهمتها في تأجيج التوتّرات عن غير قصد، تقع المسؤولية الحتميّة على عاتق الجزائر والمغرب لحلّ هذه القضية. ويُعدّ هذا النهج القائم على الاعتماد الذاتي جوهرياً للتعامل مع الوضع التصعيدي ومنع نشوب الصراعات العرضيّة، وبالتالي الحفاظ على الإستقرار في شمال أفريقيا. وبهدف الشروع في هذه العمليّة الحاسمة، لا بدّ من أن تعترف أعلى مستويات القيادة في الجزائر والمغرب على نحوٍ عاجل بالتحدّيات المتعدّدة الأوجه التي تُعيق الجهود الآيلة إلى تجنّب الصراعات وإدارتها. كما ينبغي عليها توجيه الحكومتين المعنيّتين نحو السعي الناشط إلى تجاوز هذه العقبات، من خلال استخدام القنوات الرسميّة وغير الرسميّة المتاحة كافة.

 

أولاً، تشكّل التهدئة الفوريّة والشاملة لحرب المعلومات التي ترعاها الدولتان حاجةً ملحّة. ونظراً لتأثير الجزائر والمغرب المباشر في وسائل الإعلام الحكومية، يجب عليهما التوقّف عن شنّ أيّ هجمات تجاه بعضهما البعض، وهي خطوة أساسية لبناء الثقة. ويقتضي ذلك تحوّلاً حاسماً من التغطية التحريضيّة والعدائية على شاشات التلفزيون والإذاعات والمنصّات الإلكترونية الحكومية إلى الالتزام الصارم بالتغطية الإخبارية القائمة على الحقائق.

 

ثانياً، يجب عليهما اعتماد مدوّنة سلوك إعلامي مشتركة بغية تعزيز بيئة إعلامية مستدامة ومسؤولة. ويمكن تطبيق مدوّنة السلوك الأوسع هذه تدريجياً لضمان استمراريّة المسؤوليّة الإعلامية وترسيخ التفاهم، بحيث تُركّز هذه المدوّنة على الدقة والموضوعية والتغطية الإعلامية المتوازنة، وتردع الخطاب التحريضي بفعالية، وتُشجّع الحوار البنّاء. وحرصاً على فعاليّة عمليّة التنفيذ، يجب أن تبذل الحكومتان والمؤسّسات الإعلامية والأكاديمية جهوداً مشتركة، بما فيها تعزيز آليّات التحقّق من المعلومات، ودعم المبادرات المستقلّة، ووضع معايير موثوقة، وتنظيم ورش عمل مشتركة لتشجيع السرديّات المتوازنة والتغطية الإعلامية المسؤولة.

 

ثانياً، تُعدّ قنوات الاتّصال المباشرة والموثوقة بالغة الأهمية لمنع سوء التقدير والتصعيد. لهذا الغرض، يجب على حكومتي الجزائر والمغرب إنشاء خطّ اتّصال ساخن متين ومتخصّص بشكل مشترك. وبناءً على الضرورات الإستراتيجية التي ركّزت عليها مناقشات إدارة الأزمات بين الصين والولايات المتّحدة، يجب ألا يمثّل هذا الخط الساخن إجراءاً رمزيّاً فحسب، بل أيضاً آليّة تشغيلية متكاملة.12 ومن أجل ضمان إدارة شاملة للأزمات، يجب أن يعمل هذا الخط الساخن على مستويات متعدّدة، بحيث يُشكّل خطّاً مباشراً بين رئيسَي الحكومتين للتواصل الإستراتيجي الرفيع المستوى، وقنوات اتّصال منفصلة ومخصّصة بين وزارتَي الدفاع والخارجية المعنيّتين من أجل التنسيق التشغيلي والدبلوماسي، ما قد يضمن التدخّل في الوقت المناسب والمساعدة في التخفيف من حدّة الأزمات المحتملة.

 

سيوفّر مثل هذا الخط الساخن تواصلاً فورياً في حالات الأزمات، ما يتيح حواراً سريعاً لمعالجة القضايا الناشئة ومنع حدوث سوء فهم. وإلى جانب حالات الأزمات، من شأن هذا الخطّ الساخن أن يسهّل التواصل الدبلوماسي المستمر ويحافظ على قنوات الاتّصال خلال فترات التوتّر الشديد. والأهم من ذلك أنّه سيفتح الباب أمام تبادل المعلومات الأساسية، مثل المستجدّات الأخيرة حول التصعيد في الهجمات الإعلامية وحملات التضليل والتحرّكات العسكرية والاختراقات الأمنيّة المحتملة، ما يضمن إطّلاع الطرفَين على المستجدّات وقدرتهما على الاستجابة المناسبة.

 

الخاتمة

تُقدّم التدخّلات المقترحة أعلاه، أيّ الوقف الإلزامي للخطاب العدائي في وسائل الإعلام الحكومية وإنشاء خطّ ساخن آمن ومتعدّد المستويات، نهجاً عمليّاً لتهدئة حرب المعلومات الخطيرة بين الجزائر والمغرب. وفي ظلّ المشهد الجيوسياسي الحالي، حيث تغيب الوساطة الخارجية بين الطرفين، قد يشكّل إنشاء خطّ ساخن مباشر ومحدّد آليّةً لبناء الثقة، وخطوة دبلوماسية استباقية تُمكّن الدولتين من إدارة علاقتهما والحدّ من خطر التصعيد غير المقصود. ومن الضروري أن تعطي القيادتان الجزائرية والمغربية الأولوية لهذه الآليّة لتعزيز فعاليّتها وتجنّب العواقب الوخيمة المحتملة.

 

يهدف هذا الإطار، من خلال تعزيز التواصل المباشر وتبنّي الممارسات الإعلامية المسؤولة، إلى التخفيف من حدّة التوتّرات المباشرة ومنع التصعيد غير المقصود. وعلى الرغم من أنّ هذين التدخّلَين الأساسيين غير كافيين لتحقيق سلام مستدام، قد يُشكّلان خطوتين حيويّتين نحو تهدئة التوتّرات الفورية وإرساء دعائم منع الصراع بين الجارَين الشمال أفريقيين.

 


الهوامش
1 يصف مفهوم “قوة الضعف” سيناريواً حيث يُكرّس الثمنُ السياسي الباهظ لتقديم التنازلات، والذي غالباً ما يكون بدافع الضغوط المحليّة أو التكاليف الجماهيرية، موقفَ الدولة التفاوضي من باب المفارقة، وذلك من خلال إظهار التزامها الراسخ بموقفها. أنظر Thomas Schelling, The Strategy of Conflict (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1960).
2 يشير مفهوم “الآخريّة” (othering) إلى  بناء تصوّر عن “الآخرين” بوصفهم مختلفين ومنفصلين، ما يُبرّر التمييز والعداء تجاههم. ومن خلال هذه التفرقة، يُصنَّف الأفراد أو المجموعات على أنهم “غرباء”، ما يُسهّل تهميشهم وتجريدهم من إنسانيّتهم. لمزيد من المعلومات حول “الآخرية”، أنظر Robert Wuthnow, “Othering: Cultural Diversity and Symbolic Boundaries,” in American Misfits and the Making of Middle-Class Respectability (Princeton: Princeton University Press, 2017), 258-287.
3 يتّسم التصعيد في الصراعات بين الدول بتكثيفٍ تدريجي للأعمال العدائية على مستويات مختلفة. ويمكن أن يتجلّى ذلك في تصعيد الخطاب السياسي وتوسيع نطاق الصراع الجغرافي وزيادة التدخّل العسكري. أنظر Morgan, F. E. et al., Dangerous Thresholds: Managing Escalation in the 21st Century (Santa Monica : Rand Corporation: Santa Monica, 2008), 7–8, 18–19.
4 محمد ولد البواه، “بحسب ما أفادت به وسيلة إعلامية إيطالية، تستعدّ الجزائر لخوض “حرب ضارية” ضد المغرب”، Le 360,، 15 أكتوبر 2024، https://fr.le360.ma/politique/selon-un-media-italien-lalgerie-preparerait-une-guerre-de-haute-intensite-contre-le-maroc_KXVWY4DWE5DD5JNGSY2XFJTHJI/.
5 Ross A. Miller and Scott E. Bokemper, “Media Coverage and the Escalation of Militarized Interstate Disputes, 1992-2001,” Media, War & Conflict 9, no. 2 (August 2016): 162-79, https://doi.org/10.1177/1750635216648116.
6 Ibid.
لمزيد من المعلومات حول دور وسائل الإعلام كعامل محفّز للصراع، لا سيما في الحالات القصوى، أنظر أيضاً
 Mark Thompson, Forging War: The Media in Serbia, Croatia, Bosnia and Hercegovina (London: Article 19, 1994).
7 International Trade Administration, U.S. Department of Commerce, “Algeria Country Commercial Guide: Digital Economy,” accessed November 19, 2024, https://www.trade.gov/country-commercial-guides/algeria-digital-economy.
8 Simon Kemp, “Digital 2024: Morocco,” DataReportal, accessed November 19, 2024, https://datareportal.com/reports/digital-2024-morocco.
9 Abdul-Wahab Kayyali, “Digital media usage during times of distress,” Arab Pulse (blog), February 10, 2021, https://www.arabbarometer.org/2021/02/digital-media-usage-during-times-of-distress/.
10 أنظر الدراسة البحثية التي أجراها مجتمع التحقق العربي والتي أظهرت كيف أجّجت الحسابات الرقمية الآلية الصراع بين المغرب والجزائرمن خلال التحريض وخطاب الكراهية بين الدولتين. أنظر مجتمع التحقق العربي، “تحريض وخطاب كراهية… كيف أشعلت حسابات آلية حرباً رقمية بين المغرب والجزائر؟”، مجتمع التحقق العربي، 13 أكتوبر 2023،
 https://arabifactshub.com/ar/articles/details/46428.
11 Philip Seib, Real-Time Diplomacy: Politics and Power in the Social Media Era (New York: Palgrave Macmillan, 2012).
12 Michael D. Swaine, “Avoiding the Abyss: An Urgent Need for Sino-U.S. Crisis Management,” (Washington, DC: Quincy Institute for Responsible Statecraft, 2024), https://quincyinst.org/research/avoiding-the-abyss-an-urgent-need-for-sino-u-s-crisis-management/#post-authors.