في أكتوبر 2024، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنّه ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس يدعمان الجهود المبذولة لحلّ الصراعات السياسية الطويلة الأمد بين البلدين. وأكّد أردوغان على ضرورة أن “يكون الطرفان على استعداد لتحديد المشكلات وتوضيح مضمونها وإيجاد الحلول… في إطار نهجنا الشامل تجاه بحر إيجه”.1 وكان قبل ذلك بشهر وزير الخارجية اليوناني جيورجوس جيرابيتريتيس قد سلّط الضوء على التحوّل الملحوظ في العلاقات بين أنقرة وأثينا، قائلاً: “علاقتنا الآن قد تحسّنت بشكل كبير، وتمكنّا من تحقيق قدر من الصدق المتبادل في عددٍ من المسائل”.2
وأكّد هاكان فيدان، نظير جيرابيتريتيس التركي، على وجود أسباب للتفاؤل على الرغم من الاختلافات المعقّدة التي تصعّب العلاقات الثنائية بين تركيا واليونان، وذلك قبيل زيارته لأثينا في أواخر العام 2024.3 وفي حين تبشّر هذه التصريحات بنوع من الايجابية، إلّا أنّ استمرارية التقارب الجاري بين أنقرة وأثينا ستعتمد إلى حدّ كبير على دعم الاتحاد الأوروبي. وفي هذا السياق، تشير مذكرة السياسات هذه إلى أنّ ذوبان الجليد بين اليونان وتركيا يجب أن يكون جزءاً من إعادة ضبط أشمل للعلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي. ينبغي أن تتضمّن هذه الخطوة توجيه دعوات منتظمة لوزير الخارجية التركي لحضور اجتماعات “جيمنيش” غير الرسمية التابعة للاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى إقامة حوار أكثر تنظيماً حول السياسة الخارجية والأمنية بين الطرفين.
لطالما كانت التوتّرات بين اليونان وتركيا في صميم الأزمة المتعدّدة الطبقات في شرق المتوسط، حيث تشهد منافسة شديدة بين تركيا وعدد من الدول، بما فيها اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر. وتُعزى المنافسة التركية اليونانية إلى اختلافات حول الحدود البحرية ونهج كلّ منهما بشأن قضية قبرص وقضايا الطاقة، فضلاً عن الملفّات الجيوسياسية مثل الصراع في ليبيا والنظام الإقليمي بشكل عام.
تركّزت الخلافات بين اليونان وتركيا بشكل خاص على ثلاثة أبعاد رئيسية.4 أولاً، الخلافات حول حدودهما البحرية، بما في ذلك الجرف القاري والمناطق الاقتصادية الخالصة في شرق المتوسط. ثانياً، يتنازع كلّ منهما على حدود المياه الإقليمية اليونانية في بحر إيجه. ثالثاً، يبقي النزاع حول قبرص القضية الأكثر تعقيداً بين أنقرة وأثينا.
كما وأنّ اليونان والقبارصة اليونانيون يؤكّدون دعمهم لإطارٍ اتحاديّ ثنائيّ المنطقة والقومية، في إطار حلّ الدولة الواحدة الفدرالية. وفي المقابل، تتّجه تركيا والقبارصة الأتراك نحو حلّ الدولتين. وبالإضافة إلى القضايا الحرجة المذكورة أعلاه، تتكرّر الخلافات بين أثينا وأنقرة بشأن نزع السلاح من جزر يونانية متعدّدة و/أو الحدّ من الهجرة غير النظامية.
وقد تفاقمت مصادر التوتّر التقليدية في العلاقات بين اليونان وتركيا نتيجة لعدد من الديناميات الإقليمية الجديدة، ما أدّى إلى تحويل التوتّرات الثنائية إلى أزمة متعدّدة الأطراف في منطقة شرق المتوسط. وكان من أبرز هذه العوامل الاكتشافات الأخيرة للموارد الهيدروكربونية من جانب إسرائيل وقبرص ومصر في المنطقة، ما دفع تركيا إلى بدء استكشاف5 الغاز وتنشيط النزاع الخامد مع اليونان حول الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة.
وقد حفّزت اكتشافاتُ الغاز في شرق المتوسط تشكيلَ منتدى الغاز في شرق المتوسط ومشروع خط أنابيب “إيست ميد” المقترَح (المؤجّل منذ ذلك الحين) والذي كان يهدف إلى نقل الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا من خلال التعاون بين إسرائيل وقبرص واليونان.6 وبسبب استبعاد تركيا من المشروعين، اعتبرت أنقرة هذه المبادرات محاولات لإنشاء نظام إقليمي للطاقة والأمن يهمّش دورها. ورداً على ذلك، تبنّت أنقرة دبلوماسية قسرية لتقويض هذه المبادرات، ووقّعت في العام 2019 اتفاقية مع الحكومة الليبية المعترَف بها من الأمم المتحدة ومقرّها طرابلس، لترسيم حدودها البحرية.7
وقد تعارضت هذه الصفقة مع وجهة نظر اليونان بشأن حدودها البحرية، ما دفع أثينا إلى توقيع صفقة مماثلة مع القاهرة في العام 20208 والتي تعارضت بدورها مع وجهة نظر تركيا بشأن حدودها البحرية. تعكس هذه النزاعات طبيعة أزمة شرق المتوسط التي تتميّز بمجموعة من التحدّيات المترابطة ومتعدّدة الطبقات على المستويين الثنائي والمتعدّد الأطراف. وقد أدّى الانقسام السياسي والجيوسياسي بين تركيا وعدد من الدول العربية، بما فيها مصر والإمارات العربية المتحدة، إلى تعقيد هذه الديناميات9 أكثر فأكثر بسبب اختلاف المواقف تجاه الثورات العربية، ما دفع هذه الدول العربية إلى التقرّب من اليونان وقبرص.
لا تزال النزاعات الرئيسية بين الطرفين عالقة حتّى اليوم، على الرغم من التحسّن الأخير في العلاقات اليونانية التركية. ومع ذلك، يبقى التقدّم ممكناً، خصوصاً في ما يتعلّق بحلّ الخلاف حول الحدود البحرية. ففي أعقاب اجتماع على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 سبتمبر 2024، طلب كلّ من ميتسوتاكيس وأردوغان من وزيري خارجيتهما “استكشاف ما إذا كانت الظروف مواتية لبدء مناقشات بشأن ترسيم الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة”.10 كما يقوم الوزيران بالتحضير لاجتماع رفيع المستوى بين اليونان وتركيا في أنقرة في يناير 2025.11 وعلى الرغم من تضاؤل احتمالات تحقيق التقدّم، إلّا أنّها ليست بمستحيلة.
أمّا في ما يتعلّق بقضايا أخرى، مثل المياه الإقليمية المتنازَع عليها في بحر إيجه ومسألة نزع السلاح والمطالبات بملكية بعض الجزر، تبقى فرص التقدّم ضئيلة. فتشابك القضايا مع وجهة نظر كلّ طرف بشأن سيادة بلاده يقلّل من إمكانية التوصّل إلى التسوية. ومع ذلك، شهدت الجهود المبذولة لحلّ قضية قبرص بعض الزخم العالمي في الآونة الأخيرة.
وفي أوائل العام 2024، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تعيين وزيرة الخارجية الكولومبية السابقة ماريا أنجيلا هولغوين كويلار كمبعوثة شخصية له بشأن قبرص، في محاولة لاستئناف المحادثات المعلّقة منذ العام 2017.12 وعلى الرغم من ذلك، تختلف الرؤى اليونانية والتركية بشأن معالجة القضية القبرصية. فبالنسبة إلى الجانب اليوناني والقبرصي اليوناني، يجب على المفاوضات أن تهدف إلى التوصل إلى حلّ شامل ضمن إطار دولة اتّحادية ثنائية المنطقة والطائفتين ولكن موحّدة. في المقابل، يسير الجانب التركي والقبرصي التركي نحو حلّ الدولتين في الجزيرة. وعلى الرغم من أنّ المناخ الإيجابي في العلاقات اليونانية التركية قد يوفّر بعض الزخم للدبلوماسية بشأن قبرص، إلّا أنّه من غير المرجّح أن يؤدّي إلى حلّ في المستقبل القريب نظراً للفجوة الكبيرة بين الموقفين. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ التطبيع الأخير بين تركيا واليونان كان ثنائياً، وليس مصالحة ثلاثية تشمل قبرص – ما يُعدّ اعترافاً ضمنياً بصعوبة إحراز تقدّم في قضية قبرص.
وعلى الرغم من تراجع فرص إحراز التقدّم في القضايا الثنائية الأساسية، إلّا أنّ الديناميّات الإقليمية تتغيّر بشكل كبير. فقد أدّت حرب إسرائيل على غزة ولبنان إلى إعاقة التعاون العربي الإسرائيلي اليوناني الذي دعم منتدى غاز شرق المتوسط، ومشروع خط أنابيب “إيست ميد”، وغيرها من المبادرات الرامية إلى إنشاء نظام إقليمي للطاقة أو الأمن. ويشكّل عدم التعاون مع إسرائيل حالياً قاسماً مشتركاً بين السياسات العربية. فقبل السابع من أكتوبر 2023، كانت مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة جزءاً من إطار إقليمي تعاوني في شرق المتوسط، إلى جانب إسرائيل واليونان وقبرص، بدعم من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وفي المقابل، شهدت علاقات تركيا مع اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر والإمارات العربية المتحدة توتّراً ملحوظاً.
لقد تغيّرت هذه الصورة بشكل جذري في الآونة الأخيرة. فقد أصلحت تركيا علاقاتها اليوم مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر. وأظهرت زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة في 4 سبتمبر 2024 تحسّن العلاقات بين أنقرة والقاهرة بعد عقد من القطيعة،13 فيما تتدهور علاقات إسرائيل مع تركيا وعدد من الدول العربية. وبالتالي، فإنّ حرب إسرائيل على غزة ولبنان، واحتمالات نشوب حرب بين إسرائيل وإيران تصعّب التعاون العربي الإسرائيلي في المستقبل المنظور.
يشكّل الدعم الأوروبي ضرورةً ملحّة للحفاظ على استقرار العلاقات بين تركيا واليونان من جهة، وتركيا ومصر وقبرص من جهة أخرى، ولتعزيز التقارب الهش في العلاقات التركية اليونانية.
ولا بدّ من أن تندرج عملية التقارب بين تركيا واليونان ضمن إطار أوسع لتحسّن العلاقات بين تركيا والغرب، وخاصة الاتحاد الأوروبي. وقد شهدت العلاقات بين أنقرة وأثينا ودّاً في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، نتيجة للعلاقات القوية نسبياً بين تركيا والاتحاد الأوروبي في ذلك الوقت. ونظراً لأهمية استقرار شرق المتوسط بالنسبة إلى أوروبا وأمن جوارها، يُعتبَر دعم الاتحاد الأوروبي لجهود المصالحة التركية اليونانية من خلال الحوافز وإستراتيجيات المشاركة أمراً بالغ الأهمية.
وعلى الرغم من الجوّ الايجابي الحالي في العلاقات الثنائية، تبقى النزاعات الأساسيّة متقلّبة وحسّاسة للغاية من الناحية السياسية. ويعتبر التوصّل إلى تسوية أو تقديم تنازلات بشأن هذه القضايا أمراً صعباً بطبيعته ويشكّل تحدّياً سياسياً. وبالتالي، قد تواجه المصالحة الناشئة حالياً في العلاقات التركية اليونانية خطر الانزلاق نحو طريق مسدود سياسياً. ولتجنّب حدوث ذلك، يتعيّن على الاتحاد الأوروبي تبنّي سياسة نشطة لدعم المحادثات بين اليونان وتركيا والاستفادة من الجوّ الحالي الإيجابي نسبياً بين الطرفين.
وتجدر الاشارة إلى أنّ العلاقات بين أنقرة والاتحاد الأوروبي قد شهدت أيضاً تحسّناً ملحوظاً. فقد رفعت تركيا حق النقض ضد طلب السويد وفنلندا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي في أوائل العام 2024 وأوائل العام 2023 على التوالي.14 وبعد شهر واحد، سحبت ألمانيا، العضو الوحيد في مشروع مقاتلات “يوروفايتر” الذي يضمّ أربع دول، اعتراضاتها على بيع الطائرات إلى تركيا بعد أن كانت قد عارضت ذلك في السابق.15 وبالتالي، يجب النظر إلى تحسّن العلاقات بين اليونان وتركيا في سياق إعادة ضبط أوسع للعلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي. كما أنّ إعادة انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة قد توفّر زخماً إضافياً لتركيا والاتحاد الأوروبي لاستكشاف سُبل جديدة للتعاون وتنسيق مواقفهما بشأن الأمن الأوروبي، بما في ذلك في منطقة شرق المتوسط. ولتعزيز هذه المصالحة، يتعيّن على الاتحاد الأوروبي دعوة وزير الخارجية التركي بانتظام إلى اجتماعات جيمنيش. شكّلت دعوة فيدان إلى اجتماع جيمنيش في أغسطس 2024 خطوة إيجابية في هذا الاتجاه،16 ولكن يجب أن تكون هذه الدعوات دائمة ومنتظمة.
وأخيراً، ينبغي على الاتحاد الأوروبي إطلاق حوار منظّم بشأن السياسة الخارجية والأمنية مع تركيا.17 فذلك لن يساهم في تعزيز التقارب في العلاقات اليونانية التركية فحسب، بل قد يساعد أيضاً أنقرة وبروكسل على تنسيق سياساتهما والتواصل بشأنها بطريقة أكثر فعالية. وبالتالي، سيعتمد مستقبل العلاقات بين تركيا واليونان وتركيا والاتحاد الأوروبي على الاختيار بين التعاون أو التنافس في الجوار المشترك.