إعادة بناء قطاع الطاقة في السودان:

مسارات التعافي العادل ما بعد الصراع

موجز قضية، نوفمبر 2025
زميل زائر مبتدئ

مساعد بحوث سياسات الاستدامة، مؤسّسة "إرثنا" التابعة لمؤسّسة قطر
12 نوفمبر، 2025

النقاط الرئيسية

 

التحديات الهيكلية والمالية تُلقي بثقلها على قطاع الطاقة في السودان: يعاني هذا القطاع ضعفاً هيكلياً ومركزيةً شديدة ونقصاً في التمويل، في ظلّ بنية تحتية قديمة وعمليّات غير فعّالة تهيمن عليها الدولة. وقد ألحق الصراع أضراراً بالأصول الرئيسية، كما يحدّ من جهود إعادة الإعمار.

 

ضعف القدرات يعرقل اعتماد مصادر الطاقة المتجدّدة: تعيق الاختلالات التشغيلية والنقص في الخبرات التقنية اعتماد هذه المصادر. وعلى الرغم من إطلاق بعض مشاريع الطاقة الشمسية، فإنها تواجه تحديات متمثّلة بعدم استقرار الشبكة وضعف التصميم والعقبات اللوجستية، فضلاً عن فجوة في المهارات ونقص في أعمال الصيانة.

 

النقص في الإمدادات يعكس الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية: يعكس التفاوت في إمدادات الكهرباء بين المدن والمناطق النائية استمرار الإقصاء السياسي، إذ إنّ ولاية الخرطوم الكبرى تستفيد من نحو نصف إمدادات الكهرباء الوطنية، بينما لا تزال المناطق النائية مثل دارفور وكردفان معزولة ومهمّشة.

 

نقص الطاقة يُفاقم التفاوت الاجتماعي والاقتصادي: للحرمان من الطاقة آثار اقتصادية واجتماعية وجندريّة واسعة النطاق، منها تقييد الوصول إلى الخدمات والفرص. ولكن يمكن لخطة وطنية للطاقة في مرحلة ما بعد الصراع أن تُساهم في ضمان الوصول العادل إلى الطاقة وتعزيز الإصلاح المؤسساتي ودعم التنمية المستدامة على الصعيد الوطني.

 

المقدّمة

 

لا يمكن إعادة بناء قطاع الطاقة المُدَمَّر في السودان أو إصلاحه في ظلّ استمرار الصراع، إذ يُشكّل إنهاء الحرب شرطاً أساسياً للشروع في أيّ جهد حقيقي ومستدام لإعادة الإعمار. ومع ذلك، يُعدّ البدء بالتخطيط والاستعداد لإعادة الإعمار أمراً بالغ الأهمية، إذ يساهم في تسريع وتيرة التعافي وتحقيق الاستقرار فور إحلال السلام، لا سيما وأنّ عملية إعادة بناء قطاع الطاقة في السودان قد تُشكّل حافزاً رئيسياً لعودة النازحين وضمانةً لعدالة المرحلة الانتقالية للتعافي.

 

بطبيعة الحال، ستكون هذه المهمة شاقة للغاية. حتى قبل اندلاع الصراع الشامل في أبريل 2023، كانت البنية التحتية للكهرباء في السودان مُتهالكة، ويشوبها تفاوت عميق بين المناطق. فقد تراوحت نسبة السكان الذين يفتقرون إلى الكهرباء، لا سيّما في المناطق الريفية المتأثّرة بالصراع، بين 60 و70 في المئة، بينما شهدت مدينة الخرطوم وبعض المناطق الوسطى انقطاعات مُتكرّرة للتيار الكهربائي، على الرغم من حصولها على مُعظم الإمدادات.1 وتعود جذور هذا التفاوت إلى فجوات تنموية مزمنة، وإلى تاريخٍ طويلٍ من الحكم المركزي والتهميش الإقليمي. واعتباراً من العام 2022، لم يتجاوز استهلاك السودان من الكهرباء 0,294 ميغاواط/ساعة للفرد، أيّ ما يعادل أقلّ من عُشر المُتوسّط العالمي.2

 

وتدهور الوضع منذ ذلك الحين، إذ دمّر الاقتتال الحالي البنية التحتية الحيوية. وأدّت هجمات قوات الدعم السريع (RSF) المتكرّرة إلى شلّ محطات الطاقة والمحوّلات وخطوط النقل ومستودعات الوقود.3 وفاقمت الحرب هذه التحديات إذ تسبّبت بنزوح جماعي إلى المدن النائية والمناطق الريفية، حيث البنية التحتية أضعف، والوقود الحيوي يشكّل مصدر الطاقة الرئيسي.4 وبحلول العام 2025، فقدَ السودان نحو 40 في المئة من قدرته على توليد الطاقة بسبب الصراع، ما أدى إلى عيش الملايين في الظلام وإلى تعطيل الخدمات الأساسية.5

 

أما اليوم فتواجه السلطات في السودان مهاماً جسيمة لإنهاء الصراع واستئناف الخدمات الأساسية وتحقيق التنمية الوطنية الشاملة بعد إحلال السلام، وهو جهد قد يتطلّب، بحسب تقدير الحكومة، ما يصل إلى تريليون دولار على مستوى البلاد.6 سيحتلّ قطاع الطاقة مكانة مركزية في إستراتيجية السودان لإعادة الإعمار والتنمية، باعتباره العمود الفقري لتحقيق التعافي الاقتصادي، وتوفير فرص العمل، وتعزيز الخدمات العامة، والتكيّف مع تغيّر المناخ، وترسيخ التماسك الاجتماعي. وتُعدّ الطاقة الموثوقة ضرورية للصناعة والزراعة والرعاية الصحية والتعليم والشركات الصغيرة. لكن من دون إحداث تحوّل جذري في هذا القطاع، قد لا يتمكّن السودان من تحفيز الإنتاجية وجذب الاستثمارات أو تقديم الخدمات الأساسية. يتناول موجز القضية هذا إعادة بناء قطاع الطاقة، ويُحلّل التحديات التي يواجهها، ويقترح إصلاحات محتملة. كما يُركّز على حلول الطاقة المؤسساتية واللامركزية، بالإضافة إلى الإستراتيجيات الشاملة لضمان مستقبل مرن وعادل.

 

الهشاشة الهيكلية وإخفاقات الحوكمة

 

لطالما كان قطاع الكهرباء في السودان رائداً إقليمياً، بدءاً من تركيب أول مولد كهربائي في الخرطوم في العام 1908 .7 إلا أنّ حالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي دفعت الكثير من المهندسين والتقنيين السودانيين إلى الهجرة إلى الدول الخليجية والخارج بحثاً عن فرص اقتصادية أفضل.8 ونتيجةً للوضع السياسي وما رافقه من هجرة للأدمغة، تعثّر التقدّم في البنية التحتية في السودان، وتفاقمت الحالة بسبب النقص المزمن في الاستثمارات والتحديات الإدارية القائمة.

 

تبلغ القدرة المركّبة لتوليد الكهرباء في البلاد 4,5 غيغاواط (GW). قبل الحرب الحالية، لم يكن سوى 62 في المئة من السكان تصلهم الكهرباء، لا سيما في المناطق الحضرية، علماً أنّ هذه المناطق أيضاً كانت تواجه انقطاعاً منتظماً في التيار الكهربائي قبل اندلاع الحرب.9 تكمن التحديات التي يواجهها هذا القطاع في ضعف تشكيلة الإمدادات، إذ يُستمدّ نحو 60 في المئة من طاقة البلاد من الطاقة الكهرومائية والباقي من محطّات الطاقة الحرارية التي تعمل بالنفط، وكلاهما عرضة للصدمات الخارجية. لا تشكّل مصادر الطاقة المتجددة إلّا نسبة ضئيلة تبلغ 1 في المئة من مزيج الطاقة.10 وتواجه الطاقة الكهرومائية انخفاضات متكرّرة في الإنتاج بسبب تراكم الرواسب والجفاف الموسمي، بينما تعاني المحطات الحرارية نقصاً في الوقود وضعفاً في الكفاءة التشغيلية، لا سيما منذ انفصال جنوب السودان في العام 2011 الذي أدّى إلى فقدان البلاد لمعظم أصولها النفطية واعتمادها المطّرد على واردات الوقود المكلفة.11

 

المصدر: إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، “السودان: نظرة عامة”، تمّت زيارة الموقع في 20 مارس 2024، https://www.eia.gov/international/analysis/country/sdn.

 

كما أنَّ النقص المزمن في الاستثمارات بسبب عبء الدين وسنوات من العقوبات الدولية أدى إلى تفاقم أزمة قطاع الطاقة في البلاد، حيث أنّه لا يزال يعتمد على بنية تحتية هشّة واستيراد مُكلف للوقود.  12أضف إلى ذلك عدم استقرار الاقتصاد الكلي والحواجز السوقيّة والاضطرابات السياسية الناجمة عن انقلاب العام 2021 وحرب 2023 ،13 التي أوقفت دعم المانحين. وغالباً ما تتسبّب الفجوات في التمويل والنقص في العملات الأجنبية وشحّ الوقود وغياب قطع الغيار، بتأخيرٍ في تنفيذ المشاريع.

 

ووسط هذه التحديات في التمويل ونقص الموارد، لا تزال المرافق العامة في السودان غير مستدامة مالياً، حيث لا تغطّي التعريفات المنخفضة سوى جزء ضئيل من التكاليف الفعلية، ما يُعيق الاستثمارات الخاصة ويزيد من الاعتماد على الدعم الحكومي. وعلى الرغم من التعديلات التي أُدخلت على التعريفات في إطار إصلاحات الحكومة لدعم الوقود الأحفوري منذ العام 2021، لا تزال فواتير الكهرباء أقل بكثير من تكاليف التوليد الحقيقية.14 ولا تعكس هذه الأسعار المدعومة بشكل كبير التكاليف الفعلية لإنتاج الكهرباء، لا سيما في ظلّ التحديات المذكورة أعلاه.15 وفي حين تُعتبر التعريفات التي تقلّ عن المعدلات اللازمة لاسترداد التكاليف مُشوِّهة بصورة عامة، إلا أنّ محدودية الدخل في السودان، لا سيّما في فترة الصراع، جعلت من أسعار السوق في غير متناول معظم السودانيين.

 

وتتفاقم هذه المشاكل بسبب مركزية حوكمة قطاع الطاقة في السودان، إذ يعمل القطاع كاحتكار حكومي، حيث تشرف شركة كهرباء السودان القابضة على عمليات التوليد والنقل والتوزيع كافة.16 ويقوّض الحوكمةَ غيابُ إطار قانوني وتنظيمي واضح، لا سيّما في ما يتعلق بالشراكات بين القطاعين العام والخاص واتفاقيات شراء الطاقة.17 وقد أدى التشتّت التنظيمي بين الهيئات الرئيسية، بما فيها مديرية الطاقة المتجددة، والشركة السودانية للتوليد المائي، والشركة السودانية لتوزيع الكهرباء، إلى تداخل المهام وعدم اتساق التخطيط، ما قوّض اتساق السياسات وأبطأ عملية اعتماد مصادر الطاقة المتجدّدة.

 

بالفعل، لقد كشفت الحرب بوضوح أوجه القصور في هذا القطاع، إذ أدت المركزية الشديدة إلى جعل الشبكة الكهربائية عرضة للانقطاعات إلى حد كبير، ما سمح للهجمات على البنية التحتية للكهرباء بإغراق مناطق شاسعة في الظلام، لتتفاقم بالتالي حالة انعدام الأمن المحفوفة بالمخاطر الإنسانية. وفي حين لجأ عدد من المجتمعات إلى حلول الطاقة الشمسية على نحو متزايد، أحياناً بدعمٍ من المنظمات، بقيت هذه الجهود محدودة للغاية بحيث لم توفّر الوصول الفعّال إلى الكهرباء خارج الشبكة.

 

18لا يزال الدين العام والخارجي للسودان عند مستويات مرتفعة تفوق قدرة البلاد على تحمّلها، إذ بلغ الدين الخارجي 58 مليار دولار في العام 2018. وقد أدّت المديونية المزمنة، والتنمية المحدودة، وسعر الصرف المبالغ في تقييمه، وضعف مناخ الأعمال، والسياسات المالية المتساهلة إلى تأجيج الاختلالات الخارجية والتضخّم، ما يهدّد الاستقرار والنمو الاقتصاديين. انظر:

 

 

التغطية الكهربائية غير المتكافئة وجذور الإقصاء الهيكلية

يواجه قطاع الكهرباء في السودان قيوداً تشغيلية راسخة تُقوّض موثوقية الشبكة وتُفاقم أوجه عدم المساواة القائمة. فالتقلّبات المستمرّة في الجهد الكهربائي، والبنية التحتية المتهالكة، فضلاً عن العمليات التشغيلية التي عفا عليها الزمن، كلها عوامل تعيق الكفاءة المحلية والتكامل الطاقي عبر الحدود لا سيما مع إثيوبيا المجاورة. كما تعرقل هذه الشوائب التقنية اعتماد الطاقة المتجددة بفعالية، وتُؤدي إلى تراجع مُزمن في أداء النظام. ويزيد النقص الحاد في الكوادر الماهرة الوضع سوءاً؛ فقد هاجر الكثير من المهندسين والتقنيين المؤهلين، ناهيك عن أنّ انعدام الأمن وضعف البنية التحتية للنقل يُعيقان أعمال الصيانة والإصلاح، وتحديداً في المناطق النائية أو المتأثّرة بالصراعات.

 

وعلاوة على ذلك، تعطّل هذه الظروف المرافق الحديثة. فعلى سبيل المثال، سجّلت محطة ضخمة للطاقة الشمسية في دارفور أداءً ضعيفاً بسبب الخسائر التقنية في الشبكة وعدم استقرار البنية التحتية. وبينما بلغت نسبة التغطية الكهربائية في السودان نحو 32 في المئة في العام 2018، يُخفي هذا المعدّل القومي تفاوتات إقليمية صارخة.18 في الواقع، لم يتم توصيل الشبكة الكهربائية سوى إلى 2,2 مليون أسرة من أصل 6,7 مليون أسرة، حيث شكّل القطاع السكني 60 في المئة من إجمالي الاستهلاك.19 في المقابل، حصل قطاعا الزراعة والغابات، اللذان يشكّلان العمود الفقري لسبل العيش الريفية، على 8 في المئة فقط من هذه النسبة، ما يُبرز الفجوة بين الإمدادات وأولويات التنمية.20

 

 

 

المصادر: وكالة الطاقة الدولية، “السودان: الكهرباء”، تمّت زيارة الموقع في 10 يونيو 2025، https://www.iea.org/countries/sudan/electricity#how-is-electricity-used-in-sudan.

 

ينتج عن ذلك تداعيات اجتماعية وبيئية خطيرة. فاعتماد المجتمعات الريفية على الوقود الحيوي، مثل الحطب والفحم، يُسرّع من إزالة الغابات ويساهم في تلوّث الهواء الداخلي.21 كما يشلّ انقطاع الكهرباء الخدمات العامة، فتصبح العيادات عاجزة عن تقديم الرعاية الطارئة، وتعمل المدارس من دون الإضاءة والأدوات الرقمية الضرورية للتعليم الحديث. وتعكس هذه التفاوتات عقوداً من التخطيط المركزي الذي لطالما أعطى الأولوية للمراكز الحضرية وأهمل الاحتياجات التنموية للسكان الريفيين والمهمّشين. وتزداد هذه التحديات تعقيداً بسبب غياب نظام مركزي وفوري لمعلومات الطاقة، ما يولّد ضعف التخطيط وسوء تخصيص الاستثمارات واستجابات ارتجالية للمشاكل الهيكلية.

 

 

الإقصاء السياسي والحرمان من الطاقة في المناطق الريفية

 

إنّ استمرار عدم المساواة في توفير الطاقة في السودان متجذّر بعمق في بنية أوسع من الإقصاء السياسي والاقتصادي.22 فحرمان المناطق النائية من الكهرباء، مثل دارفور وكردفان والولايات الشرقية، على الرغم من كثافتها السكانية ومساهمتها الكبيرة في الناتج المحلي الإجمالي الزراعي، ليس بأمر عرضيّ، بل يعكس أنماط حوكمة راسخة، حيث يُستخدم الاستثمار في البنية التحتية كأداة سياسية بدلاً من أن يكون وسيلة لتحقيق التنمية العادلة.

 

منذ الحقبة الاستعمارية وحتى اليوم، أعطت الأنظمة المتعاقبة الأولوية للبنية التحتية للطاقة في المناطق التي تُبدي الولاء السياسي أو تحتلّ مكانة اقتصادية هامة، وغالباً ما همّشت المناطق ذات التمثيل الأضعف. وقد رُوّج لمشاريع الطاقة الضخمة، على غرار سدّي مروي والروصيرص، كرموز للتحديث الوطني، إلا أنّها لم تحقّق سوى فوائد محدودة للمجتمعات الريفية23 التي تقع معظمها بالقرب من مصادر الطاقة الرئيسية، وإنما تبقى خارج نطاق الشبكة. حتى وثيقة الدوحة للسلام في دارفور للعام 2011، التي أقرّت بأهمية البنية التحتية في التعافي ما بعد الصراع، قد واجهت صعوبة في تحقيق تقدّم ملموس.24 كما أنّ التزاماتها المتعلّقة بتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية، التي تهدف إلى تزويد 70 قرية بأنظمة الطاقة الشمسية الكهروضوئية على مستوى المجتمع المحلّي، اصطدمت بتحديات جسيمة من أعطال فنية، وأزمة وقود، وضعف في الدعم المؤسساتي، ونقص في التدريب المجتمعي، ما جعلها بعيدة كل البعد عن تحقيق أهدافها التنموية.25

 

 

المصدر: بوابة أفريقيا للطاقة، “السودان: لمحة عامة”، تمّت زيارة الموقع في 20 يونيو 2025، https://africa-energy-portal.org/aep/country/sudan;
مجموعة البنك الدولي، “السودان: السكان”، تمّت زيارة الموقع في يوليو 2025، https://data.worldbank.org/indicator/SP.RUR.TOTL?end=2024&locations=SD&start=1960&view=chart.

 

 

تتجاوز هذه الاختلالات الهيكلية مسألة الوصول إلى الطاقة. غالباً ما تعتمد المجتمعات الريفية على مصادر غير رسمية ولامركزية للطاقة، مثل مولدات الديزل وأنظمة الطاقة الشمسية الصغيرة، أو مولدات الوقود الحيوي، التي تُعدّ مكلفة وغير موثوقة وغير كافية لانتاج الكهرباء.26 فمن دون الاتصال بالشبكة، يفتقر المزارعون إلى أنظمة الريّ الكهربائي وإلى مرافق تجهيز المنتجات الزراعية والتخزين البارد. كما تعمل الشركات الصغيرة في ظروف مقيّدة، إذ تعجز عن تشغيل الآلات الأساسية أو تمديد ساعات العمل. وغالباً ما تفتقر المؤسسات العامة، مثل العيادات والمدارس، إلى التيار الكهربائي المستقرّ، ما يُضعف تقديم الخدمات الأساسية ويُقوّض شرعية الدولة. أمّا في المناطق المتضرّرة من الصراع مثل دارفور وجنوب كردفان، فلا يُمثل انقطاع الكهرباء معاناة مادية فحسب، بل يُذكّر كلّ يوم بإقصاء هذه المناطق عن أجندة التنمية الوطنية.

 

ويزداد الوضع سوءاً بسبب التشرذم المؤسّساتي وعدم اتساق السياسات. في الواقع، غالباً ما نُفِّذت مبادرات الطاقة الريفية كمشاريع قصيرة الأجل مدعومة من الجهات المانحة، من دون أن تستند إلى إستراتيجية وطنية موحّدة أو هياكل تخطيط محلية متينة.27 وبقيت شبكات الطاقة الشمسية الصغيرة والأنظمة الهجينة ومشاريع الريّ بالطاقة الشمسية، على الرغم من إمكاناتها، معزولة وغير قابلة للتوسّع بسبب ارتفاع تكاليفها الأوّلية والنقص في آليات التمويل ومحدودية القدرات التقنية. فعلى سبيل المثال، لم يرقَ أداءُ محطة الطاقة الهجينة الكهروضوئية بالديزل في الفاشر إلى المستوى المطلوب، بسبب انقطاع إمدادات الوقود وضعف الاتصال بالشبكة المحلية وقلّة الصيانة. وواجهت مشاريع مماثلة في نيالا وزالنجي حوادث سرقة للمعدات وأعطالاً في الأنظمة وضعفاً في مشاركة المجتمع المحلّي، ما يعكس فشلاً أوسع في تعزيز الملكية المحلية والمرونة المؤسساتية.

 

تتجلّى الأبعاد الجندرية لحرمان المناطق الريفية من الطاقة في السودان، حيث أنّ النقص في الطاقة الحديثة يُلقي بعبء غير متكافئ على كاهل النساء والفتيات. فهنّ يستهلكن ساعات طويلة من العمل اليومي من دون أجر مدفوع في جمع الحطب والمياه للطبخ على مواقد ملوِّثة، ما يعرّضهن لمخاطر صحية وجسدية. وتحدّ هذه المسؤوليات من فرص تعليم الفتيات، وتُقلّل من مشاركة النساء في الأنشطة المدرّة للدخل، وتكرّس انتقال الحرمان من جيل إلى جيل. ومع ذلك، نادراً ما اعتمد التخطيط في مجال الطاقة في السودان أطراً تراعي الفوارق بين الجنسين، ما فوّت فرصة ربط الحصول على الطاقة بأهداف أوسع تتمثّل بالعدالة الاجتماعية وبتمكين المرأة.

 

وتتعدّد أبعاد عواقب هذا النموذج الإقصائي، إذ تفاقم ندرةُ الطاقة التخلّفَ الإنمائي وتُؤجّج المظالم في المناطق المتضرّرة من الصراع، كما تُقوّض الثقة بالمؤسسات الوطنية. وغالباً ما تبقى الوعود الواردة في اتفاقيات السلام بشأن توسيع البنية التحتية حبراً على ورق، ما يساهم في تكريس انعدام الثقة وعدم الاستقرار. وعلاوة على ذلك، يُرسّخ عدم التكافؤ في حصول المناطق الحضرية على الكهرباء وعلى الدعم عدم المساواة بين المناطق.

 

لذا، فإنّ معالجة حرمان المناطق الريفية من الطاقة لا تتطلّب حلولاً تقنية أو تدخّلات من الجهات المانحة فحسب، بل تستدعي تحوّلاً جذرياً في كيفيّة تصوّر الطاقة ضمن إستراتيجية التنمية في السودان. ولا بدّ من إعادة صياغة مفهوم الطاقة لا كمسألة قطاعية فحسب، بل كركيزة أساسية للتعافي الاقتصادي الشامل والمصالحة السياسية والتحوّل الاجتماعي. ويُعدّ سدّ الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية في الحصول على الكهرباء أمراً بالغ الأهمية لكسر أنماط التهميش المتجذّرة، وتحسين سُبل العيش، وتحقيق وعود التنمية العادلة في مرحلة ما بعد الصراع في السودان.

 

 

الحاجة إلى الطاقة العادلة

 

يعتمد تحقيق الطاقة اللامركزية في السودان على التزامٍ سياسي قوي ومشاركة مجتمعية فاعلة ودعم مؤسساتي مستدام. بما أنّ مساحة السودان شاسعة وكثافته السكانية منخفضة وموارده الشمسية وفيرة، فإنّ عملية توسيع الشبكات المركزية مُكلفة وغير عملية. أما أنظمة الطاقة الشمسية المستقلّة عن الشبكة فتوفّر بديلاً مرناً وميسور التكلفة للمجتمعات الأكثر حرماناً. وقد ساهمت أنظمة الطاقة الشمسية المخصّصة للمدارس والعيادات ومضخات المياه بالفعل في تحسين الخدمات الأساسية وتعزيز قدرة المجتمعات على الصمود. ومع ذلك، ومن أجل توسيع نطاق هذه الإنجازات، لا بدّ من أن تعطي هذه البرامج الأولوية للملكية المحلية والتخطيط الشامل والاندماج الجندري.

 

وتُعدّ الابتكارات المالية، مثل التمويل القائم على النتائج والقروض الصغيرة والدعم الموجَّه، ضرورية أيضاً لجعل الكهرباء في متناول الجميع. كما يمكن للشراكات مع المؤسسات المحلية والجمعيات التعاونية أن تضمن فعالية تقديم الخدمات وصيانتها. ومع ذلك، ستتطلّب إعادة بناء قطاع الطاقة في السودان في مرحلة ما بعد الصراع خريطة طريق وطنية شاملة تتناول الإصلاح القانوني، وإعادة هيكلة المؤسسات، والاستثمار في مصادر الطاقة المتجدّدة اللامركزية، فضلاً عن إعادة تأهيل البنية التحتية الحيوية، والابتكار المالي، وبناء القدرات، والتخطيط الشامل. وينبغي أن تركّز هذه الخريطة على الأولويات التالية:

 

 

  1. إنشاء قاعدة بيانات موثوقة

يعتمد السودان على أربع محطات رئيسية لتوليد الكهرباء: محطتا أم دباكر والجَيلي لتوليد الطاقة الحرارية، ومحطتا مروي والروصيرص لتوليد الطاقة الكهرومائية. وتشكّل هذه المنشآت العمود الفقري للشبكة الوطنية، وتُعدّ ضرورية لتلبية الطلب وضمان استقرار النظام. وفي مرحلة التعافي ما بعد الحرب، ينبغي أن ينصبّ التركيز الفوري على إعادة تأهيل الشبكة، ولا سيما في المراكز الحضرية والصناعية الرئيسية. ويشمل ذلك التقييم السريع وإصلاح البنية التحتية المتضرّرة وإعادة تشغيل المحطات الرئيسية وخطوط النقل. كما يمكن لتوسيع الروابط الإقليمية مع مصر وإثيوبيا عبر المفاوضات الجارية والاتفاقيات الجديدة أن يعزّز أمن الإمدادات ويدعم الانتعاش الاقتصادي. غير أنّ إعادة تأهيل الشبكة السابقة من دون معالجة شوائبها الهيكلية قد تؤدي إلى استمرار أوجه القصور والمخاطر.

 

لن يتطلّب نجاح التعافي واستدامته إصلاح البنية التحتية فحسب، بل تحديثها أيضاً، بما في ذلك المحطات الفرعية الذكية وأنظمة المراقبة في الوقت الفعلي، وهي عملية تستند إلى بيانات طاقة موثوقة وشاملة. وبفضل نظام الدفع المسبق في قطاع الكهرباء، بَنَت شركة كهرباء السودان القابضة (التي تملك شبكة التوزيع بالكامل) قاعدة بيانات واسعة عن مستهلكي الشبكة، تتضمّن معلومات جغرافية وبيانات مفصّلة بحسب القطاع. ويمكن استخدام هذه البيانات لدعم التخطيط، وتخصيص الموارد، واتخاذ القرارات المتعلّقة بالاستثمار. ومن شأن الاستثمار في تعزيز المعرفة المتعمّقة بالقطاع، مثل التقييمات المجتمعية والقرارات المتعلّقة بالاستهلاك وتأثير انقطاعات التيار الكهربائي، بالإضافة إلى إتاحة هذه البيانات للمستثمرين وصنّاع السياسات والباحثين، دعم عملية إعادة الإعمار. ومن شأن قاعدة بيانات شفافة ومتاحة للجميع متعلقة بالطاقة أن تمكّن صناع السياسات والمستثمرين من اتخاذ قرارات قائمة على الأدلة، وتوجيه التدخلات حيثما تدعو الحاجة، فضلاً عن ضمان عدالة جهود التعافي وفعاليتها في شتى أنحاء السودان.

 

  1. الإصلاح المؤسساتي وبناء القدرات

تتمثّل أولوية أخرى بإعادة هيكلة المؤسسات المسؤولة عن قطاع الطاقة، لا سيما وأنّ عقوداً من الصراع أضعفت قدرة الوزارات والمرافق. ومن شأن إنشاء لجنة لإعادة بناء قطاع الطاقة تابعة لمكتب رئيس مجلس الوزراء أن يضمن تنسيق التخطيط السياسي ويُشرك الجهات المعنية كافة، بما في ذلك الأصوات الإقليمية المهمّشة. ويُعدّ تحديد أدوار الهيئات المعنية بتوليد الطاقة والنقل والتوزيع أمراً أساسياً. ففي حين قد تبقى إدارة النقل مركزية بغية تعزيز الكفاءة، يمكن أن تشمل عملية التوليد مزيجاً من المنتجين الوطنيين والمستقلّين، لا سيما في مجال الطاقة المتجدّدة. كما يمكن أن يحسّن التوزيع اللامركزي تقديم الخدمات. وعلاوة على ذلك، من شأن إنشاء هيئة تنظيمية مستقلة للطاقة، مخوَّلة بإدارة التعريفات ومعايير الخدمة، أن يضمن الاستدامة المالية وحماية المستهلكين.

 

تُعدّ عملية إعادة بناء رأس المال البشري في قطاع الطاقة أمراً بالغ الأهمية أيضاً. ففي خضم الحرب، لم تفقد المرافق الأصول المادية فحسب، بل رأس المال البشري والذاكرة المؤسساتية على حدّ سواء. وستتطلّب إعادة إنشاء مرافق عامة فعالة جهداً وطنياً لتوظيف الكوادر التقنية وإعادة تدريبها والمحافظة عليها، لا سيما في مجالات تشغيل الأنظمة والمشتريات والصيانة. كما يمكن أن يساهم تدريب تقنيين ومهندسين ومدراء جُدد من خلال الشراكات مع الجامعات والبرامج الدولية في سدّ الفجوات في المهارات. وستعتمد إعادة بناء الثقة في المرافق العامة أيضاً على إعادة إرساء آليات المساءلة. ولا بدّ من أن تصبح الشفافية في المشتريات، وتوظيف الكوادر بعيداً عن التأثير السياسي، واستقلالية التدقيق، عناصر غير قابلة للتفاوض في أجندة إعادة الإعمار.

 

  1. نحو اعتماد التنوّع والمرونة واللامركزية

يُجب أن يُعاد توجيه عملية تحوّل قطاع الطاقة في السودان بحيث تتخلّى البلاد عن الاعتماد على الطاقة الكهرومائية والوقود الحراري المستورد، إذ أثبتا عدم استدامتهما الاقتصادية والبيئية. وفي حين تقوّض الظروف المناخيّة المتقلّبة موثوقية الطاقة الكهرومائية، تكثّف واردات الوقود السنوية التي تبلغ قيمتها 1,3 مليار دولار الضغوط المالية وتعرّض السودان لمخاطر الأسواق الخارجية. في المقابل، تمثّل الإمكانات العالية للطاقة الشمسية في البلاد، إلى جانب الانخفاض الحاد المتوقّع في تكاليف الطاقة الشمسية (إلى 35 دولار/ميغاواط/ساعة بحلول العام 2025 و25 دولار/ميغاواط/ساعة بحلول العام 2035)، فرصة واعدة لتنويع مصادر الطاقة وتحقيق الاستقرار في إمدادات الكهرباء.28

 

ينبغي على أيّ إستراتيجيّة موثوقة أن تعطي الأولوية للتنفيذ السريع لمشاريع توليد الطاقة الشمسية الموزّعة، لا سيّما في المناطق القريبة من مراكز الطلب والمناطق المحرومة. كما أنّ إعادة توجيه نفقات الوقود الأحفوري لتمويل ما يصل إلى 600 ميغاواط من الطاقة الشمسية الجديدة لن تحدّ من الاعتماد على الاستيراد فحسب، بل ستعزّز أيضاً مرونة الشبكة، شريطة أن تكون المشاريع موزّعة جغرافياً. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للوضوح في الأطر التنظيمية، والحوافز الموجَّهة، وتعزيز الأدوات المصرفية فتح المجال أمام الاستثمار العام والخاص في الحلول المرتبطة بالشبكة أو خارجها.29

 

تُعدّ اللامركزية عنصراً أساسياً في هذا التحوّل، إذ من شأن منح الحكومات المحلية استقلالية مالية أكبر وصلاحيات أوسع في إدارة المشاريع أن يفضي إلى وضع إستراتيجيات للكهرباء مصمّمة خصيصاً وفقاً لاحتياجاتها، ويدعم نشر الشبكات المصغّرة وأنظمة الطاقة الشمسية المجتمعية. أمّا في المناطق النائية والمتأثرة بالصراعات، فتوفّر حلول الطاقة المتجدّدة اللامركزية بديلاً فعّالاً من حيث التكلفة والمرونة عن البنى التحتية المركزية، ما يقلّل من هشاشة النظام أمام الصدمات والانقطاعات. ويتطلّب هذا النهج أُطراً وطنية متماسكة، وتنظيمات مبسّطة، ودعماً لبناء القدرات المحلية. كما يمكن للآليات المالية، مثل الدعم والقروض الصغيرة والتمويل القائم على النتائج، أن تدفع باتجاه تبنّي هذه الحلول وتضمن الشمولية الاقتصادية.

 

  1. آليات التمويل للتعافي العادل

ستؤدي الاستثمارات المالية الضخمة دوراً حاسماً في تعافي قطاع الطاقة في السودان. كما يعدّ وضع إستراتيجية متكاملة وواقعية للطاقة، تركّز على توسيع نطاق الوصول إلى الكهرباء وإدماج الطاقة المتجدّدة وتعزيز القدرة على التكيّف مع تغيّر المناخ، أمراً بالغ الأهمية. وبهدف تنفيذ خطّة مماثلة، يجب على السودان استقطاب المِنح والقروض الميسّرة من الجهات المانحة والمؤسسات الدولية، ومن خلال شراكات ثنائية إستراتيجية. كما يمكن لإدخال مشاريع الطاقة ضمن برامج أوسع لإعادة الإعمار وتعزيز القدرة على التكيّف مع تغيّر المناخ أن يزيد من فرص التمويل العالمي للمناخ. وسيؤدي التنسيق بين الجهات المانحة وهياكل الحوكمة الشفافة دوراً حاسماً في تأمين هذه الموارد واستخدامها بفعالية.

 

ويمكن للشراكات بين القطاعين العام والخاص أن تساهم أيضاً في تحفيز الاستثمار الخاص، لا سيما في مشاريع الطاقة المتجدّدة مثل محطات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. كما يمكن لتعزيز الأُطر التنظيمية، وتقديم ضمانات ضد المخاطر، وتأمين ترتيبات مالية مستدامة لعقود شراء الطاقة، تعزيز ثقة المستثمرين. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تشكّل المناقصات الشفافة والتنافسية رادعاً في وجه الفساد وتضمن توزيعاً عادلاً للخدمات.

 

يعدّ تحقيق الاستدامة المالية على مستوى القطاع بأكمله ضرورة ملحّة. ويمكن أن يساهم إدخال الدعم الموجّه والتعريفات التي تعكس التكلفة الحقيقية في تحقيق توازن بين الجدوى المالية والقدرة على تحمّل التكاليف، فضلاً عن تحسين آليات تحصيل الإيرادات وتنفيذ إستراتيجيات للحدّ من الخسائر. كما يمكن لآليات التمويل المحلية، بما في ذلك قروض التمويل الصغيرة لأنظمة الطاقة الشمسية، ونماذج الاستثمارات المجتمعية، وسندات المغتربين، أن تُمكّن المستهلكين وتوظّف بفعالية الموارد المتاحة من الجاليات السودانية في الخارج.

 

  1. تعزيز المساواة بين الجنسين في الوصول إلى الطاقة

تعدّ الإستراتيجيات المراعية للمساواة بين الجنسين حاسمة لتحقيق التعافي العادل في قطاع الطاقة في السودان. ومن المهم أن يكون للنساء والشباب دور مركزي في تصميم السياسات والمشاريع كونهم متأثّرين بالحرمان من الطاقة على نحو غير متكافئ. ومن شأن توسيع نطاق الوصول إلى مواقد الطهي المحسّنة وكهربة البنية التحتية المجتمعية الحدّ من أعباء العمل والمخاطر الصحية اليومية التي تواجهها النساء. ويمكن للعيادات ومراكز الأمومة والمدارس العاملة بالطاقة الشمسية أن تعزّز الفرص الاجتماعية والاقتصادية المتاحة للمرأة.

 

وقد يساهم تحفيز المشاركة الاقتصادية للنساء والشباب، من خلال التدريب الموجّه للتقنيين في مجال الطاقة الشمسية ودعم مشاريع الطاقة التي تقودها النساء، في تغيير سُبل العيش، لا سيما للأسر التي تعيلها النساء. كما سيضمن إشراك المرأة في هياكل الحوكمة، بدءاً من اللجان المحلية ووصولاً إلى هيئات التخطيط الوطني، مراعاة احتياجاتها ووجهات نظرها في عملية صنع القرار. ومن شأن جمع البيانات المفصّلة جندرياً أن يتيح رصداً فعّالاً ويدعم تحقيق نتائج تراعي المساواة بين الجنسين. كما يمكن للدعم الموجَّه وحملات التوعية المجتمعية تعزيز تأثير تدخلات الطاقة، ما يجعل المرأة مشارِكة أساسية في جهود تعافي الطاقة في السودان ومستفيدة رئيسية منها.

 

 

خطّة وطنية جديدة للطاقة

لقد ألحقت الحرب الضروس أضراراً جسيمة بالبنية التحتية للطاقة في السودان. ومع ذلك، تمثّل هذه الكارثة فرصة فريدة لإعادة النظر في مستقبل الطاقة في البلاد وفي دورها المحوري في عملية إعادة الإعمار. فمن دون توفّر الكهرباء بشكل موثوق وعادل وبأسعار معقولة، لا يمكن إحراز أيّ تقدّم حقيقي نحو إنعاش الزراعة، وجذب الصناعات، وإعادة تأهيل قطاعَي الصحة والتعليم، أو خلق فرص العمل. فالطاقة لا تتعلّق بالبنية التحتية فحسب، بل تشكّل العمود الفقري الذي يدعم كل جانب من جوانب تطلّعات السودان التنموية ويعزّز الاستقرار على المدى الطويل.

 

ومع ذلك، يجب أن تبدأ عملية إعادة بناء هذا القطاع بفهم دقيق للمشهد الراهن. وتتمثّل الخطوة الأولى بإجراء تقييم شامل لأصول السودان وأنظمته واحتياجاته في مجال الطاقة. ويعني ذلك جمع البيانات المحدّثة حول وضع البنية التحتية، وتغطية الخدمات، وأنماط الاستهلاك، والخسائر التقنية، والآثار البيئية المحلية. في غياب هذه الأدلة، فإنّ القرارات معرّضة لخطر تكرار إخفاقات الماضي مثل سوء تخصيص الموارد، أو إغفال الفجوات الحرجة، أو ترسيخ أوجه عدم المساواة القائمة.

 

وعلى هذا الأساس، يمكن للسودان وضع خطة وطنية جديدة للطاقة تعالج بشكل واقعي المشاكل التي تعترضه كالديون الطائلة المتراكمة، ومحدوديّة الحيز المالي، والعلاقات المتوتّرة مع الهيئات المالية الدولية، وضعف المؤسسات المحلية. وفي الوقت نفسه، يجب أن تتناول الخطة مباشرة الضغوط البيئية المحلية الملحّة التي تهدّد سُبل العيش والأمن الغذائي، مثل إزالة الغابات الناتجة عن الاستخدام الواسع للحطب كوقود، والتصحّر، وتفاقم مشكلة ندرة المياه.

 

ينبغي على هذه الخطّة أن توحّد أنظمة الرقابة المشتتة، وتسنّ تشريعات طال انتظارها، وتستعيد ثقة المستثمرين من خلال حوكمة شفافة وخاضعة للمساءلة. كما أنّ توجيه ولو جزء من إنفاق السودان الضخم على واردات الوقود نحو حلول مرنة، مثل الطاقة الشمسية اللامركزية وأنظمة الشبكات المصغّرة، يمكن أن يخفّف من ضغوط العملات الأجنبية، ويوفّر فرص عمل في كل المناطق، ويبطئ وتيرة التدهور البيئي، ما يعزّز المساهمة المحدّدة وطنياً (NDC) للسودان في اتّفاق باريس. ويمكن لهذا النهج، إلى جانب برامج مصرفية موجّهة، ومبادرات تدريبية محلية، وإستراتيجيات تراعي الاعتبارات الجندرية، تعزيز توفّر الطاقة النظيفة واستدامتها، وبالتالي تخفيف الأعباء التي تقع بشكل غير متكافئ على كاهل النساء والمجتمعات المهمّشة.

 

ومع ذلك، لا بدّ من السعي إلى إعادة بناء قطاع الطاقة لا كأولوية تقنية أو مناخية فحسب، بل كضرورة اقتصادية واجتماعية عملية على حدّ سواء. فمن خلال إدماج الطاقة في صلب أجندة إعادة الإعمار، استناداً إلى تقييم دقيق ومرتبط بالقيود الواقعية التي يواجهها السودان، يمكن للبلاد أن تبدأ بتحويل هشاشتها المزمنة إلى محرّك للنمو الشامل والمرونة والانتعاش الوطني.

 

 

الخاتمة: نحو مستقبل عادل ومستدام في مجال الطاقة

 

ليست أزمة الطاقة في السودان نتيجةً لانهيار البنية التحتية فحسب، بل هي انعكاس لإخفاقات أوسع على مستوى الحوكمة والتنمية. لذا، لا يمكن مواجهة هذه التحديات بإصلاحات جزئية أو مشاريع مموّلة من الجهات المانحة فحسب. إنما يعدّ إصلاح قطاع الطاقة أمراً أساسياً لإعادة بناء العقد الاجتماعي، والحدّ من أوجه عدم المساواة، وإرساء الأُسس لتحقيق تعافٍ أكثر مرونة وشمولية في مرحلة ما بعد الصراع التي تعانيها البلاد. كما أنّ عملية إعادة بناء قطاع الطاقة تتجاوز البنية التحتية، إذ ترتبط ارتباطاً وثيقاً بإعادة بناء المجتمع على مبادئ العدالة والمرونة والازدهار المشترك.

 

وعلى الرغم من التحديات المادية والمالية والمؤسساتية الجسيمة، تتيح موارد السودان المتجدّدة الوفيرة ورأس ماله البشري المرن فرصاً واعدة. ويُعدّ إنشاء فريق عمل وطني للطاقة، وإعادة تأهيل البنية التحتية الحيوية، والنشر السريع لحلول الطاقة الشمسية في المواقع الإستراتيجية، فضلاً عن إعادة هيكلة المؤسسات المعنية بالطاقة، خطوات أساسية في المدى القريب. وفي المستقبل، سيعزّز تأمين التمويل الدولي جهود التعافي على المدى الطويل من خلال التنسيق بين الجهات المانحة والحوكمة الشفافة، بالإضافة إلى الشراكات المتينة بين القطاعين العام والخاص.

 

لا بدّ من التعامل مع تحوّل الطاقة في السودان ليس كحدث تقني قائم بحدّ ذاته فحسب، بل باعتباره ركيزة محورية في عملية التعافي الشاملة. فالطاقة هي القطاع الذي يتيح عمل القطاعات الأخرى كافة وتنميتها، مثل الزراعة والصناعة والصحة والتعليم والخدمات الرقمية. ومن خلال وضع تحوّل الطاقة في صلب التخطيط الوطني، يمكن للسودان أن يباشر في معالجة أوجه عدم المساواة التاريخية العميقة، وتعزيز المرونة المناخية والاقتصادية، وتمهيد الطريق نحو مستقبل أكثر سلماً وعدلاً وازدهاراً. وتتطلّب النتائج العادلة التمكين المحلي، ومكافحة الفساد، وبذل جهود مدروسة لتعزيز الشمولية الجندرية. ومن خلال أنظمة الطاقة اللامركزية والمشاركة المجتمعية، يمكن للسودان تأمين الوصول إلى الطاقة والتنمية الاقتصادية على نطاق واسع، وتحويل قطاع الطاقة إلى قوة موحّدة لتحقيق الاندماج الوطني والنمو المستدام.

 


الهوامش
1 World Bank DataBank, “World Development Indicators (WDI): Sudan: Rural population (% of total population),”  accessed August 27, 2025, https://databank.worldbank.org/reports.aspx?source=2&series=SP.RUR.TOTL.ZS&country=SDN,TGO#.
2 International Energy Agency, “Sudan: Electricity,” accessed June 10, 2025,  https://www.iea.org/countries/sudan/electricity#how-is-electricity-used-in-sudan.
3 انخفض إنتاج السودان من النفط إلى أقل من نصفه ليصل إلى 24 ألف برميل يومياً، وتوقّفت عمليات التكرير بعد أن تعرّضت مصفاة الجيلي الرئيسية لأضرار بلغت قيمتها 3 مليارات دولار بسبب القتال. أنظر:
 Khalid Abdelaziz and Eltayeb Siddig, “Sudan war shatters infrastructure, costly rebuild needed,” Reuters, May 28, 2025, https://www.reuters.com/world/africa/sudan-war-shatters-infrastructure-costly-rebuild-needed-2025-05-28/.
4  Abdalftah Hamed Ali, “Civilians in the Crosshairs as RSF Escalates Sudan War with Drone Barrage,” Afkār (blog), June 17, 2025, https://mecouncil.org/blog_posts/civilians-in-the-crosshairs-as-rsf-escalates-sudan-war-with-drone-barrage/.
5  تعمل حالياً محطتان فقط من أصل 15 محطة طاقة حرارية، بينما تعرّضت سبع محطات أخرى للدمار الجزئي أو الكلي. كما تمّ تدمير أكثر من 100 ألف محوّل وفقدان أكثر من 20 ألف برميل من زيت المحوّلات. أنظر:
“Sudan’s electricity, transport sectors crippled by ongoing civil war,” China News, May 18, 2025, https://english.news.cn/africa/20250518/49e6f2c9623141d3985a25be0bb61e75/c.html.
6 Abdelaziz and Siddig, “Sudan war shatters infrastructure.”
7  Osama Mohammed Elmardi Suleiman Khayal, “Literature Review on Hybrid Photovoltaic – Diesel Power System in Sudan,” Global Journal of Engineering Sciences – GJES 10, no.5 (January 2023), https://irispublishers.com/gjes/fulltext/Literature-Review-on-Hybrid-Photovoltaic%20–%20Diesel-Power-System-in-Sudan.ID.000748.php.
8 United Nations Development Programme (UNDP), The Potential of Sudanese Diaspora Remittances (N.p.: UNDP, September 2020), https://www.undp.org/sites/g/files/zskgke326/files/migration/sd/0842e3a1e75277ab55feab7817d3145a452eecfaecba808de2d1a85e32191c45.pdf.
9 U.S. Energy Information Administration, “Sudan: Overview,” March 20, 2024, https://www.eia.gov/international/analysis/country/sdn.
10 Ibid.
11 أدّى فقدان السودان لاحتياطياته النفطية الضخمة بعد انفصال جنوب السودان إلى اضطراره لإنفاق ملايين الدولارات من موارده المحدودة من العملات الأجنبية لاستيراد الوقود، وهو ما يمثّل نسبة كبيرة من الإنفاق الحكومي والاقتصاد بصورة عامة. أنظر:
Kenta Usui, Laurencia Karimi Njagi, Mbuso  Gwafila, M. Ananda Covindassamy, and Amin Sabri Ahmed Abd Alaal, From Subsidy to Sustainability: Diagnostic Review of Sudan’s Electricity Sector, Working Paper, (Washington, D.C: World Bank Group, April 30, 2020), 8-30, http://documents.worldbank.org/curated/en/486961588608080192; “UN: Sudan imported $ 1 billion worth fuel in 2019,” Darfur 24, September 20, 2020, https://www.darfur24.com/en/2020/09/20/un-sudan-imported-1-billion-worth-fuel-in-2019/
12 لا يزال الدين العام والخارجي للسودان عند مستويات مرتفعة تفوق قدرة البلاد على تحمّلها، إذ بلغ الدين الخارجي 58 مليار دولار في العام 2018. وقد أدّت المديونية المزمنة، والتنمية المحدودة، وسعر الصرف المبالغ في تقييمه، وضعف مناخ الأعمال، والسياسات المالية المتساهلة إلى تأجيج الاختلالات الخارجية والتضخّم، ما يهدّد الاستقرار والنمو الاقتصاديين. انظر:
 Kenta, Njagi, Gwafila, Covindassamy and Abdala, From Subsidy to Sustainability, 11.
13 “How Is Sudan’s Civil War Crippling Its Energy Sector?” Africa Energy News, May 20, 2025, https://africaenergynews.co.ke/how-is-sudans-civil-war-crippling-its-energy-sector/; World Bank Group, Sudan Economic Update May 2025-Economic Policy Eastern and Southern Africa Region (Washington DC: The World Bank, June 9, 2025), https://openknowledge.worldbank.org/entities/publication/34749b76-5d3d-4f71-bd06-e0a68df1121f.
14  تفاصيل التعرفة الجديدة: قائمة أسعار الكهرباء لكلّ القطاعات في السودان، الراكوبة نيوز، 12 مارس 2025.
https://rakobanews.com/sudan-economy/sudanese-economic-news/134429.
15  أصبحت المحافظة على هذه الاعانات غير مستدامة في ظلّ ارتفاع معدل التضخم الذي تجاوز الـ150 في المئة في أبريل 2025، بالإضافة إلى انخفاض قيمة العملة والضغوط المالية الحادة. وتُقدّر تكاليف توليد الكهرباء باستخدام الديزل في السودان بين 0,10 و0,12 دولار لكلّ كيلوواط/ساعة، وقد ترتفع أكثر مع انقطاع الإمدادات. في المقابل، تبلغ التكلفة الموحدة للطاقة (LCOE) للطاقة الشمسية الكهروضوئية في السودان نحو 0,0376 دولار لكلّ كيلوواط/ساعة، أي أقل بكثير من تكلفة الديزل، وفي بعض الحالات تعادل أو تقلّ عن أعلى التعريفات الحالية التي تدفعها المؤسسات والمستشفيات الخاصة.
16  Terra Energy, Utility-Scale Solar in Sudan: Case Study Of Al-Fashir Plant – Sudan’s First Utility Scale Solar Project, (Kigali, Rwanda: Terra Energy, March 2023), 8, https://terraenergi.co/wp-content/uploads/2023/03/Utility-Scale-Solar-in-Sudan.pdf
17 Kenta, Njagi, Gwafila, Covindassamy and Abd Alaal, From Subsidy to Sustainability, 13.
18  Ibid., 22
19  Ibid.
20  IEA, “Sudan: Electricity.”
21 Monged Abdalla, and Tamer Qarmout, “An analysis of Sudan’s energy sector and its renewable energy potential in a comparative African perspective,” International Journal of Environmental Studies 80, no.4 (2023), https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/00207233.2023.2177417?scroll=top&needAccess=true#abstract; UNDP, Empowering Sudan: Renewable Energy Addressing Poverty & Development, (Khartoum, Sudan: UNDP, September 9, 2020), https://www.undp.org/sudan/publications/empowering-sudan-renewable-energy-addressing-poverty-development.
22  في العام 2021، كان نحو 84 في المئة من سكان المناطق الحضرية يتمتعون بإمكانية الوصول إلى الكهرباء، مقارنة بـ49 في المئة فقط في المناطق الريفية. وتعتمد الأسر التي لا يمكنها الاتصال بالشبكة على الوقود الحيوي والمولدات العاملة بالديزل لتلبية احتياجاتها من الطاقة. أنظر: U.S. Energy Information Administration, “Sudan: Overview”; Terra Energy, Utility-Scale Solar.
23  Razaz H. Basheir and Mohamed Salah Abdelrahman, “The electricity crisis in Sudan: Between quick-fixes and opportunities for a sustainable energy transition,” Transnational Institute, October 14,  2022, https://www.tni.org/en/article/the-electricity-crisis-in-sudan.
24 United Nations – African Union Hybrid Operation in Darfur (UNAMID), “Doha Document for Peace in Darfur,” May 2011, https://unamid.unmissions.org/doha-document-peace-darfur; International Crisis Group, Sudan’s Spreading Conflict (III): The Limits of Darfur’s Peace Process, Africa Report No. 211 (Brussels, Belgium: International Crisis Group, January 2014), 1-18, https://www.crisisgroup.org/sites/default/files/sudan-s-spreading-conflict-iii-the-limits-of-darfur-s-peace-process.pdf.
25 أُطلق مشروع توليد الكهرباء بالطاقة الشمسية في دارفور في إطار إستراتيجية تنمية دارفور بدعم من منظمات دولية، وساهم في تركيب أنظمة للطاقة الشمسية الكهروضوئية في 70 قرية بغية تأمين الطاقة للمدارس والعيادات الطبية ومراكز الشرطة ومراكز رعاية المرأة. كما شمل المشروع التدريب التقني المحلي، وتمويلاً صغيراً لمشاريع الطاقة، وحملات للتوعية العامة. أنظر: UNDP, UNIDO, UNHABITAT, WHO, DRA, MWRE, NERC, Darfur Solar Electrification Project, Joint Programme/Project Document of The UN Fund for Recovery, Reconstruction and Development in Darfur (Khartoum, Sudan: UNDP, UNIDO, UNHABITAT, WHO, DRA, MWRE, NERC, February 2016), https://mptf.undp.org/sites/default/files/documents/20000/7._darfur_solar_electrification_project_final.pdf.
26  UNDP, Empowering Sudan: Renewable Energy Addressing Poverty & Development, (Khartoum, Sudan: UNDP, September 9, 2020), https://www.undp.org/sudan/publications/empowering-sudan-renewable-energy-addressing-poverty-development.
27  إلتزم السودان، في مساهمته المحددة وطنياً للعام 2015، بزيادة حصّة الطاقة المتجددة إلى 20 في المئة من مزيج الطاقة بحلول العام 2030. وشمل هذا المخطط نشر ألف ميغاواط ذروة (MWp) من أنظمة الطاقة الشمسية الكهروضوئية الموزّعة على مستوى البلاد—سواء المتصلة بالشبكة أو خارجها—وتركيب 1,1 مليون نظام شمسي منزلي لتزويد المناطق الريفية بالكهرباء. وكان الهدف توفير الكهرباء لتسعة ملايين شخص، بحيث تحصل كل أسرة على 100 أو 200 واط، بما يعزز التنمية الاجتماعية والاقتصادية وسبل العيش الريفية. أنظر: Ministry of Water Resources and Electricity (Sudan), Rural electrification with Solar Home Systems Project (Khartoum, Sudan: Ministry of Water Resources and Electricity, n.d.), https://www.unescwa.org/sites/default/files/event/materials/2p4.pdf.
28 JP Casey, “BNEF: Fixed-tilt PV LCOE to fall to US$35/MWh by the end of 2025,” PV Tech, February 6, 2025, https://www.pv-tech.org/bnef-fixed-tilt-pv-lcoe-fall-us35-mwh-end-of-2025/.
29 “10 مليون جنيه .. طريقة الحصول على تمويل من بنك الخرطوم لشراء الطاقة الشمسية للمنازل للافراد والشركات”، أخبار السودان، 16 يونيو 2025، https://www.sudanakhbar.com/1659438؛ “بنك أم درمان الوطني يطرح برنامجاً تمويلياً لإعادة الإعمار”، سودان تايمز، 17 يونيو 2025؛ https://sudantimes.net/?p=17690.