شهدت السياسة الخارجية المصرية تغييرات جذرية في خلال نصف القرن الماضي. فقد تبدّدت تطلّعات مصر وطموح القومية العربية مع وفاة الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر عام 1970 .وجاء خلفه أنور السادات ليعيد توجيه البلاد نحو الغرب، فأبرم معاهدة سلام مع إسرائيل عام 1979، مما أدّى إلى تعليق عضوية مصر في جامعة الدول العربية لعقدٍ من الزمن. طرد السادات المستشارين السوفياتيين وأقام شراكةً استراتيجية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة غدت ركناً من أركان السياسة الخارجية المصرية. وحافظ حسني مبارك الذي خلف السادات على أهداف سياسة مصر الخارجية الواسعة النطاق، ونسج تحالفات وترافقت مقاربته مع تركيزٍ مطّرد على أمن النظام والاستقرار الداخلي. شهد دور مصر تراجعاً في خلال السنوات الأخيرة من عهد مبارك بسبب مجموعةٍ من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية المحلية والركود السياسي وتبدّل الديناميكيات الإقليمية والدولية.
أدّت ثورات العام 2011 إلى تفاقم المشاكل الداخلية والتحديات الإقليمية. واضطرت الحكومات التي تلت مبارك إلى التعامل مع الحروب الأهلية في ليبيا وسوريا واليمن؛ ومسألة سدّ النهضة الأثيوبي الكبير؛ والإرهاب في سيناء؛ وتنامي التوترات في الحوض الشرقي للبحر المتو ّسط. وتأجّجت هذه التحديات مع تدهور المناخ الأمني الإقليمي في أعقاب السنة الوجيزة والمضطربة التي أمضاها الرئيس محمد مرسي في الحكم.
وفي خلال المرحلة الانتقالية تحت رئاسة عدلي منصور، أعلن وزير الخارجية المصري حينها نبيل فهمي في مؤتمرٍ صحفي عقده عام 2013 عن ثلاثة أولويات للسياسة الخارجية المصرية لتلك المرحلة: أولاً “حماية ودعم الثورة ونقل صورتها الحقيقية للعالم الخارجي”؛ وثانياً، العمل على استعادة مصر لموقعها العربي الأفريقي والمتوسطي، والتعامل مع القضايا العاجلة المرتبطة بالأمن القومي المصري؛ وثالثاً، وضع الأرضية الشاملة والأسس الصحيحة للسياسة الخارجية المصرية على المدى الطويل.2 وبقيت السياسةُ الخارجية المصرية تتمحور حول هذه الأولويات عندما تسلّم عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم، عازماً على “عودة مصر إلى مكانتها”.3
بهدف تقييم السياسة الخارجية المصرية في عهد السيسي تقييماً موضوعياً، تُسلّط هذه الورقة الضوء على أربع قضايا وتحديات رئيسية متعلقة بالسياسة الخارجية، وعلى استجابة الحكومة لمعالجتها. والقضايا الأربعة هي: أولاً، الصراع في ليبيا؛ ثانياً، التوترات الجيوسياسية في الحوض الشرقي للبحر المتوسّط؛ ثالثاً سدّ النهضة الإثيوبي الكبير؛ وفي الختام العلاقات مع القوى العالمية ودول مجلس التعاون الخليجي. تعتبر الورقة أنّه على الرغم من مجموعة النجاحات التي حقّقتها السياسةُ الخارجية المصرية في عهد السيسي واستعادة مصر بعض من نفوذها، تستمرّ المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المحلية في عرقلة تطلّعات مصر وطموحها في تأدية دورٍ أوسع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
شكّلت ليبيا تحدياً رئيسياً للرئيس السيسي في مجالَي الأمن والسياسة الخارجية نظراً للحرب الأهلية المستعرة على أرضها ومشاطرتها الحدود مع مصر على طول ألف كلم. بالإضافة إلى الفصائل الرئيسية المتناحرة، يُثير وجود مجموعات عنيفة في ليبيا، على غرار داعش والقاعدة، مخاوف الحكومة المصرية من احتمال امتدادها إلى أراضيها. ولعلّ هذه المخاوف مبرّرة على خلفيّة أنّ بعض الأسلحة التي حصل عليها مقاتلون إسلاميون ممن تورّطوا في اشتباكات مع عناصر من القوات المسلّحة والشرطة المصرية، قد تم تهريبها عبر الحدود المصرية-الليبية.4 كما ساهمت مخاوف سياسية من انتشار الإسلام السياسي في رسم سياسة مصر تجاه ليبيا، وتساور بعض الأطراف الإقليمية والدولية مثل دولة الإمارات العربية المتحدة وفرنسا هذه المخاوف نفسها.5
في هذا السياق، دعمت مصر بقوة المشير خليفة حفتر والجيش الوطني الليبي في وجه حكومة الوفاق الوطني. وكانت خياراتها محدودة بسبب الانقسام بين القوى السياسية في ليبيا واستمرار الحرب الأهلية. وبالتالي، اضطرت القاهرة إلى مضاعفة دعمها لحفتر ومساندة “عملية الكرامة” التي أطلقها بهدف استعادة العاصمة طرابلس والتي باءت بفشلٍ ذريع.6
يمكن القول إنّ مصر أخطأت في مساندتها حفترعلى الرغم من خياراتها المحدودة، إذ لم يعد بوسعها تصوير نفسها كوسيطٍ محايد في ليبيا نظراً لدعمها الواضح لطرفٍ من أطراف الصراع.7 علاوة على ذلك، كان صعباً على مصر الاعتماد على حفتر أو توقّع تصرفاته، مما شكّل تحدياً إضافياً لها لا سيما في ظلّ انتهاكاته المتزايدة لحقوق الإنسان.8
حَوّل تأييدُ تركيا لحكومة الوفاق الوطني مسارَ الحرب ضد حفتر، ونظراً لمعارضتها لرئاسة السيسي، أثار تدخّلها وإرساء موطئ قدم عسكري لها في ليبيا المجاورة مخاوف القاهرة.9 في الوقت الذي حقّقت فيه القوى المدعومة من تركيا مكاسب في الشرق، وصف السيسي في خطابٍ ألقاه في سبتمبر 2020 خطَّ “سرت – الجفرة” بأنّه “خط أحمر”، مشدِّداً على أهمية أمن مصر القومي.10 في اعترافٍ لتبدّل الوضع على الأرض، غيّرت مصر سياستها في ليبيا وتراجعت عن دعمها المطلق لحفتر.11 واعتمدت مقاربةً أكثر براغماتية من خلال تبديل موقفها، وأعرب السيسي عن تأييده لإطلاق حوار مع حكومة الوفاق الوطني وخليفتها حكومة الوحدة الوطنية12 ولتعزيز “إعلان القاهرة”، وهو مبادرة سياسية مشتركة آيلة إلى وضع حدّ للصراع في ليبيا.13
كان هناك بعض التفاؤل بشأن عودةٍ بطيئة إلى الاستقرار في ليبيا التي كانت تتطلّع إلى إجراء الانتخابات الرئاسية، غير أنّ هذا التفاؤل تحوَّل اليوم إلى تشاؤمٍ في ضوء رفض مختلف الأطراف،14 من معارضين ومقاتلين، أي تسوية. بعد قيام المفوضية الوطنية العليا للانتخابات في ليبيا بتأجيل الانتخابات الرئاسية، تجد البلاد نفسها مجدداً عالقةً في صراع بين حكومتين تسعى كلاهما إلى فرض سلطتها15 في ظل معاودة الاشتباكات وتبدّد فترة الهدوء. من ناحيتها، تعاونت تركيا مع وزير الداخلية فتحي باشاغا تعاوناً وثيقاً، بيد أنّ تحالف باشاغا مع حفتر ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح في محاولتهما الإطاحة بحكومة عبدالحميد الدبيبة المؤقتة أدّى إلى انقلاب موقف تركيا ضد باشاغا.16
أيّدت مصر من جهتها باشاغا،17 لكنها توخّت الحذر واعتمدت نهجاً أكثر تصالحاً مع مختلف الأطراف، خشية عودة الاشتباكات واتّساع رقعتها.18 ليست تركيا القوة الإقليمية الوحيدة الداعمة للدبيبة. فقد استاء المسؤولون المصريون عندما استقبل الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون الدبيبة في شهر أبريل من السنة الجارية، في إشارةٍ إلى دعم الجزائر له في وجه باشاغا.19 ظاهرياً تربط علاقات ودّية بين مصر والجزائر، لكن بين البلدين منافسة طويلة الأمد في شمال أفريقيا ومصلحة في عدم السماح للآخر باكتساب نفوذ أكبر في ما يتعلق بمستقبل ليبيا.
إنّ اكتشاف حقل ظهر للغاز عام 2015 ويُقدّر أنه يختزن 30 تريليون قدم مكعب من الغاز،20 ووجود مرافق معالجة الغاز الطبيعي المسال في إدكو ودمياط، يُخوّلان مصر أن تصبح مركزاً للطاقة في الحوض الشرقي للبحر المتوسّط. وسعياً لتحقيق هذا الهدف، تعاونت مصر مع اليونان وقبرص وإسرائيل تعاوناً وثيقاً أكان بشكلٍ ثنائي أم متعدد الأطراف. وترسّخت العلاقات بين مصر وقبرص على مدى السنوات الماضية، فوصفها السفير القبرصي لدى القاهرة بأنّها “في أفضل حالٍ على الإطلاق”.21 لا يُثير ذلك العجب نظراً للعلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية المتينة المتمحورة حول الغاز في الحوض الشرقي للبحر المتوسط.
تمّ العثور على احتياطي للغاز الطبيعي عالي الجودة في البلوك 10 في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط.22 لا تكفي سعةُ البلوك 10 مقارنةً مع حقل ظهر في مصر لإنشاء محطة مستقلّة لإنتاج الغاز الطبيعي المسال. لعلّ خيار أكثر واقعيةً يتمثّل بنقل الموارد عبر مصر في إطار استراتيجيةٍ ثلاثية لتصدير الغاز مع اليونان وإسرائيل تقضي بإرسال الغاز الإسرائيلي والقبرصي إلى مصر عبر خطوط أنابيب غاز بحرية أو برية.23 بالإضافة إلى ذلك، وقّع السيسي اتفاقاً مع قبرص لتصدير الغاز من حقل أفروديت (بلوك 12) إلى مصانع الغاز الطبيعي المسال في إدكو ودمياط للتسييل.24 من بعدها، يُعاد تصدير الغاز إلى أسواق إقليمية أخرى.25 ومن المتوقّع المباشرة ببناء خط أنابيب يربط بين مصر وحقل أفروديت في قبرص في أواخر العام 2022، مما يُعزّز طموح مصر بأن تصبح مركزاً إقليمياً للغاز.26
عملت مصر أيضاً على توثيق علاقتها باليونان. ففي العام 2013، بُعيد تبوؤ السيسي سدة الرئاسة، التقى وزيرُ الخارجية المصري آنذاك نبيل فهمي نظيرَه اليوناني إيفانغيلوس فينيزيلو لمناقشة الخطوط المصرية واليونانية للمنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة لكل من البلدين.27 من الناحية الاقتصادية، يمكن أن تستفيد مصر بشكلٍ هائل من سعة الاحتياطيات الحالية في منطقتها الاقتصادية الخالصة، بما فيها تلك التي لم يتم استكشافها بعد. وقد أعربت شركات الطاقة الكبرى مثل شل (Shell) وبريتش بتروليوم (British Petroleum) وإيني (Eni) عن رغبتها في مواصلة استثمارها في قطاع الطاقة في مصر. وفي العام 2021، وقّعت شركة إيني الإيطالية على اتفاق مع مصر تفوق قيمته المليار دولار “للتنقيب عن النفط في خليج السويس ودلتا النيل”.28
فيما نجحت مصر في توثيق علاقاتها مع اليونان وقبرص في الحوض الشرقي للبحر المتوسّط، لم ينطبق ذلك على العلاقات المصرية التركية. إنّ طموحات مصر وضعتها في مواجهة مع تركيا التي سعت إلى تنفيذ أجندتها الخاصة في الحوض الشرقي للبحر المتوسّط. وكانت هذه العلاقات متوتّرة أصلاً منذ الإطاحة بمرسي عام 2013، وازدادت سوءاً عندما وقّعت تركيا على اتفاق حول الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني الانتقالية في ليبيا، التي تتعارض خطوطها مع المنطقة الاقتصادية الخالصة المعلنة لكل من اليونان ومصر.29 في المقابل، وقّعت مصر واليونان على اتفاق مشترك عام 2020.
أدّت الخلافات حول المناطق الاقتصادية الخالصة إلى تفاقم التوترات القائمة بين تركيا واليونان وقبرص. ففي ردٍ على إقصائها من قبل مصر وقبرص، قامت القوات البحرية التركية عام 2018 بمنع سفينة للتنقيب تابعة لشركة إيني من الوصول إلى وجهتها في المياه الواقعة تحت سيطرة قبرص.31 في وجه التهديدات التركية، قامت مصر وقبرص واليونان بتعزيز روابطها العسكرية،32 التي شملت مناورات عسكرية مشتركة مع فرنسا ودولة الإمارات العربية المتحدة.33
سعى صانعو السياسة الخارجية المصريون أيضاً إلى تعزيز التنسيق مع حلفائهم في الحوض الشرقي للبحر المتوسّط على مستوى متعدد الأطراف. لهذا الغرض، تمّ تأسيس منتدى غاز شرق البحر المتوسط بمشاركة الدول الأعضاء التالية: قبرص واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن وفلسطين، وتمّ التوقيع عليه في حفلٍ عبر الإنترنت في سبتمبر 2020، باستثناء تركيا.34 جسّد هذا الحفل التحوّل الرسمي للمنتدى إلى هيئةٍ حكومية دولية، مع توقيع أعضائه على ميثاقٍ تأسيسي للمنظمة الجديدة.35
أدركت تركيا عزلتها المتنامية فغيّرت مقاربتها في الحوض الشرقي للبحر المتوسّط بالتماشي مع التوجّه الإقليمي نحو التهدئة وخفّفت من حدّة التوتّر مع عددٍ من البلدان، من ضمنها مصر. وفيما تواصِل مصر وتركيا تقاربهما،36 تمخّضت الدبلوماسية والجهود المصرية عن نتائج مثمرة في الحوض الشرقي للبحر المتوسّط على المستويين الثنائي والمتعدّد الأطراف.
تعتبر الحكومة المصرية سدّ النهضة الإثيوبي الكبير مسألةً أساسية نظراً للأهمية التي يكتسبها نهر النيل بالنسبة إلى المياه والأمن الغذائي المصريين. بعد عقودٍ من نيل حصة الأسد من مياه النيل، اتفقت خمس دول أفريقية (كينيا وتنزانيا ورواندا وإثيوبيا وأوغندا) على أنّها لن تتقيّد بالاتفاقات التي تعود إلى حقبة الاستعمار وستعمل على استخدام النيل بطريقةٍ تعود بالفائدة على الدول كافة.37
على الرغم من أنّ مبارك قد أهمل البلدان الأفريقية في عهده، إلّا أنّه أبقى العين ساهرة على مطامع إثيوبيا لتشييد سدّ على نهر النيل. فقد كشف تقريرٌ لويكيليكس أنّ مبارك كان ينوي نشر مهمة قتال جوية في السودان في إشارةٍ إلى الانعكاسات المحتملة التي قد تتعرّض لها إثيوبيا في حال واصلت خطتّها ببناء سدّ على نهر النيل.38 اقتنصت إثيوبيا الإطاحة بمبارك وأحداث عام 2011 للإعلان عن مشروع سدّ النهضة الإثيوبي الكبير في العام 2011.39
وحاولت الحكومةُ المصرية التعامل مع قضية سدّ النهضة الإثيوبي الكبير في عهد مرسي، إلّا أنّ المسائل الداخلية والتوتّر الذي شاب الفترة الانتقالية حالت دون توصّلها إلى حلّ ملموس. فازداد قلق الجيش المصري الذي ناشد مرسي التركيز على “التهديدات الخارجية”، في إشارة إلى التطورات المتعلّقة بسدّ النهضة الإثيوبي الكبير.40 حاول مرسي استرضاء الجيش، فعقد اجتماعاً مع القوى السياسية لمناقشة الحلول المتاحة، غير أنّ الاجتماع باء بفشلٍ ذريع حيث أنّ الحاضرين لم يعلموا مسبقاً بأنه سيتم نقل اللقاء مباشرةً على الهواء وتحدّثوا علناً عن الخيارات العسكرية لقصف السدّ أو إرسال عناصر من القوات الخاصة لتدميره.41
بعد تسلّم السيسي مقاليد السلطة، عُقدت الجولةُ الأولى من المفاوضات مع إثيوبيا والسودان عام 2015.42 اجتمع الزعماء في الخرطوم وصدقوا على إعلان مبادئ دعا إلى تعاون مشترك في مجالات عديدة، بما في ذلك (على سبيل المثال لا الحصر) تبادل المعلومات والتعهد بعدم إلحاق أي أضرار بالغة، والأهم من ذلك أخذ مشورة لجنة الخبراء بعين الاعتبار قبل العملية الأولى لملء خزان سدّ النهضة.43
جرت الجولةُ الثانية من المفاوضات بين أواخر عام 2019 ومطلع عام 2020 بوساطة الولايات المتحدة والبنك الدولي.44 رحّبت مصر بالمفاوضات وأعربت عن اهتمامها بالتعاون مع إثيوبيا بهدف وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق يضمن مصالح الدولتين.45 قطعت المفاوضات شوطاً كبيراً وكانت الولايات المتحدة على وشك الإعلان عن توسّطها في إبرام اتفاق يضع حداً للصراع بين مصر وإثيوبيا.46 لكن عندما تمّ عرض الاتفاق النهائي الذي يضمن حق إثيوبيا في استخدام مياه نهر النيل، رفضته إثيوبيا47 وتذرّعت بأن الاتفاق لا يسمح لها بإنتاج الكهرباء ويقضي على أي مشروع إثيوبي مستقبلي في نهر النيل.48
أُجريت المفاوضات بعد ذلك عبر وساطة منظمة الوحدة الأفريقية.49 وعقدت في خلالها إثيوبيا ومصر والسودان قمةً افتراضية في يوليو 2020. إلّا أنّ أديس أبابا أعلنت بعد يومٍ واحد فقط على القمة أنّ المرحلة الأولى من ملء السدّ قد أتمّت.50 لم تتّخذ مصر أي خطوات مهمة ضد إثيوبيا، واقتصر ردّها على استنكار ملء السدّ من دون موافقتها.51
وقد صرّحت إثيوبيا أنّها تهدف إلى التعاون مع الدول المجاورة. لكن من الواضح أنّها لا تنوي الإبطاء في ملء خزان السدّ، مما يعكس تغيّر ميزان القوى لصالح أثيوبيا. فقد تمّ تشييد السدّ وانطلقت أعمال ملئه وهي ماضية قدماً. أمّا محاولات مصر استعادة الوضع السابق من خلال اللجوء إلى مجلس الأمن والوحدة الأفريقية والولايات المتحدة وعدة دول أفريقية وعربية، فهي لم تفضِ إلى أي نتيجة تُذكر في الأمد البعيد. ولمّا كانت الخيارات العسكرية محدودة،52 فقدت مصر ورقتها التفاوضية في أفريقيا وباتت مرغمة على التأقلم مع الوجود الدائم لسدّ النهضة الإثيوبي الكبير والخطر الذي يمثّله على الأمن المائي لمصر.
في أعقاب الإطاحة بمرسي عام 2013، كان هدف مصر الأول والفوري تكريس الشرعية الدولية للحكومة الانتقالية وتبديد مخاوف الشركاء الغربيين. غدت مصر بنظر أوروبا والولايات المتحدة اختباراً جديداً لمعضلة الديمقراطية مقابل الاستقرار. ندّد الاتحاد الأوروبي بشدة بأعمال العنف في مصر، إلّا أنّه لم يصفها بالانقلاب. وعلّق مساعداته باستثناء الأنشطة التي تدعم المجموعات الهشّة، لا سيما في المناطق الريفية وفي القطاع غير النظامي.53 وفي خلال المرحلة الانتقالية وردّاً على استنكار هيئات الاتحاد الأوروبي كالبرلمان الأوروبي، نجحت مصر في إعادة دوزنة علاقاتها الثنائية مع أوروبا فلجأت إلى التجارة وشراء الأسلحة لاستئناف روابطها مع عدة عواصم أوروبية.54
بعد وصول السيسي إلى سدة الرئاسة، لم يكن أمام البلدان الأوروبية سوى معاودة العلاقات مع مصر، نظراً لأهمية الروابط الاقتصادية والأمنية معها. في الواقع، لا تقدّم مصر سوقاً مربحة للأسلحة الأوروبية فحسب،55 بل تستقطب عدة استثمارات أوروبية،57 إذ تجذب كلفةُ اليد العاملة المنخفضة والكثافة السكانية المستثمرين والشركات الأوروبية.57 وبالتالي، فإنّ الانسحاب من السوق المصرية قد ينعكس سلباً على الشركات الأوروبية الكبرى مثل سيمننز (Siemens) التي سمحت صفقتها مع مصر عام 2015 بقيمة مليارات دولار بـ”إنقاذ وظائف مئات العمال في …المنشآت الألمانية”.58
تمكّنت الحكومة المصرية بحنكة أيضاً من الاستفادة من أزمة المهاجرين والمخاوف الأوروبية من الهجرة غير النظامية والإرهاب لصالحها.59 فقد استقبلت بعض العواصم الأوروبية السيسي بصفته زعيماً نجح في المحافظة على الاستقرار في الجوار الجنوبي. ومنح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السيسي في خلال زيارته إلى فرنسا عام 2020 الصليب الأكبر من وسام جوقة الشرف (وهو أرفع الأوسمة الوطنية الفرنسية).60
أمّا في ما يتعلق بالعلاقات الأمريكية المصرية في المرحلة الانتقالية ما بعد مرسي، فقد أعرب الرئيس باراك أوباما عن قلقه حيال قرار الجيش الإطاحة بمرسي وتعليق الدستور. ودعا الجيش إلى “تسليم كامل السلطة إلى حكومةٍ مدنية منتخَبة ديمقراطياً بأسرع وقتٍ ممكن”.61 وبعد أشهر، قام وزير الخارجية الأمريكي حينها جون كيري بزيارةٍ إلى مصر حيث أشاد بالحكومة الانتقالية، معتبراً أنّ الخطة الانتقالية “يتم تنفيذها بشكل جيد بحسب ما نراه”.62 وفي أعقاب تجميد أولي للمساعدة العسكرية، انتخُب السيسي رئيساً عام 2014، واستؤنفت المساعدات وتمّ الإفراج عن 575 مليون دولار.63 والتقى أوباما السيسي في العام 2014 وشدّد على أهمية العلاقات التاريخية بين الولايات المتحدة ومصر التي اعتبرها جزءاً لا يتجزأ من سياسات الولايات المتحدة الأمنية في المنطقة.64
أُزيلت كلّ علامات البرودة من العلاقات في خلال عهد الرئيس ترامب. فبعدما وصف ترامب السيسي بـ”ديكتاتوره المفضّل”، سارع إلى الإعراب عن اهتمامه بمعاودة العلاقات الإيجابية بين مصر والولايات المتحدة بعد انتخابه.65 وخلافاً لأوباما الذي رفض استقبال السيسي في البيت الأبيض (فالتقاه في مقر الأمم المتحدة)، كان السيسي من الرؤساء الأوائل الذين استقبلهم ترامب في البيت الأبيض.66 إلّا أنّ ذلك لم يُثنِ الكونغرس عن ممارسة ضغوط على مصر بسبب سجلّها في ما يتعلق بحقوق الإنسان. فقدّمت الحكومة المصرية بعض التنازلات وأطلقت سراح الناشطة المصرية الأمريكية آية حجازي في العام 2018.67
ومارست إدارة الرئيس بايدن ضغوطاً على الحكومة المصرية في ما يتعلق بحقوق الإنسان وحجبت عنها بعض المساعدات، لكن سرعان ما وافقت على إبرام صفقة أسلحة مع مصر بقيمة 2،5 مليار دولار.68 وعلى غرار مقاربتها إزاء أوروبا، بدّلت مصر موقفها ودورها الإقليمي وجهودها للوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين في غزة بهدف استمالة إدارة بايدن لصالحها.69 وكان السيسي وبايدن قد التقيا في جدّة في وقتٍ سابق من السنة نفسها على هامش القمة الأمريكية الخليجية. وقال بيان صادر عن البيت الأبيض إنّه على الرغم من بعض العثرات، فإنّ العلاقات عادت إلى مجاريها، معتبراً أنّ ”الشراكة الدفاعية بين الولايات المتحدة ومصر التي تعود إلى عقود من الزمن تبقى إحدى الركائن الأساسية للاستقرار الإقليمي”.70
وقد أعطى السيسي بعد تبوّئه سدّة الرئاسة الأولويةَ للانخراط مع القوى الغربية القائم على أساس المصلحة، لكن العلاقات الثنائية مع الصين وروسيا شهدت تقارباً وتعمّقاً. تقيّدت الصين في رد فعلها الأولي على الإطاحة بمرسي بمبدأ عدم التدخّل، فأصدرت بياناً مبهماً ناشدت فيه كافة الأطراف في مصر إلى “معالجة نقاط الاختلاف من خلال الحوار والتشاور بغية إعادة إحلال النظام والاستقرار الاجتماعي”.71 وشهدت العلاقات المصرية الصينية في عهد السيسي تحسناً ملحوظاً وازدادت متانةً بعد زيارةٍ قام بها السيسي إلى الصين عام 2014 حيث وقّع على اتفاق شراكة استراتيجية شاملة.72 وعلى غرار الكثير من بلدان المنطقة، تُعتبَر الصين شريكاً مفضّلاً نظراً لاعتمادها استراتيجية عدم التدخّل وتركيزها على المسائل الاقتصادية والأمنية.
بفضل موقعها الإستراتيجي، فإن مصر جزءٌ من مبادرة الحزام والطريق وتستقطب استثمارات صينية كثيرة، لا سيما في منطقة قناة السويس. وقد عملت مصر أيضاً على تنويع مصادرها للسلاح، فكثّفت شراءها لأنظمة الأسلحة الصينية في موازاة لجوء عدد من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى الصين كمزوِّدٍ للأسلحة.73 إنّ موطئ قدم الصين في مصر يسمح لها بضمان مصالحها في أفريقيا وفي منطقة الأورومتوسطية.74
لم تكن العلاقات بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السابق محمد مرسي والإخوان المسلمين دافئة، إذ خشي الروس أن تُساهم إدارةٌ يحكمها الإخوان المسلمون في تشجيع المقاتلين الشيشان.75 بالتالي، عندما تسلّم السيسي مقاليد الحكم، سارع بوتين إلى تأييده.76 وأبرمت روسيا عدداً من صفقات الأسلحة الكبرى مع مصر، بالإضافة إلى اتفاقٍ ضخم لبناء أول محطة للطاقة النووية في البلاد بكلفة 25 مليار يورو من المتوقّع أن تحتوي على أربعة مفاعلات بقدرة 1200 ميغاواط.77 وتطرح الحربُ بين روسيا وأوكرانيا والعقوباتُ على روسيا أسئلةً حول مصير صفقة المفاعل النووي،78 لكن نظراً لسياسة مصر الحذرة لتحقيق التوازن بين روسيا والغرب، لم توقف الحكومةُ الصفقة حتى الآن وما زالت أعمال البناء مستمرة.79
تتلاقى المصالح الروسية والمصرية أيضاً في ملف ليبيا والحوض الشرقي للبحر المتوسّط، حيث تعاوَنَ البلدان في السنوات الأخيرة وأجريا مناورات عسكرية مشتركة.80 ولكن لا تخلو العلاقات من التوتّر، لا سيما أنّ روسيا لم تدعم موقف مصر من سدّ النهضة الإثيوبي الكبير. وقد حاولت مصر استمالة روسيا، العضو الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لدعم مصالحها في النيل، لكن الروس تملّصوا نظراً لمصالحهم في إثيوبيا وغيرها من الدول الأفريقية.81
في عهد عبد الناصر، عندما كانت مصر قوةً مُسيطرة في المنطقة، كانت الدول الخليجية تنظر إلى القومية الناصرية بعينٍ من الريبة والعدائية. وفي خلال السبعينات من القرن العشرين، جنت هذه الدول أرباحاً من عائدات الهيدروكربون، فيما رزحت مصر تحت وطأة أزمة اقتصادية. في هذا السياق، اكتسبت الدول الخليجية أهمية جديدةً في المنطقة وما بعدها.82 وبعد أن تصالح مبارك مع البلدان العربية، أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي مصدراً أساسياً للاستثمارات الأجنبية المباشرة بالنسبة لمصر، بالإضافة إلى التحويلات المالية الكبيرة التي كان العمال المصريون يرسلونها من الخليج.83
وعندما اندلعت الثورات العربية في العام 2011، شعرت الدول الخليجية بالقلق حيال استقرار مصر، ودقّت ناقوس الخطر لا سيما في بلدان مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة إزاء احتمال صعود الأحزاب الإسلامية المتشدّدة في مصر. وتحقّقت هذه المخاوف مع انتخاب الرئيس محمد مرسي، فشهدت ولايته نوعاً من عدم الارتياح بين القاهرة من جهة، والرياض وأبوظبي من جهةٍ أخرى.
بعد الإطاحة بمرسي، قدّمت السعودية والإمارات والكويت دعماً لمصر بقيمة 22 مليار دولار على شكل هبات واستثمارات وودائع في البنك المركزي المصري، مما ساهم في تحقيق استقرار اقتصادي.84 وعلى الرغم من أنّ مصر تمكّنت من المحافظة على مواقفها المستقلّة عن السعودية حيال اليمن وسوريا، إلّا أنّها نقلت ملكية جزيرتي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية،85 على الرغم من معارضةٍ داخلية قوية.86 وتدخّلت السعودية والإمارات وقطر أيضاً في الأزمات الاقتصادية الحديثة وتعهّدت بتقديم زهاء 22 مليار دولار لمصر.87 وقد أدّى هذا الدعم المالي إلى فقدان مصر لبعض من هامشها للمناورة حيال الحلفاء الخليجيين، لا سيما مع السعودية والإمارات.
على الرغم من المعارضة بوجه السيسي وسجلّ مصر المريع في انتهاك حقوق الإنسان، من الواضح أنّ البلاد استعادت بقيادة السيسي بعضاً من نفوذها الضائع. وبينما شهد سجلّ الإنجازات المصرية في ليبيا وإثيوبيا تفواتاً ملحوظاً، عادت مصر إلى الواجهة كلاعبٍ إقليمي رئيسي واستغلت موقعها الإستراتيجي وروابطها الإقليمية وسلكها الدبلوماسي المخضرم لدفع مصالحها الإقليمية والدولية قدماً.
لعلّ أحد العوامل التي سمحت لمصر باستعادة نفوذها إلى حدّ ما كان استراتيجية المزج بين القوة الناعمة والقوة الصلبة. كثّفت مصر في عهد السيسي من إنفاقها على الدفاع وأصبحت ثالث أكبر مستورد للأسلحة في العالم بين العامين 2016 و2020. 88وراء شراء الأسلحة غرضٌ مزدوج، أولاً تحديث المعدات والعتاد العسكرية القديمة، وثانياً الاستفادة من عمليات الشراء لكسب دعم الشركاء الدوليين على غرار فرنسا وألمانيا.89 بالإضافة إلى حصوله على أسلحة جديدة، قام الجيش المصري بتطوير قدراته في العمليات تطويراً ملحوظاً،90 فأصبح قوةً مقاتلة أكثر فعالية.
غير أنّ التحديات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية ما زالت تمثّل الخطر الأكبر الذي يُحدق بطموحات مصر وتطلّعاتها. نفّذت مصر برنامجاً إصلاحياً طموحاً في مطلع عهد السيسي، فحقّقت بالتالي نمواً اقتصادياً مذهلاً، إلّا أنّ الاقتصاد يشهد اليوم ركوداً في ظل الخضّات الخارجية المتعدّدة، بما فيها جائجة فيروس كورونا المستجدّ والحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا. ولعلّ تأثير هذه الحرب على الأمن الغذائي العالمي يُثير قلق مصر بصورةٍ خاصّة.91 في الواقع، يعيش ثلث المصريين تحت خظ الفقر وتعاني البلاد تضخّماً حادّاً ينعكس بشدّة على فئات المجتمع الأكثر حرماناً.92
علاوة على ذلك، إن نسبةً كبيرة من النمو الذي شهدته السنوات القليلة الفائتة تم تمويلها من خلال الديون، مما أدّى إلى تسجيل مصر إحدى أعلى نسب الدين إلى إجمالي الناتج المحلي في العالم.93 بالتالي من أجل استقطاب الدولارات الأمريكية إلى السوق المصرية، اعتمدت الحكومة المصرية على ما يُسمى بـ”الأموال الساخنة”،94 التي تسعى وراء فرص تحقيق عوائد أكبر في الأسواق الناشئة. لم تنعكس الحرب بين روسيا وأوكرانيا سلباً على الأمن الغذائي والقطاع السياحي فحسب، بل أدت إلى هروب الأموال الساخنة بقيمة ناهزت 15 مليار دولار، مما ضرب الجنيه المصري95 وأسفر عن استقالة حاكم المصرف المركزي المصري.96
في أكتوبر 2022، توصّلت مصر مع صندوق النقد الدولي إلى اتفاقٍ بشأن “السياسات والإصلاحات الاقتصادية الشاملة” التي سيتم دعمها بترتيب تسهيل الصندوق الممدد (EFF) لمدة 46 شهراً بقيمة 3 مليارات دولار.97 ويدلّ هذا الاتفاق، مقروناً بدعمٍ خليجي، على الثقة في الاقتصاد المصري وفي سلسلة الإصلاحات التي تقودها الحكومة المصرية. لكن هناك شعوراً بأنّ التاريخ يُعيد نفسه في الوقت الذي ترزح فيه مصر تحت أزمات متعاقبة وفي ظلّ غياب أي نموذجٍ اقتصادي شامل وقابل للاستمرار. في الأمد القصير، ستساهم المساعدات المالية التي يقدّمها صندوق النقد الدولي والحلفاء الخليجيون في تحقيق استقرارٍ اقتصادي، بيد أنّ هذه الضغوط الاقتصادية ستنعكس في الأمد البعيد على الاستقرار الداخلي وبالتالي تكبح جماح تطلّعات مصر إلى الاضطلاع بدورٍ أبرز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.