هزيمة حزب الله وعقيدة العمق الإستراتيجي الإيرانيّة

موجز قضية، أبريل 2025
زميل أول غير مقيم

13 أبريل، 2025

النقاط الرئيسيّة

حزب الله كان محورياً في عقيدة العمق الإستراتيجي الإيرانية: على مدى عقود، استثمرت إيران بكثافة في حزب الله ومجموعات مسلّحة إقليمية أخرى كأدوات ردع خارجية في مواجهة التهديدات الأمريكية والإسرائيلية للجمهورية الإسلامية.

 

إسرائيل أضعفت الحزب بشدّة: قلّصت الهجمات الإسرائيلية المتواصلة منذ السابع من أكتوبر 2023، إلى حدّ كبير، قدرات حزب الله العسكرية، وبالتالي العمق الإستراتيجي الإيراني.

 

خيارات إيران لإنعاش حزب الله محدودة: يشكّل الوضع الاقتصادي المتردّي في إيران بالإضافة إلى سقوط نظام الأسد وعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تحدّيات لجهود إيران من أجل إنعاش حليفها اللبناني.

 

إستراتيجيّة طهران الإقليمية مستمرّة: حاول المسؤولون الإيرانيون تصوير الهزيمة كأنّها انتصار، في إشارة إلى أنّ طهران ماضية في إستراتيجيّتها القائمة على تعزيز المجموعات الحليفة لها في المنطقة.

 

 

المقدّمة

 

تعرّضت جهود إيران الرامية إلى اكتساب عمق إستراتيجي في الشرق الأوسط لسلسلةٍ من الضربات الموجعة في العام 2024. فعلى مدى عقود، قدّمت الجمهورية الإسلامية الدعم لحماس في قطاع غزة ولحزب الله في لبنان، وساندت بشار الأسد منذ العام 2011 في حماية نظامه في سوريا من المجموعات المسلّحة المتمرّدة. وتحوّلت هذه الإستراتيجية، التي كانت تهدف في الأصل إلى توسيع نفوذ إيران الإقليمي، إلى شبكة ردع لصدّ الهجمات الأمريكية والإسرائيلية على الأراضي الإيرانية.

 

أمّا اليوم، فقد ذهبت هذه الإستراتيجية هباءً. إذ غيّرت الحرب على غزة حسابات إيران وجرّتها إلى مواجهة عسكرية مباشرة غير مسبوقة مع إسرائيل. ومع انسحاب حلفاء إيران الإقليميين الرئيسيين أو سقوطهم، سرعان ما تبدّل المشهد الإستراتيجي الأوسع بالنسبة إلى إيران. ولعلّ أكثر تلك الهزائم وقعاً كانت هزيمة حزب الله. تأسّس هذا الحزب في الثمانينات، بوصاية إيرانية، لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي للبنان. وشكّل أداء الحزب في حرب تموز 2006 نموذجاً للمقاومة ضدّ إسرائيل ليصبح مصدر إلهام لـ”محور المقاومة” ودليلاً على أهميّة التنسيق بين مكوّناته. واستثمرت القيادة الإيرانية بكثافة في تعزيز حزب الله ودعمه على مدى أعوام، فاستخدمت الأراضي العراقية والسورية كممرّ بري لمدّه بالسلاح والتكنولوجيا.

 

وعندما شنّت إسرائيل هجومها على غزة في أكتوبر 2023، ردّ حزب الله بإطلاق صواريخه عبر الحدود اللبنانية، في محاولةٍ منه لتحويل موارد إسرائيل عن جبهة غزة ووضع حدّ للحرب في نهاية المطاف، إسناداً لحماس وتماشياً مع السياسة الإيرانية. وفي سبتمبر 2024، أعلن أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله أنّ حزب الله لن يتوقّف حتى توقف إسرائيل حربها على غزة.1 وبعد أيام على هذا التصريح، أغتل نصر الله في ضربة إسرائيلية ضخمة. وفي نوفمبر 2024، توصّل حزب الله وإسرائيل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، تضمّن انسحاباً من المنطقة الحدودية حتى شمال نهر الليطاني،2ما يُشير من الناحية الإستراتيجية إلى هزيمةٍ كبرى وإلى فصل حزب الله عن حماس.

 

ومع سقوط الأسد في مطلع ديسمبر 2024 على يدّ هيئة تحرير الشام، تفاقمت المشاكل التي تتخبّط فيها طهران والتحدّيات التي تواجه قدرتها على بسط نفوذها الإقليمي،لا سيما من خلال حرمانها من الوصول إلى الممرّ البرّي الضروري لإعادة تعبئة ترسانة حزب الله. وتشكّل هذه التطوّرات مجموعة من الانتكاسات الخطيرة لمخطّط إيران الكبير لاكتساب العمق الإستراتيجي من خلال نسج شبكة من الحلفاء في شتى أنحاء المنطقة. وقد سُدّدت أعنف هذه الضربات إلى حزب الله. يتعمّق موجز القضيّة هذا في دور الحزب المركزي في إستراتيجية إيران، فضلاً عن استجابة السلطات الإيرانية لانتكاساته، بما في ذلك سرديّة طهران الإستراتيجية المتمحورة حول العقيدة المعادية للولايات المتحدة ولإسرائيل. ويختتم الموجز بتقييم الآفاق المستقبليّة لإستراتيجيّة إيران الإقليميّة.

 

 

عقيدة العمق الإستراتيجي

 

على مدى العقدين الماضيين، أسّست القيادة الإيرانية نفوذها الإقليمي المتنامي على مفهوم العمق الإستراتيجي، ما يُشير إلى قدرة إيران على إظهار قوّتها الناعمة وبسط نفوذها الجيوسياسي والعسكري خارج حدودها. ولطالما أيّد علي خامنئي، المرشد الأعلى الإيراني منذ العام 1989، هذه الإستراتيجية كوسيلة لتعزيز أمن إيران القومي.3 بَنَت إيران عمقها الإستراتيجي على شبكةٍ مرنة من الجهات الفاعلة المتعاطفة معها في مختلف أرجاء الشرق الأوسط، بدءاً من حماس في غزة وحزب الله في لبنان وصولاً إلى نظام الأسد في سوريا ومروراً بالميليشيات الشيعيّة في العراق والحوثيين في اليمن، التي تُعرف جميعها بـ”محور المقاومة”. وقد شكّلت القضيّة الفلسطينية والعداء المشترك لإسرائيل والولايات المتحدة محوراً أساسياً في السرديّة التأسيسيّة لهذه الشبكة.

 

وكان خامنئي مقتنعاً بأنّ العمق الإستراتيجي القابل للاستمرار حيوي بالنسبة إلى أمن إيران على المدى البعيد. وتوجّه إلى المجمع الأعلى لقادة الحرس الثوري الإيراني في العام 2019، قائلاً:

 

لا تغفلوا امتداد جغرافيا المقاومة الواسعة، ولا تُهملوا هذا الأفق العابر للحدود. لا ينبغي أن نحصر رؤيتنا بمنطقتنا المباشرة فحسب… فهذه الرؤية العابرة الحدود، وهذا الامتداد في العمق الإستراتيجي، قد يكون في أحيان كثيرة أولى من أكثر القضايا إلحاحاً على المستوى الوطني.4

 

شكّل فيلق القدس التابع لحرس الثورة الإيراني المحرّك الرئيسي لهذه الإستراتيجية. فقد كان مسؤولاً عن إنشاء “محور المقاومة” والمحافظة عليه وتوسيعه من خلال التدريب العسكري والتمويل وإمداده بالسلاح وتبادل المعلومات الاستخباراتية. ويمثّل فيلق القدس الذراع الخارجي لعمليّات الحرس الثوري ويحتلّ مكانة خاصة في علاقات إيران مع الدول المجاورة لها. وقد صنّفته الولايات المتحدة كمنظّمة إرهابية منذ العام 2019. 5 وفي السنوات التالية، فرضت واشنطن عقوبات على عددٍ من الكيانات التجارية والأفراد بسبب مساهمتهم في نقل الأموال من فيلق القدس إلى حزب الله والحوثيين في اليمن.6

 

أدّى فيلق القدس دوراً في توفير الدعم العسكري لحزب الله ولميليشيات متعدّدة أخرى في المنطقة، ويُقال إنّه مدعوم بشبكةٍ من الجمعيّات الخيريّة المسجّلة التي تسهّل تحويلات الأموال.7 فأشاد به قادة حزب الله علناً، وشكروا له ولقائده الراحل قاسم سليماني مساعدة حزب الله على إلحاق الهزيمة بإسرائيل بعد توغّلها في لبنان في العام 2006. 8 وقد قُتل اللواء سليماني، الذي يُنسب إليه نجاح عمليات فيلق القدس، في غارة جوية بطائرة مسيّرة أمريكية في يناير 2020 إلى جانب أبو مهدي المهندس، الذي كان آنذاك نائب قائد قوات الحشد الشعبي العراقي.

 

وفي الشهر نفسه، أشاد المرشد الأعلى خامنئي في الخطاب الذي ألقاه إحياءً لذكرى مقتل اللواء سليماني، أشاد بفيلق القدس، مشيراً إلى إنّه يضمّ “مقاتلين بلا حدود”، يتمتّعون بقدرة استباقية على التصدّي للتهديدات العابرة للحدود التي تستهدف إيران.9

 

وعلى الرغم من أنّ فيلق القدس يعمل في الظل، إلّا أنّ تأثيره في علاقات إيران الإقليمية يحظى باعتراف واسع. وقد كشف تسجيل صوتي مسرّب لوزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف في العام 2021 عن هذا الدور، اشتكى فيه من أنّ الأنشطة الدبلوماسية التي تضطلع بها وزارة الخارجية كانت تُهمَّش باستمرار لصالح أولويات الفيلق العملياتية، معبّراً عن أسفه لأنّ الفيلق كان يقوّض بشكلٍ منهجي جهوده الدبلوماسية للتهدئة مع الولايات المتحدة.10 ويبدو أنّ تعيين سفراء إيران لدى دول الشرق الأوسط كان أيضاً رهناً بموافقة فيلق القدس.11

 

 

عمليّات حزب الله

 

قبل السابع من أكتوبر 2023، شكّل حزب الله ركيزة أساسية للعمق الإستراتيجي الإيراني، حيث كان يشنّ عملياته ضد إسرائيل بما يخدم مصالح طهران الإستراتيجية. وقد وصف اللواء سليماني حزب الله بأنّه تجاوز حدود الردع إذ أظهر قدرة على “طمر الجيش الإسرائيلي بصواريخه”.12 ويُعزى مخزون صواريخه، المصمَّم لمنحه ميزة على إسرائيل، إلى سليماني إلى حدّ كبير.13 علّقت إيران آمالاً كبيرة على حزب الله، الذي كان من المفترض أن يمنح قربُه الجغرافي من إسرائيل، بالإضافة إلى مقاتليه المنضبطين وترسانته المدجّجة بالسلاح، نفوذاً كبيراً لإيران في خضم الأزمات. وسبق أن أثبت حزب الله قوّته في وجه إسرائيل في العام 2006، واكتسب خبرة في المعارك في سوريا. أمّا في ما يتعلّق بطهران، فقد حوّلها تاريخ حزب الله واستعداده للمعركة إلى منافسٍ جدّي لإسرائيل.

 

بعد هجوم إسرائيل على غزة في أكتوبر 2023، بدأ حزب الله بإطلاق دفعات متقطّعة من الصواريخ ضد مواقع إسرائيليّة، مستهدفاً في البداية مراكز عسكرية إسرائيلية في مزارع شبعا ومرتفعات الجولان المتنازَع عليها.14 ووسّع حزب الله نطاق أهدافه في مواجهة الرد الإسرائيلي وتصاعد الحرب على غزة. ففي فبراير 2024، أطلق حزب الله صواريخ كاتيوشا على بلدة كريات شمونة الإسرائيلية.15 وتبنّى حزب الله إستراتيجية ترمي إلى فتح جبهة جديدة لإرغام إسرائيل على تقسيم قواتها بين ساحتَي صراع مختلفتيَن. وفيما يسود اعتقاد واسع بأنّ الحزب لم ينوِ الانخراط في صراع عسكري شامل،16 إلّا أنّه كان يأمل بأن يؤدّي تكتيكه إلى تخفيف الضغط عن غزة وفرض وقف لإطلاق النار في نهاية المطاف، تماشياً مع إستراتيجية اللاعبين الآخرين في محور المقاومة. من جهتهم، ردّ الحوثيون في اليمن على الحرب على غزة بفرض حصار على السفن التجاريّة المتّجهة إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر وبإطلاق صواريخ وطائرات مسيّرة بشكلٍ متقطّع على إسرائيل.

 

واصل حزب الله عملياته الانتقامية ضد إسرائيل في خلال العام 2024، وتعهّد أمينه العام نصر الله مراراً وتكراراً بأنّ الهجمات ستستمر ما دامت القوات الإسرائيلية تواصل عملياتها في غزة.17 كما رفض الدعوات إلى تطبيق القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي دعا حزب الله إلى الانسحاب من الحدود حتى شمال نهر الليطاني. وفي فبراير 2024، قال نصر الله ساخراً إنّ “نقل نهر الليطاني إلى الحدود أسهل من نقل مقاتلي حزب الله من الحدود إلى نهر الليطاني”.18

 

على مدى العام 2024، نفّذت إسرائيل عدداً من الغارات الجوّية التي استهدفت مخازن الذخيرة ومستودعات الصواريخ في لبنان، ما أسفر عن مقتل مدنيين في العملية. غير أنّ ديناميّة الصراع تبدّلت جذرياً في نهاية العام 2024. ففي سبتمبر، فجّرت إسرائيل أجهزة “البيجر” التي كانت بحوزة عناصر حزب الله، ما أدّى إلى إصابة الكثيرين منهم وزعزعة سلسلة قيادة الحزب.19 وبعد أيام قليلة على ذلك، قُتل نصر الله في غارة جوية إسرائيلية. وسدّد اغتياله ضربة مدمّرة لحزب الله ولإيران على حدّ سواء، وأعقبته موجة من الاغتيالات الآيلة إلى تصفية قادة الحزب، بمن فيهم خليف نصر الله المحتمل، هاشم صفي الدين.20 وفي الوقت نفسه، شنّت إسرائيل هجوماً برّياً على لبنان. وبعد أن تعهّد حزب الله في البداية بمواصلة هجماته على إسرائيل ما دامت الحرب مستمرّة على غزة، تماشياً مع موقف إيران الرسمي،21 وفي ظلّ استنفاذ قدراته العسكرية، قَبِل في نهاية المطاف باتفاق لوقف إطلاق النار وبنقل مقاتليه إلى شمال نهر الليطاني وبالتراجع عن التزامه بمقاتلة إسرائيل ما دامت تواصل حربها على غزة.22

 

 

تحويل الهزيمة: جهود إيران لإنقاذ سمعة حزب الله

 

على الرغم من أنّ العلاقات بين حزب الله وإيران غير واضحة المعالم، يمكن الافتراض بأنّ وقف إطلاق النار كان نتيجة قرارٍ إيراني يقضي بتجنيب ما تبقى من قوة حزب الله لهجمات الإسرائيلية المتواصلة، تمهيداً لإعادة بناء قدراته وتعويض خسائره. وسعت القيادة الإيرانية أيضاً إلى إنقاذ سمعة حزب الله قدر الإمكان، فنسجت سرديّة تنفي ما يُتداوَل عن ضعف الحزب وهزيمته. وقد تجلّى ذلك في رسالة تعزية المرشد الأعلى الإيراني خامنئي باغتيال نصر الله حيث قال:

 

إنّ الأساس الذي أرساه [نصرالله] في لبنان والقيادة التي أرشد بها مراكز المقاومة الأخرى، لن يصمدا فحسب رغم غيابه، بل سيزدادان قوّةً وصلابة ببركة دمائه ودماء سائر الشهداء… لم يكن سيّد المقاومة مجرّد شخص، بل كان نهجاً ومدرسة، وهذا النهج سيبقى ويستمرّ.23

 

ردّد مسؤولون آخرون الرسالة نفسها، إذ اعتبر قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي أنّه “بعد استشهاد السيد حسن نصر الله وقادة آخرين من جبهة المقاومة، ازداد حزب الله قوةً”.24 بالإضافة إلى ذلك، سعت إيران إلى تصوير اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان بوساطةٍ أمريكية أسفر عن انسحاب قوات حزب الله من المنطقة الحدودية الإسرائيلية اللبنانية، بوصفه إنجازاً لصالح المقاومة. وقال علي محمدي، ممثّل المرشد الأعلى في فيلق القدس، أنّ حزب الله فرض على إسرائيل وقف النار من خلال إظهار “قوة المقاومة”.25

 

يتجاوز الدعم لحزب الله سياسة الفصائل في إيران، إذ جاءت تصريحات قائد الحرس الثوري حسين سلامي بشأن مقتل نصر الله منسجمة مع مواقف عدد من الإصلاحيين في حكومة بزشكيان، بمن فيهم وزير الخارجية عباس عراقجي26 ومحمد جواد ظريف، مستشار بزشكيان للشؤون الخارجية الإستراتيجية آنذاك. وأشار ظريف إلى أنّ مصير حزب الله مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالقضية الفلسطينية: فطالما أنّ الحتلال الإسرائيلي مستمرّ على الأراضي الفلسطينية، فلا بدّ لحزب الله من البقاء لمواجهته.27

 

ويمثّل هذا الخطاب الثوري ركيزة ثابتة في السياسة الخارجية الإيرانية منذ العام 1979، وقد أصبح جزءاً لا يتجزّأ من هوية الجمهورية الإسلامية، بما يوحّد المتشدّدين والإصلاحيين على حدّ سواء وفيما يواصل المسؤولون الإيرانيون التعبير عن تفاؤلهم بالنصر الحتمي لمحور المقاومة، يبدو واضحاً أنّ هذا الالتزام العقائدي لا يزال قائماً. غير أنّ هذا الخطاب يتناقض بشكلٍ صارخ مع الوقائع الميدانية القاتمة في مطلع العام 2025.

 

 

العقبات أمام عودة حزب الله

 

في العام 2006، استثمرت إيران بشكل كبير لمساعدة حزب الله على التعافي من الحرب مع إسرائيل. لكن في العام 2025، تواجه خطط طهران لإحياء حزب الله عقبات هائلة. أولاً، حصدت إيران في العام 2006 المنافع الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط، ما أعطاها هامشاً واسعاً لتمويل حزب لله. وقد اعترف نصر الله علناً بهذا الدعم، قائلاً:

 

“على رأس السطح نقول إنّ موازنة حزب الله ومعاشاته ومصاريفه وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه من الجمهورية الاسلامية في ايران… طالما يوجد في إيران “فلوس” يعني نحن لدينا “فلوس”.28

 

أمّا اليوم، فقد أصبح الاقتصاد الإيراني أضعف بكثير. في أكتوبر 2024، أعلن وزير الشؤون الاقتصادية والمال الإيراني عبد الناصر همتي أنّ إيران تعاني عجزاً في الميزانية يبلغ نحو 8 مليار دولار لذلك العام.29 وبحلول مارس 2025، بات الوضع الاقتصادي متردّياً لدرجة أنّ همتي أُقيل من منصبه،30 ما يُسلّط الضوء على التحدّيات الاقتصادية الهائلة التي تواجه إيران، وعلى تداعياتها الاجتماعية والسياسية الواسعة النطاق. وهزّت الاحتجاجات الشعبية الواسعة النظام مراراً وتكراراً؛ ومن الممكن أن يثير إهمال الاقتصاد المحلّي بهدف تحويل الموارد إلى حزب الله مزيداً من الاضطرابات.

 

ثانياً، تكبّد حزب الله خسائر فادحة في صفوف قيادته. فخلافاً للعام 2006، صفّت إسرائيل معظم القادة العسكريين الرئيسين في حزب الله. ونسفت هذه الخسائر التماسك في تنظيم الحزب وفعاليّته الإستراتيجية. وفي غياب قادة الحزب النافذين والمؤثّرين، ستكون عمليّة التعافي محفوفة بالتحدّيات. وتجدر الإشارة إلى أنّ الأمين العام الحالي للحزب نعيم قاسم قد أُجبِر على ما يبدو على الانتقال إلى إيران خوفاً من تعرّضه للاغتيال،31 ما أضعف قيادته أكثر فأكثر.

 

ثالثاً، لم تعد سوريا تشكّل ممرّاً ومركزاً لوجستيّاً لشحن الأسلحة من إيران إلى حزب الله في لبنان، إذ أدّى سقوط حكم الأسد المدوّي إلى قطع الاتصال البرّي بين سوريا وحزب الله، وهو الرابط الذي غالباً ما أقرّ القادة الإيرانيون بأهمّيته بالنسبة إلى محور المقاومة. رابعاً، تعلّمت إسرائيل من تجربتها في العام 2006، عندما سمحت لحزب الله بإعادة بناء بنيته والتسلّح بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان. بالفعل، يحظر اتفاق وقف إطلاق النار الحالي بشكلٍ غير مباشر على حزب الله من إعادة التسلّح.32 وقد شدّد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على أنّه “إذا انتهك حزب الله الاتفاق وحاول إعادة التسلّح، فسنهاجم. وإذا حاول إعادة بناء البنى التحتية للإرهاب بالقرب من الحدود، فسنهاجم”.33

 

خامساً، من المرجّح أن تُفاقِم التطوّرات الإقليمية والدولية الأوسع من حدّة الضغوط على كلّ من إيران وحزب الله. وقد بدأت بالفعل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وإستراتيجيته المعروفة بـ”الضغط الأقصى” على إيران، تُلقي بثقلها على الاقتصاد الإيراني، على الرغم من إعلانه في مارس 2025 عن رغبته في التفاوض على اتفاق نووي جديد، وقد بعث برسالة إلى القيادة الإيرانية يقترح جولة جديدة من المفاوضات.34 فسارع خامنئي إلى الردّ بأنّ طهران لن تدخل في مفاوضات تحت ضغط “البلطجة”.35 في لبنان، أدّى تصاعد الضغوط الأمريكية إلى وصول ائتلاف سياسي إلى السلطة يعلن صراحةً أنّ هدفه هو منع حزب الله من إعادة التسلّح، وترسيخ سيادة الدولة. في يناير 2025، انتخب النواب اللبنانيون قائد الجيش جوزاف عون رئيساً للبنان، منهياً بذلك فراغاً رئاسياً دام عامين. وقد أكّد عون أنّ الجيش اللبناني هو المسؤول الوحيد عن الأمن القومي.36 وتشير هذه التطوّرات مجتمعةً إلى أنّه من غير المرجّح أن يتمكّن حزب الله من استعادة عافيته في المدى القريب.

 

 

الخاتمة

 

لقد استثمرت إيران بكثافة في محور المقاومة، إذ اعتبرته أداةً أساسية لاكتساب العمق الإستراتيجي في الشرق الأوسط. وقد أدّى فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني دوراً هاماً في تعزيز الميليشيات الحليفة ودعمها على امتداد المنطقة، مستنداً إلى نموذج حزب الله الذي لا يزال يكتسي أهمية حيوية في صلب هذه الإستراتيجية. علاوة على ذلك، ساهم تطبيقُ إيران المنهجي لرؤيتها العقائدية في إظهار قوّتها على الصعيدين الإقليمي والعالمي وجعل محور المقاومة لا غنى عنه بالنسبة إلى طهران. بيد أنّ التطوّرات التي حدثت في الأشهر الأخيرة من العام 2024 حملت في طيّاتها تحدّيات لم يسبق لها مثيل، إذ حدّت من قدرات حزب الله القتالية ومن تماسك محور المقاومة.

 

أمّا اليوم، فقد صُفيّت قيادة حزب الله واستنُفدت ترسانته من الأسلحة وأُرغم مقاتلوه على الانسحاب إلى شمال نهر الليطاني. وباتت موارد إيران محدودة للاستثمار في مساعدة حزب الله على التعافي وقد خسرت ممرّها البرّي إلى لبنان عبر سوريا. وقد أدّت الديناميّات الإقليمية والعالمية إلى نسف مكانة إيران. وأعلنت إسرائيل أنّها لن تسمح لحزب الله بإعادة التسلّح، وكثّف الرئيس ترامب الضغوط على إيران مجدّداً، فحرمها من الموارد الضرورية لإعادة تمويل حزب الله.

 

ومع ذلك، تبدو القيادة الإيرانية ملتزمة بإستراتيجيتها لاكتساب العمق الإستراتيجي من خلال دعم المجموعات المسلّحة في شتى أنحاء الشرق الأوسط. وتضع هذه الإستراتيجية عراقيل واضحة أمام علاقات إيران مع الدول المجاورة ومع الولايات المتحدة. وتتبدّد التوقّعات بأنّ حكومة بزشكيان الجديدة ستتمكّن من إحياء “خطة العمل الشاملة المشتركة” بسرعة إذ إنّها ترسّخ السرديّة المألوفة للمقاومة ضد الولايات المتحدة التي تخضع اليوم لإدارة الرئيس دونالد ترامب المتشدّدة وغير المتساهلة.

 


الهوامش
1 AFP, “Sayyed Nasrallah: Difficult Reckoning Awaits ‘Israel’, Hezbollah Won’t Stop Pro-Gaza Front,” Al-Manar, September 21, 2024, https://english.almanar.com.lb/2202466.
2 Linda Gradstein, “Ceasefire deal: Hezbollah to move north, Israeli troops to gradually withdraw,” Voice of America, November 26, 2024, https://www.voanews.com/a/ceasefire-deal-hezbollah-to-move-north-of-litani-river-israeli-troops-to-gradually-withdraw/7877957.html.
3 “Strategic depths of the Islamic Republic,” Ali Khamenei’s official website, July 31, 2020, accessed March 8, 2025 (in Farsi), https://farsi.khamenei.ir/newspart-index?tid=1034.
4 “Statements at the Supreme Assembly of IRGC Commanders,” Ali Khamenei’s official website, October 2, 2019, accessed March 8, 2025 (in Farsi), https://farsi.khamenei.ir/speech-content?id=43632.
5 “Country Reports on Terrorism 2019,” U.S. State Department, Bureau of Counterterrorism, accessed March 8, 2025, https://www.state.gov/reports/country-reports-on-terrorism-2019/iran/.
6 “Treasury Targets Qods Force, Houthi, and Hizballah Finance and Trade Facilitators,” U.S. Department of the Treasury, March 26, 2024, accessed March 8, 2025, https://home.treasury.gov/news/press-releases/jy2209.
7 Yuriy Matsarsky, “Enriched Iranium: How ayatollahs fund Hamas, Houthis, and Hezbollah,” The Insider, January 12, 2024, https://theins.ru/en/society/268270.
8 “Sheikh Naim Qasem’s explanation of General Soleimani’s direct presence in the War,” ISNA, 7 July, 2020 (in Farsi), https://www.isna.ir/amp/99041713080/.
9 “New Points of Friday Prayer Sermons on January 17,” Mashregh News, January 21, 2020 (in Farsi), https://www.mashreghnews.ir/news/1033604.
10 “Zarif’s audio file: Qassem Soleimani was an obstacle to diplomacy,” Radio Farda, May 5, 2021 (in Farsi), https://www.radiofarda.com/a/iran-zarif-qassem-soleimani-attack/31222159.html.
11 Shahir Shahid Sales, “Photographs that revealed ‘a real flaw’ in the Iranian government,” BBC Persian, February 28, 2019 (in Farsi), https://www.bbc.com/persian/iran-features-47405529.
12 “Unpublished Speech by Haj Qassem Soleimani: Hezbollah Could Bury the Israeli Army,” Tasnim News Agency, December 10, 2019 (in Farsi), https://tn.ai/2421105.
13 “Senior Lebanese Hizbullah Official: Haj Qassem Came Up with the Idea of “Israel’s Missile Blockade,” Tasnim News Agency, January 25, 2021 (in Farsi), https://tn.ai/2837566.
14    Tia Goldenberg and Wafaa Shurafa, “Israel declares war, bombards Gaza and battles to dislodge Hamas fighters after surprise attack,” Associated Press, October 9, 2023,  https://apnews.com/article/israel-palestinians-gaza-hamas-rockets-airstrikes-tel-aviv-ca7903976387cfc1e1011ce9ea805a71.
15 Mohammed Zaatari and Bassem Mroue, “Israeli airstrikes killed 10 Lebanese civilians in a single day. Hezbollah has vowed to retaliate,” Associated Press, February 15, 2024, https://apnews.com/article/lebanon-israel-airstrike-nabatiyeh-294288635bb489fdefd8d36978651554.
16 Jane Arraf and Scott Simon, “Hezbollah spokesperson says the group doesn’t want an all-out war in the region,” NPR, July 11, 2024, https://www.npr.org/2024/07/11/nx-s1-5036559/hezbollah-spokesperson-says-the-group-doesnt-want-an-all-out-war-in-the-region.
17 “Hezbollah chief says only Gaza ceasefire will end Lebanon border attacks,” Al Jazeera, February 13, 2024, https://www.aljazeera.com/news/2024/2/13/hezbollah-chief-says-only-gaza-ceasefire-will-end-lebanon-border-attacks.
18 “Sayyed Nasrallah: It is easier to move Litani River forward to the borders than pushing back Hezbollah fighters from the borders to the Litani River,” Al-Manar, February 13, 2024, https://english.almanar.com.lb/2044737.
19 Matt Murphy and Joe Tidy, “What we know about the Hezbollah device explosions,” BBC News, September 20, 2024, https://www.bbc.com/news/articles/cz04m913m49o.
20 Kareem Chehayeb and Jack Jeffery, “Who were the 7 high-ranking Hezbollah officials killed over the past week?,” Associated Press, September 30, 2024, https://apnews.com/article/hezbollah-lebanon-nasrallah-israel-8b2ae56a54d641c6910a79e9e5699824.
21 “Hezbollah Fighters Pledge Loyalty to Sayyed Nasrallah in a Heartfelt Message,” Al-Manar, October 1, 2024, https://english.almanar.com.lb/2215545.
22 Emanuel Fabian and Lazar Berman, “PM said meeting on Lebanon diplomatic solution; Hezbollah has lost 80% of its rockets,” Times of Israel, October 29, 2024, https://www.timesofisrael.com/pm-said-meeting-on-lebanon-diplomatic-solution-hezbollah-has-lost-80-of-its-rockets/; Murphy and Tidy, “What we know.”
23 “Message of condolences on the martyrdom of Sayyed Hassan Nasrallah Secretary General of the Lebanese Hezbollah,” Ali Khamenei’s official website, September 29, 2024, accessed March 8, 2025 (in Farsi), https://farsi.khamenei.ir/message-content?id=57700.
24 “Maj. Gen. Salami: Hezbullah has become stronger,” Asr-e Iran, November 29, 2024, https://www.asriran.com/004Gh8.
25 “IRGC Quds Force Official’s Message to Lebanese Hezbullah Secretary-General,” Khabar Online, November 30, 2024, https://www.khabaronline.ir/news/1990140.
26 “Belief in the Resistance and Hezbollah: A School of Thought That Continues Unceasingly,” YJC, October 4, 2024, https://www.yjc.ir/00b4Lx.
27 “Zarif: Hezbollah is alive,” Iranian Diplomacy, November 10, 2024, http://www.irdiplomacy.ir/fa/news/2029277.
28 “Hassan Nasrallah: Hizbullah’s Money and Missiles Reach Us Directly from Iran, No Law Will Prevent This,” MEMRI TV, June 24, 2018, https://www.memri.org/tv/hassan-nasrallah-hizbullahs-money-and-missiles-reach-us-directly-iran-no-law-will-prevent.
29 “5 scenarios for deficit compensation,” Donay-e Eqtesad, October 17, 2024, https://donya-e-eqtesad.com/fa/tiny/news-4114014.
30 “Iran’s economy minister impeached as inflation rises, currency falls,” Al Jazeera, March 2, 2025, https://www.aljazeera.com/news/2025/3/2/irans-economy-minister-impeached-amid-rising-inflation-falling-currency.
31 Jacqueline Howard, “Hezbollah announces Naim Qassem as new leader,” BBC News, October 29, 2024, https://www.bbc.com/news/articles/c89vx50g4l5o.
32 What we know about Israel-Hezbollah Ceasefire Deal,” BBC, November 27, 2024, https://www.bbc.com/news/articles/cx2d3gj9ewxo.
33 Gradstein, “Ceasefire deal.”
34 Doina Chiacu, “Trump says he sent letter to Iran leader to negotiate nuclear deal,” Reuters, March 8, 2025, https://www.reuters.com/world/trump-says-he-sent-letter-iran-leader-negotiate-nuclear-deal-2025-03-07/.
35 Parisa Hafezi, “Iran will not negotiate under U.S. ‘bullying’, Supreme Leader says,”Reuters, March 9, 2025, https://www.reuters.com/world/middle-east/irans-khamenei-says-tehran-will-not-negotiate-under-us-bully-pressure-2025-03-08/.
36 Hussain Abdul-Hussain, “Lebanon’s Aoun could move toward peace – if Hezbollah lets him,” Foundation for the Defense of Democracies, January 10, 2025, https://www.fdd.org/analysis/2025/01/10/lebanons-aoun-could-move-toward-peace-if-hezbollah-lets-him/.