في أعقاب الحرب التي عصفت بسوريا، شدّ عشرات الآلاف من الرعايا السوريين رحالهم نحو الجزائر التي برزت كوجهة غير متوقّعة. فرغم أنها لا تُعرف تقليدياً كبلد لجوء، إذ بها تحتضن اليوم جالية سورية تقدَّر بنحو خمسين ألف شخص، ممّن غيّروا نظرتهم إلى الجزائر من محطّة عبور إلى بلد للإقامة الطويلة الأمد. 1
يشهد على هذا التحوّل حيّ “بابا حسن” في الجزائر العاصمة الذي بات يُعرف محليّاً باسم “بابا حلب” أو “باب الحارة” تيمّناً بالمسلسل السوري الشهير. فقبل عام 2011، كان “بابا حسن” حيّاً هادئاً، يضمّ حفنة من المتاجر المتناثرة وبعض الفلل الأنيقة. لكنّه اليوم ينبض بالحياة بفضل الجالية السورية التي استقرّت فيه. فيهيمن الطابع السوري على المشهد، من اللهجة السورية الطاغية إلى المتاجر التي يملكها السوريون، مثل محال الأقمشة والحلويات والمطاعم.
ولا يقتصر هذا التحوّل على ضواحي العاصمة مثل برج الكيفان ودوادة البحريّة، بل يمتد إلى مدن أخرى مثل وهران وغليزان، حيث استقرّت الجاليات السورية وأسهمت في تنشيط التنمية المحليّة.
قصد الكثير من السوريين الجزائر في البداية كمحطّة عبور في رحلتهم نحو أوروبا، لكن سرعان ما رسّخوا حضورهم فيها رغم القيود القانونية الصارمة التي تفرضها البلاد، منها حظر مزاولتهم أيّ عمل نظامي، لا بل فضّل الكثير منهم البقاء فيها حتّى بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر2024.
وقد أظهرت 15 مقابلة أُجريت في الجزائر العاصمة بين مارس وأبريل 2025 رفضاً شديداً في أوساط السوريين للعودة إلى بلادهم في المدى المنظور. فرغم إقرارهم بإمكانية بزوغ فجر “سوريا جديدة” في ظلّ القيادة الحاليّة، رأى معظمهم أنّ طريق إعادة الإعمار والاستقرار لا يزال طويلاً. وعلى حدّ قول أحد الأشخاص الذين شملتهم المقابلات “الجزائر وطننا اليوم، وسوريا للزيارة”.2
يستعرض موجز القضية هذا تجارب المهاجرين السوريين في الجزائر، فيسلّط الضوء على انتقالهم من مرحلة العبور الأوّلي إلى الاستقرار الطويل الأمد. ويخلص إلى ضرورة تبنّي صنّاع القرار الجزائريين إستراتيجيّات اندماج شاملة، عوضاً عن الأطر القانونيّة المؤقتة، بما يتماشى مع واقع استقرار السوريين في البلاد ويعزّز إسهاماتهم.
يكمن الفارق اللافت بين الجزائر وغيرها من الدول المضيفة مثل تركيا في أنّ هذه الأخيرة تمنح السوريين وضعاً قانونياً مؤقّتاً (الحماية المؤقتة) يتيح لهم نفاذاً أكثر تنظيماً إلى الخدمات العامة، رغم ما يعتري علاقتهم بالمجتمعات المضيفة من توتّر. أمّا في الجزائر، فرغم ما يسود حالياً من تسامح اجتماعي واسع النطاق بحكم الأمرالواقع، لا توفّر الدولة أي آلية قانونية متماسكة أو اعتراف رسمي بالسوريين، ما يتركهم في وضع قانوني غامض وهشّ.
إنّ قرار السوريين البقاء في الجزائر، رغم الغموض الذي يكتنف وضعهم القانوني، يضعهم في حالة وجود انتقالي. ويمثّل السياق القانوني الراهن تحدياً جوهرياً، إذ يتيح لهم الاستفادة من الخدمات الأساسية مثل التعليم المجاني والرعاية الصحية، لكنّه في المقابل يحظر عليهم العمل النظامي، ما يدفع بالكثير منهم نحو القطاع غير النظامي، ما يجعلهم عرضة للاستغلال والهشاشة. وتُفاقم الحاجة المتكرّرة لتجديد تأشيرات الإقامة القصيرة الأجل كلّ 45 يوماً، إلى جانب صعوبة الحصول على إقامة طويلة الأمد، من حالة التقلقل التي يعيشونها.
يفرض هذا الواقع ضرورة تغيير السياسات الجزائرية، في ضوء الأسباب الوجيهة التي تحتمّ الانتقال من تسامح ظرفي إلى إطار هيكلي منظّم يوفّر اندماجاً طويل الأمد للسوريين. وفي مقدّمة هذه الأسباب التزامات الجزائر الدولية القائمة، فهي طرف في اتفاقية جنيف لعام 1951 الخاصّة بوضع اللاجئين، وبروتوكولها لعام 1967 (صُدّقا بموجب المرسوم 1963-274)، إلى جانب اتفاقية منظّمة الوحدة الأفريقية لعام 1969 التي تحكم الجوانب المحدّدة لمشكلات اللاجئين في أفريقيا (والتي صُدّق عليها عام 1974).3ومع ذلك، لا تمنح الجزائر صفة اللجوء على نطاق واسع، ولا توفّر إطاراً قانونياً وطنياً شاملاً لطالبي اللجوء بما يتماشى مع هذه الاتفاقيات، ما يتعارض مع التزاماتها الدولية ويضعف مصداقيتها. وتبقى أسباب هذا الفراغ القانوني معقّدة وغير مُعلنة رسمياً، وقد تعود إلى اعتبارات أوسع تتعلّق بسياسات الهجرة أو بحساسيات المشهد السياسي الداخلي. لكنّ التداعيات واضحة على السوريين.
من شأن تسوية وضع السوريين القانوني، من خلال منحهم إقامات آمنة وتنظيم مشاركتهم في سوق العمل، أنّ تحسّن حمايتهم وتمكّن الجزائر من الاستفادة من إسهاماتهم بشكل أكثر فاعلية وشفافية، ما يساعد في ضبط الاقتصاد غير النظامي، وربما في زيادة الإيرادات الضريبية.
ويتمثّل عامل آخر يُعزّز قابليّة هذه الإصلاحات للتنفيذ في الجزائر التقبّل الاجتماعي للوجود السوري في البلاد. فعلى عكس ما تشهده الكثير من الدول المضيفة الأخرى، لم يُثِر وجودهم ردود فعل شعبية معارضة تُذكر. وبحسب المقابلات، يُنظر إلى السوريين عموماً على أنهم أفراد محترمون وذوو روح ريادية ومندمجون جيّداً في المجتمع. وتُوفّر هذه الدينامية الاجتماعية الإيجابية فرصة سياسية نادرة لاعتماد نهج اندماج رسمي قد لا يتاح بنفس القدر في دول أخرى.
من هنا، تشكّل معالجة هذه التناقضات القانونية وتحديد مسارات واضحة نحو إقامات آمنة، خطوة بالغة الأهمية للاعتراف بالطابع الطويل الأمد للوجود السوري ولتعظيم إسهامات السوريين البنّاءة في وطنهم الجديد.
ترسم المقابلات التي أُجريت مع سوريين مقيمين في شتى أنحاء الجزائر العاصمة صورة متفاوتة عن قدرتهم على الصمود واندماجهم الاقتصادي الإستراتيجي في سياق سرديّة تشكّلت عبر موجتين متمايزتين من الهجرة، أسهمتا في تشكيل النسيج الاجتماعي المتغيّر في الجزائر، لكنّ لكلٍّ منهما تبعات مختلفة على التحديات والفرص المرتبطة بسياسة الاندماج الطويل الأمد.
وصلت الموجة الأولى من المهاجرين السوريين إلى الجزائر في خلال الولايتين الأولى والثانية للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة (بين عامَي 1999 و2009)، وهي فترة اتّسمت باستقرار سياسي واقتصادي نسبي في كلّ من سوريا والجزائر. كان دافعهم الأساسي آنذاك اقتناص الفرص الاقتصادية. وتميّز الوافدون ضمن هذه الموجة بامتلاكهم موارد مالية كبيرة نسبياً، ما يعكس إستراتيجية متعمّدة هدفت إلى الاستثمار وتوسيع الأعمال داخل السوق الجزائرية الصاعدة. فكان معظم المهاجرين آنذاك من روّاد الأعمال والمستثمرين الذين سعوا إلى الاستفادة من النموّ الاقتصادي الجزائري الذي يحفّزه ارتفاع عائدات النفط وزيادة الاستثمارات الحكومية في البنى التحتية، وعملوا على نسج شبكات اجتماعية مبكرة.
في خلال فترة تلك الطفرة الاقتصادية، ضخّت الحكومة الجزائرية استثمارات ضخمة في مشاريع البنى التحتية على نطاقٍ واسع، ما وفّر فرصاً واعدة أمام المهنيين المهرة والمستثمرين، إذ سخّرت شركات مقاولات سورية مثل “البيرق”4و”الرواسي”5 رأس مالها وخبرتها للفوز بعقود في قطاع البناء، واضطلعت بدور بارز في تطوير البنية التحتية في الجزائر.
شملت مشاريع هذه الشركات مجموعة واسعة من القطاعات، بما فيها المباني السكنية والتجارية وإنشاء الطرق والجسور وأنظمة المياه والصرف الصحي، إضافة إلى مشاريع متخصّصة في قطاعَي النفط والغاز. ورغم اشتراط أن تعمل تلك الشركات بالشراكة مع طرف محلّي، فإنّ حنكتها التجارية وكفاءتها الفنية وسمعتها المهنية الجيّدة، هي التي مكّنتها من منافسة شركات المقاولات الصينية والتركية.
وتجلّى هذا النفوذ الاقتصادي المتنامي في الإحصاءات الرسمية الجزائرية الصادرة في نهاية عام 2021، والتي أظهرت أنّ الشركات السورية باتت ثالث أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي في الجزائر، بحصّة بلغت 11 في المئة، خلف الشركات التركيّة والفرنسيّة.6
أدّى اندلاع الحرب الأهليّة السورية عام 2011 إلى موجة ثانية من الهجرة باتجاه الجزائر. هذه المرّة، كان الوافدون في غالبيتهم من اللاجئين وطالبي اللجوء الذين فرّوا من العنف والاضطهاد السياسي والانهيار الاقتصادي. بالنسبة للكثير منهم، كانت الجزائر في البداية محطّة عبور في طريقهم نحو أوروبا، غير أنّ عدداً منهم استقرّ فيها على المدى الطويل.
بين عاميَ 2011 وأواخر 2014، تمكّن السوريون من دخول الجزائر من دون تأشيرة، وهو ما شكّل فرصة مناسبة للهجرة، بالإضافة إلى قرب الجزائر من أوروبا.7 ورغم أنّ بعض السوريين أقاموا في البداية في مخيّمات، فإنّ الغالبية الساحقة من أبناء الجالية السورية في الجزائر يعيشون اليوم خارج هذه المخيّمات، وقد حقّقوا قدراً من الاستقرار الاقتصادي ويتمتعون بظروف معيشيّة مريحة.
فيما تُعدّ البيانات الديموغرافية الشاملة محدودة، تشير المقابلات والدراسات المتوفّرة إلى أنّ الوافدين ضمن هذه الموجة كانوا في معظمهم، ولكن ليس حصراً، من أبناء الطبقة الوسطى إلى الوسطى العليا الذين يمتلكون مهارات مهنية و/أو تحصيلاً علمياً (أو أكملوا دراستهم في الجزائر)، وكانوا يبحثون عن ملاذ آمن من أهوال الحرب. وقد أقرّ الكثير منهم أنّهم وجدوا في الجزائر فرصة لم تكن في الحسبان.
تقول سيرين، أمّ لثلاثة أطفال تبلغ من العمر 38 عاماً: “لم نكن نعرف الكثير عن الجزائر ولم نخطّط للبقاء. لكنّنا في نهاية المطاف استقرّينا هنا واستثمرنا مواردنا وأسّسنا عائلاتنا”.8 شاطرها هذا الشعور كثيرون. فيقول بلال، صاحب محل حلويات: “الجزائر كانت ملاذاً وقعنا عليه بالصدفة”،9 مكاناً وجدوا فيه ملجأً وفرصة من حيث لا يتوقّعون.
كشفت المقابلات أنّ الجزائر حقّقت إلى حدّ كبير تطلّعات الكثير من المشاركين، بمن فيهم أصحاب المهارات المهنية، إذ لم تختلف المهارات المطلوبة فيها كثيراً عن تلك المستخدمة في سوريا. وأشار عدد من المشاركين إلى وجود فرص تجارية غير مستغلّة في السوق الجزائرية، حيث لا تزال قطاعات متعدّدة بحاجة إلى مزيد من الاستثمارات، لا سيّما في مجالَي الأغذية والمنسوجات. وقد دفع ذلك السوريين إلى تركيز جهودهم على تأسيس مشاريع صغيرة ومتوسطة الحجم.
ساهم هذا النهج الإستراتيجي في تقليص حدّة المنافسة مع المجتمع المحلّي وسهّل مسار الاندماج. فتركّزت أنشطة السوريين في قطاعات مثل مشاغل النسيج ومتاجر التجزئة ومحال الحلويات والمطاعم التي تقدّم المأكولات السورية، والتي سرعان ما لاقت رواجاً. وبفضل هذا التركيز على الأسواق المتخصّصة، مقروناً بالموارد الاقتصادية المتوفّرة لدى هذه الفئة، تمكّن السوريون من تحقيق اندماج سلس نسبياً في المجتمع المحلّي، والتخفيف من مشاعر العدائيّة تجاههم.
كان لتوجّه السوريين نحو هذه القطاعات أثر واضح في السوق الجزائرية. فقد أسهم روّاد الأعمال السوريون في خلق فرص عمل للجزائريين وتنويع السوق. وقد أشارت بيانات رسمية صادرة عام 2017 إلى أنّ الجالية السورية جاءت في المرتبة الثانية بين الجاليات الأجنبية من حيث عدد الشركات المسجَّلة في الجزائر (1188 شركة). كما أفادت تقارير صحفية أن التجّار السوريين الأفراد أدّوا دوراً رائداً مقارنةً بالتجّار الأجانب الآخرين وباتوا يمثّلون نسبة كبيرة من هذه الشريحة في السوق.10 واحتلّ التجّار السوريين الأفراد مراتب متقدّمة بين التجّار الأجانب في الجزائر، حيث يمثّلون نحو 30 في المئة من السوق.11
ولكن رغم الروح الرياديّة لدى السوريين، فإنّ استمرار الحظر القانوني على مزاولتهم أيّ عمل نظامي، إلى جانب العراقيل البيروقراطية، يطرح عوائق أمامهم. تستدعي هذه التحديّات المستمرّة معالجة عاجلة على مستوى السياسات.
لا يزال الحظر المفروض على مزاولة السوريين أيّ عمل نظامي يشكّل عقبة كبرى، فيدفع الغالبية إلى الانخراط في الاقتصاد غير النظامي الذي يفتقر إلى الضمان الاجتماعي والحقوق العمّالية.12 وفي مواجهة هذه القيود، اعتمد السوريون إستراتيجيات متنوّعة، من بينها العمل كمقاولين مستقلّين، أو إبرام شراكات عبر الزواج أو الترتيبات التجارية مع مواطنين جزائريين. وتُعرف هذه الممارسة، الشائعة على نطاق واسع، باسم “الواجهة الجزائرية”، حيث يُسجَّل النشاط التجاري باسم مواطن جزائري كواجهة، ما يمكّن السوريين من العمل رغم القيود القانونية.
وبحسب عدد من الشهادات، يسلّط هذا النظام الضوء على حجم التحديات القانونية التي ما زالت تعترض طريق السوريين.
رغم أنّ هذه الترتيبات غير الرسمية توفّر مصدراً للدخل، إلا أنّها تحرم العمّال السوريين من الحماية. يقول إبراهيم، صاحب متجر أقمشة “أنا أثق بشركائي الجزائريين، لكنني سمعت قصصاً مروّعة. لا أملك سيارتي… شريكي الجزائري هو من اشتراها لي”.13
ويزيد تعقيد الإجراءات الإدارية من هشاشة هذا الوضع. فمنذ عام 2011، وفّرت الجزائر ملاذاً للسوريين، بدايةً عبر تأشيرة مؤقتة مدّتها 90 يوماً. أمّا اليوم، فيتعيّن على السوريين تجديد التأشيرة كل 45 يوماً، وهو عبء بيروقراطي يعيق الإقامة الطويلة الأمد. ورغم تمتّعهم بحرية الحركة، فإنّ غياب إطار قانوني فعّال لطالبي اللجوء يُبقيهم مصنّفين رسمياً كمهاجرين غير نظاميين. وهنا تكمن المفارقة الجوهريّة، فهم يستفيدون من الخدمات الاجتماعية، لكنهم يفتقرون إلى الاعتراف الرسمي والوثائق اللازمة للعمالة الشرعية.
رغم هذا الغموض القانوني، تمكّن السوريون من التخفيف من وطأة هذه القيود القانونية ومن خساراهم العاطفية، بفضل مهاراتهم وأخلاقيات العمل التي يتحلّون بها وروحهم الريادية.14 فتتّسم حياتهم في الجزائر بقدر من الرفاه، على نقيض الفوضى التي تركوها خلفهم والمشقّات التي يتعرّض لها أقاربهم في دول مثل تركيا ولبنان والأردن وألمانيا، حيث تحدّث الأشخاص الذين شملتهم المقابلات عن مواجهة أقاربهم في تلك الدول مشاعر معادية للسوريين وأوضاع قانونية هشّة وأزمات اقتصادية دفعت بعضهم إلى الندم على مغادرة الجزائر.
أمّا القاسم المشترك في روايات المشاركين فكان حديثهم عن الترحيب الذي لقوه من المجتمع الجزائري.
لكنّ هذه الحياة المريحة غالباً ما ينغّصها شعور بأنّهم في وضع مؤقت، أي في حالة معلّقة ما بين الاستقرار التام والانفصال التام.15 تصوّر شهادة نديم هذا الواقع المعقّد، فقال “نحن نعيش حياة جيّدة هنا. أين يمكننا أن نحظى بحياة كهذه اليوم؟ لكننا، في الوقت نفسه، في حالة انتظار دائم، مستخدماً عبارة “en attente” باللغة الفرنسية في المقابلة، وهو شعور ردّده جميع المشاركين في المقابلات.16
وعّبر أبو علي عن هذا الإحساس بقوله: “جئنا جميعاً لبرهة… فوجدنا أنفسنا باقين مدى الحياة. مضى على وجودي هنا أكثر من عشر سنوات، وأنا أحبّ العيش في الجزائر، لكنني أعيش في حالة انتظار مستمرّة…”17
لا تقتصر هذه الحالة الانتقالية على الشعور بالعيش بين عالمَين، بل تمتدّ أيضاً إلى مسألة الوضع القانوني والهويّة وأمان الفرد داخل النظامين الاجتماعي والقانوني، بحيث تُكرّس آليّة تجديد تأشيرة الإقامة كلّ 45 يوماً شعوراً دائماً بالوجود الانتقالي. وعلى الرغم مما قد تبدو عليه حياتهم اليوميّة من استقرارٍ نسبي، يظلّ مستقبلهم مجهولاً. وتُعيق هذه الدورة المستمرّة من تجديد الإقامات قدرتهم على ترسيخ جذور حقيقية، أو الاستثمار في خطط طويلة الأمد، أو الشعور الآمن بالانتماء.
وتمثّل هذه الازدواجية هاجساً دائماً في حياة السوريين في الجزائر. فقد ردّد معظم المشاركين في المقابلات أنّ “وضعنا هنا أفضل”، في مقارنة تعكس الاستقرار النسبي والفرص التي تمكّنوا من تحقيقها في الجزائر. لكن كلمة “أفضل” لا تعني بالضرورة “الأمان”، فبينما يُرحّب بمساهمتهم الاقتصادية، لا يُقابَل ذلك بضمانات واضحة لوضعيتهم القانونية. وهكذا، ينشأ عن مفارقة عيش حياة مريحة في ظلّ وضع قانوني ضبابي، واقع فريد محفوف بالتحدّيات.
لقد وجد السوريون في الجزائر وطناً ومجتمعاً ونصيباً من الازدهار، لكنهم ما زالوا يعيشون في حالة قانونية معلّقة، لا مندمجين بالكامل، ولا منفصلين تماماً. ورغم أنّ التساهل البراغماتي من جانب السلطات الجزائرية يمنحهم هامشاً من المرونة، إلا أنه لا يبدّد الشعور الكامن بانعدام الأمان الذي يلازمهم.
تكشف المقابلات عن مزيج معقّد من الأمل والبراغماتية في النظرة إلى “سوريا الجديدة” في ظلّ قيادة الرئيس أحمد الشرع. يقول نديم: “صحيح أنّني أرغب في رؤية بلادي تتعافى… لكنّ حياتي هنا. الجزائر بلدي ولا يمكنني مغادرتها”.18
يبدو جليّاً حدوث تحوّل ملموس في الشعور بالانتماء، إذ باتت المكاسب الملموسة للحياة في الجزائر تطغى على المخاوف إزاء ضبابية الوضع القانوني. وقد تحدّث المشاركون مراراً عن شعورهم بالاندماج الإيجابي وتقّبل المجتمع لهم، في مقابل إحساس متزايد بالغربة عن سوريا التي لم تعد مألوفة بالنسبة إليهم. يقول صافي، صاحب مطعم: “نحن نعيش حياة مريحة هنا… سنزور سوريا بالتأكيد، لكن العودة الدائمة غير واردة على الإطلاق”.19
خيّم هاجس إعادة بناء الحياة من الصفر بقوّة على المشاركين في المقابلات، لاسيّما الأشخاص الأكبر سناً. يقول أبو علي، وهو رجل في الستينيات من عمره يعاني من مرض مزمن كان قد فقد عائلته في الحرب: “لا يمكنني أن أبدأ حياتي من جديد في هذا العمر… ماذا عن المستشفيات؟… كيف سأتعامل مع مرضي في سوريا المدمَّرة؟”20
يُسلّط تركيزه على البنية التحتية، وهو هاجس ردّده آخرون أيضاً، الضوء على مخاوف جوهرية، وفي مقدّمها الحاجة إلى مستشفيات ومدارس موثوقة. وقد عبّر المشاركون عن قناعة راسخة بأنّ سوريا لن تكون قادرة على توفير هذه الخدمات بالقدر المطلوب في غضون السنتين إلى خمس سنوات المقبلة.
ولا يقتصر هذا الموقف على الحذر، بل يعكس أثراً عاطفياً وجسدياً عميقاً خلّفه النزوح، وتوقاً واضحاً إلى الاستقرار والسلام اللذين باتت الجزائر تُجسّدهما بالنسبة إليهم، وهي عوامل تؤثّر بقوّة في قرارهم بالبقاء.
كشفت المقابلات عن تكرار لافت لعبارة “خمس سنوات على الأقل”، ما يعكس على ما يبدو تقييماً محسوباً لمسار إعادة الإعمار في سوريا. فقد مثّلت هذه المهلة، بنظر المشاركين، تقديراً للوقت اللازم لإعادة بناء البنية التحتية والاقتصاد والنسيج الاجتماعي. ويتجلّى هذا المنطق البراغماتي في إحجامهم عن المجازفة بالاستقرار الذي حققوه في الجزائر مقابل مستقبل غامض في سوريا. تقول هالة، وهي أمّ لثلاثة أولاد تبلغ من العمر 33 عاماً: “الأمل في سوريا موجود، لكنني لن أجازف بما بنيته في الجزائر من أجله… سأنتظر وأراقب. سنرى بعد خمس سنوات.”21
ويُعزّز الفارق بين الأجيال هذا القرار أيضاً، لا سيّما في ظلّ وجود جيل كامل من الأطفال السوريين الذين وُلدوا ونشأوا في الجزائر، وغرسوا فيها جذوراً عميقة، وهذا سبب إضافي للبقاء. تقول أمّ لأربعة أولاد، تبلغ من العمر 36 عاماً، اثنان منهم وُلدوا في الجزائر واثنان انتقلوا إليها في سنّ مبكرة جداً: “لقد وُلدوا ونشأوا هنا، وهذه هي الحياة التي يعرفونها. قد يشكّل الوضع الراهن في سوريا صدمة قاسية لهم، ويصعب عليهم التأقلم هناك… سوريا، كما هي اليوم، صارت بلداً غريباً بالنسبة لي، فما بالك بالنسبة لهم؟”22
وصف عدد من الشباب السوريين الذين يعملون كمتدرّبين في المطاعم ومحلّات النسيج، ممن وُلدوا في الجزائر أو وصلوا إليها في سنّ مبكرة، أنفسهم بأنهم “جزائريون سوريون”. يشير هذا الوصف إلى نشوء هويات هجينة ويعكس التحدّيات التي قد يواجهونها في حال حاولوا الاندماج مجدداً في سوريا التي باتت غريبة بالنسبة إليهم. ولعلّ كفاءاتهم اللغوية، حيث يتقنون اللغتين العربية الجزائرية والفرنسية إلى جانب اللغة العربية السورية، خير دليل على هذا الانتماء المزدوج.
في المحصّلة النهائية، يرى الكثير من المشاركين أنّ لا رجعة عن قرارهم البقاء في الجزائر. في الواقع، يولّد غيابُ مسار واضح للعودة إلى سوريا، إلى جانب صعوبة الدخول مجدداً إلى الجزائر في حال مغادرتها، إحساساً بالنزوح الدائم. وعلى حدّ قول أحد المشاركين: “نستطيع المغادرة، لكن لا يمكننا العودة”.23 ويسلّط هذا الواقع الضوء على هشاشة وضع السوريين، العالقين بين وطن غارق في الأزمة وبلد مضيف يمنحهم قدراً من الاستقرار، من دون أن يوفّر لهم مساراً واضحاً للتحرّك في المستقبل.
يُعدّ قرار السوريين البقاء في الجزائر خياراً براغماتياً. فهم لا يتخلّون عن وطنهم، بل يفضّلون الاستقرار والفرص على مستقبل محفوف بالغموض والمشقّة. وينبغي على الحكومة الجزائرية الاعتراف بهذا الواقع، والعمل على بلورة سياسات تُعنى باندماج هذه الجالية على المدى الطويل.
تقدّم تجربة السوريين في الجزائر دروساً قيّمة لصنّاع القرار حول كيفيّة التعامل مع تعقيدات النزوح الطويل الأمد. فبينما ركّزت استجابة البلاد الأوّلية على توفير الملاذ الآمن والخدمات الأساسية، يتطلّب الواقع الراهن تحوّلاً جذريّاً نحو إستراتيجيّات اندماج شاملة. صحيح أنّ الجزائر استفادت من مساهمات السوريين الاقتصادية والثقافية، غير أنّ استمرار غموض وضعهم القانوني يقوّض رفاههم الشخصي، ويَحول دون استفادة المجتمع الجزائري من كامل طاقاتهم وإمكاناتهم.
يتوجّب على صنّاع القرار في الجزائر إعطاء الأولوية لوضع مسارات واضحة وميسّرة نحو الإقامة الدائمة. فقد كشفت المقابلات التي أُجريت في إطار هذه الدراسة عن رغبة قويّة لدى السوريين في البقاء في الجزائر على المدى الطويل، مقابل رغبة محدودة في العودة إلى سوريا. ومن شأن منحهم إقامة آمنة ودائمة أن يوفّر لهم الاستقرار الضروري للتخطيط لمستقبلهم والاستثمار في مجتمعاتهم والمشاركة في الاقتصاد الرسمي مشاركةً كاملة.
علاوة على ذلك، قد يصبّ تسهيل حركة التنقّل بحريّة أكبر بين سوريا والجزائر في خلال أيّ مرحلة انتقالية محتملة في سوريا في مصلحة الطرفين، بحيث يتيح للجزائر تعزيز الروابط الاقتصادية والاجتماعية مع سوريا.
لا بدّ أيضاً من معالجة حظر العمالة النظامية المفروض على السوريين. من شأن فتح الباب أمام مسارات قانونية تُمكّن السوريين من العمل الحدّ من خطر تعرّضهم للاستغلال، وضمان حقوقهم كعمّال، والاستفادة من مهاراتهم ضمن إطار يكفل الكرامة ويعزّز شعورهم بالانتماء.
لا يمثّل اندماج السوريين في الجزائر ضرورة إنسانية فحسب، بل فرصة استراتيجية أيضاً. فمن خلال اعتماد سياسات استشرافية تعزّز الاندماج وتعترف بالهوية المتغيّرة لأفراد هذه الجالية، تستطيع الجزائر أن تعزّز اقتصادها، وتنوّع نسيجها الاجتماعي، وتُرسّخ مستقبلاً أكثر صلابة، مستقبلاً يتجاوز حالة الوجود المؤقت ويتجّه نحو الانتماء المشترك.