الضغوط المنهجيّة والتلاقي: تتشكّل الشراكة المتنامية بين إيران وروسيا بدرجة كبيرة بفعل الضغوط المنهجيّة، ولا سيّما التوتّرات مع الغرب، ما يدفع الطرفَين إلى تكثيف مستويات التكافل العسكري والاقتصادي والسياسي.
حدود التحالف: تقف الأجندات التعديليّة المتباينة والتصوّرات المختلفة للتهديدات والقيود الاقتصادية واعتبارات الأطراف الثالثة، عائقاً في وجه تحوّل الشراكة إلى تحالفٍ شامل ومتكامل.
بين التعاون والحذر: من غير المرجّح أن تعود الشراكة إلى منطق الصفقات البحتة، لكنّ مسارها المستقبلي سيعتمد على عوامل رئيسيّة تؤثّر في حسابات كلّ من طهران وموسكو، مثل السياسات الأمريكيّة والصراعات الإقليميّة والتغيّرات في القيادة.
منطق الصفقات الإستراتيجية: تقوم العلاقات الإيرانيّة الروسيّة على تعاون براغماتي توجّهه المصالح والتطلّعات المتنامية لتعميق المواءمة الإستراتيجيّة، إلّا أنّها تبقى رهناً بالقيود المستمرّة والأولويات المتنافسة.
وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الإيراني مسعود بزشكيان على “معاهدة الشراكة الإستراتيجيّة الشاملة” في 17 يناير 2025 في موسكو. ويهدف هذه الاتفاقية إلى تعزيز العلاقات الثنائية على مدى السنوات العشرين المقبلة.1 بعد تأخيرٍ قيل إنّه بسبب وفاة سلف بزشكيان، الرئيس إبراهيم الرئيسي، في مايو 2024، إضافة إلى الخلافات بشأن بعض تفاصيل المعاهدة، أُبرمت في ظلّ تصاعد التوتّرات الجيوسياسيّة التي تواجهها كلّ من الدولتين ولاقت ترحيباً من المسؤولين في طهران وموسكو الذين اعتبروها دليلاً على ترسيخ مسار المواءمة الإستراتيجية بين الطرفين. بينما تُشير هذه المعاهدة إلى تحوّلٍ عن طبيعة الصفقات البحتة التي لطالما طبعت الروابط بين طهران وموسكو، لا تزال الشراكة بينهما معقّدة وبعيدة عن مستوى التحالف الكامل. ولفهم هذه الدينامية، من الضروري التعمّق في العوامل البنيويّة التي تدفع باتّجاه تعزيز هذه العلاقة، إلى جانب إدراك القيود المستمرّة التي لا تزال تعرقل تعميق التعاون بين الدولتين.
تَتمثّل القوّة الدافعة الرئيسية وراء تطوّر الشراكة الإيرانية الروسية في الضغوط المنهجيّة، لا سيّما التوتّرات المتصاعدة بين الدولتين والغرب. لقد دفع تدهور العلاقات بين روسيا والقوى الغربية، الذي أجّجته أوّلاً أزمةُ شبه جزيرة القرم في العام 2014 ومن ثمّ الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022، بموسكو إلى السعي نحو تعزيز علاقاتها مع الدول المستعدّة لتحدّي نفوذ الغرب.
من جهتها، تواجه إيران ضغوطاً مشابهة. لقد تفاقمت مخاوفها الأمنية بسبب العقوبات الغربية وعزلتها الدبلوماسيّة، فضلاً عن المواجهات المستمرّة مع إسرائيل، التي تعتبرها طهران جزءاً من مكافحة الهيمنة الغربية على نطاقٍ أوسع.2 على هذه الخلفيّة، وسّعت إيران وروسيا نطاق التعاون، إذ وجدتا أرضيّة مشتركة في معارضتهما للنظام الدولي الليبرالي وحاجتهما إلى شراكات اقتصادية وعسكرية بديلة.
وعلى الرغم من التقارب المتزايد بين إيران وروسيا، تبقى الشراكة بين الدولتين مقيّدة بمجموعةٍ من العوامل البنيويّة الأساسية. ففي حين أنّ كلاًّ منهما تجمعه مصلحة في تحدّي ما يعتبره نظاماً دولياً خاضعاً للغرب، تختلف أجندته التعديليّة من ناحية السياق والإستراتيجية. في الواقع، إنّ معارضة إيران للنظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة متجذّرةٌ في العداء العقائدي النابع من رؤيتها الثورية. في المقابل، لطالما اعتمدت روسيا مقاربة أكثر براغماتية بفعل سعيها إلى الاعتراف بها كقوةٍ عالمية رئيسيّة.3
غالباً ما دفع هذا التباين موسكو إلى إبرام اتفاقات مع القوى الغربية جاءت على حساب المصالح الإيرانية. وحتى في ظلّ تدهور روابطها بالغرب، تواصل موسكو الموازنة بين علاقتها مع طهران من جهة وروابطها مع جهات إقليمية أخرى، مثل إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي، من جهة أخرى. وكذلك، تُضيف مساعي إيران للحفاظ على مستوى من الانخراط مع أوروبا، بُعداً آخر من الحذر إلى شراكتها مع روسيا. على هذه الخلفيّة، يرى موجز القضيّة هذا أنّ أفضل طريقة لفهم العلاقة بين إيران وروسيا هو اعتبارها شراكة في طور التحوّل، تجاوزت منطق الصفقات البحتة، ولكنها لم تترسّخ بعد كتحالف إستراتيجي متكامل. ومن خلال النظر في السياق الجيوسياسي الحالي، ومضمون المعاهدة الإستراتيجية الأخيرة وحدودها، والسيناريوهات المستقبلية المحتملة، يهدف إلى تقديم تقييم شامل المسار المستقبلي للعلاقات بين إيران وروسياً.
لقد رسمت الضغوطُ المنهجيّة الناجمة عن التطوّرات الجيوسياسيّة الإقليمية والعالمية الكبرى معالمَ الشراكة المتطوّرة بين طهران وموسكو على مدى العقد المنصرم. وقد أدّى تدهور العلاقة بين روسيا والغرب، لا سيّما في أعقاب ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014 وحربها على أوكرانيا في العام 2022، دوراً محورياً في تحوّل موسكو الإستراتيجي. أطلقت هذه الأحداث العنان لموجةٍ غير مسبوقة من العقوبات الغربيّة استهدفت صادرات روسيا من الطاقة ومؤسّساتها المالية ووصولها إلى الأسواق العالمية. في المقابل، سعت موسكو جاهدةً إلى توطيد روابطها بالدول غير الغربية بهدف الحدّ من اعتمادها الاقتصادي على الأنظمة الغربية.4 وفي هذا السياق، أصبح ترسيخ الشراكة مع إيران أحدّ المكوّنات الرئيسية لهذه الإستراتيجية، لا سيما نظراً لتجربة طهران الطويلة مع العقوبات الغربية وعزلتها الدبلوماسيّة.
تكثّفت الضغوط المنهجيّة على إيران في أعقاب انسحاب إدارة ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة، أو ما يُعرف بالاتفاق النووي الإيراني، في العام 2018. وأدّت حملة الضغط الأقصى التي شنّتها إدارة ترامب لاحقاً إلى تقييد صادرات إيران النفطية وصفقاتها المالية الدولية بشدّة، فتسبّبت بأزمةٍ اقتصادية حادّة. وتراجعت صادرات النفط الإيرانية، التي كانت قد بلغت ذروتها في العام 2017 عند نحو 2,5 مليون برميل يومياً، إلى ما دون 400 ألف برميل يومياً بحلول العام 2020 .5
وعلى الرغم من أنّ إدارة بايدن اتّخذت موقفاً أقل عدائية، إلّا أنّها أبقت على معظم العقوبات، وعلى الضغوط الاقتصادية الناتجة عنها. وقد دفع استمرارُ هذه الضغوط بطهران إلى التطلّع شرقاً سعياً إلى تعزيز روابطها مع روسيا والصين وبحثاً عن دعمٍ اقتصادي وسياسي.6 وعَكَسَ تكثيف انخراط إيران في المنظمات المتعدّدة الأطراف مثل منظمة شانغهاي للتعاون ومجموعة بريكس+ هذا التحوّل الإستراتيجي، بحيث أصبحت طهران عضواً كاملاً في المنظّمتَين بحلول العام 2025. تعتبر طهران روسيا والصين لاعبَين أساسيَّين في نظامٍ عالمي ناشئ ومتعدّد الأقطاب، لذا أعطت الأولوية لتوطيد العلاقات مع الدولتين على المستوَيين الثنائي والمتعدّد الأطراف.
لقد سرّعت الحرب الروسية على أوكرانيا عمليّة التقارب مع إيران. ففي وجه التحدّيات العسكرية والاقتصادية المتزايدة، استعانت روسيا بإيران لتوفير المسيّرات وتصنيعها بشكلٍ مشترك، وقامت بنشرها لاحقاً في أوكرانيا. في المقابل، وسّعت روسيا، حسبما يُزعم، نطاقَ تعاونها مع إيران في مجال التكنولوجيا العسكرية، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والدعم التقني.7 وسهّلت كذلك موسكو التعاون الدفاعي بين إيران وحلفاء روسيا التقليديين، مثل بيلاروسيا وطاجيكستان، ما أسهم في تعزيز الشراكة بينهما.8
من جهةٍ أخرى، كان للحرب على غزة دورٌ حاسمٌ في تعزيز العلاقات الإيرانية الروسية.9 من وجهة نظر طهران، لا يُعدّ هذا الصراع مجرّد نزاعٍ إقليمي، إذ يراه القادة الإيرانيون امتداداً للضغوط المنهجية نفسها التي شكّلت الموقف الإيراني الجيوسياسي بشكلٍ عام. ويعتبرون أيضاً أنّ أعمال إسرائيل العدائية في غزة وخارجها يجسّد أجندةً غربية تُقودها الولايات المتحدة تحديداً، وتهدف إلى إعادة صياغة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، وهي أجندة ترى طهران أنّه من الضروري التصدّي لها.
في هذا السياق، تعالت الأصوات المندّدة بحرب إسرائيل على غزة داخل روسيا، فتلاقت مع السردية الإيرانية المزمنة، ما عزّز الشراكة بين البلدين. ومنذ اندلاع الحرب، أيّدت موسكو الدعوات إلى وقف إطلاق النار وعارضت القرارات المدعومة من الغرب التي انحازت لصالح إسرائيل بصورةٍ غير مشروطة، فتلاقت مع موقف طهران الدبلوماسي.10 كما فتحت الحرب الباب أمام روسيا لتوسيع انخراطها مع حلفاء إيران الإقليميين في محور المقاومة، بمن فيهم حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن.11
في الوقت نفسه، أضعفت الحربُ الإسرائيلية على غزة شبكة إيران الإقليمية بشكلٍ جذري، وتفاقم الوضعُ بسبب مرور عام ونيّف من الاشتباكات والمواجهات العسكرية المباشرة بين إيران وإسرائيل (في أبريل وأكتوبر 2024).12 أدّت هذه العوامل مجتمعةً إلى تأجيج شعور طهران بالإلحاح لتعزيز قدراتها العسكرية الهجومية والدفاعية. وظهرت موسكو كشريكٍ أساسي في هذا المجال، خاصة في إطار جهود طهران للحصول على أنظمة الدفاع الجوي المتقدّمة مثل منظومة الصواريخ أرض-جو من طراز “S-400” والطائرات الحربية الروسية من طراز “Sukhoi Su-35″، وهي أسلحة لطالما قيل إنّ موسكو كانت تنوي تسليمها لطهران.13
وقد سّعت كلّ من أيران وروسيا كذلك نطاق تعاونهما الاقتصادي استجابةً لعزلتهما المشتركة عن النظام العالمي. فقد عملتا على تطوير آليات مالية بديلة للالتفاف على العقوبات الغربية وتعزيز التبادل التجاري. وبحلول العام 2022، بلغ حجم التجارة الثنائية بين البلدين نحو 5 مليار دولار، في زيادة ملحوظة منذ نشوب الحرب في أوكرانيا.14 وتنعكس هذه الجهود أيضاً في تعاونهما ضمن إطار “الإتحاد الاقتصادي الأوراسي”، وفي مشاريع البنية التحتية المشتركة المتعلّقة والمبادرات في مجال الطاقة. وخير مثال على ذلك “ممر النقل الدولي الشمال الجنوب” بين روسيا وإيران والهند، الذي يخلق رابطاً حيوياً بين الخليج وشمال أوروبا.15 ويهدف هذا الممر إلى تعزيز الترابط والتجارة الإقليمية وإلى الحدّ من الاعتماد على طرق التجارة الغربية.
غير أنّ هذه الروابط تُعتبر متواضعة مقارنة مع النواحي الأخرى من الشراكة بين الدولتين وروابط روسيا الاقتصادية مع القوى الإقليمية الأخرى مثل تركيا والدول الخليجية. وعلاوة على ذلك، لم تحرز المبادرات المتعدّدة الأطراف، على غرار ممرّ النقل الدولي بين الشمال والجنوب، تقدّماً ملحوظاً بسبب الموارد المالية المحدودة لتطوير البنى التحتية والتعقيدات السياسية المرتبطة بتدخّل أطراف ثالثة.
تجسّد “معاهدة الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والاتحاد الروسي” طبيعة علاقتهما المتطوّرة، بما تحمله من فرص وتحدّيات. ويرسم الاتفاق الممتد على عشرين سنة والمؤلّف من 47 مادة الخطوطَ العريضة للتعاون في قطاعات مختلفة تشمل الأمن والطاقة والتجارة والتبادل الثقافي.16 وفيما تضع هذه المعاهدة إطاراً لتوسيع الروابط الثنائية، يكشف محتواها عن جهدٍ مدروس من كلا الطرفين لتعميق التعاون في مجالات معيّنة من دون الالتزام بتحالفٍ إستراتيجي شامل.
في المجال الأمني، تشدّد المعاهدة على التعاون في الصناعات الدفاعية والتدريب العسكري وتبادل المعلومات الاستخباراتية. وتنصّ أيضاً على أحكام لإجراء مناورات عسكرية مشتركة بهدف تعزيز التنسيق في العمليات. ومع ذلك، من اللافت غياب بند متعلّق بالدفاع المشترك، وهو سمة أساسية للتحالفات العسكرية المتينة. ويعكس هذا الإغفال تردّد روسيا في الانخراط في نزاعات إيران الإقليمية، ولا سيّما صراعها المستمر مع إسرائيل. ويُبرز حرص موسكو على الموازنة الدقيقة في علاقاتها مع خصوم طهران الرئيسيين، بمن فيهم إسرائيل وعدد من الدول الخليجيّة، نهجها القائم على ضبط النفس الإستراتيجي.
فيما أشارت روسيا إلى تقاربٍ متزايد مع إيران في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، لا تزال تحافظ على روابط براغماتية مع الدول الخليجية وإسرائيل، ما يحدّ من عمق التزامها الإستراتيجي تجاه طهران. وقد أبقت روسيا قنوات الاتصال مع إسرائيل مفتوحة بشأن سوريا حتى ما بعد سقوط نظام الأسد، وتُشير التقارير الأخيرة إلى أنّ إسرائيل تمارس ضغوطاً على الولايات المتحدة للسماح لروسيا بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية في سوريا كثقل موازٍ في وجه تنامي نفوذ تركيا.17
وقد دعمت موسكو أيضاً موقف الإمارات العربية المتحدة، ومجلس التعاون الخليجي، بشأن الجزر الخليجية الثلاث المتنازَع عليها بين إيران والإمارات.18 ويسلّط هذا الموقف الضوء على عملية التوازن الدقيقة التي تجريها روسيا في المنطقة، سعياً إلى ضمان التعاون في مجال الطاقة والمحافظة على روابطها الاقتصادية مع دول مجلس التعاون الخليجي، حتى على حساب المصالح الإيرانية. من جهتها، تعتبر طهران أنّ غياب التزام دفاعي مُلزم في معاهدة الشراكة يعكس اعترافاً براغماتياً بعدم استعداد موسكو للمخاطرة بمصالحها الإقليمية على نطاق أوسع لصالح تحقيق تقاربٍ أكبر مع إيران. يُضاف إلى ذلك أنّ طهران، التي تواجه رد فعل دبلوماسياً عنيفاً من دول أوروبية رئيسية بسبب دعمها لروسيا في حربها على أوكرانيا، تتوخّى الحذر بشأن تصعيد التوتّرات من خلال إضفاء طابع رسمي على تحالفها العسكري مع موسكو وتعميق انخراطها في الصراع بين روسيا وأوروبا على نطاقٍ أوسع.
وتعكس البنود الاقتصادية في المعاهدة أيضاً مزيجاً من التقارب والحذر. فهي تشجّع على زيادة التجارة الثنائية، وتُعزّز استخدام العملات الوطنية عوضاً عن الدولار الأمريكي، وتشدّد على التعاون في قطاعَي الطاقة والبنى التحتية. ومن الواضح أنّ الالتزام بزيادة التجارة بالعملات الوطنية يهدف إلى الحدّ من الاعتماد على الأنظمة المالية الغربية ومن تأثير العقوبات. غير أنّ هذه البنود تفتقر إلى تفاصيل واضحة بشأن نطاقها. وعلى الرغم من أنّ المعاهدة تشدّد على التعاون في مجال الطاقة، بما فيها المشاريع المشتركة المحتملة في مجال النفط والغاز والطاقة النووية، إلّا أنّها لا تلتزم باستثمارات كبيرة أو بمشاريع واسعة النطاق للبنى التحتية. قد يعكس هذا الغموض استمرار روسيا في إعطاء الأولوية لروابطها الاقتصادية مع المنتجين الخليجيين الأكثر ثراءً والذين تُوفّر أسواقهم ربحيّةً واستقراراً أكثر من إيران. ويُسلّط تعاون موسكو الوثيق مع هذه الدول داخل منظمة أوبك+ الضوء على هذا التوجّه الإستراتيجي.19
وتشكّل القيود المالية عائقاً أساسياً آخر أمام الاستثمارات الكبيرة في المشاريع المشتركة، ما يزيد من تعقيد عمليّة تطبيق البنود الاقتصادية في المعاهدة. ويُبرز هذا المزيج من القدرات الاقتصادية المقيّدة وشراكات روسيا المتنوعة في مجال الطاقة، الحدودَ العمليّة لشراكة موسكو الاقتصادية مع طهران. ويبدو أنّ المجال الأكثر واقعية في الشراكة الاقتصادية يتمثّل بالمشاريع المشتركة في مجال الطاقة والقطاع النووي، بالإضافة إلى التعاون في المبادرات الاقتصادية المتعدّدة الأطراف، وهي مبادرات تسير حالياً بدرجات متفاوتة من التقدّم.
تعكس المعاهدة في نهاية المطاف مواءمة متنامية بين طهران وموسكو، تدفعها المعارضة المشتركة للضغوط الغربية، إلى جانب المصالح العسكرية والاقتصادية المتبادلة. لكنها تُبرز أيضاً حدود هذا التعاون التي تفرضها اعتبارات الحذر الإستراتيجي وتضارب الأولويات.20 وتجسّد المعاهدة في جوهرها الواقع الراهن للعلاقات الثنائية أكثر مما تعبّر عن اختراق فعلي. وفيما تُضفي طابعاً رسمياً على الترابط المتنامي بين الدولتَين، تُرسّخ أيضاً الطبيعة البراغماتية لعلاقتهما التي تجسّد شراكةً تُحدّدها المنفعة الإستراتيجية المباشرة، لا تحالفٍ شامل وطويل الأمد.
على الرغم من أنّ الضغوط المنهجية قد قرّبت بين طهران وموسكو، فإنّ مدى استمرارية هذه الشراكة ونطاقها لا يزالان غير محسومَين. وستُحدّد مستقبلَها مجموعةٌ من التطوّرات الدولية والديناميات الإقليمية والتحوّلات السياسية الداخلية.21
يُعدّ مستقبل علاقة كل من إيران وروسيا مع الغرب عاملاً حاسماً في تحديد مسار شراكتهما. فقد يؤدّي أي تقارب محتمل بين إحدى الدولتين والولايات المتحدة إلى تغييرات جوهرية في حاساباتهما الإستراتيجية. على سبيل المثال، إذا أفضت الاتصالات الرفيعة المستوى المستمرّة بين واشنطن وموسكو إلى اتفاق ملموس، ومرتبط على الأرجح بوقف إطلاق النار في أوكرانيا وبتخفيض العقوبات الأمريكية على روسيا، قد يتراجع اعتماد موسكو على التعاون العسكري والشراكات الاقتصادية البديلة مع دول مثل إيران. وفي سيناريو كهذا، قد تقلّص روسيا تركيزها على روابطها مع طهران، لا سيّما إذا أصبح استئناف العلاقات مع الغرب أولويةً لتثبيت مكانتها الدولية وتعزيز موقعها على الساحة العالمية.
من جهة أخرى، إذا توصّلت إيران إلى اتفاق مع الولايات المتحدة بشأن برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية، فقد تُعيد طهران تقييم علاقتها مع موسكو. لطالما حرصت إيران على تجنّب الاعتماد المفرط على أيّ قوةٍ واحدة. ومن شأن إعادة فتح القنوات الدبلوماسية الغربية أن تقلّل من حاجة طهران الملحّة لتعميق روابطها مع روسيا، ما قد يدفعها إلى تبنّي مقاربةٍ أكثر توازناً بين الشرق والغرب.
بهدف الحدّ من خطر خسارة نفوذها على طهران، قامت روسيا بخطوات دبلوماسية، مستغلّةً التحسّن في علاقتها مع إدارة ترامب للتوسّط من أجل التوصّل إلى اتفاق نووي بين إيران والولايات المتحدة.22 وفي حال نجاحها، قد تقدّم موسكو هذا الاتفاق على أنّه تنازل لترامب في مقابل قدر من المرونة الأمريكية بشأن أوكرانيا، وتحافظ في الوقت نفسه على نفوذها في سياسة إيران الخارجية وبرنامجها النووي. ومن خلال تسهيل التوصّل إلى اتفاق ثنائي بين طهران وواشنطن، قد تتمكّن روسيا أيضاً من تهميش القوى الأوروبية وإضعاف نفوذها الدبلوماسي في هذه العملية.
إدراكاً منها لتعقيدات المشهد، اختارت إيران سلطنة عُمان، وسيطها التقليدي مع الولايات المتحدة، لتيسير حوارها مع واشنطن. وفي الوقت نفسه، كثّفت طهران اتصالاتها رفيعة المستوى مع موسكو وبكين بشأن الملف النووي.23 وتهدف هذه الخطوة من جهة إلى طمأنة القوّتَين بأنّ التوصّل إلى اتّفاق مع الولايات المتحدة لن يقوّض علاقات إيران الوثيقة معهما. ومن جهة أخرى، يوظّف المسؤولين الإيرانيين يستغلّون هذه الروابط والدعم الروسي والصيني كورقة ضغط في مفاوضاتهم مع واشنطن.
ويبرز سيناريو محتمل آخر يتمثّل في تصعيد إضافي للتوتّرات، يدفع بإيران وروسيا إلى مواجهة مع القوى الغربية. في حال تأجّجت الخلافات الدبلوماسية، إمّا من خلال تشديد العقوبات الغربية على روسيا أو زيادة الضغوط على إيران، قد تؤدي إلى توثيق المواءمة الإستراتيجية بين طهران وموسكو. وفي هذه الحال، قد يتوسّع نطاق تعاونهما ليشمل مجالات أكثر حساسية، مثل نقل الأسلحة المتطورة والتنسيق في الجهود الدبلوماسية لمواجهة نفوذ واشنطن في الشرق الأوسط. في نهاية المطاف، سيكون مدى تعزيز الأبعاد الأمنية والعسكرية والجيوسياسية للشراكة بين إيران وروسيا رهناً بمستوى التوتّر في علاقة كل منهما مع الغرب إلى حدّ كبير. وفي ظل تصاعد الاحتكاك مع القوى الغربية، من المرجّح أن تزداد الحوافز لترسيخ التعاون بين طهران وموسكو.
وقد تؤثّر التطوّرات السياسية المحلّية في إيران أو في روسيا بعمق على مسار الشراكة بينهما. ففي إيران، قد يشكّل انتقال الحكم في مرحلة ما من يد المرشد الأعلى علي خامنئي نقطة تحوّل مفصليّة. وفي حين يُرجّح أن تظلّ الأسس العقائدية للجمهورية الإسلامية قائمة، قد يقدم القائد الجديد على إعادة تقييم أولويات البلاد الإستراتيجية. وإذا سعت القيادة الإيرانية المستقبلية إلى تجديد الانخراط الدبلوماسي مع الغرب، قد تتراجع الحاجة الملحّة لتعميق الروابط مع موسكو. وكذلك، قد تُفضي تغييرات محتملة في القيادة الروسية إلى إعادة ضبط السياسة الخارجية الروسية. فبينما أعطى فلاديمير بوتين الأولوية لتوثيق العلاقة مع إيران كجزء من موقفه المعادي للغرب على نطاق أوسع، قد يسعى خلفه، إذا ما أراد تخفيف عزلة روسيا الدولية، إلى الانفتاح الدبلوماسي على الدول الغربية. ومن شأن تحوّل من هذا النوع أن يُضعف الانخراط الإستراتيجي بين روسيا وإيران.
على الرغم من هذه التغيّرات المحتملة، يبقى من غير المرجّح أن تُنهى الشراكة الإيرانية الروسية بشكلٍ كامل. في الواقع، تُرسي الضغوط المنهجيّة، بما فيها العقوبات الغربية والتهديدات العسكرية والجهود الأوسع لتهميش الدولتين، قاعدةً متينة لمواصلة التعاون. كما أنّ الجهود المبذولة مؤخراً لإضفاء طابع رسمي على العلاقة، مثل معاهدة الشراكة للعام 2025 ومشاركتهما في منتديات متعدّدة الأطراف، ساهمت في ترسيخ درجة من التكافل البنيوي. من هذا المنطلق، حتى لو ظهر انفتاحٌ على الغرب، من غير المرجّح أن يتخلّى أيّ من الطرفين على تفكيك علاقته بالآخر بالكامل، بل على العكس، من المحتمل أن تعود الشراكة بينهما إلى صيغة أكثر مرونة قائمة على منطق الصفقات، تُوازن بين التعاون والحذر الإستراتيجي.
بأيّ حال، ستبقى الجغرافيا والوقائع الإستراتيجية عوامل رئيسية. بما أنّ إيران وروسيا دولتان مجاورتان عبر بحر قزوين، لا يمكن لأيّ منهما تجاهل اعتبارات الأخرى الإقليمية. وحتى قبل الثورة الإسلامية في العام 1979، سعى شاه إيران باستمرار، ورغم اصطفافه مع المعسكر الشرقي، إلى تحقيق توازن بين علاقات إيران مع الولايات المتحدة من جهة ومع الاتحاد السوفياتي من جهة أخرى.24
يُشكّل تطوّر الشراكة بين إيران وروسيا عمليّة مواءمة معقدّة ومحسوبة تتأثّر بالضغوط المنهجية والحاجات المتبادلة والحذر الإستراتيجي. وفيما تخطّت هذه الشراكة التعاون القائم على منطق الصفقات البحتة، لا بدّ من أن تنضج لتصبح تحالفاً إستراتيجياً شاملاً وكاملاً، بل بالأحرى يمكن وصف الشراكة بمنطق الصفقات الإستراتيجية وبالعلاقة التي تمزج بين التعاون البراغماتي القائم على المصالح والتطلّعات المتنامية إلى تعميق المواءمة الإستراتيجية، وإن كانت لا تزال مقيّدة بجملة من التحدّيات البنيوية والأولويات المتنافسة. ويعكس منطق الصفقات الإستراتيجية توازناً محسوباً: أي الانتقال من الصفقات القصيرة الأمد إلى تعاون أعمق في المجالات الإستراتيجية البعيدة المدى، مع الحفاظ في الوقت عينه على علاقة تتّسم بالحذر والمرونة، وتبقى خاضعة لتأثيرات الوقائع الجيوسياسية الأوسع.
تسلّط معاهدة الشراكة الإستراتيجية الضوء على هذه الدينامية. ففيما تُضفي طابعاً رسمياً على التعاون في مجالات أساسية، مثل الدفاع والطاقة والتجارة، تتجنّب الالتزامات الملزمة التي تميّز التحالفات الإستراتيجية الشاملة. في الوقت نفسه، تمنح كلاً من طهران وموسكو المرونة الإستراتيجية التي تسعى إليها بغية تحقيق توازن في علاقاتها مع الجهات الثالثة. غير أنّ هذه المقاربة الحذرة لا تقلّل من أهمية العلاقة بينهما. لقد خلقت الضغوط المنهجية الظروف التي تدفع طهران وموسكو باتجاه تعميق التعاون بينهما والتي ستستمر في التأثير على عمق هذه الشراكة ومسارها في المستقبل. في هذه الأثناء، عمدت الدولتان إلى إضفاء طابع مؤسّسي على جوانب من التعاون بينهما من المرجّح أن تستمرّ، حتى في حال حصول انفتاحات دبلوماسية مع الغرب.
في المستقبل، من المرجّح أن تستمرّ المواءمة المتنامية بين طهران وموسكو قائمة على مزيج من التعاون القائم على الصفقات والتنسيق الإستراتيجي، مع تحقيق تقدّم في مجالات معيّنة ذات فائدة مشتركة فيما يتجنّب مخاطر الالتزام المفرط. وفي نهاية المطاف، تُمثّل الشراكة بين إيران وروسيا نموذجاً للمواءمة البراغماتية في ظلّ مشهدٍ عالمي آخذ في التحوّل، وحيث قد تدفع الضغوط المنهجية بالخصوم إلى التقارب، حتى وإن ظلّت حدود التعاون بينهما ثابتة وواضحة.