منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحتلّ مرتبة متوسطة على مؤشرات مكافحة الفساد العالمية: تتوافق المنطقة مع الاتجاهات العالمية، حيث تُعتبر الدول التي تتمتّع بفعالية حكومية أعلى ومستويات ثراء مرتفعة (وفقاً للناتج المحلّي الإجمالي للفرد) أكثر قدرة على مكافحة الفساد، بينما الدول التي ترزح تحت وطأة الحروب والهشاشة الاجتماعية فأداؤها سيّء على هذا الصعيد.
غياب رابط قوي بين مقاييس حرية التعبير والمساءلة والسيطرة على الفساد: تشذّ المنطقة عن الاتجاهات العالمية التي عادةً ما تظهر علاقة إيجابية بين مؤشرات مكافحة الفساد ومقاييس حرية التعبير والمساءلة. فأداء المنطقة بشكل عام سيّء على صعيد العملية الديمقراطية والمشاركة السياسية، حيث لا دلالة إحصائية للعلاقة بين مستويات حرية التعبير والمساءلة والسيطرة على الفساد.
مكافحة الفساد من خلال جهود تكنوقراطية: في ظلّ تباطؤ الإندفاعة نحو ترسيخ الديمقراطية في المنطقة، أصبحت الحلول التكنوقراطية السبيل الأرجح لمكافحة الفساد. فتركّز مثل هذه الجهود على استخدام التكنولوجيا من أجل تبسيط العمليات التجارية ورقمنة الخدمات العامة، بدل العمل على تعزيز المشاركة السياسية أو الرقابة البرلمانية.
المزيد من التقدّم يمكن إحرازه في عدد من المجالات المهمّة والسهلة: تشمل مجالات التحسين المحتملة الأخرى سنّ قوانين الحق في الحصول على للمعلومات أو تعزيزها، واعتماد تدابير شفافية محسّنة (مثل تلك التي تقدّمها شراكة الحكومة المفتوحة)، وزيادة الإفصاح عن أداء وكالات مكافحة الفساد وإجراءاتها.
تكمن المخاوف حول الفساد في صلب الاضطرابات السياسية في عموم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فكانت المحرّك الرئيسي لثورات الربيع العربي والمحفّز الأول للاحتجاجات التي شهدها العراق ولبنان والسودان في العام 2019. وفي العام 2022، قالت منظمة الشفافية الدولية، وهي من أبرز المنظمات غير الحكومية المعنية بمكافحة الفساد عالمياً، إنّ الفساد أجّج الصراعات المستمرّة في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.1
عملياً، تحتلّ منطقة الشرق الأوسط مرتبة متوسّطة على مؤشرات مكافحة الفساد. ففي المعدّل العام، تتقدّم المنطقة على أفريقيا جنوب الصحراء وأوروبا الشرقية والوسطى، وتتعادل مع جنوب آسيا، لكنها تتأخّر عن أمريكا اللاتينية ومنطقة آسيا – المحيط الهادئ. غير أنّ هذا المعدّل يخفي في طيّاته تفاوتاً كبيراً بين دول المنطقة. ففي حين احتلّت الإمارات العربية المتحدة المرتبة 26 على مؤشر مدركات الفساد لعام 2023 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، حلّ اليمن وسوريا في أسفل القائمة في المرتبتين 176 و177 على التوالي.2
ما مدى انسجام منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع بقية أرجاء العالم في ما يتعلّق بالترابط بين المؤشرات الاقتصادية ومؤشرات الحوكمة والسيطرة على الفساد؟ وهل تسير المنطقة وفق الاتجاهات العالمية أم تسلك مساراً مختلفاً؟ يتناول هذا الموجز هذه الأسئلة من منظور عملي، بالاستناد إلى بيانات مؤشرات الحوكمة العالمية (WGI) للفترة من 2000 إلى 2020.
يستند هذا التحليل إلى قاعدة بيانات مؤشرات الحوكمة العالمية،3 وهو مؤشّر مركّب يرتكز على أكثر من ثلاثين مصدر بيانات مختلف،4 يعتمد أغلبها على استطلاعات الرأي، مثل “الباروميتر الأفريقي” (Afrobarometer) واستطلاع الباروميتر العالمي للفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية واستطلاع “غالوب” العالمي (Gallup World Poll)، فيما يعتمد البعض الآخر على تصنيفات الخبراء، مثل “فريدوم هاوس” (Freedom House) ومؤشر النزاهة الدولية.
يرى بعض النقّاد أنّ مؤشرات الحوكمة العالمية وغيرها من مؤشرات الفساد الدولية تفتقر إلى الشفافية ويتعذّر مقارنتها مع مرور الوقت، بالإضافة إلى أنّها متحيّزة في اختيار البيانات، وغالباً لا تقدّم حلولاً ملموسة للدول حتى تحسّن أداءها.5 وقد اعتبر آخرون أنّ هذه المؤشرات ليست مستقلّة تماماً عن بعضها البعض، ما يجعلها عرضةً للتداخل الخطّي،6 ما يقلّل بالتالي من قدرتها على التنبؤ (على الرغم من توفّر تقنيات إحصائية لمعالجة هذه التحديات).7 مع ذلك، تُستخدم هذه المؤشرات منذ 25 عاماً ويقبلها الخبراء والباحثون كأحد أهمّ قواعد البيانات المقارنة بين الدول من أجل مراقبة السيطرة على الفساد.8
يعرض الرسم البياني 1 المعدّل الإقليمي للنتائج التي سجّلتها مؤشرات الحوكمة العالمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مدى العقد الماضي، مع تقسيم المنطقة إلى دول نفطية وغير نفطية. كما يقارن الأداء الإقليمي بأداء الدول ذات الدخل المرتفع والدخل المتوسط الأعلى والدخل المتوسط الأدنى والدخل المنخفض، على مستوى العالم.
الرسم البياني 1
معدّل السيطرة على الفساد حسب مؤشرات الحوكمة العالمية لكلّ مجموعة من الدول
بشكل عام، ينسجم معدّل السيطرة على الفساد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع أداء الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى، مع فارق أنّ الأخيرة تمكّنت من تحسين تصنيفها إلى حدّ ما في خلال السنوات العشرين الماضية، في حين تراجع أداء دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وإذا ما استثنينا الأردن الذي يتفوّق في قضايا مكافحة الفساد، يمكن تقسيم النتائج المحقّقة على صعيد مكافحة الفساد إلى ثلاث فئات. تضمّ الفئة الأولى الدول النفطية، التي تحقّق أداءً أفضل بكثير من نظيراتها ذات الدخل المتوسط الأعلى، لكنّها لا ترقى إلى مستوى الدول مرتفعة الدخل. أمّا الفئة الثانية، فتشمل الدول غير النفطية، التي كانت في بداية الألفية تحقّق نتائج أفضل من الدول ذات الدخل المتوسط الأدنى لناحية السيطرة على الفساد، إلّا أنّ معدّلاتها تراجعت بعد ذلك حتى أصبحت متعادلة تقريباً مع الدول ذات الدخل المنخفض. وتشمل الفئة الثالثة الدول في الصراعات، والتي سنتناولها أدناه.
في هذا التحليل، قمنا بدراسة بيانات تغطّي الفترة بين 2000 و2020 لتحديد العوامل الرئيسة المؤثّرة في السيطرة على الفساد على مستوى العالم.10 وقد اختبرنا أربعة نماذج محتملة من المتغيّرات التنبؤية للوصول إلى النموذج الأمثل للتنبؤ بمستويات السيطرة على الفساد. اعتمدت ثلاثة من هذه النماذج على مؤشرات أخرى داخلة ضمن مؤشرات الحوكمة العالمية، وهي فعالية الحكومة، وحرية التعبير والمساءلة، والاستقرار السياسي.
11 اعتمدنا في تحليلنا على نماذج الإنحدار التي تستند إلى تأثيرات ثابتة وأخرى عشوائية، ثمّ استخدمنا اختبار “هاوسمان” لتحديد النموذج الأكثر ملاءمة لبياناتنا. شمل التحليل ثماني مجموعات مختلفة من الدول: جميع الدول، الدول منخفضة الدخل، الدول ذات الدخل المتوسط الأدنى، الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى، الدول مرتفعة الدخل، دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، دول مجلس التعاون الخليجي (دول الشرق الأوسط المنتجة النفط)، ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا غير المنتجة للنفط.
يُعدّ مؤشر فعالية الحكومة مقياساً مركّباً يقيّم جوانب متعدّدة من أداء القطاع العام، بدءاً من تقييم جودة البيروقراطية وصولاً إلى معايير قطاعية محدّدة مثل انتشار المدارس الرسمية وتوافر الخدمات الصحية الأساسية ومرافق المياه والصرف الصحي.12 أمّا مؤشّر حرية التعبير والمساءلة، فيركّز على الحوكمة الديمقراطية، ويتناول قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات المدنية، بالإضافة إلى الشفافية في الإدارة المالية وموثوقية الإحصاءات الاقتصادية والمالية.13 ويشمل مؤشّر الاستقرار السياسي جوانب متعدّدة من العنف السياسي، بما فيها الإرهاب.14 كما أخذنا في الاعتبار متغيّراً رابعاً، وهو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، انطلاقاً من فرضية أنّ الدول الأكثر ثراءً قادرة على استثمار المزيد من الموارد في تعزيز قدرات إدارتها العامة، بما في ذلك مؤسسات المساءلة، ما يمنحها قدرة أكبر على مكافحة الفساد.15
وقد أظهر تحليل الانحدار أنّ مؤشرَيّ فعالية الحكومة وحرية التعبير والمساءلة كانا الأكثر ارتباطاً بالسيطرة على الفساد عالمياً (انظر الجدول 1). يُلاحظ أنّ هذا النمط ينطبق على جميع الدول باستثناء الأكثر ثراءً، حيث برز مؤشر فعالية الحكومة بمفرده كأقوى وسيلة للتنبؤ بمستويات السيطرة على الفساد.
في الدول ذات الدخل المنخفض والدخل المتوسط الأدنى، كان التأثير الأكبر في السيطرة على الفساد للمزيج الثلاثي المؤلّف من فعالية الحكومة وحرية التعبير والمساءلة والاستقرار السياسي. واللافت أنّ هذا الارتباط كان أكثر وضوحاً في الدول منخفضة الدخل (مع معامل تحديد R²=0.40 ) مقارنة بالدول ذات الدخل المتوسط الأدنى (معامل تحديد R²=0.62 ). قد يشير ذلك إلى أنّ غياب العنف السياسي يؤثّر في الدول ذات الدخل المنخفض أكثر من الدول الأكثر ثراءً في ما يتعلق بمسألة السيطرة على الفساد.
الجدول 1: نتائج تحليل الإنحدار
مجموعة الدول | المتغيّرات التنبؤية التي تفضي إلى النموذج الأفضل | معامل التحديد |
كلّ الدول المدرجة على مؤشرات الحوكمة العالمية | فعالية الحكومة، حرية التعبير والمساءلة | 0.69 |
الدول منخفضة الدخل | فعالية الحكومة، حرية التعبير والمسائلة، الاستقرار السياسي | 0.62 |
الدول ذات الدخل المتوسط الأدنى | فعالية الحكومة، حرية التعبير والمسائلة | 0.40 |
الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى | فعالية الحكومة، حرية التعبير والمسائلة | 0.54 |
الدول ذات الدخل المرتفع | فعالية الحكومة | 0.62 |
الشرق الأوسط وشمال أفريقيا | فعالية الحكومة، الناتج الإجمالي المحلي للفرد، الاستقرار السياسي | 0.89 |
الدول المنتجة للنفط في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا | فعالية الحكومة، الناتج الإجمالي المحلي للفرد | 0.74 |
الدول غير المنتجة للنفط في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا | فعالية الحكومة | 0.74 |
وقد كشفت النتائج التي توصّلنا إليها عن نمط يشير إلى أنّ الدول الأفقر دائماً ما تسجّل مستويات منخفضة من السيطرة على الفساد، بينما تظهر الدول الأكثر ثراءً تبايناً أكبر في هذا المجال. وكلّما ارتقينا في سلّم مجموعات الدخل، يرتفع معدّل السيطرة على الفساد ومعه الانحراف المعياري (انظر الجدول 2). يشير ذلك إلى أنّ الفروقات في السيطرة على الفساد كانت أكبر بين الدول الغنية، ما يعكس درجة أعلى من عدم الاتساق في جهودها لمكافحة الفساد. في المقابل، بدت هذه الفروقات أقلّ وضوحاً في الدول الأفقر، ما يعكس نمطاً أكثر اتساقاً في تدنّي مستويات السيطرة على الفساد.
مستويات الفساد والتباين حسب فئات الدخل
مجموعة الدول | معدّل السيطرة على الفساد | الانحراف المعياري |
الدول منخفضة الدخل | -0.85 | 0.44 |
الدول ذات الدخل المتوسط الأدنى | -0.61 | 0.55 |
الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى | -0.29 | 0.62 |
الدول مرتفعة الدخل | 1.1 | 0.74 |
في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل عام، تبرز فعالية الحكومة والناتج المحلي الإجمالي للفرد كأفضل مؤشّرين للتنبؤ بمستويات السيطرة على الفساد، بينما بدا تأثير الاستقرار السياسي متواضعاً نسبياً. وينطبق هذا النمط أيضاً على دول المنطقة المنتجة للنفط. بالتالي، يمكن الاعتماد على فعالية الحكومة والناتج المحلي الإجمالي كدلالتين على مستويات أوسع من التنمية المؤسّسية، ما قد يفسّر ارتباطهما بتحقيق نتائج أفضل في مجال السيطرة على الفساد.
أمّا بالنسبة إلى الدول غير المنتجة للنفط في المنطقة، فقد أظهرت فعالية الحكومة وحدها التأثير الأكبر على التنبؤ بمستويات السيطرة على الفساد. وعلى الرغم من أنّ هذه النتائج لا تثبت وجود علاقة سببية، إلّا أنّها تشير إلى أنّ فعالية الحكومة وحرية التعبير والمساءلة ترتبط بشكل وثيق بأداء أفضل في مكافحة الفساد في معظم دول العالم. قد يعني ذلك أنّ هذين المؤشرين مؤثّران فعلاً، أو أنّ الحكومات القادرة على السيطرة على الفساد هي أيضاً أكثر كفاءة في بناء البنى التحتية واحترام حقوق مواطنيها.
تختلف منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عن الاتجهات العالمية بشكلٍ ملحوظ في مجالَين. أولاً، تتميّز المنطقة بضعف تأثير مؤشر حرية التعبير والمساءلة من حيث المساهمة في السيطرة على الفساد. فدول المنطقة التي تبلي أفضل على كافة صعد مكافحة الفساد، مثل دول مجلس التعاون الخليجي، تصنّف كدول سلطويّة وفقاً لتقييم “وحدة استخبارات الإكونوميست” أو دول “غير حرّة” وفق “فريدوم هاوس”.
وهذا ليس بمفاجئ نظراً لأداء المنطقة الضعيف تاريخياً على صعيد المؤشرات التقليدية للحوكمة الديمقراطية، وهو موضوع تمّ توثيقه وتحليله على نطاق واسع على مرّ عقود.18
وبحسب مؤشرات الحوكمة العالمية (الرسم البياني 2)، فإنّ منقطة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتخلّف كثيراً عن مناطق أخرى في العالم لجهة حرية التعبير والمساءلة. وكان تقرير “فريدوم هاوس” للحرية العالمية لعام 2023، صنّف أربع دول عربية فقط على أنّها “حرّة جزئياً” (وهي الكويت ولبنان والمغرب وتونس)، فيما صنّف كلّ الدول العربية الأخرى على أنّها “غير حرّة”.19
الرسم البياني 2:
مؤشر حرية التعبير والمساءلة وفقًا لمؤشرات الحوكمة العالمية (الترتيب حسب النسبة المئوية)
المصدر: استند المؤلّفون في حساباتهم إلى بيانات حرية التعبير والمساءلة وفقاً لمؤشرات الحوكمة العالمية عن الفترة الممتدة من 2011 إلى 2021.20
نظراً لضعف الترابط بين الديمقراطية والفساد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مقارنة ببقية أرجاء العالم، يفتقر المواطنون إلى أداة حيوية لمحاسبة قياداتهم السياسية. يعني ذلك أنّهم غير قادرين على الإطاحة بحكّامهم في حال تفشي الفساد السياسي لدرجة لا تطاق، ما يحدّ من خياراتهم ويزيد من شعورهم بالإحباط، ما قد ينفجر في الشارع في نهاية المطاف. وفي واقع الأمر، كان الفساد أحد الأسباب المباشرة لثورات الربيع العربي، والمحفّز الرئيسي للاضطرابات التي شهدها كلّ من العراق ولبنان والسودان في 2019 التي أدّت إلى الإطاحة بالرئيس السوداني عمر حسن البشير بعد أن أرسى حكماً سلطوياً في السودان لفترة طويلة.
ولكن حتى في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تشهد انتخابات حرّة ونزيهة إلى حدّ ما، فإنّ هذه المعادلات ليست بسيطة. يتّسم المشهد السياسي ما بعد الربيع العربي بالتفكّك الشديد ويفتقر لأسس واضحة لصنع سياسات مستقرّة.21
في لبنان، على سبيل المثال، بقي النظام الطائفي وما يرتبط به من زبائنية قائماً على الرغم من الغضب الشعبي الواسع الذي أعقب انفجار مرفأ بيروت والانهيار الاقتصادي الذي عصف بالبلاد. في العراق، انحسرت تظاهرات “تشرين” (أكتوبر) بعد أن أجبرت رئيس الوزراء على الاستقالة، فيما بقي النظام السياسي القاصر الذي نشأ بعد الغزو على حاله.22
وغالباً ما تتفوق الانتماءات الطائفية أو المذهبية أو القبلية على الاهتمامات الأوسع المتعلّقة بالفساد في أذهان الناس.
الاستنتاج الثاني الذي يمكن استخلاصه من هذا التحليل هو أنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تتميّز بعلاقة عكسية بين الاستقرار السياسي والسيطرة على الفساد، كما يبيّنه الرسم البياني 3 أدناه. وعلى الرغم من أنّ الترابط بين ارتفاع معدلات العنف السياسي وارتفاع معدلات الفساد موجود في الدول منخفضة الدخل حول العالم، إلّا أنّه أقوى بكثير في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
الرسم البياني 3:
الترابط بين عدم الاستقرار السياسي والسيطرة على الفساد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
هذا الاستنتاج ليس بمفاجئ، فالدول التي تشهد حروباً أهلية أو عنفاً طائفياً مزمناً تواجه صعوبة في تخصيص الموارد المالية والسياسية اللازمة لتطوير مؤسّسات رقابية قوية، أو حتى لمراقبة المسؤولين في السلطة. إذ تُصنّف الدول التي تحلّ في المراتب الأخيرة على قائمة مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، مثل العراق ولبنان وليبيا وسوريا واليمن، كذلك على أنّها دول هشّة أو معرّضة للصراعات. فالتهديد المستمرّ بالعنف الجسدي يصعّب على الموظفين الحكوميين تطبيق القوانين بشكل عادل ونزيه. وتتفاقم هذه المشكلات في ظلّ حكومات ضعيفة وتحالفات هشّة، حيث يسعى المشاركون في الائتلافات الحكومية لتحقيق مكاسب مقابل مشاركتهم، ويمكنهم إسقاط الحكومة في حال قرّروا ذلك.
يؤكّد هذا التحليل أنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تشذّ عن الاتجاهات العالمية في عددٍ من النواحي المهمّة. فسواء على الصعيد العالمي أو الإقليمي، يبدو أنّ الدول الأقدر على محاربة الفساد هي التي تتمتّع بفعالية حكومية أكبر وناتج محلّي إجمالي أعلى للفرد. ويبدو أنّ الدول التي تشهد حروباً وتعاني ضعفاً في مؤسّساتها، تسجّل أداءً أسوأ سواء كان ذلك في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو خارجها، وهذا بحد ذاته مشكلة بالنظر إلى كثرة الدول التي تشهد صراعات في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، تختلف المنطقة عن بقية العالم في نواحٍ متعدّدة أخرى. فغالباً ما يُعتَبر ارتفاع مستويات الشفافية والمساءلة أداة مهمة للحدّ من مستويات الفساد بشكل عام. لكن مع تراجع المعايير الديمقراطية في عموم المنطقة، من المرجّح أن توجّه جهود محاربة الفساد بمعظمها على مدى العقد المقبل نحو التحسينات القانونية والتكنوقراطية على مستوى القدرات الإدارية بدلاً من الدفع نحو تحسين المساءلة العامة أو البرلمانية.24
بالنسبة إلى الكثيرين الذين كانوا يأملون أن يُظهر الربيع العربي تقدّماً ملموساً نحو المساءلة العامة وسيادة القانون، سيكون هذا الاستنتاج مخيّباً للآمال.
وتبدو مجموعات متنوّعة من التحسينات التكنوقراطية واعدةً، وسبق أن نُفّذت بنجاح في المنطقة. من أبرز هذه التحسينات الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات وإعادة هندسة العمليات التجارية لتبسيط إجراءات تقديم الخدمات. ويمكن أن تساهم هذه الأساليب في الحدّ من تعقيد تقديم الخدمات وتقليل الحاجة لدفع مبالغ “لتسريع” المعاملات أو تيسيريها. على سبيل المثال، اعتمدت دولة الإمارات العربية المتحدة، في سعيها لأن تصبح مركزاً تجارياً، برنامجاً صارماً لتبسيط التخليص الجمركي وغيره من العمليات التجارية. وهي تحتل الآن المرتبة الثانية عشرة عالمياً على مؤشر البنك الدولي لأداء الخدمات اللوجستية لعام 2023، خلف السويد مباشرة ومتقدّمة على اليابان وإسبانيا والولايات المتحدة.25
كما أنشأت دول مثل مصر مرافق لإجراء جميع المعاملات في مكان واحد بهدف تسريع الموافقات على الاستثمارات، ما ساهم بشكل كبير في الحدّ من التأخير في معالجة الملفات والقضاء على الاستنسابية الإدارية – ومعه الرشوة أو المحسوبية.26
أمّا الأردن، فقد اتّخذ خطواتٍ جذرية لإعادة هيكلة إجراءات جوازات السفر وإدارة الوثائق الداخلية وتبسيطها وتحديثها، ما أسهم في تقليص أوقات الانتظار بشكل كبير وزيادة احترافية الخدمة.27
وقد جاءت جهود إعادة الهندسة هذه بالتوازي مع دفعٍ كبير نحو رقمنة الخدمات وتوفيرها على الإنترنت، ما يمكن أن يعزّز الشفافية ويحسّن تقديم الخدمات. ذلك أنّ الإجراءات الغامضة وغير الشفّافة هي بحد ذاتها دعوة إلى الفساد. احتلّت دولة الإمارات العربية المتحدة، وتحديداً دبي، الصدارة العالمية مرّة أخرى في الدفع نحو طرح حلول الحكومة الإلكترونية في جميع أنحاء القطاع العام. فكانت دبي رائدة في اعتماد الحكومة الإلكترونية وواظبت عليها على مدى السنوات العشرين الماضية، حتى بات لديها اليوم أكثر من 250 خدمة حكومية وخاصة يقدّمها 35 كياناً مختلفاً متاحة من خلال تطبيق “DubaiNow”.28
وتحتلّ دبي المرتبة الخامسة عالمياً في جهود الحكومة الإلكترونية البلدية وفقاً لمسحٍ أجرته إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة (UNDESA) لعام 2022 للحوكمة الإلكترونية، متقدّمة على سنغافورة وشنغهاي.29
أمّا الناحية الثالثة التي تشتدّ فيها الحاجة إلى الإصلاحات التكنوقراطية، فهي التنظيم وسياسة المنافسة. في العام 2009، أصدر البنك الدولي دراسة حول النمو الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعنوان: From Privilege to Competition: Unlocking the Keys to Economic Growth in MENA. وبحسب التقرير، قال نحو 60 في المئة من المسؤولين الحكوميين الذين تمّت مقابلتهم من جميع أنحاء المنطقة إنّ القطاع الخاص في بلدانهم يسعى إلى الربح الشخصي ويتفشّى فيه الفساد.30
ونتيجة لذلك، شهدت المنطقة ركوداً في معدّلات الاستثمار الخاص مقارنة بالمناطق الأخرى، إلى جانب انخفاض تنويع الصادرات، وهيمنة الشركات القديمة، والمنافسة المحدودة.31
مع ذلك، خلص التقرير إلى أمر مهمّ، هو أنّ حكومات المنطقة أجرت عدداً من الإصلاحات الحيوية لتيسير النموّ بقيادة القطاع الخاص – وهو الاتجاه الذي ساد خلال العام الأخير من تقرير البنك الدولي حول ممارسة الأعمال عام 2020، عندما كانت أربع دول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا32من ضمن أكبر عشر دول إصلاحية على مستوى العالم.33
ولكنّ وجدت دراسة البنك الدولي أيضاً أنّ تأثير تلك الإصلاحات كان أقلّ بكثير ممّا أنتجته إصلاحات مشابهة في البلدان ذات النموّ المرتفع التي سجّلت مستوى أعلى من الاستثمارات الخاصة. وبحسب عدد كبير من الشركات في مختلف أنحاء المنطقة، فإنّ القواعد واللوائح لا تُطبَّق بشكل عادل ومتّسق.34
وقد خلص التقرير إلى أن حالة عدم اليقين في السياسات والتنفيذ غير المتكافئ للوائح يشكّلان أبرز العوائق التي تقيّد تطوّر الأعمال، ويعثّران بالتالي الجهود الرامية إلى تحقيق المزيد من التنوّع الاقتصادي التي في قلب الكثير من إستراتيجيات التنمية الإقليمية. إلى ذلك، تتنوّع أساليب الإقصاء والاستغلال الاقتصادي، إذ تكون فاضحة وخافتة في الوقت نفسه. فهي تشمل وضع حواجز تنظيمية تعرقل دخول السوق، وممارسة الضغوط الرامية إلى ضم أفراد معيّنين إلى مجالس الإدارة أو تعيين شركاء صامتين أو محاباة بعض الشركات المتنفّذة عبر تسهيل استفادتها من الأراضي أو التخليص الجمركي، وتفضيلها في المشتريات الحكومية؛ إلى جانب ممارسة الضغوط غير المباشرة على أطراف أخرى مثل تجميد الحسابات المصرفية وتعليق التأشيرات. وسيكون الإنتقال نحو إطار تنظيمي أكثر شفافية وعدالة وقابلية للتنبؤ التحدّي الكبير المقبل في مجال الحوكمة في الكثير من دول المنطقة.
ومن أولويات الإصلاحات التكنوقراطية أيضاً مسألة غسيل الأموال والتحويلات غير القانونية للأصول – وهي مجالات بقيت على رأس أولويات عدد من دول المنطقة طوال عقود، وذلك لدورها في استشراء الفساد وتمويل الإرهاب. تتغيّر صورة المنطقة بحسب المؤشرات العالمية، مثل مؤشر “بازل” لمكافحة غسل الأموال (Basel Anti-Money Laundering Index). ذلك أنّ تقييم مؤشر “بازل” لعام 2022 يكشف عن صورة تتعارض إلى حدّ ما مع التصنيفات العالمية لمكافحة الفساد مثل مؤشرات الحوكمة العالمية ومؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية.35
تسجّل تونس والمغرب والبحرين والأردن ومصر وقطر جميعاً نتائج أفضل من المعدّل العالمي بحسب المؤشر. من ناحية أخرى، سجّلت الإمارات العربية المتحدة نتائج ضعيفة، حيث جاءت في المرتبة ما قبل الأخيرة بين الدول المصنّفة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفي أدنى 40 في المئة على مستوى العالم، على الرغم من الخطوات التي اتّخذتها مؤخّراً لتحسين أدائها في هذا المجال.36
وبعيداً عن هذه الإصلاحات التكنوقراطية، تندرج مجالات متعدّدة تحت الإطار الأوسع لحرية التعبير والمساءلة حيث ما زال من الممكن تحقيق التقدّم. ومن أبرز هذه المجالات هي الشفافية، حيث تقبع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خلف كثير من المناطق الأخرى. فقوانين الحقّ في الحصول على المعلومات معتمدة في ستّ دولٍ فقط (الأردن والكويت ولبنان والمغرب وتونس واليمن)، ولكنّ فعاليتها غالباً ما تكون أقلّ بكثير من المعايير العالمية.37
وتنتمي ثلاث دول إقليمية فقط، الأردن والمغرب وتونس، إلى “شراكة الموازنة المفتوحة”.38
وحتى دول مثل الإمارات العربية المتحدة39 قد تفشل في الكشف عن بعض أنواع البيانات الاقتصادية والاجتماعية والمالية الروتينية.40
بيد أنّ عملية الإبلاغ عن الفساد غالباً ما تختلف في أنحاء المنطقة. فبعض هيئات مكافحة الفساد الوطنية تصدر تقارير سنوية مفصّلة وشاملة، كما هو حال العراق والأردن والكويت.41
في المقابل، تكتفي هيئات أخرى بتقديم معلومات جزئية، بينما لا تقدّم هيئات أخرى أي معلومات على الإطلاق. ولذلك، من شأن تعزيز تقارير البيانات المتعلّقة بالموظفين والميزانيات وعمليات هذه الهيئات أن يمكّن الحكومات ومواطنيها من تقييم الأداء ومعالجة المشاكل المزمنة بشكل أفضل.
ولكي تتمكّن المنطقة من إحراز تقدّم على صعيد جماعي، لا بدّ من معالجة مشكلة الفساد في الدول الهشّة، وهو ما يُعتبر واحداً من أصعب التحديات التي تعرقل جهود مكافحة الفساد على مستوى العالم. ولوقت طويل، كان الباحثون والعاملون في هذا المجال يميلون إلى الابتعاد عن التطرّق إلى مسألة الفساد في هذه السياقات، فيضعوها في المركز الثاني على سلّم الأولويات بعد السلام والأمن. إلّا أنّ الدلائل تشير إلى تغيّر هذه النظرة، وتزايد إدراك صعوبة إحراز تقدّم في تسوية الصراعات في ظلّ استشراء الفساد.42
وعلى مدى العقد الماضي، بُذلت جهودٌ لتطوير دروس مكافحة الفساد وتنسيقها في الدول التي تعاني هشاشة شديدة.43
ولكن هذا العمل يبقى قيد التنفيذ، وسيكون من المفيد بذل الجهود النوعية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لفهم المشاكل الفريدة التي تتفشى في الدول الهشّة والأماكن التي نجحت فيها هذه الخطوات في السياقات المذكورة. ولكنه من المُستَبعد التوصّل إلى حلّ “واحد يناسب الجميع”، بالنظر إلى أنّ عدداً من هذه الدول يواجه تحدياته الخاصة على المستويين المؤسسي والاقتصادي السياسي.
توفّر لنا المقاربات المبيّنة أعلاه، مجتمعةً، طريقاً واقعياً للمضي قدماً بما يتماشى مع تطلّعات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فضلاً عن ديناميات الاقتصاد السياسي الأساسية في عدد من البلدان العربية. ومن شأن تنفيذ هذه المقاربات بعناية ومنهجية أن يحسّن من أداء البلدان ويعكس التصوّر القائل بأنّ حكومات عربية متعدّدة44
ليست جادة في مكافحة الفساد.45
الشكر والتقدير:
يتقدّم المؤلّفون بالشكر إلى بول داير ونادر القبّاني وأندرو ليتزكوس على إسهاماتهم في إعداد الورقة البحثية. والشكر موصول أيضاً إلى فرانشيسكا ريكاناتيني على مراجعتها البحث وتعليقاتها القيّمة.