الثقة في القوات المسلّحة عالية بشكل مدهش في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: على الرغم من تورّط المؤسسة العسكرية في الانقلابات والصراعات والتدخّلات السياسية والتجاوزات الاقتصادية في المنطقة، إلّا أنّ المواطنين الذين شملهم الاستطلاع بغالبيتهم أعربوا عن ثقتهم العالية في الجيش أكثر منها بكثير في المؤسسات الوطنية الأخرى.
الثقة في القوات المسلّحة تعكس خيبة الأمل في السياسة والحاجة إلى الاستقرار: يعكس تصنيف القوات المسلّحة في مرتبة عالية، بالإضافة إلى غياب الثقة الشعبية في البرلمانات والحكومات، إلى نوعٍ من الإجهاد تجاه إشكالية الحوكمة. وفي الوقت نفسه، تشير الثقة الكبيرة في الجيوش في صفوف أولئك الذين يشعرون بالأمان إلى اعتبار المؤسّسة العسكرية على أنّها قوة ضامنة للاستقرار.
السلامة والأيديولوجيا والعوامل الاقتصادية تفسّر ثقة الشعوب في القوات المسلّحة: إلى جانب السلامة الشخصية، تؤدّي الأيديولوجيا دوراً مهماً، حيث يُظهر المحافظون مستويات عالية من الثقة فيما يُظهر الإسلاميون مستويات أقل. بالإضافة إلى ذلك، تنعكس الثقة في المؤسسات السياسية والانتماء إلى الطبقات الإجتماعية الدنيا إيجابياً على الثقة في الجيش، على الرغم من اختلاف ذلك مع اختلاف نوع النظام.
القوات المسلّحة تحظى بثقة أنصار الديمقراطية: تشير هذه النتيجة المفاجئة في البلدان التي يقودها المدنيون إلى أنّ الكثيرين لا يرَون تعارضاً بين الثقة في الجيش ودعم الديمقراطية. ويتّسق ذلك مع الدعم المتزايد لسلطة تنفيذية قوية في صفوف مواطني المنطقة في وجه تدهور الأداء الحكومي والنتائج الاجتماعية والاقتصادية.
تشهد المؤسسة العسكرية نهضةً حول العالم في الوقت الذي تزداد فيه ثقة المواطنين في القوات المسلّحة – حتى في المناطق التي شهدت تاريخاً من التدخّل العسكري أو الهيمنة العسكرية. وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تتمتّع النخب العسكرية بقدر كبير من السلطة السياسية والاقتصادية، أظهرت استطلاعات للرأي بين العامين 2021 و2022 أنّ نحو 70 في المئة من المواطنين الذين شاركوا فيها لديهم ثقة كبيرة في القوات المسلّحة.1 وتتجاوز هذه النسبة مستويات الثقة في المسؤولين المنتخَبين والمجتمع المدني ووسائل الإعلام.
لقد أثبتت الأحداث مجدداً مركزيّة القوات المسلّحة في السياسة واستقرار الأنظمة في أعقاب الانتفاضات العربية والتطورات اللاحقة. في الواقع، حدّد دعم الجيش للمرحلة الانتقالية أو الوضع الراهن معالمَ مسار الأحداث في الكثير من البلدان.2 ففي تونس مثلاً، أدّى قرار قيادة الجيش بعدم دعم الرئيس زين العابدين بن علي إلى الإطاحة به. وفي الوقت نفسه، سهّل التزامها بالسلطة المدنية بعد العام 2011 لعملية انتقالية سلسة نسبياً. أمّا في سوريا، فقد ساهم ولاء الجيش السوري لنظام الرئيس بشار الأسد سبباً في إشعال حرب أهلية وحشية استمرّت لأكثر من عقد من الزمن وأسفرت عن دمار شامل وأزمات إنسانية. ونتيجة لذلك، أصبحت جيوش منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في قلب مناقشات السياسات والتغطية الإعلامية. وقد تمحور هذا الخطاب بصورة أساسية حول دور النخب العسكرية في السياسة،3 في حين أولِي القليل من الاهتمام للشعوب وللثقة العالية المتناقضة التي تضعها في هذه المؤسسة مبهمة المعالم.4
يقدّم موجز القضية هذا تحليلاً لبيانات استطلاعات الرأي للتعمّق في العلاقات بين المؤسّسة العسكرية والمجتمع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويبدأ بدراسة دور الجيش في العصر الحديث، مع التركيز على أنماط التدخّل السياسي والاقتصادي. ثم يستكشف البيانات المتعلّقة بالثقة في القوات المسلّحة في تسعة بلدان في المنطقة، ويحدّد الخصائص التي تجعل المواطنين يثقون فيها أكثر أو أقل. وبناءً على هذه النتائج، يقدّم الموجز وجهات نظر حول الديناميات الأوسع للحوكمة والاستقرار والمشاعر العامة في المنطقة.
من المفاجئ أن تكون الثقة في الجيش عالية، لا سيّما وأنّ تاريخ الجيوش في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مليئ بالانقلابات على الحكومات، وعرقلة التحوّلات، وقمع المواطنين، والانتهاكات الاقتصادية. لقد شوّهت الممارسات القمعية المظلمة سمعة الجيش في المنطقة حيث نُشر الجنود بشكل متكرّر لقمع الاحتجاجات الشعبية. على سبيل المثال، في خلال انتفاضات العام 2011 والحرب الأهلية اللاحقة في سوريا، ارتكبت القوات العسكرية انتهاكات لحقوق الإنسان، بما في ذلك القتل خارج نطاق القانون والتعذيب.5 وفي السودان، وبعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير في العام 2019، نُشر عناصر الجيش لتفريق المتظاهرين المؤيّدين للديمقراطية، ما أسفر عن أعمال عنف ووقوع إصابات وضحايا.6 أمّا في العراق، فقد قام الجنود بقمع المتظاهرين بوحشية في خلال انتفاضة الشيعة والانتفاضة الكردية في العام 1991، ما أدّى إلى سقوط ضحايا ونزوح على نطاق واسع.7
المواطنون ليسوا وحدهم عرضة للخطر، بل الحكومات على حدّ سواء. فقد قامت فصائل عسكرية في معظم دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بانقلاب واحد على الأقل منذ العام 1945 (انظر الرسم البياني 1).8 وقد أدّت هذه الأحداث إلى زعزعة استقرار الحكومات وقوّضت الجهود الرامية إلى إقامة أنظمة حكم ديمقراطية في المنطقة. حدث عدد من الانقلابات بعد وقت قصير من حصول الدول على استقلالها، ما أدّى إلى إنشاء أنظمة عسكرية حكمت لعقود. وتشمل الأمثلة البارزة على ذلك الإطاحة بالنظام الملكي المصري في العام 1952 على يد حركة الضباط الأحرار، وانقلاب العام 1963 الذي قام به حزب البعث في سوريا، وثورة الفاتح في العام 1969 التي قادها معمر القذافي في ليبيا.9
وأطاحت انقلابات أخرى بالحكم الديمقراطي، كما حدث في السودان في العامين 1969 و10.1989 وأوقفت هذه الأحداث التقدّم الديمقراطي وأطالت السلطوية وخلق اضطرابات في جميع أنحاء البلاد لا تزال مستمرّة حتى يومنا هذا. حتى الانقلابات الفاشلة في المنطقة كان لها تداعيات كبيرة. على سبيل المثال، أدّى انقلابان فاشلان في المغرب في أوائل السبعينيات إلى العقود الأكثر قمعاً في حكم الملك الحسن الثاني،11 فيما تسبّبت محاولات إنقلاب متعدّدة ضد القذافي في العام 1975 إلى تبنّي إستراتيجية تهميش الجيش12 استمرّت لعقود.
ملاحظة: يوضح الرسم البياني 1 عدد محاولات الانقلابات والتآمرات والانقلابات الناجحة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من العام 1945 إلى العام 2022. ويستثني الأحداث التي قادتها قوى أجنبية.
وكثيراً ما تدخّل قادة عسكريون في السياسة من خلال عرقلة العمليات السياسية ودعم الأنظمة المتنازع عليها. ففي السودان، عرقل القادة العسكريون عملية الانتقال السياسي في العام 2021، ما أدّى إلى حرب أهلية وصراع مسلّح مستمرّ.14 وعلى نحو مماثل، أوقفت قيادة الجيش الجزائري ثورة استمرّت لسنوات في العام 2019 ودعمت رئاسة عبد المجيد تبون.15 وقبل عقود من ذلك، ألغى الجيش الانتخابات الحرّة التي كان من المقرّر أن تودي بحزب إسلامي إلى السلطة، ما تسبّب بحرب أهلية استمرّت لعقد من الزمن.16 وفي مصر، استلم القادة العسكريون السلطة في العام 2013 بعد الإطاحة بأوّل رئيس منتخَب ديمقراطياً، وما زالوا في السلطة حتى اليوم.17
وبعيداً عن السياسة، يمكن القول إنّ النخب العسكرية قد مكّنت الفساد والمحسوبية في مختلف البلدان واستفادت منها.18 ففي مصر، على سبيل المثال، أنشأ الجيش إمبراطورية اقتصادية كبيرة تضمّ قطاعات متعدّدة مثل البناء والتصنيع والزراعة والسلع الاستهلاكية.19 وتيسّر هذا الأثر الاقتصادي من خلال شبكة واسعة من الشركات والمؤسسات التي تتلقّى معاملة تفضيلية وعقوداً حكومية، ما يمنحها ميزة تنافسية على الشركات الخاصة. وتستفيد النخب العسكرية الجزائرية من الاقتصاد الريعي من خلال التفاوض مع الشخصيات السياسية والإدارية. ونتيجة لذلك، فهي تتلقّى معاملة تفضيلية في المشاريع العقارية، والالتزامات الضريبية، والإجراءات البيروقراطية.
بالإضافة إلى ذلك، تشير التقارير إلى أنّ الجهات الفاعلة العسكرية تستفيد من عمليات التهريب في المناطق الحدودية، وتحديداً تلك التي لا تستطيع وكالات إنفاذ القانون الوصول إليها.20
ويمكن أن تترتّب تداعياتٌ كارثية على تدخّل الجهات الفاعلة العسكرية بالاقتصاد. ففي ليبيا ما بعد العام 2014، تنافست ميليشيات قوية ومجموعات مسلّحة وفصائل عسكرية من أجل السيطرة على موارد الدولة، بما في ذلك البنية التحتية النفطية والمعابر الحدودية ومسالك التهريب.21 وقد أدّت عسكرة الاقتصاد هذه إلى اشتداد المنافسة على الموارد، والسلوك الريعي، واستغلال الموارد الطبيعية في ليبيا لتحقيق مكاسب مالية. ونتيجة لذلك، تفاقم عدم الاستقرار الاقتصادي، وتعرقلت الجهود المبذولة لإنعاش الاقتصاد، وغرقت البلاد في اضطرابات سياسية.
على الرغم من التاريخ المضطرب للتدخّل العسكري في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تكشف استطلاعات للرأي أجراها الباروميتر العربي بين 2021 و2022 أنّ الجيش يحظى بثقة كبيرة بين المواطنين. بالفعل، فقد أعرب أكثر من 70 في المئة من المواطنين الذين شملهم الاستطلاع عن ثقتهم الكبيرة في القوات المسلّحة. واستمرّ ذلك على مرّ السنين. ففي الفترة الممتدة ما بين العامين 2011 و2022، تراوحت نسب الثقة العامة المعتدلة والعالية في الجيش في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بين 71 في المئة و81 في المئة في المتوسط (انظر الرسم البياني 2).
ملاحظة: شملت الموجات عدداً من الدول دون سواها.
تختلف مستويات الثقة في القوات المسلّحة بحسب البلدان. وفي المتوسّط بين عامي 2011 و2022، تراوحت هذه المعدّلات من 92 في المئة في تونس مقابل 47 في المئة في ليبيا (انظر الرسم البياني 3). ومع ذلك، حتى في ليبيا، أعرب جزء كبير من السكان عن ثقتهم الكبيرة في القوات المسلّحة. على سبيل المثال، في الجزء الشرقي من البلاد، أشار 87 في المئة من المواطنين الذين شملهم الاستطلاع إلى أنّه يمكن الثقة بالجيش بشكل هائل أو كبير في العام 2019 (مقابل 60 في المئة في الجنوب وحوالي 57 في المئة في الغرب).23 علاوة على ذلك، في جميع دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي شملها الاستطلاع، بما في ذلك ليبيا، تحظى القوات المسلّحة بثقة أكبر بكثير من معظم المؤسّسات الوطنية مثل الحكومة والبرلمان والمجتمع المدني (انظر الرسم البياني 4).24 في الواقع، وعند مقارنة الثقة في القوات المسلّحة بالثقة في المؤسّسة التي احتلّت المرتبة التالية – في هذه الحالة، المجتمع المدني في معظم البلدان، باستثناء مصر – فإنّ الفارق لصالح القوات المسلّحة يتراوح من 61 نقطة مئوية في لبنان إلى 19 نقطة مئوية في السودان.
ما الذي يفسّر مستويات الثقة العالية التي يضعها مواطنو منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في القوات المسلّحة؟27 حدّد بحثنا عدداً من العوامل من شأنها أن تؤثّر في احتمالية ثقة مواطني المنطقة بقواتهم المسلّحة استناداً إلى دراسات حول العلاقات المدنية العسكرية والثقة المؤسّسية وأدبيات الاقتصاد السياسي المتنامية حول دور الجيوش في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.28 وتشمل هذه العوامل السلامة الشخصية، والطبقة الاجتماعية، والمحافظة السياسية، والتوجه الإسلامي، والثقة في المؤسّسات، والمواقف تجاه الديمقراطية.29
قمنا بدراسة هذه العوامل تجريبياً باستخدام بيانات الموجة الخامسة من استطلاع البارومتر العربي، التي جُمِعت بين العامين 2018 و2019، في الوقت الذي اندلعت فيه الاحتجاجات في أنحاء المنطقة كافة، وبالتالي، نُشرَت الجيوش بدرجات متفاوتة عبر البلدان.30 وتشتمل البيانات على حوالي 10,000 إجابة من عينات تمثيلية على المستوى الوطني عبر تسعة بلدان. وتحظى أربعة من هذه البلدان بحكومات يقودها مدنيون (الأردن، ولبنان، والمغرب، وتونس)، وشهدت خمسة منها تاريخاً حافلاً من التدخّل العسكري أو الحكم العسكري (مصر، والعراق، وليبيا، والسودان، واليمن).31 ويسمح لنا ذلك بدراسة اختلاف دوافع الثقة في القوات المسلّحة في ظل الحكم العسكري مقابل الحكم المدني.
ما الذي يدفع الشعوب إلى الثقة في الجيش؟ تبرز السلامة الشخصية كمحرك رئيسي. أكثر من يثق في الجيش هم الأفراد الذين يشعرون بأنّ سلامتهم الشخصية وسلامة أسرهم مضمونة. ويشير ذلك إلى أنّ الشعوب قد تعتبر الجيش معقلاً للاستقرار والنظام يمكن اللجوء إليه في أوقات الاضطرابات. ففي بلدان مثل الأردن أو المغرب، حيث تطبَّق تدابير سلامة صارمة، قد يعزو الناس هذا النجاح إلى الدور الذي يؤدّيه الجيش في الحفاظ على الأمن. وفي البلدان الأقل استقراراً مثل ليبيا أو السودان، حيث ساهمت الأعمال العسكرية في إحداث الفوضى، تُعتبر المؤسّسة العسكرية رغم ذلك ضمانة ضد انعدام الأمن ومدافعاً عن دولة هشة.
وتؤدّي الإيديولوجية أيضاً دوراً. يميل المحافظون – الذين يخضعون للدولة بصرف النظر عن آرائهم السياسية – إلى الثقة في الجيش أكثر من غيرهم، ربما لأنّهم يعتبرون الجيش رمزاً للتقليدية. كذلك، يحظى الجيش، على الرغم من تاريخه المثير للجدل، بالثقة بين مؤيّدي الديمقراطية، ويتحدّى الافتراضات التقليدية حول مدى توافقه مع الحكم الديمقراطي.32 يقدّم تقسيم البيانات بحسب نوع النظام تفصيلاً تحذيرياً يجدر أخذه في الاعتبار: تظهر البيانات الواردة من البلدان ذات الأنظمة بقيادة مدنية العلاقة الإيجابية بين دعم الديمقراطية والثقة في الجيش. أمّا في البلدان التي تتمتّع بتاريخ من الحكم العسكري أو تدخّل الجيش، فيظهر عدد من الأدلّة التي تبيّن نتيجة عكسية: يميل مؤيّدو الديمقراطية إلى الثقة بشكل أقل في الجيش، ما يعكس ربما تضاؤل الممارسات الديمقراطية في ظل الحكم العسكري الممتد.
وتنعكس كذلك الثقة في المؤسّسات السياسية – التي تُقاس من خلال وجهات النظر حول الحكومات أو البرلمانات – بشكل إيجابي على الثقة في الجيش. بشكل عام، أولئك الذين يثقون في المؤسسات السياسية يثقون على الأرجح بالقوات المسلّحة. ومع ذلك، عندما نأخذ في الاعتبار نوع النظام، نلاحظ تغييراً. وعلى وجه التحديد، قد يضع الأفراد في الأنظمة التي يقودها مدنيون والذين لا يثقون بالمؤسسات السياسية ثقة أكبر في الجيش. وقد يُعزى ذلك إلى أنّه في البيئات التي ينظر فيها المواطنون إلى المؤسسات السياسية بشكل سلبي، فهم في المقابل ينظرون إلى الجيش باعتباره رمزاً للأداء الفعّال. وهذا ما يفسّر مستويات الثقة المرتفعة بشكل لافت في الجيش في دول مثل الأردن وتونس ولبنان (الرسم البياني 3) والاختلاف الكبير في مستويات الثقة في الجيش وفي المؤسسات السياسية المتعدّدة في هذه البلدان (الرسم البياني 4). ومن ناحية أخرى، ففي البلدان التي شهدت تاريخاً من التدخل أو الحكم العسكري، تترافق الثقة في المؤسسات السياسية مع الثقة في المؤسسة العسكرية. وقد يكون ذلك بسبب تدخّل الجيش في المجال السياسي الذي يُعتبر قريباً من المؤسسات السياسية أو مسيطراً عليها.
ومن المثير للاهتمام أنّ الأفراد ذوي الدخل المرتفع هم أقل احتمالاً للثقة في الجيش، إذ قد يخشون التجاوزات الاقتصادية التي يقوم بها الجيش. وهذا هو الحال في دول مثل الجزائر ومصر، حيث تهيمن النخب العسكرية على قطاعات معيّنة أو تستغلّ العلاقات مع الحزب الحاكم للحصول على معاملة تفضيلية على حساب القطاع الخاص. بالمقابل، قد تنبع الثقة في صفوف الطبقات الاجتماعية الدنيا من الدور الذي تؤدّيه القوات المسلّحة باعتبارها مصدر هام للتوظيف33 خاصة في البلدان التي تقودها المؤسّسة العسكرية، بالإضافة إلى التمثيل العالي لهذه الطبقات في عديدها.
وأخيراً، يتوقّع التوجّه الإسلامي – الذي يُقاس بآراء الناس حول دور رجال الدين في السياسة أو دور الشريعة في الأنظمة القانونية –ثقةً أقلّ في الجيش. وتتوافق هذه النتيجة مع التوقّعات بأنّ أنصار الإسلاميين ربّما يشعرون بعدم الثقة تجاه الجيش بسبب دوره في قمع الإسلاميين في عدد من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بدءاً من مصر في العام 2013 وصولاً إلى الجزائر في العام 1992 وسوريا في العام 34.1982
وبشكل عام، ترسم النتائج التي توصّلنا إليها صورةً عامة للدوافع وراء الثقة المتزايدة في القوات المسلّحة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويستمدّ الجيش الدعم من الشرائح المحافظة والطبقات الاجتماعية الدنيا، التي فقدت الثقة في البرلمانات والحكومات والتي تعتبر المؤسّسة حصناً ضد انعدام الأمن وعدم الاستقرار. وبالإضافة إلى تراجع الثقة في الديمقراطية باعتبارها أفضل نظام للحكم والاستعداد لتمكين سلطة تنفيذية قوية، تسلّط الثقة الكبيرة في الجيش الضوء على إجهاد أوسع تجاه الحكم وخيبة الأمل في النظام السياسي.35
لقد تأثّرت بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعمق على مدى عقود طويلة بتدخّل المؤسّسة العسكرية في السياسة وسوء إدارتها للاقتصاد، بالإضافة إلى اعتراضها التحوّلات، والانقلابات التي قادتها. ومع ذلك، تحتفظ الجيوش بمكانتها الإيجابية بين عامة الشعب في أغلب البلدان، حتى في خضم الاضطرابات السياسية والخلافات الاجتماعية، وتحديداً بين المواطنين الذين يهتمّون بالسلامة، ومحافظين سياسياً، وبشكلٍ لافت يدعمون الديمقراطية. فماذا يخبرنا ذلك إذاً عن المشهد الاجتماعي والسياسي الأوسع في المنطقة؟
تنطوي الثقة العالية في القوات المسلّحة على آثار مجتمعية واضحة، وتشكّل اختباراً حقيقياً للمشاعر العامة. فهي تعكس خيبة الأمل العامة في الجهات الفاعلة والمؤسسات السياسية، ما يشير إلى إجهاد تجاه الحوكمة. وفي الوقت عينه، يُنظر إلى الجيش على أنّه قوة لتحقيق الاستقرار، ما يعكس المشاعر العامة التي تبحث عن حبل نجاة في أوقات الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وبالتالي، تشير الثقة العالية في الجيش إلى الفشل المؤسّسي، كما تدلّ على الحاجة الراسخة إلى الاستقرار.
بالتالي، تشير هذه الظاهرة إلى توجّهات أوسع نطاقاً – خيبة الأمل من العمليات السياسية، وتدهور العقود الاجتماعية، والتوق إلى الاستقرار. وتشكّل هذه الاتّجاهات الأنماط السياسية، وتؤثّر في نتائجها، وتساهم في تحديد الهويات الوطنية. باختصار، تتشابك مسألة الثقة في الجيش مع المسار المستقبلي للمعايير والمؤسسات الديمقراطية، سواء في داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو خارجها. والأهم من ذلك، لا تقتصر الثقة العالية في الجيش على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فحسب، بل تعكس توجّهاً عالمياً.36 فعبر الديمقراطيات والديكتاتوريات، في كلّ من الاقتصادات الغنية والمتعثّرة، تتفوّق القوات المسلّحة على المؤسّسات الوطنية الأخرى. والأمر سيّان حتى في الدول ذات الجيوش المعروفة بتاريخها العنيف.
وفي أفريقيا، حيث شهدت دولها أكبر عدد من الانقلابات في التاريخ الحديث، حصلت ستة انقلابات ناجحة منذ العام 2020، ويستمر القتال بين الفصائل المسلّحة في السودان ومالي.37 وأعرب ما يقرب من 62 في المئة من الشعب الأفريقي، في المتوسط، عن ثقة كبيرة في قواته المسلّحة في العام 38.2022 وقادت جيوش أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي عبر التاريخ أنظمة قمعية وتدخّلت في العمليات السياسية. ونشهد اليوم عودة للجيش إلى السياسة، بناء على طلب القادة المدنيين في أغلب الاحيان. وحصدت القوات المسلّحة ثقة 54 في المئة من المواطنين الذين شملهم الاستطلاع في العام 2023، وهي نسبة أكبر من أي مؤسّسة وطنية أخرى.39
كيف يمكننا استخدام نتائج الاستطلاعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لرسم إستراتيجيات من شأنها أن تعزّز المعايير الديمقراطية وتحسّن العلاقات العسكرية والمجتمعية في مناطق أخرى؟ تثير الثقة التي يوليها الكثيرون في القوات المسلّحة تساؤلات حول ما يطلبه المواطنون من مؤسسات الدولة. وخلافاً للمؤسسات السياسية، تعتبر الشعوب الجيش مؤسّسة مرنة، وتضع بين يديها مسؤولية كبرى تتمثّل في توفير الأمن والدفاع عن الاستقرار. ماذا يعني ذلك بالنسبة إلى مستقبل العلاقات العسكرية المجتمعية في هذه المناطق؟ قد يشير استمرار الثقة العالية إلى تحوّل في الثقافة السياسية، حيث لا يقتصر دور الجيش في المجتمع على توفير الأمن فحسب.
وفيما شكّلت الجيوش في هذه المناطق عناصر فاعلة في قلب الأنظمة السياسية أو الحفاظ عليها، تشير الثقة التي تحظى بها من المواطنين إلى ديناميات اجتماعية أوسع. وعلى الرغم من دور القوات المسلّحة المعقّد والمقلق في الحكم، فإنّه يحظى بمستوى من الثقة العامة يتحدّى الحكمة التقليدية ويضطرنا إلى إعادة تقييم فهمنا للعلاقات المعاصرة بين الجيش والمجتمع. وقد يشكّل ذلك مؤشّراً على نماذج الحكم المستقبلية والتوقعات المجتمعية، ويشير إلى حاجة الجهات السياسية الفاعلة إلى النظر في مكانة الجيش في الحكم الديمقراطي بجدية أكبر، وربما زيادة آليات الرقابة المدنية.
في الوقت الحالي، ومع احتداد الأزمة في السودان، واستمرار حكم المجالس العسكرية التي استولت على السلطة مؤخّراً في دول الساحل، تتّجه كل الأنظار نحو الجيش، في تذكير واضح بنفوذه الراسخ ودوره الكبير كقوة لتحقيق الاستقرار وحافز محتمل للتغيير.40