الانقسامات السياسية والأمنية والمؤسسية فاقمت الأضرار الناجمة عن فيضانات درنة: تسبّبت الانقسامات السياسية والأمنية التي تلت أحداث العام 2011 في مفاقمة الأضرار الناجمة عن الفيضانات التي ضربت مدينة درنة الليبية. فقد أخفقت السلطات المختلفة في تخصيص ما يكفي من الأموال لصيانة السدود، وفي اتخاذ إجراءات أمنية مناسبة تشجّع على عودة شركات الصيانة الأجنبية، وفي تنسيق جهود إعادة الإعمار المحلية والدولية.
الكارثة أظهرت أنّه بالإمكان وضع الانقسامات الإقليمية جانباً ومؤقّتاً عند حصول أزمة وطنية: أظهرت الاستجابة الوطنية العارمة لفيضانات درنة أنّ رغبة الليبيين بالوحدة الوطنية قادرة أحياناً على تجاوز الانقسامات الإقليمية والاجتماعية. إلّا أنّ مثل هذه اللحظات من الوحدة الوطنية تبقى مؤقّتة فيما تواصل السلطات الحاكمة في شرق البلاد وغربها استغلال حالة الانقسام من أجل الإبقاء على الوضع الراهن.
التقارب الإقليمي أتاح الفرصة لإعادة تقييم التعاون المحلّي لمواجهة الأزمة رغم الخصومات: دفعت الفيضانات بالسلطات في كلّ من شرق ليبيا وغربها إلى تنسيق جهود الإغاثة مع الدول الإقليمية التي تدعم خصومها، ما يؤشّر إلى أنّه في حال حدوث تقارب بين القوى الإقليمية المنخرطة في الصراع الليبي، يمكن أحياناً حصول تعاون محدود لحلّ أزمة معيّنة بين الأطراف المتناحرة المحلية.
السياسة تطغى على جهود إعادة الإعمار: عمد فرقاء الصراع على السلطة في ليبيا إلى تسييس جهود إعادة الإعمار في درنة من أجل تعزيز نفوذهم السياسي وتقديم مصالحهم الشخصية، وذلك من خلال التحكّم في آليات إبرام العقود مع الشركات الأجنبية المهتمّة بإعادة إعمار درنة.
ضربت فيضانات مدمّرة مدينة درنة الليبية بين 10 و11 سبتمبر 2023 إثر انهيار سدّين عقب هطول أمطار غزيرة على الساحل الشرقي للبلاد بالتزامن مع مرور العاصفة “دانيال” فوق البحر المتوسط.1 وقد أسفرت الكارثة عن تدمير ربع المدينة وألحقت أضراراً جسيمة بالمناطق القريبة من مدن سوسة وشحات والمرج والبيضاء، فجرفت مياه الفيضانات عدداً كبيراً من السكّان وأحياءً سكنية برمّتها مع مبانٍ وجسورٍ إلى البحر.
وأشار تقرير صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في 20 مارس 2024 إلى أنّ عدد القتلى وصل إلى 5923 شخص.2 ويقيم نحو 22 في المئة من سكان ليبيا في المناطق التي ضربتها الفيضانات، وقد بلغ عدد المتضرّرين منها 250 ألف نسمة، فيما تسبّبت بتشريد 45 ألف شخص.3 وبحسب تقرير صادر بالتعاون بين البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، تسبّبت الفيضانات بأضرار وخسائر تقدّر بـ 1,65 مليار دولار، فيما قُدِّرت كلفة إعادة الإعمار والتعافي بـ 1,8 مليار دولار.4
نجمت مأساة درنة عن عوامل طبيعية وأخرى من صنع البشر. فعلى الرغم من أنّ المدينة سبق وأن تعرّضت لفيضانات في الأعوام 1942 و1959 و1968، فإنّ الآثار المدمّرة لفيضان 2023 لم تتسبّب بها الأمطار وحدها.5 في حالة درنة، يُعزى جزء من الدمار الناجم عن الفيضانات بشكل أساسي إلى الانقسامات السياسية والأمنية في البلاد، بالإضافة إلى هشاشة مؤسّسات الحكم الليبية. إذ تخيّم الانقسامات والفوضى والفساد على الواقع السياسي الليبي،6 ما تسبّب بتصادم الجهود المحلية والدولية الرامية لمساعدة المتضرّرين وإغاثتهم.
زد على ذلك أنّ استشراء الفساد في ليبيا، بما فيه سياسات تسخير الإنفاق الحكومي لكسب الولاء السياسي، يثير الشكوك حول شفافية عملية إعادة الإعمار في درنة. وهذا أمر مقلق بشكل خاص نظراً لتاريخ السياسيين النافذين في الهيمنة على مشاريع إعادة الإعمار في شرق البلاد وغربها. فهذه المشاريع ستشكل جزءاً لا يستهان به من موازنة ليبيا التي تعتمد أساساً على الهيدروكربونات، إذ يشكّل النفط والغاز “97 في المئة من الصادرات وأكثر من 90 في المئة من الإيرادات المالية و68 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي”.7
يتناول موجز القضية هذا تداعيات الانقسامات السياسية على استجابة الدولة الليبية إزاء كارثة فيضانات درنة، ويستعرض جهود إعادة الإعمار وتبعاتها على المستقبل السياسي للبلاد.
تعاني ليبيا منذ عام 2014 أزمة كبرى في الشرعية ناجمة عن الانقسامات السياسية والمؤسسية، حيث تسيطر على البلاد حكومتين لكلّ منها تحالفاته السياسية والعسكرية الخاصة به: حكومة الوحدة الوطنية في الغرب ومقرّها طرابلس، وحكومة الاستقرار الوطني في الشرق، ومقرّها بنغازي (طبرق سابقاً). وقد طالت هذه الانقسامات المؤسسات الاقتصادية الأساسية في البلاد مثل البنك المركزي الليبي والمؤسسة الوطنية للنفط والمؤسسة الليبية للاستثمار، ما أسفر عن تدهور الأوضاع المعيشية وعمّق مستويات الفساد.8
حين ضربت الفيضانات درنة، كانت حكومة الوحدة الوطنية تسيطر على طرابلس من خلال أربع مجموعات مسلّحة: جهاز دعم الاستقرار، وجهاز الردع،9 وجهاز الأمن العام، واللواء 444. وتنشط في خارج طرابلس بعض المجموعات المسلّحة المستقلّة في جبل نفوسة والزاوية والزنتان ومصراتة على الرغم من ارتباطها رسمياً بحكومة الوحدة الوطنية، ما يعني أنّ قدرة الحكومة على الحكم خارج طرابلس تبقى محدودة.
على الجانب الآخر، يقود المشير خليفة حفتر “القوّات المسلّحة العربية الليبية”، المكوّنة من مجموعة من الوحدات شبه العسكرية التي تسيطر على المنطقة الشرقية حيث تقع درنة، وهي أيضاً المنطقة التي تضمّ أكبر حقول النفط في البلاد، بالإضافة إلى مدينتيّ سرت والجفرة المركزيتين. ويمتدّ نفوذ قوات حفتر بشكل لا يستهان به إلى أجزاء من جنوب ليبيا أيضاً. ويشغل نجل حفتر، اللواء خالد حفتر، منصب رئيس أركان الوحدات الأمنية ، فيما يشغل نجله الآخر اللواء صدام حفتر منصب رئيس أركان القوات البرّية في القيادة العامة “للقوات المسلحة العربية الليبية” ،10 بحيث يقودان أكبر الوحدات العسكرية التي يعتمد عليها والدهما وحلفاؤه السياسيون في مجلس النواب وحكومة الاستقرار الوطني.
تعكس الانقسامات المؤسسية والسياسية في ليبيا البنية الأمنية المجزّأة منذ سقوط نظام الزعيم الليبي الراحل معمّر القذافي. فبموجب النظام الحالي، تهيمن مجموعات مسلحة متعدّدة ذات انتماءات وتحالفات مختلفة على القرار السياسي.11 وتحظى كلّ من هذه الفصائل بدعم زعماء سياسيين متنازعين وقوى إقليمية متنافسة. فتدعم الإمارات العربية المتحدة ومعها مصر وروسيا حفتر وحلفاءه، بينما تدعم تركيا وقطر وإيطاليا مجموعات متعدّدة في غرب البلاد.12 بالإضافة إلى ذلك، يتمركز آلاف المقاتلين الأجانب في ليبيا، منهم مرتزقة سوريون تابعون لتركيا، وعناصر من مجموعة “فاغنر” الروسية13 وعناصر عسكرية تركية،14 في أرجاء مختلفة من البلاد.
الرسم البياني 1: مناطق النفوذ السياسي والعسكري في ليبيا في وقت كارثة فيضانات درنة
أسهمت مشكلتان أساسيتان على صعيد الحوكمة في مفاقمة الانهيار الكارثي لسدّي درنة، نجمت الأولى عن الإهمال التاريخي في صيانة أكبر سدّين في المدينة، سدّ وادي درنة وسدّ أبو منصور اللذين أنشأتهما شركة يوغسلافية في سبعينات القرن الماضي.16 وكانت شركة سويسرية أكّدت وجود تشقّقات كبيرة في السدّين عام 2003 واقترحت بناء سدّ ثالث جديد بعد إصلاح العيوب في السدّين الحاليين، ولكن ذلك لم يحصل.17
بعد أربع سنوات على اكتشاف التصدّعات، أبرمت الحكومة الليبية عقداً مع شركة “آرسيل” للبناء (Arsel Construction) من أجل صيانة السدّين.18 ولكن بسبب التأخير لأسباب مالية، لم يبدأ العمل على صيانة السدّين إلّا في العام 19.2010 زعمت “آرسيل” من خلال موقعها الرسمي (المغلق الآن) أنّها أتمّت المشروع في العام 20،2012 إلّا أنّ مصادر رسمية ليبية أكّدت أنّ الشركة لم تكن قد أنجزت أعمالها بشكل كامل21 نتيجة مغادرتها البلاد بعد أن نهب مسلّحون مواقعها في خلال انتفاضة العام 22.2011
أشار تقرير صادر عن ديوان المحاسبة الليبي في العام 2021 إلى أنّ حكومة رئيس الوزراء السابق علي زيدان أنفقت أكثر من مليونيّ دولار على صيانة السدود عاميّ 2012 و23.2013 ولكن في ظلّ تدهور الوضع الأمني في ليبيا عامة، ودرنة خاصةً، لم يتمّ الانتهاء من أعمال الصيانة. فالمدينة التي لطالما كانت مهمّشة في فترة حكم القذافي بسبب النظر إليها كمعقل للمعارضة، سقطت في أيدي مجموعات جهادية محلّية وأجنبية بعد العام 24.2011 وقد تمكّنت قوّات حفتر من السيطرة عليها في العام 2018 بعد معارك شرسة ألحقت المزيد من الضرر ببنيتها التحتية.25
صحيح أنّ حكومة الوحدة الوطنية خصّصت 335 مليون دولار في 2021 لجهود إعادة إعمار بنغازي ودرنة،26 إلّا أنّ جزءاً كبيراً من تلك الأموال لم يُستخدم خشية أن يقع في أيدي حفتر. إذ يتولّى البنك المركزي الليبي في طرابلس جميع التعاملات بالعملة الصعبة في شرق البلاد وغربها، ويمكنه بالتالي منع الوزارات والبلديات وهيئات التطوير المدني من شراء مواد البناء مباشرةً أو التعامل مع مقاولين دوليين أو شركات استشارية أجنبية. لذا تخشى حكومة الوحدة الوطنية أن يستغلّ حفتر هذا الواقع من أجل إلقاء اللائمة عن الكارثة على المسؤولين في طرابلس، بخاصة البنك المركزي.27 إلى ذلك، قد تكون على الأرجح التهديدات التي أطلقها حفتر في السابق ضدّ المصالح التركية في ليبيا28 على خلفية دعم أنقرة للقوى السياسية والعسكرية في العاصمة سبباً في امتناع “آرسيل” عن العودة إلى درنة.
أمّا مشكلة الحوكمة الأخرى، فتُعزى إلى عدم اتخاذ الإجراءات الوقائية المناسبة بسبب ضعف أداء المركز الوطني للأرصاد الجوية الليبي عن القيام بعمله بالصورة المناسبة. فقد أفاد أمين عام الهيئة العالمية للأرصاد الجوية بيتيري تالاس أنّ افتقار المركز الوطني للأرصاد الجوية الليبي للتمويل اللازم حال دون إصداره إنذارات فعّالة عن خطر الفيضانات.29 ففي حين حذّر المركز من عاصفة تقترب من درنة30، إلّا أنّه لم يحذّر من أيّ انهيارات محتملة في السدود. كذلك، تجاهلت السلطات الخطر حتى بعد أن حدّد تقرير علمي لأحد الأكاديميين من جامعة عمر المختار بوضوح المخاطر التي ستنجم عن أي فيضانات قد تضرب درنة في بداية عام 31.2022 فعند توقّع أمطار غزيرة، عادةً ما ينسّق مشغّلو السدود عن كثب مع خبراء الأرصاد الجوية من أجل تفريغ المياه تدريجياً، لتجنّب تجاوز ضغط المياه سعة السد التشغيلية، إلّا أنّ هذه الخطوة الضرورية تمّ التغاضي عنها في درنة.32
علاوة على ذلك، تبين أن سكّان المناطق التي اجتاحتها الفيضانات لم يكونوا مهيئين للإخلاء بسبب التعليمات المتضاربة ونقص الثقة بشكل عام بالسلطات التي تسيطر على المدينة. ففي حين طُلب من السكّان في البداية إخلاء بعض المناطق في المدينة، عاد مدير الأمن في درنة ليطلب منهم البقاء في منازلهم والالتزام بحظر تجوّل لمدّة يومين.33
تسبّبت حالة الإرباك هذه في عرقلة إجراءات الإخلاء أيضاً، وسط فشل السلطات في تحديد أماكن آمنة يمكن للسكّان أن يلتجئوا إليها. وركّزت السلطات على المناطق الخطأ، فحثّت السكّان على إخلاء المناطق المواجهة للبحر، ظنّاً منها أن ارتفاع الأمواج سيكون مصدر الخطر الرئيسي.34 نتيجة ذلك، توجّه الكثير من المواطنين إلى وسط المدينة حيث غمرتهم مياه الفيضانات.35
كانت الاستجابة الفورية للفيضانات قويّة، فبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، قدّمت 26 هيئة شريكة أجنبية المساعدة إلى نحو 250 ألف شخص بحلول يناير 36.2024 إضافة إلى ذلك، انضمّ 800 عنصر بحث وإنقاذ من نحو 12 دولة منها فرنسا، والإمارات، وقطر، وتركيا، ومصر، والجزائر، وروسيا، واليونان إلى فرق الإنقاذ المحلّية،37 فيما شارك مسؤولون حكوميون ومن المجتمع المدني في تنسيق جهود فرق الإغاثة الدولية من أجل تسهيل إيصال المساعدات والبحث عن المفقودين ودفع التعويضات وغيرها من المهام ذات الصلة.
سادت في البداية مخاوف من أن تعرقل النزاعات والخصومات السياسية بين القوى الإقليمية الفاعلة في ليبيا جهود الإغاثة، ما يهدّد بحرمان درنة من المساعدات التي كانت بحاجة ماسّة إليها. ولكن ما جرى خالف التوقّعات، فقد دخلت المساعدات الدولية إلى درنة عبر المطارات والموانئ البحرية الخاضعة لفصائل تابعة للسلطتين في شرق البلاد وغربها.38 هبّ المتطوّعون وفرق الإنقاذ وقوافل المساعدات من أرجاء ليبيا كافة لإغاثة مناطق الفيضانات، وأيقظ وصولهم السريع الأمل بلحظة وحدة وطنية.39 فشكّلت الاستجابة للكارثة انتصاراً ولو محدوداً ومؤقّتاً للهوية الوطنية الموحدة في وجه الانقسامات الإقليمية والقبلية التي غالباً ما اعتُبرت عوامل مساهمة في التشظّي السياسي والاجتماعي في ليبيا.
وفي كثير من الحالات، تخلّلت جهود المجتمع المدني لمساعدة درنة تنسيقاً بين السلطات المحلية والمنظمات الدولية، بما فيها وكالات الأمم المتحدة ومنتدى ليبيا للمنظمات الدولية غير الحكومية.40 وقد بلغ التفاؤل بشأن تحقيق الوحدة الوطنية ذروته حين شاركت بعض الميلشيات التي كانت قاتلت سابقاً ضد قوّات حفتر خلال حملتها للاستيلاء على طرابلس (2019-2020)، في جهود الإنقاذ بالتنسيق مع هذه القوّات نفسها.41
قدّمت كارثة درنة فرصة جديدة للتعاون على المدى القصير بين السلطات الحاكمة في شرق ليبيا وغربها وبين داعميها الإقليميين. فقد كسرت مؤقّتاً عمليات الإغاثة الإنسانية الحدود الجيوسياسية الاعتيادية. فكما هو متوقّع، هبّ حلفاء حفتر، أيّ الإمارات ومصر للمساعدة،42 ولكنّ المفاجئ كان مسارعة الدول الداعمة للفصائل المناهضة لحفتر في غرب ليبيا لتقديم العون، فقد أرسلت تركيا وإيطاليا على الفور فرق بحث وإغاثة إلى درنة، تبعتها سفن محمّلة بالمعدّات والإمدادات الطبية.43
بدت المشاركة التركية في عمليات الإغاثة الإنسانية في درنة لافتةً على وجه الخصوص، حيث جاءت في سياق التقارب المستمرّ بين أنقرة وداعمي حفتر الخارجيين الرئيسيين، مصر والإمارات.44 فقبل عام فقط على الفيضانات في درنة، كان من المستحيل تخيّل سفينة تركية ترسو على الساحل الشرقي لليبيا، ناهيك عن تواجد عناصر أتراك على الأرض. ولكن في تحوّل جذري، أتاح تحسّن العلاقات بين هذه القوى الإقليمية للسفير التركي في ليبيا كنعان يلماز زيارة درنة برفقة رئيس الحكومة المكلّف من مجلس النوّاب أسامة حمّاد.45 وقد أكّد السفير في خلال زيارته على جاهزية الشركات التركية للمساهمة في إعادة إعمار درنة.46 فعلى الرغم من أنّ تركيا كانت قد تدخّلت عسكرياً قبل ثلاث سنوات من الفيضانات للتصدّي لتقدّم حفتر نحو طرابلس، فهي تعمل على توسيع انخراطها في شرق ليبيا وعلى بناء علاقات سياسية وتجارية هناك.47 كما أنّ قطر التي دعمت سلطات طرابلس أثناء هجوم حفتر قدّمت هي الأخرى المساعدة لدرنة.48
على الرغم من نجاح الاستجابة الإنسانية للفيضانات المذكور أعلاه، فقد اصطدمت جهود التعبئة المحلية والدولية بتضارب المصالح السياسية المحلّية. فقد احتجّ سكّان درنة ضدّ الإهمال الحكومي والفساد، وأضرموا النار في منزل عمدة درنة السابق، مطالبين بمحاكمة دولية للمسؤولين عن الكارثة.49 ردّت السلطات في شرق ليبيا على الاحتجاجات بقطع الإنترنت والاتصالات وطرد الصحفيين وتأخير وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضرّرة وعرقلتها.50
فتح النائب العام الليبي الصديق الصور، الذي يتّخذ من طرابلس مقرّاً له رغم عدم ارتباطه رسمياً بحكومة الوحدة الوطنية أو حكومة الاستقرار الوطني، تحقيقاً في القضية،51 وأحال إلى المحاكمة 16 مسؤولاً، بينهم اثنان من أعضاء المجلس البلدي في درنة ومدير مكتب مشاريع إعادة الإعمار في المدينة ورئيس اللجنة الفنية المكلّفة بتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار.52 وطالت الاتهامات كذلك علي الحبري، رئيس لجنة إعادة الإعمار والاستقرار في بنغازي ودرنة القديمة، الذي شغل سابقاً منصب نائب محافظ البنك المركزي الموازي.53
غير أنّ الانقسامات السياسية والمؤسسية في ليبيا تصعّب على القضاء محاكمة المسؤولين المتنفذين الذين قد يكونون المسؤولين الفعليين عن الكارثة. وفي حين نجح الصور في استهداف مسؤولين في المجالس البلدية والمؤسسات المحلية والغير مقرّبين من السلطات الحاكمة، من المستبعد أن تسفر التحقيقات عن محاسبة فعلية لكبار القادة التنفيذيين والتشريعيين في ليبيا. فالمسؤولون السياسيون المتنفذون لا يزالون يسيطرون على القضاء وأجهزة إنفاذ القانون. حتى الصور نفسه كان قد عُيّن نائباً عاماً بعد اتفاق بين المجلس الأعلى للدولة في طرابلس ومجلس النواب في بنغازي في أبريل 54.2021
في غضون ذلك، يُرجّح أن يطلق التحقيق الذي يجريه الصور شرارة نزاع سياسي آخر بين الحكومتين المتنافستين. إذ سبق للمجلس الأعلى للدولة في طرابلس أن دعا إلى مشاركة دولية في التحقيق،55 وقد هدف من ذلك في جزء منه للضغط على معسكر حفتر حتى يقدّم تفسيراً لرفضه تعيين مقاولين جدد لصيانة السدّين. إلّا أنّ الشفافية لم تكن قطّ دافع طرابلس الأساسي من الدعوة لمشاركة أجنبية في التحقيقات، بقدر ما كانت تسعى للضغط على حكومة الاستقرار الوطني وحفتر من أجل تقديم تنازلات سياسية.
في هذا السياق، لم يكن مستغرباً أن تعيق الانقسامات السياسية جهودَ إعادة الإعمار، حيث حاولت السلطات المتنافسة استغلال هذه المبادرات من أجل تحقيق مآربها السياسية والمالية. مثلاً، دعت حكومة الاستقرار الوطني التي لا تحظى باعتراف دولي إلى مشاركة المجتمع الدولي في مؤتمر إعادة الإعمار،56 إلّا أن المؤتمر تأجّل بهدف منح الشركات “الوقت الكافي من أجل تقديم دراسات ومشاريع فعّالة تسهم في عملية إعادة الإعمار”.57 على الضفة المقابلة، طلبت حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، المعترف بها دولياً، تمويلاً من البنك الدولي،58 ولكن افتقرت هذه الجهود إلى التنسيق والخطوات الإجرائية للتوصّل إلى توافق بين الإدارتين المتنافستين، الذي لو حصل، كان ليساعد في تنظيم صندوق إعادة الإعمار وضمان الشفافية. وفي هذا الصدد، كانت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا قد أكّدت على أهميّة وضع آلية وطنية موحّدة من أجل قيادة عمليات إعادة الإعمار وتنسيقها.59
بالإضافة إلى ذلك، من المتوقّع أن تفتح عملية إعادة الإعمار شهية رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، رجل الأعمال الكبير في مجال البناء الذي انخرط في السياسة.60 فقد أثارت تهم الفساد التي طالت حكومته الشكوك حيال دوره في عملية إعادة البناء،61 في وقت أخفق صندوق إعادة إعمار درنة وبنغازي الذي أنشأته حكومة الدبيبة في العام 622021 حتى الآن في مساعدة المدينة على التعافي من الأضرار التي لحقت بها عام 2018. علاوة على ذلك، على الأرجح أنّه سيكون من الصعب على السلطات في طرابلس المشاركة في أعمال إعادة الإعمار في درنة من دون موافقة حفتر ودائرته المقرّبة التي قد تعرقل هذه المشاركة إذا لم تضمن لنفسها مكتسبات مجزية من وراء عمليات إعادة الإعمار.
في المقابل، يستغلّ حفتر فيضان درنة من أجل كسب المزيد من النفوذ السياسي وتعزيز موقعه. فقد بدا واضحاً منذ البداية أنّ أسرة حفتر تستخدم الأزمة الإنسانية من أجل إحكام قبضتها على شرق ليبيا، وتقرير مستقبل البلاد السياسي. فكان لافتاً، تولّي صدّام حفتر رئاسة لجنة الاستجابة للكوارث في المدينة،63 وتعيين أحد أخوته رئيساً لمجلس إدارة صندوق إعادة أعمار مدينة درنة والمدن والمناطق المتضرّرة.64
وفيما فتحت “دبلوماسية الفيضانات” المجال أمام التعاون قصير المدى بين السلطات الحاكمة في شرق ليبيا وغربها وبعض القوى الإقليمية المتنافسة، فإنّ التحالفات البراغماتية لا تزال سيّدة الموقف. فقد عادت سلطات شرق ليبيا لمنح الأفضلية إلى حلفائها الإقليميين، مانحةً حصّة الأسد من عقود إعادة الإعمار إلى شركات إماراتية ومصرية.65 في غضون ذلك، أعربت تركيا، حليفة حكومة الوحدة الوطنية، عن استعدادها للمشاركة بقوّة في إعادة إعمار درنة، بخاصة بعد صدور مؤشرات إيجابية حول ذلك عن البنك المركزي الليبي في طرابلس.66
كتبت مأساة درنة فصلاً جديداً مروّعاً من الاضطرابات المستمرّة التي تشهدها ليبيا منذ عام 2011 التي قسّمت البلاد إلى حكومتين متناحرتين تتصارعان على السلطة والمال. تسبّب هذا الانقسام السياسي والمؤسسي المستمرّ منذ مدّة طويلة في تقويض المؤسّسات الحكومية وأضعف حكم القانون وجلب معاناة كبرى لليبيين. فحتى نهاية عام 2020، كان الصراع قد كبّد الشعب الليبي خسائر تجاوزت الـ576 مليار دولار،67 حيث أُنفق الجزء الأكبر من هذه الأموال على العسكرة والصفقات الفاسدة بدل الإنفاق على التنمية والرعاية الصحية والتعليم والبنية التحتية الأساسية.
أسهمت بنية الاقتصاد الريعي الليبي الذي استمرّ حتى في حقبة ما بعد القذافي في تمكين السلطات الحاكمة من شراء الولاءات السياسية وتضخيم الإنفاق الحكومي، ما قوّض قدرة القطاع الخاص المستقلّ على المشاركة في أعمال إعادة البناء، وفاقم هشاشة ليبيا في وجه تأثيرات تغيّر المناخ وأعاق جهود الاستجابة إلى الكوارث.
كشفت الجهود المحلّية للتخفيف من آثار الفيضانات في درنة عن عزيمة المجتمع الليبي على تجاوز الانقسامات الإقليمية والسياسية، وهذا ما أثبتته جهود التعبئة والتنسيق المحلّية. بالتوازي، وفّر التقارب الإقليمي فرصة للقوى الخارجية من أجل تحقيق مصالحها الاقتصادية والإنسانية المشتركة في ليبيا. ومن الأمثلة على ذلك، انفتاح تركيا على الحكومة في الشرق وقبول حكومة الغرب المساعدة من الداعمين الإقليميين لخصومها. يمكن لهذه التحوّلات الطفيفة التي طرأت على المواقف الإقليمية حيال ليبيا وعلى وجهات نظر السلطات الليبية المتناحرة لها أن تدوم لفترة أطول إذا ما تلقّت الدعم من هيئات مستقلّة ظاهرياً، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي.
إلّا أنّ فيضانات درنة أصبحت أيضاً سبباً آخر للنزاع بين السلطتين المتنافستين، هذه المرّة على خلفية تراشق تهم الإهمال وسوء الإدارة. وتعلو الأصوات المتخوّفة من تسييس عمليات إعادة الإعمار، ما يعيق عمليات إعادة إعمار المدينة أكثر فأكثر. وقد ضغط كلّ من حفتر والدبيبة على اللجان المسؤولة عن تنسيق عمليات إعادة الإعمار من أجل ترسية غالبية العقود على شركات تنتمي إلى الدول الإقليمية التي تمدّ القادة على الجانبين بالدعم السياسي والعسكري (أيّ الشركات الإماراتية والمصرية في حالة حفتر، والشركات التركية في حالة الدبيبة).
علاوةّ على ذلك، لا بدّ من إيلاء المزيد من الاهتمام للتحديّات البيئية التي تواجهها دول المنطقة عامةً، وليبيا خاصةً. فلا تستطيع السلطات الليبية ولا المواطنون الليبيون تجاوز هذه الصعوبات وحدهم ومن دون مزيد من التعاون الدولي. كما وأنّ تغيّر المناخ قد أضاف بعداً جديداً معقدّاً إلى المشهد السياسي الليبي، فارتفاع درجات الحرارة في شمال أفريقيا سيتسبب في تسارع وتيرة الجفاف والتصحّر، فيما يهدّد ارتفاع مستوى سطح البحر والتغيرات الجوية المتطرّفة في زيادة مخاطر الفيضانات في المناطق الساحلية،68 ما سيلحق الضرر بالزراعة ويفاقم النقص في الغذاء ويضغط على البنية التحتية الهشّة أصلاً في ليبيا. يمكن لهشاشة الوضع الراهن في ليبيا المترافق مع تحديات تغيّر المناخ أن يتسبب بعواقب تتجاوز حدود البلاد، منها مفاقمة مشكلة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا. ولن يكون التغلّب على هذه التحدّيات ممكناً من دون تعزيز التعاون الدولي والإقليمي الذي لا بدّ أن يركّز على معالجة قضايا الحوكمة والمشكلات الاقتصادية والأمنية في ليبيا والدول المجاورة لها.
لقد سلّطت تداعيات فيضانات درنة الضوء على عمق أزمة الحكم في ليبيا. إلى جانب المشاكل التاريخية والبنيوية التي تعانيها البلاد، قوّضت الصراعات المسلّحة والانقسامات السياسية والأمنية المستمرّة منذ العام 2011 قدرة الدولة الليبية على الاستجابة للكوارث. فتعزيز قدرة البلاد على مواجهة التحديات البيئية يتطلّب نهجاً شاملاً من أجل إعادة بناء مؤسّسات فعّالة وحلّ المعضلات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تواجهها. ولا بدّ من أن يمنح مثل هذا النهج الأولويّة للتنسيق بين الجهات المحلّية والدولية من أجل الحدّ من تسييس جهود إعادة الإعمار وضمان نجاحها بمعزل عن المصالح الشخصية قصيرة النظر.
الهوامش