علاقات أعمق: تربط بين كوريا الجنوبية والدول الخليجية علاقاتٌ متينة تشمل مجالات شتّى. وفي حين ارتكزت هذه العلاقات تاريخياً على الطاقة والبناء، إلّا أنّها تطوّرت في خلال العقديّن الماضييّن لتمتد إلى روابط سياسيّة وأمنيّة أعمق.
مقاربات ثنائيّة ومتعدّدة الأطراف: على الرغم من الزخم المتجدّد الذي اكتسبته مفاوضات إنشاء منطقة حرّة بين دول مجلس التعاون الخليجي وكوريا الجنوبية، إلّا أنّه لم يتمّ التوصّل إلى اتفاق نهائيّ بعد. في غضون ذلك، تواصل كوريا الجنوبية مساعيها الرامية لإبرام اتفاقيّات ثنائيّة مع الدول الخليجية، مثل اتفاق الشراكة الاقتصاديّة الشاملة الذي تتفاوض عليه حالياً مع الإمارات العربية المتحدة.
أهداف إستراتيجيّة: حدّدت كوريا الجنوبية هدفين إستراتيجيين لعلاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي، يتّسمان بطابع اقتصادي بالدرجة الأولى. يتمثّل الأوّل في الحفاظ على الإمدادات الحيوية من الطاقة المستقدمة من المنطقة لتغذية الاقتصاد الكوري، والثاني في الحصول على المزيد من عقود البناء والتصدير نحو أسواق دول مجلس التعاون الخليجي المدرّة للربح.
ديناميكيات المنافسة داخل آسيا: فيما تنوّع دول مجلس التعاون الخليجي شراكاتها مع الدول الآسوية، قد يأتي ذلك على حساب تعزيز تعاونها مع كوريا الجنوبية في ظلّ المنافسة مع دول أخرى مثل الصين واليابان.
لقد عزّزت القوى الآسيويّة على مدى السنوات القليلة الماضية علاقاتها الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وفي حين سُلّطت الأضواء على دور الصين المتنامي، كانت قوّة آسيوية أخرى تعمل بلا كلل على تعزيز حضورها في المنطقة، لا سيّما في الدول الخليجية، وهي كوريا الجنوبية.
تعاظم دور كوريا الجنوبية في المنطقة بشكل ملحوظ في خلال العقدين الماضيين تحت قيادة الإدارات المتعاقبة للبلاد، وتجلّى هذا الدور بشكل خاص منذ استلام الرئيس يون سوك يول مقاليد الحكم في مارس 2022. ففي شهر نوفمبر من ذلك العام، زار وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان العاصمة الكورية سيول، حيث وقّع على اتفاقيات تعاون واستثمار بقيمة 30 مليار دولار.1 توجّه بعدها الرئيس يون في زيارة إلى الإمارات العربية المتحدة في يناير 2023 من أجل ترسيخ العلاقات مع الشريك الأوثق لبلاده في الشرق الأوسط، بالأخصّ في ميادين الاقتصاد والأمن والطاقة. كما عزّزت سيول علاقاتها مع قطر حيث شارك عدد من الشركات الكورية الجنوبية في مشاريع بنى تحتية ضخمة، بينها مترو الدوحة واستاد الثمامة ومتحف قطر الوطني. وإلى جانب تعزيز الروابط الاقتصاديّة والسياسيّة، تنامى أيضاً تأثير القوّة الناعمة لكوريا الجنوبية في أنحاء المنطقة، انطلاقاً من الأفلام إلى المسلسلات التلفزيونية والموسيقى وصولاً إلى المطبخ الكوري.
ما هي أهداف كوريا الجنوبية في الخليج، وكيف سعت الحكومات الكورية المتعاقبة لتحقيقها؟ كيف تتقاطع مصالح كوريا الجنوبية مع القوى الآسيوية الأخرى في المنطقة وكيف تتعارض معها؟ يناقش موجز القضية هذا أنّ أصحاب القرار في الدول الخليجية باتوا يعتبرون بشكل متزايد كوريا الجنوبية شريكاً جذّاباً نظراً للمميّزات التي تميّزها عن القوى الأخرى. فعلى الصعيد الاقتصادي، تُعدّ كوريا الجنوبية من أهم الشركاء التجاريين لدول المنطقة، وأحد كبار المساهمين في بنيتها التحتية ونموّها. كما أنّها دولة متقدّمة تقنياً ومنفتحة أكثر من غيرها على تصدير تقنياتها وخبراتها، بما يشمل المجال النووي.
على الصعيد السياسي، تربط علاقات وثيقة بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، بالتالي لن يثير تعاونها مع الدول الخليجية قلق واشنطن بقدر التقارب مع الصين. كما أنّ سيول منفتحة على المساهمة في الأمن الإقليمي من خلال بعثات حفظ السلام وعمليات مكافحة القرصنة، بالإضافة إلى بيع الأجهزة الدفاعية. ولا تخضع مثل هذه الأنشطة الكورية إلى قيود داخليّة بقدر اليابان المجاورة التي لا تزال مقيّدة بدستورها السلمي، على الرغم من الجهود المتواصلة التي يبذلها الحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكم لتغييره.2
صحيح أنّ الروابط بين كوريا الجنوبية والشرق الأوسط تعود إلى مئات السنين، إلّا أنّ العلاقات المعاصرة بين جمهورية كوريا والمنطقة نمت بشكلٍ أساسي في سبعينيات القرن الماضي.3 في خلال تلك الحقبة، أطلق الرئيس الكوري آنذاك بارك تشونغ هي النهضة الاقتصاديّة الكورية الجنوبية، مدفوعاً بحافز إضافي تمثّل بالمنافسة الإستراتيجية مع كوريا الشمالية، وصبّ تركيزه على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ضوء طفرة النفط في السبعينيات.4
فتحت ثروات الدول الخليجية المصدّرة للنفط أسواقاً جديدة أمام البضائع الكورية وشكّلت فرصة للشركات الكورية للاستفادة من العقود في مجال البناء والخدمات. ومع بلوغ طفرة النفط ذروتها عام 1982، أصبحت عقود البناء مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تسهم بنحو 7 في المئة من إجمالي الناتج القومي لكوريا الجنوبية، فيما شكّلت العقود التي أبرمتها مع دول المنطقة أكثر من 90 في المئة من عقودها في مجالات الهندسة والتوريد والبناء في الخارج.5 وقد ساعد ذلك في سدّ العجز في الميزان التجاري الناجم عن تنامي استيراد كوريا الجنوبية للنفط والغاز الطبيعي من المنطقة.
تمكّنت الشركات الكورية الجنوبية من تأمين موطئ قدم لها في الاقتصادات الخليجية، مثل السعودية، ويرجع ذلك بجزء منه إلى تقديمها تخفيضات كبرى في الأسعار مقارنة بالمنافسين، حيث خففت من هوامش الربح مقابل الحصول على عدد أكبر من العقود.6 كما أثمرت الجهود الدبلوماسيّة التي بذلتها كوريا الجنوبية ومساعداتها التنمويّة عن المزيد من العقود.7 في البداية، تولّى العمل في هذه المشاريع عمّال كوريون منخفضو الأجر، حيث توجّه في خلال تلك الفترة أكثر من مليون عامل كوري جنوبي إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عمل أغلبهم في مشاريع البناء بين العامين 1974 و1985، قبل أن ترتفع الأجور في كوريا الجنوبية، ما حدّ من الحوافز الاقتصادية التي تدفع الكوريين الجنوبيين للبحث عن عمل في الخارج.8
ظلّت العلاقات بين كوريا الجنوبية ودول مجلس التعاون الخليجي ترتكز على واردات الطاقة وعقود البناء حتى بداية الألفيّة. فقد قاد تحالف الشركات الكوري “سامسونغ سي أند تي” تشييد برج خليفة، أطول برج في العالم بين العامين 2004 و2009. وسعى بعدها الرؤساء الكوريون المتعاقبون، منهم لي ميونغ – باك (بين العامين 2008 و2013) وبارك غوين هيه (بين العامين 2013 و2017) للاستفادة من طفرة النفط الثانية في الخليج في بداية الألفيّة من أجل كسب المزيد من العقود بهدف دعم اقتصاد كوريا الجنوبية المدفوع بالصادرات.
توسعّت العلاقات التجارية بين سيول والدول المنتجة للنفط بشكل كبير في الألفيّة الجديدة مقارنةً بتسعينيات القرن الماضي، مع إبرام كوريا الجنوبية عقود ضخمة مع الدول الخليجية، من ضمنها عقد بقيمة 40 مليار دولار مع الإمارات العربية المتحدة عام 2009 من أجل تشييد أربع محطّات للطاقة النوويّة وتشغيلها (دخلت اثنتان منها في الخدمة عام 2021 و2022 على التوالي)، حيث تفوّق العرض الكوري على عروض أخرى تقدّمت بها شركات أمريكية وفرنسية.9
ترتبط اندفاعة كوريا الجنوبية نحو المنطقة بالوضع الاقتصادي داخل البلاد نفسها. فلطالما كان هدف كوريا الإستراتيجي تأمين واردات مستمرّة ومستقرّة من الطاقة (سواء النفط أو الغاز الطبيعي) الضروريّة لتطوّر البلاد. وإلى جانب الصين واليابان والهند، تعدّ كوريا الجنوبية واحدة من الدول الآسيوية الأكثر اعتماداً على نفط الشرق الأوسط الذي يمثّل 70 في المئة من إجمالي وارداتها من النفط الخام.10 وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها لتنويع مصادرها وتعزيز أمنها في مجال الطاقة،11 إلّا أنّها لا تزال تعتمد بشكل كبير على دول مجلس التعاون الخليجي، بالأخص السعودية.
ونظراً لحجم الواردات النفطية الضخم، فإنّ كوريا الجنوبية تواجه عجزاً كبيراً في الميزان التجاري مع المنطقة بشكل عام، حيث كانت قيمة صادراتها إلى الشرق الأوسط أقلّ بحوالي 50 مليار دولار من وارداتها منها بين يونيو ويوليو 12.2022 من ناحية أخرى، تسجّل كوريا الجنوبية فائضاً في الميزان التجاري مع الدول الإقليميّة غير المصدّرة للنفط، أبرزها تركيا (3,6 مليار دولارعام 2022) وإسرائيل (518 مليار دولار عام 2022). مع ذلك، يبقى حجم التجارة بين كوريا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشكل عام مرتبطاً بأسعار النفط، سواء لناحية الصادرات أو الواردات، فانخفاض أسعار النفط يخفّف من تكلفة استيراد كوريا الجنوبية للطاقة ولكن في الوقت نفسه، يؤدّي إلى انخفاض إيرادات الحكومات الخليجيّة المصدّرة للنفط التي تشتري السلع والخدمات الكورية الجنوبية.13
أمّا الركيزة الثانية لإستراتيجية سيول، فتقوم على زيادة صادراتها إلى المنطقة والفوز بالمزيد من عقود البناء، ما يفسّر المساعي الشرسة التي تبذلها الشركات الكورية تاريخياً للفوز بالعقود، فحين لم تعد العمالة الرخيصة والتكاليف التنافسية كافية، لجأت الشركات لدفع عمولات ضخمة من أجل ضمان حصولها على العقود في دول مجلس التعاون الخليجي.14
تاريخياً، كانت إسهامات كوريا الجنوبية الأمنيّة الفعليّة محدودةً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فلم ترسل إلّا عدداً قليلاً من القوّات، على الرغم من الضغوط التي تمارسها عليها حليفتها واشنطن من حين إلى آخر. مع ذلك، عزّزت كوريا تواجدها الدفاعي في المنطقة بطريقة أكثر ربحيّة من خلال صادرات الأسلحة.
شاركت القوّات الكورية ضمن التحالف بقيادة الولايات المتحدة الذي أدى إلى طرد القوّات العراقية من الكويت، ثمّ في التحالف الذي قادته الولايات المتحدة في غزو العراق عام 2003، وذلك تحت ضغط دبلوماسي كبير مارسته واشنطن على سيول، إلّا أنّ مهامها ركّزت بشكل أساسي على المشاريع المدنية والشؤون اللوجستية.15 عدا عن ذلك، فإنّ معظم التواجد الأمني الكوري الجنوبي في المنطقة جاء في إطار مهام بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، أبرزها قوّة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل). فمنذ العام 2007، شاركت وحدة “دونغميونغ” (المعروفة محلياً بـ”هبة الله”) في عدد من عمليات حفظ السلام وإعادة الإعمار في البلاد. وإلى جانب مهام المراقبة، أطلقت البعثة الكورية مشروع تعاون مدني – عسكري تحت اسم “موجة السلام” واستثمرت في الصحة العامة، كما نظمّت الكثير من الأنشطة المدرسيّة، بما فيها صفوف التايكواندو التي حظيت بشعبية واسعة.16 وفي أقصى الطرف الغربي من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عملت وحدة طبية عسكرية كورية في بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية (مينورسو) في الصحراء الغربية لمدة 12 عاماً حتى العام 17.2006
تضمّنت أشكال المساعدات الكورية الأخرى المحدودة في المجال الأمني مشاركتها المستمرّة في مهام مكافحة القرصنة البحرية في خليج عدن، ضمن وحدة “شيونغهي”.18 وأرسلت سيول هذه القوّة لمراقبة مضيق هرمز عام 2020. واللافت أنّها قامت بذلك بشكل منفصل عن “التحالف الدولي لأمن وحماية حرية الملاحة البحرية” الذي تقوده الولايات المتحدة، على الأرجح لتجنّب الإضرار بعلاقاتها مع إيران.19 كما كانت كوريا الجنوبية عضواً في التحالف الدولي ضدّ داعش الذي شكّلته الولايات المتحدة في نهاية العام 2014، ولكنّها لم تسهم بشكل مباشر في الجوانب العسكرية من عملية “العزم الصلب” في العراق وسوريا.20
على الرغم من الانتشار العسكري المحدود للقوات الكورية في المنطقة، إلّا أنّها زادت بشكل كبير صادراتها من الأسلحة في السنوات الماضية محققةً عوائد اقتصادية ضخمة. وعلى عكس اليابان المجاورة، حيث تخضع صادرات الأسلحة إلى قيود بسبب دستور البلاد، فإنّ سيول لا تخضع إلى مثل هذه القيود. وبحلول العام 2022، أصبحت كوريا الجنوبية واحدة من أكبر مصدّري الأسلحة في العالم. وبحسب قاعدة بيانات SIPRI لنقل الأسلحة، تقدّمت كوريا الجنوبية من المرتبة 31 على قائمة أكبر مصدّري الأسلحة العالميين إلى المرتبة السابعة، في الفترة بين 2000 و2020، حيث بلغت قيمة صادرتها من الأسلحة 3 مليارات دولار. وقد ارتفعت قيمة مبيعاتها بشكل أكبر عام 2021، حيث بلغت 7 مليارات دولار، وحققت إنجازاً جديداً مع تجاوز قيمة صادراتها الدفاعية قيمة وارداتها للمرّة الأولى في تاريخها. كذلك، ارتفعت قيمة صادراتها الدفاعيّة بشكل إضافي عام 2022 بعد أن أبرمت صفقة مع بولندا بقيمة 13,7 مليار دولار لإمدادها بالعتاد العسكري الكوري. كما أبرمت كوريا الجنوبية صفقات مع مصر والسعودية وأستراليا.21
تربط علاقات متينة بين كوريا الجنوبية ودول المنطقة بشكل عام، إلّا أنّ صنّاع السياسات في البلاد منحوا تقليديّا الأولويّة للعلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي، لا سيّما السعودية والإمارات، بما أنهما من أكبر مصدّرين الطاقة، وأكبر وثالث أكبر اقتصادين في المنطقة على التوالي من حيث الناتج الإجمالي المحلي.22
وأصبح روه موهيون (حكم بين 2003 و2008) أول رئيس كوري جنوبي يزور الإمارات العربية المتحدة في العام 2006، وقد وقّع في خلال الزيارة على اتفاقية تعاون أمني شكّلت نقطة تحوّل في العلاقات بين البلدين.23 كما أسهم المجلس الاقتصادي المشترك الكوري الإماراتي، الذي تأسّس بالترافق مع توقيع الاتفاقية، في نموّ العلاقات التجارية بين البلدين وتعزيز المشاركة الكورية في مشاريع البنية التحتيّة في الإمارات، في خضم فترة الانتعاش العمراني في البلاد. وقد أرسى ذلك الأسس التي سهّلت على كوريا الجنوبية الاستفادة من موارد الطاقة في المنطقة، وأثمر نتائج إيجابية في عهد الرؤساء الذين تلوا روه موه يون.24
إلّا أنّ الرئيس لي ميونغ – باك (الذي حكم بين 2008 و2013) كان هو الذي وضع الأسس لإستراتيجية أوسع مع الإمارات. إذ كان الرئيس لي، الذي عمل لـ27 سنة في شركة “هيونداي للبناء” (Hyundai Construction) وقاد عدداً من المشاريع في للشرق الأوسط، ضليعاً بشؤون المنطقة وبثقافة الأعمال فيها، ما مكّنه من توسيع استثمارات سيول في الخليج وتعزيزها، بالأخص في الإمارات،25 بما في ذلك تمهيد الطريق لبناء محطة البراكة للطاقة النوويّة، وهو العقد الأكبر الذي تبرمه كوريا الجنوبية مع دولة أجنبيّة في تاريخها. وقد فتح ذلك الباب أمامها للانضمام إلى السوق الدوليّة للطاقة النووية التي تسيطر عليها تقليدياً الولايات المتحدة وفرنسا واليابان وروسيا والصين.
إلّا أنّ الطاقة الكهربائية لم تكن الثمرة الوحيدة للعلاقات بين كوريا الجنوبية والإمارات، ففي بعض الأحيان كانت هذه العلاقات محطّ جدل أيضاً. إذ كشفت التحقيقات التي جرت عقب مغادرة الرئيس لي منصبه عن اتفاقية عسكرية سريّة بين كوريا والإمارات تلزم كوريا بالتدخل عسكرياً من دون المرور بالجمعيّة الوطنيّة الكورية في حال مواجهة الإمارات لأزمة أمنيّة.26 ويبدو أنّ هذه الاتفاقية تمّت مقابل ضمان حصول كوريا الجنوبية على عقد بناء محطة البراكة النوويّة، ما يسلّط الضوء على مدى ارتباط أهداف كوريا الجنوبية في المنطقة بمصالحها الاقتصاديّة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ القوّات الخاصّة الكوريّة تدرّب القوّات العسكريّة الإماراتيّة منذ العام 2010 على الأقلّ.27 وينظر صنّاع السياسات وقادة الأعمال في كوريا الجنوبية بشكل متزايد إلى الإمارات على أنها سوق وأيضاً نموذج لمزيد من التعاون فيما تسعى كوريا لتوسيع حضورها في المنطقة وخارجها، ما تجلّى من خلال تقديم كوريا الجنوبية عروضاً لاحقة لبناء عدد من المحطّات النوويّة في السعودية.28
بالفعل، بذلت الإدارات الكورية الجنوبية المتعاقبة جهوداً حثيثةً لتعزيز علاقاتها مع السعودية التي إلى جانب كونها مصدّر النفط الأكبر إلى كوريا،29 منحت أيضاً عقوداً مدرّة للأرباح للشركات الكورية في ميادين مختلفة. إلى ذلك، تسهم الشركات الكورية الجنوبية بشكل كبير في العمل على تحقيق رؤية السعودية 2030 – المبادرة الاقتصادية الطموحة التي أطلقتها المملكة للتنويع الاقتصادي والتنميّة – وقد ترسّخت هذه العلاقات وأخذت طابعاً رسمياً مع إطلاق “الرؤية السعودية – الكورية 2030”30 التي تعكس الدور المتنامي لكوريا الجنوبية في تطوّر السعودية، مع التركيز على الجانب الاقتصادي، بما يتيح لسيول الاستفادة من موارد الطاقة التي تملكها الرياض وقدراتها الاستثمارية، فيما تستفيد الرياض من الخبرات والمعارف التقنيّة الكورية.31
وقد سلّطت زيارة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لسيول في نوفمبر 2022 الضوء على أهميّة العلاقات بين البلدين بالنسبة للطرفين. وكانت الشركات السعودية استثمرت مليارات الدولارات في كوريا الجنوبية، بما فيها استثمارات بقيمة 5,2 مليار دولار قامت بها عملاقة الطاقة السعودية “أرامكو” واستثمارات بقيمة مليار دولار قامت بها الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك). كذلك، قامت الشركات الكورية الجنوبية باستثمارات في المملكة وصلت قيمتها الإجماليّة إلى حوالي 3,7 مليار دولار في قطاعات متنوعة، من التعدين والمحاجر إلى الكهرباء والغاز والتكييف والنقل والتخزين والتصنيع والبناء.32
مع ذلك، على الرغم من العلاقات المتقدّمة بين البلدين، لم تمنح السعودية معاملة تفضيلية تلقائيّة للعرض الكوري الجنوبي على حساب العروض الفرنسية والروسية والصينية لبناء أوّل محطّة نوويّة في البلاد. وفي حين بات من المستبعد وقوع الاختيار على روسيا نظراً للعقوبات على موسكو واستمرار الحرب في أوكرانيا، فمن وجهة نظر سعوديّة، يتميّز كلّ من العروض المتبقّية بنقاط إيجابيّة وأخرى سلبيّة. وقد أشار بعض التقارير إلى أنّ السعودية تسعى لتخصيب اليورانيوم الخاص بها،33 بدل أن تسير على خطى الإمارات التي قرّرت “التخلّي عن تخصيب اليورانيوم ومعالجة الوقود النووي محليّاً”،34 ما قد يقوّض العرضين الكوري الجنوبي والفرنسي. وفي حين يمكن للعرض الصيني أن يقدّم بعض المرونة لناحية التخصيب، إلّا أنّه قد يثير قلق واشنطن نظراً للمنافسة المتصاعدة بين الصين والولايات المتحدة والمخاوف من الانتشار النووي في المنطقة. وقد أشارت تقاريرٌ إلى أنّ السعودية تسعى إلى تأمين ضمانات أمنيّة إضافيّة من واشنطن، وحتى أن تقدّم واشنطن عرضاً خاصاً بها لإنشاء محطّة نوويّة في السعودية مقابل اتفاقية تطبيع محتملة مع إسرائيل.35 في كلّ الأحوال، على الرغم من هذا المجال التنافسي المتزايد، إن فازت كوريا الجنوبية فسيشكّل ذلك فوزاً كبيراً لها، ويُعزى بجزء منه إلى نجاحها في الإمارات مع محطّة البراكة، وعلاقاتها المتينة مع السعودية.
لقد سعت كوريا الجنوبية وقطر على مدى العقد الماضي إلى تعزيز العلاقات الدبلوماسيّة والسياسيّة والاقتصاديّة بينهما، حيث كانت هذه العلاقات ترتكز تاريخياً على صادرات الطاقة إلى كوريا من جهة، وحصول الشركات الكورية على مشاريع بنية تحتية ضخمة في دولة قطر من جهة أخرى.
يأتي اهتمام كوريا الجنوبية المتجدّد بقطر في وقت تعمل فيه البلاد لزيادة انتاجها من حقل غاز الشمال، ما يُتوقّع أن يجعل من قطر أكبر مصدّر للغاز الطبيعي المسال في العالم بحلول العام 36.2030 وقطر هي بالفعل أكبر مصدّر للغاز الطبيعي المسال إلى كوريا الجنوبية، مما يجعلها ثاني أكبر شريك تجاري لها في الشرق الأوسط.37 في أغسطس 2021، وقّعت شركة الغاز الكورية (كوغاز) على اتفاقية لمدّة عشرين عاماً تنصّ على شراء مليونيّ طنّ من الغاز الطبيعي المسال من “قطر للطاقة” بين العامين 2025 و38.2044 وسبق إبرام هذه الصفقة الحرب الروسية الأوكرانية، ما صبّ في مصلحة سيول في ظلّ تخبّط الدول الأوروبيّة للبحث عن مصادر بديلة عن الغاز الروسي وما نجم عنه من ارتفاع في أسعار الغاز. وتشير هذه الديناميكيات إلى أنّ قطر ستؤدّي دوراً أكبر على صعيد أمن الطاقة بالنسبة لكوريا الجنوبية.
إلى جانب قطاع الطاقة، تمتدّ العلاقات بين الطرفين إلى التجارة والاستثمار في مجالات مختلفة مثل أشباه الموصلات والمركبات الكهربائيّة والطاقة المتجددة كالهيدروجين والطاقة الشمسيّة.39 وفي العام 2022، فازت شركة “سامسونغ سي أند تي” بعقد لبناء أكبر محطّة للطاقة الشمسيّة في قطر تقدّر قيمتها بـ630 مليون دولار.40 وقد أشار المعهد الكوري للسياسة الاقتصادية الدولية (KIEP) وهو مؤسّسة بحثيّة رائدة إلى احتمال حصول تعاون في مجالات أخرى مثل تحلية مياه البحر، بناءً على تجربة كوريا السابقة في كلّ من الكويت وسلطنة عمان.41
وبعيداً عن العلاقات الاقتصاديّة، تؤثّر الديناميكيات الإقليميّة والدوليّة بشكل كبير في مقاربة كوريا الجنوبية لعلاقاتها مع الدول الخليجية. ففي ظلّ اشتداد المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، حرصت سيول على اتباع “دبلوماسيّة متوازنة” ووسطيّة لتجنّب أيّ توتر في العلاقات سواء مع أكبر شريك أمني لها، أي الولايات المتحدة، أو أكبر شريك تجاري لها، أي الصين، على الرغم من تنافسها مع الصين في مجالات التقنية ومشاريع البنية التحتيّة والصناعة.
وتعكس المحادثات الجارية لإنشاء منطقة تجارة حرّة مع دول مجلس التعاون الخليجي رغبة صنّاع السياسات الكوريين الجنوبيين في التقدّم خطوة على الصين التي تُجري هي الأخرى محادثات لإقامة منطقة تجارة حرّة مع دول مجلس التعاون، كما تؤكّد على أهميّة الأسواق الخليجيّة بالنسبة للسلع والخدمات الكوريّة.42 وكانت كوريا الجنوبية ودول مجلس التعاون قد طرحت احتماليّة إقامة منطقة حرّة للمرّة الأولى عام 2007، وانطلقت المحادثات الرسميّة في العام 2009، 43 ولكنّها عُلّقت لـ13 سنة بعد ثلاث جولات من المفاوضات أُجريت ذلك العام. وقد أعيد إحياء تلك المفاوضات مجدداً عام 2022 بعد تولّي الرئيس يول الرئاسة عقب محادثات وزراء التجارة في الدول المعنيّة نهاية العام 2021. تقدّمت العمليّة بسرعة منذ ذلك الحين حيث عُقدت الجولة الرابعة من المحادثات في مارس 44،2022 والخامسة في يونيو،45 والسادسة في أكتوبر46 والسابعة في فبراير 47.2023
وقد شكّل احتمال خفض الرسوم الجمركية البالغة 3 في المئة التي تفرضها كوريا الجنوبية على واردات النفط، أو إلغائها كليّاً حافزاً قويّاً لدول مجلس التعاون كي تقيم منطقة تجارة حرّة مع كوريا الجنوبيّة.48 فإلى جانب الأفضليّة التي تتمتع بها أصلاً الدول الخليجية نظراً لقصر مسافة الشحن إلى كوريا الجنوبية، يمكن لهذه الاتفاقيّة أن تزيد من القدرات التنافسيّة لدول مجلس التعاون في وجه منتجي النفط الأمريكيين. كما يمكن لاتفاقية التجارة الحرّة أن تساعد على إنعاش التجارة غير النفطيّة بين كوريا الجنوبية والدول الخليجية.
كما الحال مع الصين، فإنّ التجارة غير النفطيّة بين كوريا وكلّ من السعوديّة والإمارات ضخمة جداً، ما يفسّر سبب إصرار الدولتين الآسيويتين على عقد اتفاقيات تشمل مجلس التعاون ككلّ، بدل التركيز على إبرام اتفاقيات ثنائيّة مع كلّ دولة على حدة (كما فعلت الهند مع الإمارات).49 فعقب الإعلان الأولي عن المفاوضات التجارية بين الإمارات وكوريا الجنوبية،50 اقترحت السعودية إبرام اتفاقية تجارية تشمل المنطقة ككلّ، حيث تسعى على الأرجح لتوسيع منافع مثل هذه الاتفاقيّة مع الدولة الشرق آسيويّة. وانطلاقاً من ذلك، شدّدت التصريحات حول التعاون الثنائي والاستثمار وتبادل المعارف بين كوريا الجنوبية والإمارات على “العلاقة المميّزة” بين البلدين في إطار اتفاقيّة التجارة الحرّة الأوسع بين مجلس التعاون الخليجي وكوريا الجنوبية.51
والمنافس الآسوي الرئيسي الآخر لكوريا الجنوبية هي اليابان، التي لا تزال متقدّمة بشكل واضح على صعيد صادرات المركبات وغيرها من وسائل النقل. إلّا أنّ هذا الواقع قد يتغيّر في حال حصلت كوريا أو الصين على عفو من الرسوم الجمركيّة الإماراتية المفروضة على السيارات المستوردّة البالغة 5 في المئة والرسوم على الشاحنات البالغة 12 في المئة.52 في غضون ذلك، تسعى كلّ من اليابان والصين إلى تأمين دور لها في قطاع الطاقة المتجددة في المنطقة، ما يعني المزيد من المنافسة لكوريا الجنوبية في هذا المجال أيضاً، على الرغم من فوزها بمشاريع ضخمة مثل عقد “سامسونغ” لبناء محطّة للطاقة الشمسيّة في قطر.53
فيما تميل كفّة الميزان الاقتصادي العالمي نحو آسيا، تتطلّع دول مجلس التعاون الخليجي إلى الشرق بحثاً عن تعزيز العلاقات مع القوى الآسيوية الأربعة الكبرى: الصين واليابان وكوريا الجنوبيّة والهند.54 وفي حين كانت الصين في الطليعة، إلّا أنّ التقارب مع بكين يحمل أعباء سياسية نظراً لتنافسها مع الولايات المتحدة، الحليفة التاريخية لدول مجلس التعاون الستّة. ويعطي ذلك الدول الخليجية دافعاً إضافيّاً لتوسيع علاقاتها مع دول مثل كوريا الجنوبية واليابان والهند. وفي حين لا يزال الطريق نحو إبرام اتفاقيّة التجارة الحرّة بين كوريا الجنوبية ومجلس التعاون الخليجي متعثّراً، فمن شأن توصّل سيول إلى توقيع مثل هذه الاتفاقيّة مع مجلس التعاون الخليجي أن يمنحها فرصة ممتازة لتعزيز المكاسب التي حققتها على مدى السنوات القليلة الماضية وترسيخها.
ويمكن لكوريا الجنوبية أن توسّع دورها الأمنيّ أيضاً، بالأخصّ في المجال البحري. وتشير الإستراتيجية الأمنيّة الوطنيّة التي أطلقتها كوريا الجنوبية مؤخراً، وهي الأولى في عهد الرئيس يول، إلى مقاربة البلاد تجاه التغيّرات المستمرّة التي تطرأ على النظام الدولي وإلى طموحاتها للاضطلاع بدور أكبر في تعزيز النظام الدولي وبناء قدراتها العسكريّة الخاصة.55 وكانت كوريا الجنوبية قد أطلقت في العام الماضي إستراتيجيتها لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ التي تناولت عدداً من هذه الموضوعات، وسلّطت الضوء على التحدّيات التي تواجهها تلك المنطقة، بما في ذلك الوضع الأمني المتزعزع واشتداد المنافسة الجيوسياسية والاضطرابات المحتملة في سلاسل الامداد.56
ونظراً لأهميّة امدادات الطاقة من مجلس التعاون الخليجي، يمكن لكوريا الجنوبية أن تزيد إسهاماتها في القوات البحريّة المشتركة بقيادة الولايات المتحدة التي وسّعت نطاقها الجغرافي في العام الماضي لتضمّ البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن.57 ومن شأن هذا التوسّع أن يظهر التزام كوريا الجنوبيّة بأمن المنطقة واستقرارها ويبرز قدرات البلاد في مجال بناء السفن والتكنولوجيا.58