بعد أن عانت السياسة الدبلوماسية والخارجية شبه شللٍ طوال السنوات العشرة التي حكم فيها عبد العزيز بوتفليقة، أطلقت القيادةُ الجديدة ما بعد الحراك برئاسة عبد المجيد تبون سياسةً خارجية شاملة آيلة إلى جعل الدبلوماسية الجزائرية أكثر ديناميكيةً واستباقيةً بهدف تمكين الجزائر من استعادة نفوذها على الساحتين الإقليمية والعالمية.
تركّز سياسة الجزائر الخارجية بشكل رئيسيّ حول الجوار المباشر، لا سيّما ليبيا ومنطقة الساحل اللتين ترزحان تحت أزمةٍ حادة. وواجهت صحوةُ السياسة الخارجية الجزائرية تحدّيات جمّة: فقد أعاق التدخّلُ الخارجي في ليبيا دبلوماسيةَ الوساطة الجزائرية، فيما اصطدم تنفيذ اتفاقية الجزائر في منطقة الساحل بصعوبات. في هذه الأثناء، أدى التحالفُ المغربي الإسرائيلي إلى حالة شبه حرب.
يتمثّل الهدفُ الرئيسي للسياسة الخارجية بمواجهة التحالف بين المغرب وإسرائيل. بهدف تحقيق ذلك، أصبح تحسين العلاقات مع مصر وبلدان مجلس التعاون الخليجي، أو بالأحرى مع باقي العالم العربي، أمراً حاسماً. تُعتبر المحافظةُ على علاقات جيدة مع القوى العظمى وسائر الدول وصون ركائز السياسة الخارجية الجزائرية، الدافِعَين الرئيسيين وراء السياسة الخارجية الجديدة.
لقد منحت الحربُ بين روسيا وأوكرانيا سياسةَ الجزائر الخارجية فرصاً جديدة بفضل موارد الطاقة التي تزخر بها. من شأن الإصلاحات الداخلية وتراكم الثروات أن تساعد الجزائر على استعادة نفوذها في مجال الشؤون الخارجية، ولا بدّ من أن تضع على رأس أولوياتها أخذ زمام المبادرة في الشؤون الإفريقية والانضمام إلى مجموعات نافذة على غرار مجموعة “بريكس” (التي تضمّ الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا).
في مطلع العام 2019، دعا الحراك، وهو حركة سلمية على صعيد الوطن، إلى الإطاحة بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة. فأرغمته القيادةُ العسكرية على تقديم استقالته، ما منعه من الترشّح لولايةٍ خامسة. انتُخب عبد المجيد تبون رئيساً جديداً في نوفمبر 2019، وكان مصمِّماً على إصلاح الدبلوماسية الجزائرية، الأمر الذي تجلّى في خطاب تنصيبه الذي ألقاه في 19 ديسمبر 2019، 1 ذكر فيه أنّ ليبيا المجاورة هى إحدى أولوياته وأعاد التأكيد على دعم الجزائر لحركات التحرير الوطنية وحق الشعبين الفلسطيني والصحراوي في تقرير المصير. في غضون ذلك، اشتكت السلطاتُ الجزائرية الجديدة من تراجع السياسة الخارجية الجزائرية على مدى العقد المنصرم2. فأعلن تبون في فبراير 2020 أنّ سياسة الجزائر الخارجية ستكون “دينامية واستباقية”، الأمر الذي سيضمن وضع البلاد كـ”قوةٍ إقليمية”.3 هذا يُفسّر الدبلوماسية الشاملة التي انطلقت بُعيد استلام تبون زمام الحكم.
ينظر هذا الموجز في المواضيع الرئيسية الي أدرجتها القيادةُ الجزائرية الجديدة على قائمة أولوياتها والسبل التي استخدمتها لمعالجتها. لعلّ النظرية الكامنة هي أنّ قيادة تبون ترمي إلى التغلّب على الجمود الذي شابَ السياسةَ الخارجية والدبلوماسية الجزائرية في خلال الولايتين الأخيرتين للرئيس بوتفليقة وتمكين سياسة الجزائر الخارجية من استعادة “عصرها الذهبي” (1962-1978).4 وتسعى الحكومة إلى تحقيق هذا الهدف مع المحافظة في الوقت نفسه على المبادئ التي تقيّدت بها سياستُها الخارجية منذ نشوء الحركة القومية في الثلاثينيات من القرن الفائت،5 ألا وهي: السيادة الوطنية، ودعم حركات التحرير القومية والحق في تقرير المصير، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وعدم الانحياز،6 ومعارضة القواعد العسكرية الأجنبية، والتكتلات والتحالفات العسكرية، بالإضافة إلى الحل السلمي للنزاعات.7
يكتسب المغرب العربي ومنطقة الساحل أهميةً بالغة بالنسبة إلى الجزائر، لمّا كانت أولوياتها الثلاثة الصراع في ليبيا، والعلاقات المتوتّرة مع المغرب، وتحقيق الاستقرار في منطقة الساحل –لا سيما في مالي.
لمّا كانت الجزائر تشعر بأنها مهمّشة على الجبهة الليبية، تعهّدت برفض إبعادها عن الحلول المقترحة في الملف الليبي لأنها أكثر المعنيين باستقرار الدول المجاورة.8 لقد كان الهدفُ المساعدةَ في التوصّل إلى مصالحةٍ بين القوى الليبية، ورفض تدخّل كافة القوى الأجنبية، والمحافظة على سيادة ليبيا. دفع الحيادُ الذي أبدته الجزائر في الصراع المتشعّب بين الأطراف الليبية ودورها المحتمل كوسيطٍ، ببعض الدول (إيطاليا ومصر وتركيا وألمانيا) إلى الاتّكال على انخراطها لإحلال السلام والاستقرار في ليبيا، ما أسفر عن مشاركة الجزائر في مؤتمر برلين الدولي حول ليبيا الذي انعقد في 19 يناير 2020. 9 وقد اتّخذت الحكومةُ الجزائرية، سعياً منها لتحقيق أهداف المؤتمر، عدداً من المبادرات، على غرار التعاون الوثيق مع تونس. والتقى وزراء خارجية ليبيا وتونس والجزائر في عدة مناسبات بغية التوصّل إلى حلٍ سياسي توافقيّ.10
يُهدّد استمرارُ الأزمة في ليبيا، التي تتشاطر مع الجزائر حدوداً طويلة، ووجودُ منظمات إرهابية عابرة للحدود الوطنية، أمنَ الجزائر القومي ومصالحها في مجال الطاقة في جنوب البلاد.11 بيد أن محاولاتها الرامية إلى حلّ الأزمة بشكلٍ سلمي اصطدمت بأطراف كمصر، التي تُعتبَر خصمها الرئيسي في المنطقة، ودولة الإمارات العربية، وفرنسا، وبدرجةٍ أقل روسيا12 التي دعمت خليفة حفتر في الشرق، وتركيا التي ساندت الحكومةَ في الغرب. بهدف تحقيق أهدافها، قامت الجزائر باستدعاء خبرائها المعنيين بالشأن الليبي الذين أُجبروا على التقاعد بعد سنة 2015، 13 كما أعادت إحياء روابطها التقليدية مع القبائل الليبية النافذة.14 تتمتّع الجزائر بخبرةٍ واسعة في مجال الوساطة، مما يعني أنه يمكنها الاضطلاع بدورٍ أساسي في المصالحة بين الفصائل الليبية المتخاصمة. تماشياً مع ذلك، بوسع الجزائر طلب الدعم من موسكو وأنقرة اللتين تربطها علاقات ممتازة بهما.
شدّد تبون، في خطاب تنصيبه، على أنّ “المغرب العربي (…) أحد اهتماماتنا وسندعم التعاون والعلاقات الودّية مع البلدان المجاورة”. غير أن التوتّر مع المغرب بشأن الصحراء الغربية ومسائل أخرى كالتجارة والأمن على سبيل المثال ظلّت عائقاً حقيقياً أمام إحياء اتحاد المغرب العربي. وفي ما يتعلق بالقيادة الجديدة، كان بوتفليقة قد تجاهل مسألة الصحراء الغربية من خلال إعطاء تعليمات للمسؤولين بعدم الردّ على أي عملٍ مغربي عدائي.15 لذا، فإن تعيين المبعوث الخاص المكلّف بقضية الصحراء الغربية وبلدان المغرب العربي، عمار بلاني،16 في سبتمبر 2021 أعاد التأكيد على الأهمية التي تُعلّقها القيادةُ السياسية والعسكرية على الصحراء الغربية بصفتها أولوية قصوى في سياسة الجزائر الخارجية. يردّ بلاني، الذي كان سفيراً لدى الاتحاد الأوروبي، بشكل فوري عبر وسائل الإعلام على ما تعتبره الجزائر استفزازاً مغربياً.
سارت العلاقات الجزائرية المغربية من سيء إلى أسوأ: بادئ ذي بدء، بعد أنّ شنّ المغرب هجوماً على متظاهرين صحراويين في الكركرات المنطقة العازلة في جنوب الصحراء الغربية في نوفمبر 2020. 17 وبعد شهرٍ، أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية مقابل قيام المغرب بتطبيع العلاقات مع إسرائيل.18 وتعتبر الجزائرُ التعاونَ العسكري والاستخباراتي بين المغرب وإسرائيل تهديداً لأمنها القومي، إلّا أنّ عتبة احتمال الجزائر حيال “الأعمال العدائية” المغربية تمّ تجاوزها في منتصف شهر يوليو 2021 عندما وزّع السفير المغربي لدى الأمم المتحدة مذكّرة أعربت عن الدعم للحركة الانفصالية من أجل تقرير المصير في منطقة القبائل (MAK) التي أدرجتها الجزائر على لائحة المنظمات الإرهابية.19
أمّا العمل الآخر الذي اعتبرته الجزائر عدائياً، فكان فضيحة تجسّس واسعة النطاق كشفتها مجموعةٌ من الصحف العالمية ومنظمات حقوق الإنسان. فقد اكتشفت أنّ المغرب استهدف أكثر من 6 آلاف جزائري، من ضمنهم مسؤولين سياسيين وعسكريين رفيعي المستوى، الأمر الذي أدّى إلى قيام الجزائر بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب في أغسطس2021. 20 وكانت المخاوف من اندلاع مواجهةٍ عسكرية حقيقيةً.21 وكما أُشير، فإن “الدفء في العلاقات بين المغرب وإسرائيل يُدخل هذه القوة الإقليمية المثيرة للجدل في توازن القوى الدقيق في المغرب العربي للمرة الأولى”.22 بفعل التعاون العسكري المتزايد بين المغرب وإسرائيل، تخشى الجزائر أن تكون مستهدَفة بسبب رفضها تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وروابطها الوثيقة مع روسيا والصين، ودعمها غير المشروط للقضيتين الفلسطينية والصحراوية.
يعكس الحضور المتجدّد للجزائر في أفريقيا المكانة التي تحتلها شؤون هذه القارة في السياسة الخارجية الجزائرية،23 التي تُعطي الأولوية القصوى لمنطقة الساحل.24 في مالي، بذلت الجزائر مساعٍ حثيثة بغية المساعدة على حلّ الأزمة، فقدّمت خبرتها في المفاوضات على اتفاقات سلام بين باماكو ومختلف مجموعات المعارضة. وتستمرّ الجزائر في لعب دور الوساطة والتأكّد من تطبيق اتفاق باماكو الموقّع في أبريل 2015. 25 قام وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، الخبير في الشؤون الأفريقية الذي كان يشغل منصب مفوّض الاتحاد الأفريقي للسلام والأمن، بزيارةٍ إلى باماكو في أغسطس 2021 26 حيث أعاد التأكيد على التزام الجزائر بتطبيق اتفاق السلام والمصالحة في مالي، من خلال مواصلة الحوار مع كافة الأطراف.
يُشكّل اتفاقُ السلام الذي رعته الجزائر إطاراً عمليّاً لتعزيز العودة إلى استقرارٍ دائم في مالي. وخوفاً من زيادة زعزعة الاستقرار بسبب التوتّر بين فرنسا ومالي، سعت الجزائر إلى التوسّط لمصالحةٍ بين الطرفين.27 تُشكّل قضية الطوارق ومحاولاتهم الانفصالية مصدر قلق شديد للجزائر، التي تضم سكاناً من الطوارق. وتخشى السلطات الجزائرية أن تؤدّي الآثار التعاقبية من مالي والنيجر إلى زعزعة الوضع في الجزائر.28
في منطقة الساحل، بالإضافة إلى الدور الرئيسي الذي تضطلع به الجزائر في الحرب على الإرهاب، يتجلّى نشاطُها السياسي والاقتصادي الإقليمي في إحياء مشروع خط أنبوب الغاز العابر للصحراء الذي يرمي إلى تصدير الغاز من نيجيريا إلى أوروبا مروراً بالجزائر. وفي فبراير 2022، وقّعت كلّ من الجزائر والنيجر ونيجيريا على إعلان نيامي لاستئناف العمل لإنجاز خط أنبوب الغاز العابر للصحراء على مسافة 4,128 كيلومتر، لنقل الغاز من نيجيريا عبر النيجر إلى الجزائر.29 وفي يوليو 2022، وقّع وزراء الطاقة الثلاثة على مذكّرة تفاهم من أجل المضي قدماً في إنجاز مشروع خط أنبوب الغاز العابر للصحراء.30 وسيؤمّن هذا المشروع عند إتمامه 30 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً للأسواق الأوروبية عبر الجزائر ويزوّد المحطات الداخلية على طول مساره، إلّا أـنّه لم ترد أي إشارة حتى الآن إلى تاريخ إتمام المشروع. في نهاية المطاف، سيسمح هذا المشروع لأوروبا من جهة أن تنوّع مصادر إمدادات الغاز عقب الأزمة التي يتخبّط فيها قطاعُ الطاقة بسبب الحرب الأوكرانية الروسية، ويساهم من جهة أخرى في خلق مصادر إيرادات مهمة لأسواق الغاز الإفريقية.31
دعا المجمتع المدني ووسائل الإعلام ومسؤولون سابقون في الجزائر الحكومةَ إلى مغادرة جامعة الدول العربية32 كونها غير فعّالة، لا سيما في سياق التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل الذي اعتُبر خيانةً للفلسطينيين، وعجزها عن الوقوف في وجه تدخلات الغرب في شؤون الدول العربية (ليبيا والعراق وسوريا واليمن). بيد أنّ الجزائر رأت أنّه آن الأوان لعقد قمّة عربية تُعطي الأولوية للقضية الفلسطينية.33 وتمثّل التحدي بجمع الزعماء العرب كافّة في القمّة وتخطّي اختلافاتهم والتوصّل إلى مواقف مشتركة.34
بالتالي، أجرى الرئيس الجزائري ووزير الخارجية جولةً في المنطقة في مسعى لإقناع الدول العربية بالمشاركة في القمة المزمع عقدها يومي 1 و2 نوفمبر 2022. ومن شأن هذه القمّة أن تُجسّد فرصةً جديدة أمام الحكومة الجزائرية لترسيخ عودتها إلى كنف العالَمَين الإفريقي والعربي. غير أنّ الجزائر قد تكون اعتبرت أنّ القمة العربية الخماسية التي انعقدت بقيادة مصر في أغسطس 2022 في مدينة العلمين35 والتي جمعت قادة دول مصر والإمارات العربية المتحدة والعراق والأردن والبحرين، تُشكّل محاولةً لعرقلة القمّة العربية التي تنوي الجزائر عقدها في نوفمبر القادم.
أمّا في ما يتعلق بمنطقة الخليج، فقد سعت الجزائر إلى تحسين علاقاتها الثنائية على المستويين السياسي والاقتصادي وحققّت بعض النجاحات، لا سيما مع قطر. ففي فبراير 2022، قام الرئيس تبون بزيارة إلى الدوحة دامت يومين، حيث شارك في القمة السادسة لرؤساء دول وحكومات منتدى الدول المصدّرة للغاز.36 وكان الهدف من الزيارة إقناع الدوحة بحضور القمة العربية في الجزائر وتكثيف التعاون الاقتصادي. لهذه الغاية، تمكّنت الجزائر من استقطاب الاستثمارات القطرية في مجال السياحة ومشاريع الصلب.37
قبل ذلك بشهر، صرّح وزير الخارجية الكويتي أنّ الكويت ستشارك في القمة.38 تجدر الإشارة إلى أنّ في خلال زياره تبون إلى الكويت، أعلن أنّ “الجزائر ستدافع دائماً عن الدول الخليجية”.39 وفي العام 2020، زار تبون المملكة العربية السعودية.40 من الواضح أنّ الجزائر تسعى إلى إقامة علاقات جيّدة مع الدول الخليجية لمقابلة الدعم الذي يقدّمه مجلس التعاون الخليجي للمغرب41 ولجذب الاستمثارات الأجنبية المباشرة التي هي بأمسّ الحاجة إليها. ولكن خلافاً للجزائر التي تُعتبر روابطها بدول مجلس التعاون الخليجي محدودةً،42 يتلقّى المغرب 40 بالمئة من الاستثمارات المباشرة من دول المجلس.43 وقد وصل حجم التبادل التجاري بين الجزائر ودول مجلس التعاون الخليجي إلى 1,7 مليار دولار.44
عندما تسلّم السياسيون المصمّمون على زعزعة الوضع الراهن الذي ساد في عهد بوتفليقة، الحكمَ في حقبة ما بعد الحراك، نتجت عن هذا التغيّر في السياسة أزمتان كبيرتان مع فرنسا وإسبانيا.
في أكتوبر 2021، استدعت الجزائر سفيرها لدى باريس، محمد عنتر داود، على خلفية تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي قال إنّ الجزائر أنشأت بعد استقلالها عام 1962 “ريعاً للذاكرة” كرّسه “النظام السياسي العسكري”.45 فجاءت ردّة فعل السلطات في الجزائر حازمة، إذ شعرت بأنّها إهانة للشعب الجزائري، لا سيما لدى تساؤله “هل كانت هناك أمّة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟”46 وفي نهاية المطاف، ونظراً لأهمية العلاقات الفرنسية الجزائرية، بدأت هذه العلاقات تعود إلى طبيعتها بعد إعادة انتخاب ماكرون في أبريل 2022، كما ساهمت زيارة ماكرون إلى الجزائر من 25 حتى 27 أغسطس 2022 في تبديد بعض المسائل الخلافية.47 غير أنّ مسألة الذاكرة قد تعود مرة أخرى إلى الواجهة وتتسبّب بأزمةٍ جديدة.
أمّا الأزمة المستمرّة الثانية، فهي مع إسبانيا التي نكثت حكومتها الاشتراكية حيادَ إسبانيا حيال الصراع في الصحراء الغربية واصطفّت إلى جانب المغرب في وجه الصحراويين.48 قبل اندلاع الأزمة، كانت تربط الجزائر بإسبانيا علاقات ممتازة رسّختها “معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون”. بيد أن التبدّل المفاجئ في موقف إسبانيا –في انتهاكٍ للشرعية الدولية- دفع بالجزائر إلى استدعاء سفيرها لدى مدريد، سعيد موسي، وتعليق معاهدة الصداقة ووقف العمليات التجارية، باستثناء تصدير الغاز الطبيعي.49
على الرغم من أنّ لطالما كانت العلاقات ممتازة بين إيطاليا والجزائر، استفادت روابطها الوثيقة من الأزمة الأخيرة بين الجزائر وإسبانيا. ووقّع البلدان في يوليو 2022 على 15 اتفاقاً ومذكّرة تفاهم في خلال القمة الرابعة ما بين الحكومات الجزائرية الإيطالية.50 وتشمل هذه الاتفاقات مجموعةً واسعة من القطاعات، من ضمنها صناعة الأدوية، والتعليم العالي، والطاقة المتجدّدة، وغيرها.51 مع نشوب الحرب في أوكرانيا والاضطراب في إمدادات الغاز الروسي، احتلّت الجزائر مكانةً أكبر لدى إيطاليا في موازاة توقّع الجزائر أن تستثمر إيطاليا في قطاع الطاقة الجزائري وفي مجالات اقتصادية أخرى.
بهدف أن تضمن الجزائر فعالية سياستها الخارجية، اضطرّت إلى إيجاد توازن بين علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، شريكتها في الحرب على الإرهاب،52 والصين شريكتها التجارية الرئيسية،53 وروسيا مزوّدتها الأساسية بالأسلحة.54 وفي أبريل 2022، جدّد تبون تأكيده على سياسة عدم الانحياز التي تعتمدها الجزائر، مشدّداً على أنّ هذا لا يعني أنّها صديقة للجميع.55
يربط الجزائر بالولايات المتحدة حوارٌ استراتيجي وحوارٌ عسكري مشترك، وهذا ما كرّره وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن في العاصمة الجزائرية في مارس2022 .56
إلّا أنّ السياسة الخارجية الجزائرية غالباً ما كانت تختلف مع السياسة الخارجية الأمريكية (في فيتنام والعراق وفلسطين والصحراء الغربية وسوريا وليبيا وغيرها من القضايا).57 غدت الجزائر منذ عام 2019 متوجسةً بصورةٍ مطّردة إزاء السياسة الأمريكية حيالها، إذ عارضت الولاياتُ المتحدة تباعاً تعيينَ وزيرَي خارجية جزائريين سابقَين لشغل منصب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لليبيا، رمطان لعمامرة58 وصبري بوقادوم،59 على التوالي، مما أثار ذهولَ الجزائريين.
بيد أنّ الضربة القاضية للعلاقات الأمريكية الجزائرية كانت من دون أدنى شك اعتراف ترامب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية،60 الذي لم تتراجع عنه إدارةُ بايدن على الرغم من الدعم الأمريكي المتناقض للعملية التي تقودها الأمم المتحدة. ترى الجزائر أنّ وجود إسرائيل في المغرب، مقروناً بالتبدّل المفاجئ في الموقف الإسباني من الصحراء الغربية، يعني أنّ الولايات المتحدة تسعى إلى الضغط بصورةٍ غير مباشرة على الجزائر من أجل تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. كما ذُكر، فإن “الجزائر تَعتبر بعض سياسات إدارتي ترامب وبايدن مُضرّة بمصالحها الحيوية وبمصالح الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”.61 وقد جاء ردّ فعل الجزائر على هذا التطوّر معتدلاً وقد حاولت الولايات المتحدة جاهدةً تبديد مخاوفها. غير أنّ القلقَ العميق الذي يُساور الجزائر بأن يؤدّي تحالفٌ مغربيّ إسرائيلي62 إلى تغيير ميزان القوى الإقليمي سيُعزّز لا محالة علاقات الجزائر مع كلّ من الصين وروسيا.
العلاقات الصينية الجزائرية: لا تقتصر على التجارة
تكثّفت العلاقات الصينية الجزائرية منذ مطلع عام 2000 فقطعت أشواطاً كبيرة على الصعيدين الاقتصادي والتجاري.63 في العام 2019، تخطّى إجمالي حجم التبادل التجاري بين الصين والجزائر 9 مليارات دولار وبقيت الصين المزوّد الأول للبلاد، مستحوذةً على نسبة 18,25 في المئة من واردات الجزائر.64 ظلّ حجم التبادل التجاري بينهما على حاله عام 2020 على الرغم من الجائحة. تتشاطر الجزائر مع الصين العديد من المقومات المشتركة في السياسة الخارجية، مثل عدم التدخّل في شؤون الدول الأخرى الداخلية، وتنمية بلدان الجنوب، وعدم الانحياز. غير أنّ الواقع الجيوسياسي الناجم عن اتفاقات ابراهام والتعاون العسكري والاستخباراتي بين المغرب وإسرائيل قد خلقا ديناميةً سياسية وعسكرية جديدة. إذ تستحوذ الصين تدريجياً على حصة كبيرة من سوق الأسلحة في الجزائر التي تستمرّ في تنويع مصادرها لشراء الأسلحة. فقد اشترت الجزائر أسلحة صينية متطوّرة، على غرار صاروخ الدفاع الساحلي الصيني CM-302 (YJ-12B) رباعي الصوت في نسخته من الأرض إلى البحر. ولعلّ ذلك يُشكّل وسيلة لضمان دعم الصين التي يمكن أن تعتمد الجزائر عليها في حال اندلاع نزاع مسلّح مع المغرب الذي يحظى بدعم إسرائيل والولايات المتحدة.65
ترسّخ دعمُ الجزائر المطلق للصين في خلال زيارة نانسي بيلوسي إلى تايوان في 2 أغسطس 2022، 66 حين أعادت الجزائر التأكيد على التزامها بمبدأ الصين الواحدة وأعربت عن أملها بأن تتقيّد الولايات المتحدة بأحكام البيانات المشتركة الثلاثة بين الولايات المتحدة والصين67 وتضع حداً لتدخّلها في شؤون الصين الداخلية.68
روسيا والجزائر: حياد تجاه الصراع بين روسيا وأوكرانيا وتمتين للروابط
لاطالما كانت العلاقات الروسية الجزائرية متينةً منذ استقلال الجزائر وقد تطوّرت لتتخطّى المجالَ العسكري.69 ففي خريف 2021، أجرى الجيشان تدريبات لمكافحة الإرهاب في مدينة أوسيتيا الواقعة جنوب غرب روسيا.70 وبين 1 و7 سبتمبر 2022، شاركت القوات المسلّحة البرّية الجزائرية في تمرين القيادة والأركان “الشرق 2022” في روسيا إلى جانب 13 دولة أخرى.71 وفي نوفمبر 2022، سيجري المظلّيون الجزائريون والروس تدريبات عسكرية تكتيكية في قاعدة حماقير بالقرب من ولاية بشار جنوب غرب الجزائر.72
أما في ما يتعلّق بالحرب بين روسيا وأوكرانيا، فقد اتّخذت الجزائر موقفاً محايداً، نظراً لعلاقاتها الحميدة مع البلدين، تأكيداً على “التزامها بالسلام والسعي وراء حلّ تفاوضي”.73 وفي أبريل الماضي، صوّتت الجزائر ضدّ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الداعي إلى إقصاء روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة،74 مشدّدةً على تمسّكها الدائم بقواعد ومبادئ القانون الدولي الإنساني الأساسية وسائر القوانين والمواثيق الدولية.
ونظراً لأن الجزائر مؤيّدة للحلّ التفاوضي، انضمّت إلى مجموعة الاتصال العربية التي تتألّف من وزراء خارجية الأردن والسودان والعراق ومصر، بالإضافة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، والتي أطلقت مشاورات مع وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا في موسكو وبولندا على التوالي.75 وعلى الرغم من أنّ الجزائر أكّدت على ضرورة احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها، إلّا أنّها شدّدت أيضاً على وجوب “استيعاب الشواغل الأمنية المشروعة للأطراف المعنية”.76 وفي خلال الزيارة التي قام بها سيرغي لافروف إلى العاصمة الجزائرية في مايو 2022 بهدف تمتين التعاون بين البلدين وتعزيز الشراكة الاستراتيجية التي تمّ توقيعها عام 2001، أعرب عن تقديره لموقف الجزائر المتّزن من الصراع بين روسيا وأوكرانيا.77
تبذل السياسةُ الخارجية الجزائرية جهوداً ناشطة منذ العام 2019 من أجل تجاوز الشلّل الذي عانته في العقد الأخير من ولاية بوتفليقة. وتسعى الجزائر، في محاولةٍ لإحياء “العصر الذهبي” لسياستها الخارجية والمحافظة على مبادئها الرئيسية في آن، إلى إثبات أنّه يمكنها الاضطلاع بدور دبلوماسي واقتصادي على الساحتين الإقليمية والعالمية.
وقد أرغمت التطوّرات الإقليمية الجزائر على معالجة قضاياها الداخلية وتمتين سياستها الدفاعية وانتهاج سياسة خارجية شاملة، كما وساهمت الحرب الروسية الأوكرانية في تمكينها في مجال الطاقة في ظلّ سعي أوروبا إلى الحدّ من اعتمادعا على روسيا واللجوء إلى الجزائر كأحد مزوّديها الرئيسيين بالغاز الطبيعي. سيبقى التعاونُ العسكري بين المغرب وإسرائيل الهاجسَ الأول للسياسة الخارجية الجزائرية والتهديدَ الأبرز لأمنها القومي، خاصة في ضوء قرار المغرب السماح ببناء قواعد إسرائيلية على أراضيه.78 وسيؤدي ذلك حتماً إلى تقاربٍ أوثق مع شريكيها التقليديين، ألا وهما الصين وروسيا.
وستواصل الجزائر أيضاً دبلوماسيتها الشاملة لإثبات دورها كقوةٍ متوسّطة في المنطقة ولحماية مصالحها، لا سيما على طول حدودها. وفي الوقت الذي ستحافظ فيه الجزائر على توازن علاقاتها مع القوى العظمى، ستؤدّي دورها التقليدي كوسيطٍ 79في الصراعات المتعدّدة، ولكنها ستحاول أيضاً تعزيز علاقاتها مع الدول الخليجية بغية التصدّي للتحالفات. ومن شأن الاهتمام الذي تُبديه الجزائر في الاندماج مع مجموعة البريكس80 أن يساعدها على استعادة المكانة التي كانت تحتلّها على الساحة الدولية.
الهوامش