وصل العراق إلى حافة الحرب الأهلية في شهر أغسطس عقب تراشق الاتهامات المتبادلة بين مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري الذي يعدّ أقوى حركة اجتماعية سياسية في العراق وقائد تنظيم سرايا السلام الذي يعدّ إحدى أقوى الميليشيات في البلاد، وبين تجمّع أحزاب وميليشيات متحالفة مع إيران معروفة باسم الإطار التنسيقي الشيعي.1 واندلعت الاشتباكات بعدما اقتحم أنصار الصدر مبنى البرلمان العراقي للمرة الثانية في غضون أسبوع، حيث قاموا بتجاوز المنطقة الخضراء واحتلالها، بما فيها القصر الجمهوري. وقد أسفرت هذه الاشتباكات عن مقتل 42 مواطناً وإصابة عدد أكبر.2 ولم يأتِ هذا العنف من عبث،3 إذ نشأت التوترات التي كانت عنيفة أحياناً منذ زمن بين الصدر وأبرز الجهات الفاعلة في الإطار التنسيقي الشيعي، بما فيها عصائب أهل الحق التي تُعتبر منظمة ميليشياوية سيّئة السمعة بقيادة قيس الخزعلي؛ وهو أحد أقرب المنافسين للصدر على النفوذ في أكثر المناطق المحرومة والفقيرة التي يقطنها شيعة العراق، ولا سيما مدينة الصدر في بغداد.
وحدثت أيضاً اختلافات صارخة بين الصدر ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي حرّض على تنفيذ عملية صولة الفرسان في مارس 2008، وأدّت إلى طرد الصدريين من البصرة وإجبار الصدر نفسه على اختيار المنفى الاختياري في إيران.4 صحيحٌ أنّ اشتباكات أغسطس استمرّت ليومَين فقط، إلّا أنّها اندلعت على خلفية توترات في عملية تشكيل الحكومة والمنازعات العنيفة المستمرة في بغداد والجنوب الشيعي. وأبرز الصراع أيضاً الاختلافات السياسية بين الصدر ومنافسيه المتحالفين مع إيران، إذ يريد الأول إجراء انتخابات جديدة، فيما يعارض منافسوه ذلك. وفي شهر أكتوبر، بعد انقضاء عامٍ على الانتخابات، عُيّن محمد شياع السوداني5 رئيساً مكلّفاً جديداً للوزراء. لكن قد تفشل هذه الخطوة في تهدئة التوترات لأنّ الصدر يعتبر السوداني وكيلاً عن المالكي، وبالتالي رفض تماماً تعيينه وانضمامه للحكومة الجديدة.6 ومن الممكن أن يؤدّي حكمٌ صادر عن المستشار القانوني للبرلمان، يقضي بعدم شرعية استقالة نواب التيار الصدري البالغ عددهم 73 نائباً في يونيو، إلى تخفيف حدّة التوترات ومنح الصدر سبيلاً لحفظ سمعته والتحاور مع الحكومة الجديدة،7 لكنّ الصدر رفض الاقتراح.8
وبمعنى آخر، ستغيّر العداوات المتأصّلة شكل العلاقة بين الصدر ومنافسيه من الآن فصاعداً. وتمهّد هذه الديناميات مجتمعةً الساحة العراقية لصراع واسع النطاق من شأنه إقحام البلاد في حرب أهلية. ويبحث موجز القضية هذا في إمكانية تجنيب العراق الوقوع في حرب كارثية، ودور الجهات الفاعلة الخارجية في تخفيف حدة التوترات، بالإضافة إلى ما قد تعنيه الأزمة الحالية بالنسبة للعالم العربي. ويقدّم الموجز توصيات للقوى الإقليمية والغربية بشأن كيفية مساعدة العراق في تجنّب حصول صراع على أراضيه، وتحقيق توازن أكثر فعالية لعلاقاته مع إيران والدول الخليجية في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية.
سيستمرّ تأثير تداعيات الانتخابات العراقية التي جرت في أكتوبر 2021 في مستقبل البلاد على المدى الطويل. ففي حين اتّسمت الانتخابات السابقة بتكتلات عرقية وطائفية حشدت قواها للاعتراض على عملية الانتخابات، سلّطت إنتخابات أكتوبر 2021 الضوء على المناح السياسي المتشرذم، وبالتالي تشرذم نظام سياسي لطالما شاع فيه تقاسم السلطة بين الكتل العرقية الطائفية والمنازعات السياسية. ولاحظت الأحزاب السنية والشيعية والكردية المهمّة أنّ أصواتها تجزّأت وحصصها ما بعد الانتخابات انقسمت، مما زاد التقلبات السياسية. وقد أدّى ذلك إلى اندلاع اشتباكات أغسطس العنيفة مع احتدام الصراع بين منافسين داخل الطبقة السياسية الشيعية بعد أشهر من تراشق الاتهامات الساخنة وعمليات الاغتيال المستهدفة واستغلال المؤسسات العراقية.9
وتزيد احتمالات اندلاع حرب أهلية جديدة مع التشرذم الشديد في المشهد السياسي العراقي.10 فقد فاز مقتدى الصدر، رجل الدين الراديكالي المناهض للغرب، في الانتخابات بحصوله على 73 من أصل 329 مقعداً (أي 19 مقعداً إضافياً بالمقارنة مع فوزه الأخير في العام 2018). أمّا خصمه الأقرب، أي قوات الحشد الشعبي، فحصل على 17 مقعداً فقط، مسجّلاً تراجعاً بعدد المقاعد الـ 48 التي فازت بها في العام 2018 المنظمة الميليشياوية الجامعة التي تسيطر عليها مجموعات متحالفة مع إيران.11 وفازت حركة امتداد التي انبثقت من رحم الاحتجاجات الشعبية بتسعة مقاعد في الانتخابات الأولى لها، وهو إنجاز لافت لحركة عرضة لاغتيالات ممنهجة،12 فيما حصل رئيس الوزراء العراقي السابق وقائد حزب الدعوة الإسلامية نوري المالكي على 35 مقعداً.13 وحصل الحزب الأقوى في إقليم كوردستان الحزب الديمقراطي الكوردستاني على 32 مقعداً، في حين فاز حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني بـ 16 معقداً.14 وحصل حزب تقدم بقيادة السياسي السني البارز ورئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي، على 37 معقداً.15
وهذه النتائج خير نموذج عن التفكّك الحاصل بين فئات المجتمع العراقي، وعن مدى التنافس المحموم بين أبرز الحركات والكتل العراقية وداخلها. وفيما لاحظت فئات أخرى من المجتمع العراقي بأنّ أصواتها تجزّأت، كما هو الحال مع الأكراد،16 أعادت الفصائل الشيعية العراقية وعداواتها المتأصلة شبح الحرب إلى الساحة. فالأصوات الشيعية لم تنقسم بين الأحزاب والحركات التي يقودها المدنيّون فحسب، إنّما أيضاً بين عدد من المجموعات شبه العسكرية وزعمائها، مثل مقتدى الصدر وهادي العامري (قائد منظمة بدر) وقيس الخزعلي (قائد عصائب أهل الحق)، ورئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي يقود الميليشيا القبلية الخاصة به.17
وما سيغيّر المشهد السياسي والصراعات في المرحلة المقبلة هو تاريخ الصدر المتقلّب مع قوات الحشد الشعبي المتحالفة مع إيران وحزب الدعوة الإسلامية التابع للمالكي. ففي حين حافظت الفصائل العراقية المتنافسة على استقرار نسبيّ وعلى سيطرتها على السلطة ثر صفقة تقاسم السلطة بين النخب 2003، عطّلت انتخابات أكتوبر توازن القوة هذا عندما حاول الصدر بعدها أن يشكّل حكومة أغلبية غير شاملة لقوات الحشد الشعبي والمالكي ومدعومة من الحزب الديمقراطي الكوردستاني ومحمد الحلبوسي.18 وقد بلغت التوترات ذروتها قبل اندلاع اشتباكات أغسطس حين سُرّبت تسجيلات صوتية تشير إلى أنّ المالكي أمر ميليشياته القبلية بالاستعداد لخوض معركة ضد الصدر.19 وعلاوةً على ذلك، قام الصدريون وعصائب أهل الحق بسلسلة من عمليات الاغتيال المتبادلة على مدى السنوات المنصرمة، مما أسفر عن وفاة أعلى القادة الميليشياويين في كلا الحزبَين. وهذا ما دفع الصدر لإرسال وفد إلى مدينة ميسان الجنوبية في فبراير بهدف تهدئة التوترات وسط مخاوف من نشوب صراع كبير.20
من الممكن أنّ خبر اقتحام أنصار التيار الصدري للبرلمان العراقي أثار اهتمام الفاعلين الإقليميين والمجتمع الدولي الأوسع وبعث المخاوف في آنٍ معاً: الاهتمام لأنّ تعبئة الصدر ضد قوات الحشد الشعبي قد يقوّض سيطرة المنظمة الجامعة الموالية لإيران على السلطة، والمخاوف بسبب التداعيات غير المقصودة التي يمكن أن يحدثها اندلاع صراع في العراق.21 وبالرغم من وجود رغبة ضئيلة عموماً في اندلاع حرب أهلية بين صفوف الشيعة، قد تَعتبر الدول الخليجية والولايات المتحدة الأمريكية أنّ مقاومة الصدر لقوات الحشد الشعبي ونوري المالكي تشكّل فرصة لاحتواء نفوذ إيران وحلفائها. ولطالما حظيَ الصدر بدعم من السعودية والدول الخليجية باعتباره الخيار الأقل سوءاً ضمن الطبقة الشيعية الحاكمة، فضلاً عن غيره من القادة الشيعة مثل زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم.22 وعزّز الصدر أيضاً احتمالات فوزه بدعم سياسي من الخليج، ولو كان ضمنياً، عن طريق تشكيل تحالف مع فاعلين مواليين لمجلس التعاون الخليجي، ومنهم خميس الخنجر، زعيم تحالف العزم وسياسي سنّي عربي بارز، انضمّ إلى الحلبوسي لتشكيل تحالف ثلاثي قاده الصدر، لكنه تفكك اليوم مع انسحاب الصدر من الحياة السياسية. وتجدر الإشارة إلى أنّ الحلبوسي والخنجر تجمعهما روابط وثيقة مع الإمارات العربية المتحدة وتركيا وقطر، ويتمتع الحزب الديمقراطي الكوردستاني أيضاً بروابط وثيقة مع الدول الثلاثة.23
وظاهرياً، يرى صانعو السياسات أنّ الانفجار الداخلي الذي قد ينشأ عن حرب أهلية بين صفوف الشيعة هو فرصة سانحة لتحقيق عدد من النتائج في المنطقة وخارجها، غير أنّلكل من هذه النتائج تحدياتها ومخاطرها. فمن جهة، من شأن اندلاع حرب داخلية بين الفصائل الشيعية المتنافسة أن يضعف قدرة الطبقة السياسية الشيعية على تعزيز سلطتها، وبالتالي أن يضعف قبضة إيران على المشهد السياسي. ومن جهة أخرى، قد يشكّل ذلك فرصة لسدّ الفجوة بين العراق والعالم العربي. ويمكن أخيراً أن يشكّل التفكك الداخلي بين صفوف النخبة الشيعية الحاكمة فرصةً لإعادة بسط سلطة الدولة العراقية على الميليشيات التي تضمّ قوات الحشد الشعبي.
غير أنّ هذه الديناميات المتداخلة قد تكون مضلّلة، مما يتطلب التعمّق فيها لفهم تداعياتها بشكلٍ كامل. فالتيار الصدري أولاً هو خصم لطالما تعاملت معه قوات الحشد الشعبي واحتوته لأعوام خلت، كما وأنّعدداً كبيراً من قادة التيار الصدري السابقين هم أعضاء بارزون أو في مناصب قيادية في المجموعات الميليشياوية المنافسة التي تضمّ قوات الحشد الشعبي.24 وسيكون الصدر الأقوى سياسياً بما أنه زعيم الحركة الاجتماعية السياسية الأقوى في العراق، لكن يقابله منافسون داخل الطبقة السياسية يمكن أن تستغلّهم قوات الحشد الشعبي وحلفائها بدعم من إيران لإدارة تداعيات خساراتهم. وتُعرف قوات الحشد الشعبي بقدرتها على الاستفادة من قدراتها القتالية وجرأتها لمواجهة مكانتها السياسية غير المستقرة.25 وفضلاً عن كونها قوة سياسية كبيرة وفعّالة، وتعمل بطريقة دينامية وتستغل قدراتها القتالية، ومن شبه المحتّم أن تتعلم من تراجعها في الانتخابات، يمكن لقوات الحشد الشعبي أن تستفيد من الدعم الذي تستمر الحكومة الإيرانية في تقديمه. وذلك يشمل التوجيهات السياسية والاستراتيجية، واستعداد إيران لاستخدام أساليب الإكراه بهدف زيادة الضغط على منافسي قوات الحشد الشعبي.26 ويمكنها أيضاً أن تستغلّ التفكك داخل التيار الصدري الذي واجه أصواتاً معارضة27 عقب قرار الصدر باقتحام البرلمان. وقد أشار بعض المسؤولين العراقيين إلى إمكانية أن يتعرض الصدريون لصعوبات إذا وصل أبرز منافسيهم إلى مرحلة النضج السياسية وباتوا أكثر تنظيماً.28
وبمعنى آخر، أمام قوات الحشد الشعبي مجموعة واسعة من الخيارات والمزايا. وقد تجلّى ذلك على مدى اثنَي عشر شهراً منذ إجراء الانتخابات البرلمانية في أكتوبر. فالإطار التنسيقي الشيعي، وهو ائتلاف لجهات فاعلة سياسية وميليشيات موالية لإيران بمعظمها تأسّس لقمع فوز الصدر الانتخابي،29 قد استغل نفوذه المفرط على المحكمة الاتحادية العليا للضغط على الحزب الديمقراطي الكوردستاني كي يخضع لمطالب الإطار في تشكيل حكومة ائتلافية شاملة، أي عبر إجبار المحكمة على جعل صادرات النفط الكردي غير مشروعة.30 وهدفت هذه الخطوة إلى زيادة الضغط على الأكراد، وبالتالي على التحالف الذي يقوده الصدر. وبالرغم من أنها خطوة مشكوك فيها لجهة توقيتها وموقف المحكمة غير الدستوري (لم يؤسس مجلس النواب هذه المحكمة بما يقتضي به الدستور)،31 تُبرز جلياً قدرة الإطار التنسيقي الشيعي على استغلال نفوذه للسيطرة على الدولة العراقية ومؤسساتها بهدف تحقيق أهدافه السياسية. وفيما يمكن للحزب الديمقراطي الكوردستاني والتحالف بقيادة الصدر أن يمنعا تطبيق الأحكام القانونية والدستورية لمنافسيهما، بذلت إيران وقيادة قوات الحشد الشعبي قصارى جهدهما لعرقلة التحالف عبر شنّ هجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة على مدينة أربيل،32 بما فيها هجوم صاروخي بالستي مباشر وغير مسبوق في مارس،33 وعبر اغتيالات مزعومة لمنافسين في التيار الصدري،34 فضلاً عن استغلال الانقسامات بين الأكراد للضغط نحو تشكيل حكومة لكي يستطيعا حفظ نفوذهما الهائل.
وردّاً على هذه الإجراءات، قام الصدر بحشد مؤيّديه ومقاتليه في الصيف عندما وجد نفسه في وضع صعب. لكنّ قراره بسحب أنصاره من القتال بعد 24 ساعة فقط على بدء الاشتباكات يشير إلى بعض التحفظات بشأن شنّ حرب واسعة النطاق على منافسيه، وإلى أنّ الصدر يتأثر بفاعلين خارجيين آخرين يمكن أنهم ضغطوا عليه لسحب قواته، مثل آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني وحسن نصر الله.35 وتجلّت محدودية نفوذ الصدر كذلك من خلال تعيين رئيس للدولة، وتكليف رئيس وزراء مدعوم من الإطار التنسيقي الشيعي بتشكيل حكومة جديدة يرفض الصدر الانضمام إليها.36 وفي حين يمكن للصدر الإطاحة بهذه العملية عبر حشد أنصاره، يتّضح أنّ لمنافسيه قدرة كبيرة على توجيه المشهد السياسي وتغيير شكله بما يتوافق مع مصالحهم.
ومن المفارقة أنّ التشرذم داخل الطبقة السياسية الشيعية أيضاً قد يمنع نشوب صراع أو اشتباكات كبيرة: تبرز اختلافات داخل الإطار التنسيقي الشيعي حول كيفية مواجهة تهديدات الصدر وإدارتها. وفي حين لا يعارض المالكي والخزعلي فكرة الحرب الأهلية واحتمال خوض معركة عسكرية ضد الصدر، يفضّل آخرون مثل هادي العامري اللجوء للوساطة والمصالحة على أساس أنّه لن يستطيع أيّ طرف تحقيق انتصار مطلق.37 فقد شكّل العامري صوت اعتدال بين الأعضاء المتشددين المتطرّفين في الإطار التنسيقي الشيعي، مثل المالكي والخزعلي، وتعهّد بتهدئة التوترات إلى جانب قيادة إقليم كوردستان. ووفقاً لمقابلات أُجريت في بغداد، كلّفت إيران العامري بمنع نشوب حرب أهلية بين صفوف الشيعة. فطهران ترى أنّ الحرب قد تزيد من تفكك الكتلة الشيعية وتقلّص نفوذها وتجعل ميزان القوة يميل لصالح العالم العربي والولايات المتحدة الأمريكية.38
ومع ذلك، لا يجب التقليل من أهمية انتصار الصدر وقدرته على مواجهة منافسيه. فرجل الدين هذا يتحكّم بحركة الميليشيا القوية الخاصة به التي أنشأت عدداً كبيراً من المجموعات البارزة الموالية لإيران داخل قوات الحشد الشعبي، ويمثّل أيضاً صوت أكبر فئة ديمغرافية في العراق، أي الطبقة الفقيرة من الشيعية. وكان انتصاره لافتاً في الانتخابات العراقية، وشكّل تقدّماً سياسياً هزّ الساحة آنذاك في ظل انتشار الاحتجاجات ولامبالاة الناخبين والأزمة الاقتصادية والتوترات الجيوسياسية،39 فضلاً عن التراجع الملحوظ لقوات الحشد الشعبي في الانتخابات والأعمال العدوانية للصدر بهدف بسط سلطته على منافسيه.40 فقد برهن الصدر أنه قادر على تحدّي منافسيه في الانتخابات ومستعدّ لذلك، ولاعتماد العنف بهدف قلب النظام السياسي الذي غيّر شكل العراق منذ العام 2003.
ويحتفظ الصدر بعدد من المزايا، ولا سيما قدرته على حشد التيار الصدري.41 ففي حين يُعرف منافسوه الموالون لإيران بنجاحاتهم على أرض المعارك ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا، تعاني قوات الحشد الشعبي ضعفاً على المستوى التنظيمي، وتجلّى هذا الضعف تحديداً منذ بروز حركة احتجاج اعتزمت تحويل الرأي العام ضد إيران ووكلائها.42 وتخوض قوات الحشد الشعبي أيضاً معركة واسعة مع الفصائل الميليشياوية المتحالفة مع السيستاني، والتي كانت تنتمي سابقاً إلى قوات الحشد الشعبي لكنها انسحبت منها بعدما احتكرت إيران السلطة داخل المنظمة.43 وأدى هذا الانسحاب إلى حدّ الغطاء الديني لوكلاء إيران واحتمال تقليص نفوذهم السياسي؛ وقد تفاقم هذا الواقع مع الهزيمة الانتخابية. ويشير بعض المراقبين الميدانيين إلى أنّ كوادراً في قوات الحشد الشعبي ومقاتلين من الرتب المتدنية بدؤا يبحثون عن مصادر أخرى لتأمين سُبل عيشهم.44 وإذا زاد هذا الوضع وأصبح على نطاق أوسع، من الممكن أن يكون له تداعيات وجودية تؤثّر في قدرة قوات الحشد الشعبي على حشد المقاتلين، وبالتالي حصولها على ميزانية وطنية بقيمة 2.6 مليارات دولار.45
وتخوض قوات الحشد الشعبي معركة على أربع جبهات: بوجه الصدريين والميليشيات الموالية للسيستاني وحركة الاحتجاج ومشهد جيوسياسي شديد التركيز على احتواء قوات الحشد الشعبي وإيران. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الديناميات ستجعل قوات الحشد الشعبي وحلفائها أكثر تصميماً على صدّ كلّ المحاولات لقمع نفوذها المتراجع بشراسة. ووفقاً لمقابلات أُجريت لكتابة هذه الموجز، لقد قبِل البعض في قوات الحشد الشعبي بحتميّة الحرب، وعليه بدأوا تعبئة الموارد والمقاتلين.46 ومن هذا المنطلق، تبرز طريقتان للنظر إلى كيفية تعامل العالم العربي مع العراق من الآن فصاعداً.
قد يكون أمام العراق فرصة سانحة لإقامة روابط أوثق مع العالم العربي وموازنة النفوذ الإيراني واسع النطاق مع تراجع نفوذ قوات الحشد الشعبي. لكنّ العلاقات بين العراق ودول مجلس التعاون الخليجي شهدت بعض التوترات وعدم الاستقرار منذ غزو العراق في العام 2003، حين تحوّلت البلاد إلى ساحة لصراعات الوكلاء والحروب السياسية بين إيران وبعض الدول العربية. وقد ساءت العلاقات إلى أدنى حدّ في فترة حكم نوري المالكي الذي يُعتبر على نطاق واسع طائفياً وسلطوياً ومسؤولاً عن تهميش السنّة العرب وقمعهم، مما أدى في نهاية المطاف إلى بروز داعش في العام 2014.47 ونتيجةً لنهجه الفظّ وفشله في اعتماد لهجة تصالحية، تتغيّر طريقة تعامل العالم العربي بشكل كبير مع العراق اليوم.
لكن لطالما أراد اللاعبون السياسيون الشيعة الأكثر اعتدالاً في العراق، مثل عمار الحكيم، أن تتحسن العلاقات مع الدول الخليجية. وقد حظيَ الصدر باستقبال حار في عواصم عربية مختلفة. ولن تُبنى الروابط الوثيقة في حال اندلاع حرب أهلية، غير أنّ نطاق الحرب نفسه وتدخّل فاعلين خارجيين، مثل الدول العربية وإيران، ستتمّ إداراتهما وتقييدهما بشكل أفضل إذا استمر الحوار الهادف إلى ضمان عدم تحوّل أزمة العراق الحالية إلى أزمة جيوسياسية. فعلى سبيل المثال، ساعدت زيارة عمار الحكيم إلى السعودية بعد أيام فقط على اندلاع اشتباكات أغسطس إلى تهدئة التوترات؛ وهذه الزيارات تحديداً، في خضم التقلبات العنيفة، هي التي يمكنها أن تخفف احتمالات نشوب صراع داخلي قد يتحول إلى صراع بين الوكلاء على أرض العراق.48
وعلاوةً على ذلك، سُجّل الكثير من التحركات والخطوات في السنوات الثلاثة الأخيرة منذ تولّي رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي مقاليد الحكم. فقد حظيَ الكاظمي باستقبال حار في الدول الخليجية والأردن،49 وحقّق العراق بعض النجاحات في عهده كجزء من جهود الوساطة التي بُذلت لإزالة التوترات بين السعودية وإيران. وكان الحدث المهم في 9 أبريل 2021، حيث التقى رئيس الاستخبارات العامة السعودية خالد الحميدان مع سعيد إيرواني، نائب أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني،50 وشارك بعدها كل من السعودية وإيران في قمة بغداد.51 وفي نوفمبر 2020، أُعيد فتح معبرعرعر الحدودي بعد إغلاقه لثلاثة عقود،52 وتمخّض عنه إبرام اتفاقات لتحسين الروابط الاقتصادية والتبادل التجاري بين الدولتَين. وفي الآونة الأخيرة، التزمت السعودية والإمارات بزيادة استثماراتهما بشكل ملحوظ في العراق عبر تمويل مبادرات للقطاع الخاص بقيمة 3 مليارات دولار، لكنّ التفاصيل ما زالت محدودة.53 وقد عزّزت قمة بغداد في أغسطس 2021 من مكانة العراق كصلة وصل في المنطقة يتواصل عبره وزير خارجية إيران مع نظيره السعودي والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وملك الأردن عبدالله الثاني ابن حسين وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.54
على الرغم من تعيين محمد شياع السوداني رئيساً مكلّفاً جديداً للوزراء في العراق، لم يتّضح بعد مدى ثقة السعوديين في تعيينه وفي البيئة السياسية الأوسع نطاقاً في بغداد، نظراً لسيطرة إيران وحلفائها، ولكون السوداني مناصراً لحزب الدعوة الإسلامية وتربطه علاقات وثيقة مع نوري المالكي.55 وبالتالي، قد يعيد التاريخ نفسه: في الماضي، لم يقتنع السعوديون قط بأنّ أسلاف الكاظمي، مثل عادل عبد المهدي وحيدر العبادي، مختلفون عن المالكي. فقد أتاح عبد المهدي لاحقاً استخدام العنف ضد المحتجّين عن طريق وكلاء إيران في العام2019 ،56 فيما أدمج العبادي قوات الحشد الشعبي في الدولة العراقية وسعى إلى تشكيل تحالف مع هذه القوات في خلال انتخابات 2018.57 لذا من الممكن جداً أنّ دولاً كثيرة في العالم العربي قد تعرب عن تحفظات مشابهة إزاء السوداني، ولا سيما إذا لم يكن مستعداً لتقييد نفوذ الإطار التنسيقي الشيعي أو قادراً على ذلك (وخصوصاً قوات الحشد الشعبي والمالكي)، أو إذا أعاد اعتماد الموقف الطائفي عينه الذي اعتمده زملاؤه وأسلافه في حزب الدعوة الإسلامية.
وعلى الرغم من ترك الكاظمي منصبه، وهو أمر قد يعرقل محادثات السلام بمجملها، ما زال ممكناً أن تصبح جهوده الركيزة الأساسية لحصول تقارب سعودي إيراني في العراق والمنطقة ككل. وفي الحد الأدنى، ونظراً لوجود اهتمام مستمر في الرياض وطهران بنجاح هذه المحادثات، قد تُبدي العاصمتان إحجاماً عن استغلال الأزمة الحالية بين صفوف الشيعة التي قد تدفع البلاد نحو حرب ذات بُعد إقليمي. وفي أسوأ الحالات، لن تؤدّي المحادثات إلى نتائج مهمة لأنّ التوترات السعودية الإيرانية تتجلّى من خلال سلسلة نزاعات معقدة ومتداخلة تمتدّ إلى ساحات صراع مختلفة. أما في أفضل الحالات، فيكمن أن تصبح هذه المحادثات عملية لبناء الثقة من شأنها أن تساعد على إدارة الصراعات، مثل الصراع الحاصل حالياً بين صفوف الشيعة. والجدير بالذكر أنّ هذه الديناميات لم تكن موجودة في أعقاب غزو العراق في العام 2003، حيث قدّم العالم العربي كامل دعمه لتمرّد السنّة العرب فيما دعمت إيران عدداً من مجموعات ميليشياوية شيعية.
وتقوم فكرة اضطلاع العراق بدور صلة وصل في المنطقة أولاً على أهميته الجغرافية الاستراتيجية، وكونه شكّل أرض معركة لصراعات الوكلاء وساحةً تَوحّد فيها المجتمع الدولي لمحاربة داعش؛ وثانياً على ما توصّل إليه العراق من علاقات واسعة النطاق مع فاعلين إقليميين ودوليين، بحيث يمكنه نظرياً تسخيرها للتخفيف من حدة الصراعات في الشرق الأوسط. وفي حين بإمكان العراق أن يكون صلة وصل، وبالتالي تحسين روابطه مع العالم العربي، يؤدّي ضعف الدولة والبيئة السياسية المتشرذمة إلى تنافس أجندات السياسات الخارجية التي تحول دون بروز سياسة خارجية متماسكة. وهذا ما يفسح المجال للمفسدين ويضعف الركيزة التي تقوم عليها جهود الوساطة، مما يجعلها تتأثّر بالبيئة السياسية الداخلية. لذا لا مبالغة في القول إنّ بعض العواصم الإقليمية تتعامل مع الأشخاص في العراق، وليس مع الدولة نفسها، نتيجةً للإرث الذي خلّفته سياسة المعارضة والعلاقات الخارجية في حكم نظام البعث. وقد أدّى بعض هذه العواصم دوراً بالغ الأهمية في إنشاء ملاجئ في الخارج للمجموعات المعارضة والمدنيين وضمان الدعم الدولي لسقوط النظام السابق، فيما أدّى بعضها الآخر دوراً أساسياً في تجنّب مواجهة حكم المالكي السلطوي والطائفي.
وبمعنى آخر، من شأن تضافر الجهود بين الفاعلين المتشابهين في أفكارهم ضمن مؤسسات الدولة الرسمية وخارجها، مثل مكتب رئيس الوزراء، أن يسمح بإنجاز عملية وساطة متنوعة تستند إلى هذه الروابط الشخصية وتضيف ميزة الديمومة إلى محادثات السلام. وأسهمت العلاقة التي بنتها الأحزاب الشيعية الإسلامية في العراق، وغيرها مثل الأكراد، مع طهران بتعزيز قدرتها على تأمين الموارد والدعم السياسي الذي كان أساسياً في حملتها للإطاحة بصدّام حسين. ووصل الأمر ببعض الأحزاب، مثل حزب الدعوة الإسلامية، إلى حدّ تنفيذ هجمات إرهابية ضدّ الغرب والدول الخليجية الحليفة له بأمر من طهران، ولا سيما في خلال الحرب الإيرانية العراقية في ثمانينيات القرن الماضي.58 في المقابل، طوّرت الدول الخليجية روابطها مع أعضاء من المعارضة العراقية التي احتقرت محاولات إيران لفرض إيديولوجيتها الدينية على العراق.59 وركّز إقليم كوردستان في سياسته الخارجية على تركيا والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وإيران بدرجة أقل. وقد شكّلت قدرة أربيل على موازنة هذه العلاقات عاملاً أساسياً لبقاء إقليم كوردستان بعدما نال استقلاله الفعلي في العام 1991. وعقب سقوط نظام البعث في العام 2003، انتقل السنّة العرب في العراق إلى زيادة الاعتماد على الدول الخليجية بعدما قام المالكي باضطهاد فاعلين سياسيين كبار من السنّة العرب الذين طلبوا اللجوء في السعودية وقطر والإمارات.60
إنّ التنوّع في عملية الوساطة على هذا النحو، بحيث تضمّ فاعلين متشابهين في الأفكار ولو كانوا غير تقليديين من النطاق العرقي الطائفي، قد يعالج أيضاً المسائل الواضحة التي يتمّ تجنبها: العراق ليس طرفاً ثالثاً محايداً في صراعات المنطقة؛ وتمّ حشد الآلاف في الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في سوريا، بموافقة بغداد الرسمية وفي عهود إدارات سابقة، بهدف دعم نظام الأسد؛61 ويُعدّ بعض المجموعات، مثل عصائب أهل الحق التي تشغل مقاعداً في البرلمان، عناصر تمكين مباشرة، إن لم تكن مسؤولة مباشرةً، عن الهجمات الصاروخية على السعودية والإمارات.62 ولا بدّ من القول إنّ أمثال عمار الحكيم، زعيم تيار الحكمة، يشكّلون كذلك إضافة أكثر قوة ومصداقية إلى مجموعة الفاعلين السياسيين الشيعة الذين يلقون استقبالاً حاراً أكثر من غيرهم في الخليج. فالحكيم بديلٌ يحظى بمصداقية أعلى من الفاعلين السياسيين الشيعة الآخرين، مثل حزب الدعوة الإسلامية (الذي تجمعه علاقة مشبوهة مع الدول الخليجية)،63 والصدر (الذي قد يُعتبر متشدداً ومتقلّباً أكثر من اللازم). وترتبط حكومة إقليم كوردستان (بما فيها الاتحاد الوطني الكوردستاني والحزب الديمقراطي الكوردستاني) بعلاقات وثيقة مع إيران والخليج العربي (خصوصاً الإمارات والأردن والسعودية)، ويمكنها تسخير هذه العلاقات والحنكة الجغرافية الاستراتيجية لتعزيز جهود الوساطة.