الدول الخليجية تسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين الأهداف الطموحة والتحدّيات الهيكليّة: على الرغم من أنّ الدول الخليجية غنيّة بموارد النفط والغاز، بدأت تتّجه تدريجياً نحو التحوّل في مجال الطاقة. غير أنّ جهودها لتوطين سلاسل إمداد الطاقة المتجدّدة تصطدم بحواجز كبيرة، في مقدّمتها الفجوات التكنولوجية ونقص الكفاءات المتخصّصة ومحدودية الأسواق المحلّية والمنافسة الحادّة مع الصين.
إستراتيجيّات وطنية متباينة وأهداف مشتركة: تتبنّى الدول الخليجيّة مقاربات مختلفة لتوطين سلاسل إمداد الطاقة المتجدّدة وتعزيز أمنها في مجال الطاقة، عبر فرض نسب للمحتوى المحلّي وتطوير مناطق حرّة وتقديم حوافز للمستثمرين وإنشاء منشآت محلّية، مع الحفاظ على قدر من المرونة القائمة على السوق.
تأمين المعادن الحرجة والقدرات التصنيعية ركيزة أساسية في المرحلة المتوسّطة: يُعدّ تأمين المعادن الحرجة وتوسيع نطاق التصنيع في المراحل المتوسّطة عنصراً حاسماً لبناء قطاع محلّي مرن للطاقة المتجدّدة. ومع استمرار هيمنة الصين على عمليات تكرير المعادن الأرضية النادرة والمدخلات الرئيسية، ينبغي على الدول الخليجية تعزيز البحث والتطوير في مجال الطاقة المتجدّدة واستقطاب الاستثمارات لدعم الإنتاج المحلّي.
ضرورة التنسيق الإقليمي كمدخل لدمج الأسواق وتحقيق وفورات الحجم: يمكن لاستراتيجية موحّدة على مستوى مجلس التعاون الخليجي أن تساهم في حشد الطلب وترشيد الاستثمارات وتعزيز التعاون العابر للحدود. ويُعدّ نقل التكنولوجيا واستدامة البحث والتطوير والتوظيف الإستراتيجي لصناديق الثروة السيادية، من العناصر الجوهريّة لبناء سلسلة إمداد تنافسية ومتكاملة للطاقة المتجدّدة في الخليج.
على الرغم من الثروة الوفيرة التي تمتلكها دول مجلس التعاون الخليجي من النفط والغاز، فإنّها تتقدّم بحذر في مسار التحوّل في مجال الطاقة. وقد دفعتها الضغوط الدولية المتزايدة لخفض انبعاثات الكربون، إلى جانب تراجع تكاليف تكنولوجيا الطاقة الشمسية والرياح والحاجة الاقتصادية الملحّة إلى تنويع مصادر الدخل بعيداً عن النفط، إلى استكشاف سلاسل إمداد الطاقة المتجدّدة كوسيلة لتنويع اقتصاداتها وتعزيز أمنها الطاقي.1
بعدما كانت دول مجلس التعاون الخليجي، أي البحرين والكويت وعُمان وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، تعتمد بشكلٍ رئيسي على استيراد منتجات الطاقة المتجدّدة وتقنياتها، بدأت اليوم تتوجّه نحو إنشاء صناعات وسلاسل إمداد محلَية لتقنيّات الطاقة الشمسية والرياح. ونظراً لهيمنة الصين على أكثر من 80 في المئة من السوق العالمية للطاقة الشمسية وأكثر من 60 في المئة من إنتاج مكوّنات طاقة الرياح،2 يمكن القول إنّ الدول الخليجيّة لا تزال تعتمد على الواردات إلى حدّ كبير. فعلى سبيل المثال، استوردت الإمارات العربية المتحدة نحو 99 في المئة من وحدات الطاقة الشمسية من الصين في السنوات القليلة الماضية، بينما اعتمدت سلطنة عُمان على الواردات الصينية لتغطية ما يقارب 80 في المئة من حاجها من الألواح الشمسيّة الكهروضوئية.3
ومع ذلك، تعمل كل دولة خليجية على الحدّ من هذا الاعتماد من خلال سياسات موجّهة، مثل متطلّبات المحتوى المحلّي في المملكة العربية السعودية، وحوافز المناطق الحرّة في عُمان، وإستراتيجية السوق المفتوحة في الإمارات، وجهود قطر لتشييد منشأة لإنتاج مادة البولي سيليكون، وهي مادة خام أساسيّة تُستخدم في تصنيع خلايا الطاقة الشمسية.4 بالتالي، فإنّ المنطقة في صدد تطوير سلسلة قيمة محلّية، وقد أحرزت تقدّماً ملموساً في مجال السياسات والاستثمارات. غير أنّها تواجه تحدّيات هيكليّة تعيق توسيع قدراتها التصنيعية بما يتيح لها منافسة المورّدين العالميين التقليديين.
يتناول موجز القضيّة هذا تطوّر جهود التوطين في شتى أنحاء الخليج، ويقيّم قدرتها على تحويل المنطقة من مستوردٍ صاف إلى لاعبٍ تنافسي ومستقلّ في سوق الطاقة المتجدّدة العالمية. كما يستعرض التحدّيات القائمة، بدءاً من الفجوات التكنولوجية ونقص الكفاءات، وصولاً إلى محدودية قدرات الأسواق المحلّية، وحالة عدم اليقين الجيوسياسي.
لطالما تعاملت دول مجلس التعاون الخليجي مع جهود مكافحة تغيّر المناخ بنوع من التشكيك، إذ اعتبرتها تحدّياً مباشراً لنماذجها الاقتصادية.5 ويُعزى هذا التحفّظ في اعتمادها الكبير على صادرات الوقود الأحفوري، التي تشكّل نسبة كبيرة من الناتج المحلّي الإجمالي وعائدات الحكومة ومعدّلات التوظيف الوطني. فقطاع الهيدروكربونات لا يغذّي اقتصاداتها المحلّية فحسب، بل يهيمن أيضاً على أسواق الطاقة العالمية، ما يجعل أيّ تحوّل مفاجئ إلى مصادر الطاقة المتجدّدة احتمالاً مستبعداً للغاية. علاوة على ذلك، لقد صاغت الدول الخليجية إستراتيجيّاتها المناخية إلى حدّ كبير حول محاور متعدّدة منها: خفض انبعاثات الكربون، وإنتاج الهيدروجين، وتحسين كفاءة استخدام الطاقة، بدلاً من تطوير صناعات محلّية للطاقة المتجدّدة.
فيما تتوقّع الوكالة الدوليّة للطاقة أن يبلغ الطلب على النفط ذروته في خلال هذا العقد،6 ترى منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك)، التي تقودها الدول الخليجية بشكلٍ أساسي، أنّ هذه الذروة ليست وشيكة وأنّ الطلب سيواصل الارتفاع حتى العام 2050 على الأقل.7 يتماشى ذلك مع إستراتيجيّة الأوبك على نطاقٍ أوسع للمحافظة على حصّة سوق النفط وفي الوقت نفسه توسيع نطاق الاستثمارات في الطاقة المنخفضة الكربون. وفي العام الماضي، أعاد وزير الطاقة السعودي التأكيد على التزام المملكة بتعزيز تقنيّات الطاقة النظيفة في ظلّ ضمان هيمنتها على أسواق النفط والبتروكيماويات.8وتتبنّى دولٌ خليجية أخرى هذا النهج، إذ ترى في عائدات الوقود الأحفوري عنصراً لا غنى عنه لتحسين مستوى المعيشة وتمويل جهود التحوّل في مجال الطاقة وتحقيق أهداف التنويع الاقتصادي الطموحة.
إلّا أنّ الضغوط المناخية المتصاعدة والحاجة المتزايدة إلى التنويع الاقتصادي تدفع دول المنطقة على إعادة تقييم إستراتيجياتها، سعياً لتحقيق التوازن بين اعتمادها المستمرّ على الوقود الأحفوري في توليد الطاقة المحلّية وأهدافها الطموحة في مجال الطاقة المتجدّدة. وقد ساهمت التهديدات المتمثّلة بارتفاع مستويات سطح البحر والحرارة القصوى وندرة المياه المزمنة في تنامي الوعي بشأن المخاطر المناخية،9 ما انعكس على تغيّر الخطاب والسياسات في مختلف دول المجلس، تحت تأثير عوامل اقتصادية وجيوسياسية، ولا سيّما الحاجة إلى الاستفادة القصوى من صادرات الوقود الأحفوري تماشياً مع التحوّلات العالمية في مجال الطاقة. ويجسّد هذا التحوّل توجّهاً أكثر استباقيةً في التكيّف مع تغيّر المناخ والحدّ من آثاره، في ظلّ تنفيذ مشاريع متعدّدة والتخطيط لعددٍ أكبر من المشاريع الأخرى.10 وتُشير تقديرات مختلفة إلى أنّ دول مجلس التعاون الخليجي يمكنها إضافة أكثر من 85 غيغاواط من القدرة الإنتاجية للطاقة المتجدّدة بحلول منتصف العقد 11.2030
وفي حين أنّ المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في طليعة التحوّل إلى الطاقة المتجدّدة في الخليج، حدّدت الدول الأعضاء كافة في مجلس التعاون الخليجي أهدافاً في مجال الطاقة المتجدّدة وتعهدات لخفض الانبعاثات وأهدافاً للحياد الكربوني (أنظر الجدول 1). وتحرص المملكة العربية السعودية على توليد نصف احتياجاتها من الكهرباء من مصادر متجدّدة بحلول العام 2030، وعلى توطين أجزاء من سلسلة الإمداد بغية تعزيز الصناعة المحلّية.12 من جهتها، تسعى الإمارات العربية المتحدة إلى تحقيق نسبة 44 في المئة كحصّة الطاقة النظيفة من مزيجها الإجمالي بحلول العام 2050، بما في ذلك 6 في المئة كطاقة نووية، بهدف تلبية الطلب المتصاعد على الطاقة وخفض الانبعاثات.13 ووضعت دول خليجية أخرى أهدافاً طموحة نصب عينيها: تحرص عُمان مثلاً على تأمين 10 في المئة من طاقتها من المصادر المتجدّدة بحلول العام 2025 و20 في المئة بحلول العام 2030.14 وقد التزمت قطر بتحقيق نسبة 30 في المئة من المصادر المتجدّدة في مزيجها للطاقة بحلول العام 2030،15 فيما رفعت البحرين هدفها مؤخراً إلى نسبة 20 في المئة بحلول العام 2030؛16 أمّا الكويت فتسعى إلى تحقيق نسبة 15 في المئة بحلول العام 17.2030
الجدول 1: الأهداف المتعلّقة بالطاقة المتجدّدة في دول مجلس التعاون الخليجي
الدولة | هدف خفض الانبعاثات | هدف الطاقة المتجدّدة | الطاقة المتجدّدة الإجمالية (2023) |
قطر | 25 في المئة بحلول 2030 مقارنة بسيناريو العمل كالمعتاد للعام 2019 | بين 2 و4 غيغاواط بحلول 2030 | 824 ميغاواط؛ 7,2 في المئة |
البحرين | 30 في المئة بحلول 2035 مقارنة بسيناريو العمل كالمعتاد للعام 2015 | 20 في المئة من مزيج الطاقة بحلول 2030 | 59 ميغاواط؛ 0,6 في المئة
|
عُمان | 7 في المئة بحلول 2030 مقارنة بسيناريو العمل كالمعتاد للعام 2019 | 20 في المئة من الكهرباء بحلول 2030 | 722 ميغاواط؛ 6,2 في المئة |
الكويت | 7,4 في المئة بحلول 2035 مقارنة بسيناريو العمل كالمعتاد للعام 2015 | 15 في المئة من الطاقة بحلول 2030 | 114 ميغاواط؛ 0,6 في المئة |
الإمارات العربية المتحدة | 19 في المئة بحلول 2030 مقارنة بالعام 2019 | مضاعفة حصّة مصادر الطاقة المتجدّدة ثلاث مرات بحلول العام 2030؛ 44 في المئة من القدرة الإنتاجية بحلول 2050 | 6000 ميغاواط؛ 13,8 في المئة |
المملكة العربية السعودية | 278 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون سنوياً مقارنة بالعام 2019 | 50 في المئة من الكهرباء بحلول 2030 | 2988 ميغاواط؛ 3,3 في المئة |
المصدر: البيانات المتعلّقة بأهداف الطاقة المتجدّدة وخفض الانبعاثات مستمدّة من تقرير الوكالة الدولية للطاقة المتجدّدة (IRENA): أسواق الطاقة المتجدّدة: مجلس التعاون الخليجي 2023. أمّا البيانات حول القدرة المركّبة، فقد جُمعت من تقرير الوكالة الدولية للطاقة المتجدّدة: إحصاءات الطاقة المتجدّدة للعام 2023
على الرغم من هذه الأهداف الطموحة، لا تزال الفجوة كبيرة بين ما هو مُعلن وما تحقّق فعلياً في مجال الطاقة المتجدّدة حتى اليوم. فاعتماد المصادر المتجدّدة لا يزال يسير ببطء، في حين قد تؤدّي مواصلة الاستثمارات الخليجية في مشاريع تحويل النفط إلى كيماويات، ومشاريع الغاز الطبيعي، وتقنيات تعزيز استخراج النفط، إلى إضعاف جهود تطوير سلاسل إمداد تنافسية في مجال الطاقة المتجدّدة. ويمكن أن يُكلّف ذلك الاقتصادات الخليجية خسارةً كبيرة في نقل التكنولوجيا وغيرها من المضاعفات المترتبة عليها، ويرسّخ في المقابل الاعتماد على الوقود الأحفوري ويحدّ من القدرة المالية والسياساتية والصناعية الضرورية لتوسيع نطاق الصناعة المحلّية لمصادر الطاقة المتجدّدة. وفي حال عدم تطوير الإنتاج المحلّي، من استخراج المواد الخام إلى تصنيع المكوّنات المتقدّمة، تُفوّت المنطقة فرصاً لبناء صناعات عالية القيمة تُسهم في خلق الوظائف وتحقيق التنويع الاقتصادي. وفي غياب سلاسل إمداد محلّية، ستبقى التكنولوجيا والمعرفة التقنية اللازمة للتصنيع المتقدّم حكراً على الشركاء الخارجيين.18
يُواجه التحوّل إلى الطاقة المتجدّدة في الدول الخليجية تحدّيات كبيرة، لا سيّما بسبب اعتماد المنطقة المزمن على الهيدروكربونات.19 على مرّ التاريخ، أعطى نموذجُ المنطقة الاقتصادي الأولويّة لصناعات الوقود الأحفوري، ما قلّص الحوافز لتوسيع أسواق الطاقة المتجدّدة بسرعة. ويزيد دعمُ الوقود الأحفوري وتعريفات الكهرباء المنخفضة عمليّةَ التحوّل تعقيداً،20 إذ تُخفّض تكلفة الهيدروكربونات بشكلٍ اصطناعي وتجعل البدائل المتجدّدة أقلّ جاذبية في الأسواق المحليّة. وعلى الرغم من إدخال بعض الإصلاحات، تستمرّ الانحرافات في أسعار الطاقة، مُعيقةً القدرة التنافسيّة لأسواق الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.
تُشكّل هياكل الحوكمة عائقاً إضافياً21 أمام التحوّل في قطاع الطاقة. إذ تقود شركات الطاقة الوطنية قطاعات الطاقة في دول مجلس التعاون الخليجي بشكل رئيسي، ويبدو أنّ دافعها لإعطاء الأولوية لتطوير الطاقة المتجدّدة محدود.22 علاوة علي ذلك، غالباً ما تُتّخذ القرارات بصورة مركزية، ولقطاع الهيدروكربون تأثير في سياسات الطاقة، ما يؤدّي إلى التركيز على تحقيق الأهداف المالية قصيرة ومتوسطة الأجل. ويطغى هذا النهج أحياناً على أولوية أهداف الاستدامة طويلة الأجل، ما قد يُعيق الجهود المبذولة لمعالجة الاعتبارات البيئية والاجتماعية الأوسع.23 علاوة على ذلك، تُقاوم الصناعات الاستخراجية والنقل، المعتمدة على الهيدروكربونات إلى حدّ كبير، تَبنّي ممارسات مستدامة، ما ينتج حالة من الجمود المؤسّسي تُبطئ وتيرة التحوّل. ويرى الخبراء أنّ تسريع التحوّل إلى مصادر الطاقة المتجدّدة يتطلّب إصلاحات في الحوكمة،24 تشمل توسيع مشاركة القطاع الخاص وتحسين الأطر التنظيميّة وتوضيح الأدوار والمسؤوليات بين مختلف مرافق الطاقة ووكالاتها الوطنية.25
تسعى دول خليجية متعدّدة إلى توطين إنتاج مكوّنات الطاقة المتجدّدة، بهدف بناء سلاسل إمداد مرنة وتقليص اعتمادها على مصدرٍ واحد. غير أنّ هذه الجهود تصطدم بعقبات كبيرة، بسبب انطلاقتها المتأخّرة وهيمنة المورّدين العالميّين الحاليين للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وعلى رأسهم الصين. في الواقع، تهيمن بكين على القطاع العالمي للمصادر المتجدّدة، بما فيه التعدين والتكرير ومعالجة المواد الخام. فهي تقوم بتكرير أكثر من 80 في المئة من عناصر الأرض النادرة في العالم التي تُعدّ أساسيّة في صناعة مغناطيسات توربينات الرياح وتخزين البطاريات. وحتى العام 2021، أنتجت الصين 79 في المئة من مادة البولي سيليكون في العالم، و97 في المئة من الرقائق، و85 في المئة من الخلايا الشمسية، بالإضافة إلى أكثر من 80 في المئة من معدّات الطاقة الشمسية و60 في المئة من مكوّنات طاقة الرياح، ويعود هذا التفوّق إلى سياسة صناعية متكاملة رأسياً وتمويل ضخم وسيطرةٍ إستراتيجيّة على المواد الخام.26
لكي تتمكّن الدول الخليجيّة من تصنيع منتجات نهائية، ينبغي عليها الاستثمار في مشاريع مستقبليّة تهدف إلى تقليص الاعتماد على سلاسل الإمداد الخارجية الضخمة. غير أنّ ذلك يطرح معضلة: فيما توفّر الروابط الوثيقة مع الصين التكنولوجيا العالية الجودة والفعّالة من حيث التكلفة، ما يسمح بتحقيق تعريفات شمسية منخفضة قياسية، يُعيق الاستمرار في الاستيراد التقدّمَ نحو التوطين. ويبقى التحدّي الأساسي في قدرة الدول الخليجية على التحوّل من مشترٍ غير فاعل إلى لاعبٍ ناشط ومؤثّر في سلاسل إمداد الطاقة المتجدّدة.
في ظلّ تصاعد الطلب العالمي على المنتجات المتجدّدة مثل البطاريات وغيرها من السلع الاستهلاكية، وفيما تُسرّع الولايات المتحدة جهودها لتقليص نفوذ الصين في سلاسل الإمداد الخاصة بها، قد تميل هذه الديناميّة التعاونية نحو المنافسة بشكلٍ متزايد. فمن جهة، تتيح جهود الغرب لفك الارتباط عن التكنولوجيا الصينيّة فرصاً أمام الدول الخليجية لجذب استثمارات متنوّعة ونقل التكنولوجيا، بما يعزّز موقعها كمركزٍ إستراتيجي لتصنيع مكوّنات الطاقة المتجدّدة. ومن جهةٍ أخرى، قد تُؤدّي التوتّرات الجيوسياسيّة المتصاعدة إلى تعطيل تدفّق التكنولوجيا ورؤوس الأموال الصينية، ما يرفع التكاليف ويزعزع سلاسل الإمداد ويشكّل تحدياً أمام الأسواق الخليجيّة. في نهاية المطاف، سيعتمد النجاح على قدرة المنطقة على استثمار موقعها الجغرافي وتعزيز كفاءاتها البشرية والتكنولوجية، وتنفيذ سياسات منسّقة تضمن الاستفادة القصوى من هذه التحوّلات العالمية.
تُعزى جهود الدول الخليجية لتطوير سلاسل الإمداد المحلّية للطاقة المتجدّدة إلى ضرورتَين متلازمتين، هما التنويع الاقتصادي وتعزيز أمن الطاقة. تلتزم قطر بالمحافظة على الزخم في قطاع المصادر المتجدّدة كجزءٍ من رؤيتها الوطنية 2030، بهدف إنتاج التقنيّات الشمسية محلّياً وتعزيز قيمة القطاع. وعلى الرغم من أنّ قطر كانت تستعدّ لقيادة منطقة الخليج والشرق الأوسط من خلال أول منشأة لإنتاج مادة البولي سيليكون،27 والتي يُفترض أن تديرها شركة قطر لتقنيات الطاقة الشمسية (QSTec) بسعة سنوية تبلغ 8000 طن متري من البولي سيليكون عالي الجودة؛ إلّا أنّ المشروع لم يحقّق بعد إمكاناته التشغيلية الكاملة.28 وفي العام 2024، استثمرت قطر في شركة “تيك ميت” (TechMet) الاستثمارية للتعدين ومقرّها دبلن، بهدف تطوير أصولها الحالية وتوسيع محفظتها من المعادن الحرجة، مثل الليثيوم والنيكل والكوبالت والمعادن الأرضيّة النادرة.29
وقد انتهجت سلطنة عُمان مقاربة قائمة على الاستثمار، مستخدمةً المناطق الحرّة والحوافز الضريبية لجذب مُصنّعي الطاقة المتجدّدة. وفي العام 2017، أُنشئ مصنع لتجميع الوحدات الشمسية بكلفة 94 مليون دولار في المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم لإنتاج الألواح الكهروضوئية بقدرة إنتاجية سنوية تبلغ حوالي ألف ميغاواط، وذلك بالتعاون مع شركة “نيخجيا زونكي جيايي نيو إنيرجي” (Ningxia Zhongke Jiaye New Energy) وصندوق الاستثمار العُماني.30 وفي العام 2022، دشّنت “الشركة الدولية للصناعات المتقدمة” (Advanced Industries Inc.)، وهي شركة أمريكية، منشأة لإنتاج الألواح الشمسيّة بقدرة إنتاجية سنوية قدرها 200 ميغاواط، وبتكلفة 1,35 مليار دولار، بما فيها مصنع لإنتاج البولي سيليكون.31
و بدأت عمان مؤخّراً في تطوير أول منشأة لتصنيع توربينات الرياح في منطقة الدقم الاقتصادية بطاقة إنتاجية سنوية تصل إلى 1000 ميجاوات، بقيادة شركة موارد توربين بالشراكة مع مجموعة شنغهاي إلكتريك لطاقة الرياح.32 علاوة على ذلك، وقّعت “شركة تنمية معادن عُمان” (MDO) مؤخّراً اتفاقيّة امتياز مع وزارة الطاقة والمعادن لاستكشاف منطقة في ولاية محوت تحتوي على كميّات كبيرة من رواسب السيليكا عالية النقاء، بالإضافة إلى الحجر الجيري والدولومايت، التي تُعدّ عناصر أساسيّة في تصنيع الرقائق والخلايا الشمسية.33 وبفضل احتياطيات السيليكا الخام التي تتخطّى مستويات نقائها 97 في المئة، تُخوّل الاتفاقيةُ شركةَ تنمية معادن عُمان بأن تصبح أوّل شركة مخصّصة لاستخراج رمال السيليكا، معزّزةً بذلك إستراتيجيّة الدولة على نطاقٍ أوسع لتنويع محفظتها المعدنيّة وتحفيز النمو الصناعي وتمتين الشراكات بين القطاعين العام والخاص. وإذا ثبت أنّ احتياطيات عُمان من السيليكا كافية لتلبية احتياجات السوق الخليجية، فقد تتمكّن المنطقة من بناء شبكة تصنيع محلّية للطاقة المتجدّدة أكثر تكاملاً.
في المقابل، اعتمدت الإمارات العربية المتحدة إستراتيجيّة قائمةً على السوق تُفضّل المرونة التنظيمية والحوافز التجارية على شروط التوطين الصارمة. بشكلٍ خاص، فرضت دُبي نفسها كمركزٍ إقليمي لتجميع منتجات الطاقة المتجدّدة، مستقطبةً الشركات الصينيّة لإنشاء مصانع لتجميع الزجاج الشمسي والوحدات الشمسيّة.34 وبينما ساهم ذلك في تسريع وتيرة التنفيذ وجذب الاستثمارات الأجنبية الضخمة، لم يقلّص بشكلٍ جذري الاعتماد على المكوّنات الوسيطة الصينيّة، لا سيّما في المجالات الدقيقة مثل إنتاج رقاقات السيليكون وتخزين البطاريات وتقنيّة المحوّلات الكهربائية.
تستثمر الإمارات العربية المتحدة أيضاً في قطاع التعدين في أفريقيا وأمريكا اللاتينيّة دعماً لعمليّة التحوّل وتحقيق أهداف صناعية.35 فقد وقّعت في العام 2023 على صفقة بقيمة 1,9 مليار دولار مع شركة التعدين الحكومية “ساكيما” (Sakima) في جمهورية الكونغو الديمقراطية لتطوير عددٍ من المناجم والحصول على امتيازات في معادن القصدير والتنتالوم والتنغستن والذهب.36 بالإضافة إلى ذلك، استحوذت “مجموعة الموارد الدولية” (IRH) الإماراتية على حصّة 51 في المئة في شركة “موباني كوبر ماينز” (Mopani Copper Mines) في زامبيا مقابل 1,1 مليار دولار.37 وأعلنت مجموعة الموارد الدولية في العام 2024 عن توقيع اتفاقات للمشاريع المشتركة في أنغولا، وأجرت مناقشات متقدّمة في بوروندي وتنزانيا وكينيا لاستخراج مجموعة أوسع من المعادن الحرجة.38 تعكس هذه المبادرات نيّة الإمارات الإستراتيجيّة لبناء سلسلة إمداد متنوّعة من المواد الخام -وهي خطوة تستند إلى العِبَر المستقاة من الاضطرابات الناجمة عن جائحة فيروس كورونا المستجدّ. بيد أنّ هذه الإستراتيجية تحمل مخاطر جيوسياسية في طياتها، لا سيّما في المناطق التي تشهد تصاعداً للنزعة القومية حيال الموارد. لقد أعادت حكومات بوركينا فاسو ومالي وجمهورية الكونغو الديمقراطية التفاوض على عقود مماثلة وصادرت أصولاً ذات الصلة، مستهدفةً بشكلٍ رئيسي الشركات الغربية ومدقّقة أيضاً وبشكلٍ متزايد في الاستثمارات الصينية والخليجية.39 وما لم تتعامل الإمارات العربية المتحدة وغيرها من الدول الخليجية مع هذه المخاطر بحذر وتخطيط استباقي، فقد يتعرّض أمن مواردها للخطر على المدى البعيد، ما يهددّ بإجهاض طموحاتها الأوسع في مجال الطاقة المتجدّدة.
أمّا في المملكة العربية السعودية، فقد تحوّل الزخم نحو التوطين إلى إستراتيجيّةٍ صناعية تسعى إلى تحويل سلسلة إمداد الطاقة برمّتها. فقد شدّد وزير الطاقة الأمير عبد العزيز بن سلمان على التزام المملكة بتوطين 75 في المئة من قطاع الطاقة، ليس من خلال زيادة متطلّبات المحتوى المحلّي بشكلٍ تدريجي فحسب،40 بل عبر مقاربة متكاملة كلّياً ترتكز على استخراج المواد الخام والتصنيع المتقدّم وتجميع المنتجات النهائية. يُلزم البرنامج الوطني للطاقة المتجدّدة (NREP) المطوّرين بتأمين نسبة تتراوح بين 17 و18 في المئة من المكوّنات من مصادر محلّية ويفرض غرامات صارمة على الذين لا يبلغون عتبة 11,5 في المئة كحدّ أدنى.41
أطلقت المملكة مجموعة من الحوافز لتعزيز التجارة وجذب الاستثمارات الأجنبية وتوفير فرص العمل للمواطنين، إلى جانب تطوير التكنولوجيا والقدرات، بما في ذلك الدعم للمصنّعين السعوديين في الحصول على التمويل للتصدير.42 بالتالي، أسّست شركات متعدّدة في المملكة العربية السعودية حضوراً لها في سلسلة الإمداد المحلّية. على سبيل المثال، أطلقت شركة “بي في هاردوير” الإسبانية (PV Hardware) وشركة “سولار إيدج” (SolarEdge) الإنتاج المحلّي لأجهزة التتبّع والمحوّلات الكهربائية، في حين بدأت شركة “تكنولوجيات الصحراء” (Desert Technologies)، التي أطلقت أول مصنع للألواح الشمسية في المملكة في العام 2011 بطاقةٍ إنتاجية سنوية تبلغ 300 ميغاواط، تصدّر إلى الأسواق العالمية وتوسّعت لتشمل تخزين الطاقة وأنظمة شحن المركبات الكهربائية.43 بالإضافة إلى ذلك، استحوذت شركة “الفنار” (Alfanar) السعودية على شركة “سنفيون إنديا” (Senvion India) في العام 2021 بهدف تعزيز توطين صناعة توربينات الرياح في المملكة العربية السعودية والاستفادة من السوق الهندية. من جهته، أبرم “صندوق الاستثمارات العامة” (PIF) في يوليو 2024 شراكة مع القادة الصينيين لبناء مشروع بقدرة 30 غيغاواط للسبائك والرقائق المندمجة في الخلايا لصنع وحدات الطاقة الشمسية ولصناعة مكوّنات توربينات الرياح وتجميعها، بما فيها الشفرات، بطاقةٍ إنتاجية سنويّة مقدّرة بنحو 4 غيغاواط.44
في العام 2023، ناقشت المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة سُبل استيراد المعادن الحرجة من أفريقيا. والتزمت الرياض باستثمار 15 مليار دولار في قطاع التعدين العالمي (مع تركيز خاص على تأمين المواد الخام من الدول النامية)، وذلك بهدف تعزيز عمليات التكرير المحلّي وتحقيق هدفها بإنتاج 500 ألف مركبة كهربائية بحلول العام 2023.45 تعتبر المملكة التعدين الركيزة الثالثة من رؤيتها للعام 2030، وتسعى إلى رفع مساهمته من 17 مليار دولار سنوياً إلى 64 مليار دولار بحلول العام 2035، مستفيدةً من موارد معدنية غير مستغلّة تقُدّر قيمتها بنحو 2,5 تريليون دولار.46 غير أنّ جوهر هذه الإستراتيجية يتمثّل في تطوير المواد الخام للطاقة المتجدّدة، مثل السيليكا والليثيوم والبلاتين والنحاس والبوكسيت. على سبيل المثال، تملك المملكة نحو 6 في المئة من احتياطيات السيليكا العالمية، بنقاء عالٍ يبلغ 99,7 في المئة، وهي مادّة أساسية في تصنيع الألواح الشمسية.47
وكذلك، تُسلّط جهود السعودية، بما فيها مبادرة شركة منارة المعادن (Manara Minerals) ومشاريع شركة “أرامكو” (Aramco) السعودية وشركة معادن لاستخراج الليثيوم، الضوء على سعي الرياض إلى إنشاء سلاسل إمداد محلّية متكاملة للموارد الحرجة.48 اعتباراً من العام 2024، تشغّل شركة “معادن” 17 منجماً وموقعاً محلّياً.49 وقد أعلنت شركة “ليثيوم إنفينيتي” (Lithium Infinity) مؤخّراً أنّها نجحت في استخراج الليثيوم من مياه مصاحبة للنفط ضمن عيّنات من حقول “أرامكو”، وأنّها تعتزم إطلاق برنامج تجاري تجريبي لاستخراجه مباشرةً في وقت قريب.50 وفي حال نجاح هذا المشروع، يمكن أن تكرّره الدول الخليجية الأخرى الغنية بالنفط. بالفعل، سبق أن أنشأت “أرامكو السعودية”51 وشركة معادن مشروعاً مشتركاً لاستخراج الليثيوم،52 ما يبرز جهود المملكة في تطوير قطاع التعدين وتأمين سلاسل إمدادات محلّية للمعادن الحرجة. وفي العام 2024، وقّعت المملكة العربية السعودية على اتفاقات بقيمةٍ تفوق 9 مليارات دولار مع شركة التعدين الهندية “فيدانتا” (Vedanta) و”مجموعة زيجين الصينية للتعدين” (Zijin Mining Group) وشركة ” بلاتينوم غروب ميتالز” الكندية (Platinum Group Metals)، لتطوير مصاهر ومصافي النحاس والزنك والبلاتين والبلاديوم.53
وفي العام 2023، كشفت شركة “فالي للمعادن الأساسية” (Vale Base Metals) عن خطط لبناء مراكز صناعية كبرى في سلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لمعالجة خام الحديد بهدف تلبية احتياجات أسواق الصلب المحلّية والعالمية.54 وتتمتّع السعودية أيضاً بوصول إلى قاعدة واسعة من الموارد المحلّية، تضمّ معادن مثل النحاس والذهب والزنك.55 وعلى نحو مشابه، يمكن للقدرات الحالية في مجال تصنيع الكابلات وإدارة المشاريع والخدمات القانونية وقطاع البناء، أن تساهم في دعم مشاريع الطاقة المتجدّدة على نطاق واسع. وفي حين أنّ هذه الصناعات تعمل حالياً بطريقة مجزأة، فإنّها تمثّل نقاط انطلاق حاسمة لتطوير نظام بيئي شامل متكامل للطاقة المتجدّدة، بحيث تؤدّي السياسات المنسّقة والاستثمارات الإستراتيجية إلى سدّ الفجوات بين هذه القطاعات وسلسلة القيمة الأساسية للطاقة المتجدّدة.
بالفعل، تتمتّع دول مجلس التعاون الخليجي بموارد قيّمة تمكّنها من دعم سلاسل الإمداد في مجال الطاقة المتجدّدة. وفي حال تمكّنت من الوصول إلى التكنولوجيا الضرورية، فيُمكنها بمعظمها استثمار مواردها الوفيرة من الإشعاع الشمسي، بالإضافة إلى المواد الخام مثل السيليكا لإنتاج الألواح الشمسية محلّياً. وقد أفادت شركة الاستشارات الأمريكية “سيندكايتد أناليتيكس” (Syndicated Analytics) بأنّ سوق رمل السيليكا في دول مجلس التعاون الخليجي يُتوقَّع أن يسجّل معدّل نمو سنوي مركّب بنسبة 6,7 في المئة بين عامَي 2022 و2027 ، ليصل إلى نحو 513,5 مليون دولار بحلول العام 2027.56 علاوة على ذلك، تستطيع الصناعات المحلّية، مثل إنتاج الألومنيوم والصلب والإسمنت، أن توفّر مدخلات أساسية للبنية التحتية التقليدية بحيث تستخدّم هذه المواد في أبراج توربينات الرياح والهياكل المثبّتة للألواح الشمسية وإطارات الوحدات. غير أنّ هذه الصناعات لطالما ارتكزت على البناء التقليدي وغالباً ما تفتقر إلى الخبرات المتخصّصة ومراقبة الجودة اللازمة لإنتاج مكوّنات عالية الأداء تُلبّي متطلبات مشاريع الطاقة المتجدّدة. لذلك، فإنّ إنشاء سلسلة إمداد متينة في هذا المجال لا يتطلّب طاقة الإنتاج الخام فحسب، بل أيضاً خبرات تقنية موجّهة وقدرات تصنيع متكاملة تمتثل للمعايير الصارمة التي تفرضها صناعة الطاقة المتجددة.
إذا ما كُتب لهذه الخطط النجاح في نهاية المطاف، فقد تنشأ سلاسل إمداد أقوى وأقل اعتماداً على الواردات. ومع ذلك، فإنّ بناء القدرات سيستغرق وقتاً. وتعكس هذه الإستراتيجيات المتباينة المقاربة المتعدّدة الأوجه التي تعتمدها الدول الخليجية في بناء سلاسل إمداد خاصة بالطاقة المتجدّدة. من جهتها، تركّز المملكة العربية السعودية على الاستفادة من مواردها المحلّية وإدماج قطاع التعدين في عملية تحوّل صناعي شامل. أمّا الإمارات العربية المتحدة، فتحرص على الاستثمار في الخارج على نطاقٍ واسع من أجل تنويع محفظتها المعدنية والحدّ من مخاطر الإمدادات، في حين أنّ قطر تضخّ استثمارات في مشاريع التعدين العالمية، إلى جانب تطوير منشآت محلّية كبيرة لإنتاج تكنولوجيا الطاقة المتجدّدة.
تظهر هذه المبادرات كافة، على تنوّعها، حماساً إقليمياً واضحاً لتقليص الاعتماد على المورّدين الخارجيين، على الرغم من استمرار التحدّيات المرتبطة بالفجوات التكنولوجية ونقص الكفاءات وضيق حجم الأسواق. ومع ذلك، تحمل اضطرابات التجارة العالمية وقيودها والمخاطر الجيوسياسية حالة من عدم اليقين في طيّاتها. ولضمان النجاح، قد تحتاج الدول الخليجية إلى تحقيق توازن دقيق بين متطلّبات المحتوى المحلّي والقدرة التنافسية، والاستثمار في نقل التكنولوجيا وتطوير القوى العاملة، إضافة إلى التعاون الإقليمي لتجنّب صناعات مشرذمة أو دون الحجم الأمثل، ما يُضعف قدرتها على المنافسة عالمياً.
الجدول 2: جهود توطين الطاقة المتجدّدة في دول مجلس التعاون الخليجي
الدولة | إستراتيجية التوطين
|
المملكة العربية السعودية | قائمة على المتطلّبات، تهدف إلى تحقيق نسبة 75 في المئة من التوطين في قطاع الطاقة بحلول 2030، ذات متطلّبات صارمة للمحتوى المحلّي في البرنامج الوطني للطاقة المتجدّدة (NREP). |
سلطنة عُمان
|
قائمة على الاستثمار، ترتكز على المناطق الاقتصادية الخاصة والحوافز الضريبية لجذب الاستثمارات الأجنبية، ذات متطلّب متواضع للمحتوى المحلّي بنسبة 8 في المئة للمشاريع المعروضة من قبل الدولة. |
الإمارات العربية المتحدة
|
قائمة على السوق، تستفيد من الشراكات العالمية ومرونة الأسواق، تستثمر في عمليات التعدين في شتى أنحاء أفريقيا من أجل تأمين المواد الخام لإنتاج الطاقة الشمسية والبطاريات. |
قطر
|
ترتكز على توطين مراحل الإنتاج الأوّلية من خلال الاستثمار في إنتاج البولي سيليكون عبر شركة “QSTec”، لكنّها تفتقر إلى درجة ملموسة من الإدماج في مراحل التصنيع اللاحقة. |
الكويت | جهود محدودة للتوطين، تعتمد على الواردات في البنى التحتية للطاقة المتجدّدة. |
البحرين | جهود محدودة للتوطين، تعتمد على الواردات في البنى التحتية للطاقة المتجدّدة. |
لا شكّ في أنّ مسعى الدول الخليجية لتوطين الطاقة المتجدّدة طموحٌ، ويأتي مدفوعاً بالاحتكاكات الجيوسياسيّة والتجاريّة التي تكشف عن مدى هشاشة سلاسل الإمداد العالمية. تُعزّز هذه التحدّيات عزم المنطقة على تقليص الاعتماد على الواردات وبناء سلاسل إمداد محلّية مرنة. وخلافاً للبنى التحتية القائمة للنفط والغاز، لا تزال سلسلة إمداد الطاقة المتجدّدة في الخليج في طور النمو، لا سيّما في مجالات التعدين وتكرير المعادن الحرجة، ومعالجة المكوّنات وتصنيعها، ودمج شبكات الكهرباء وتحديثها. قد تُعيق التكاليف الأوليّة العالية لتوطين الإنتاج وصغر السوق الإقليمية نسبياً، تحقيق وفورات الحجم اللازمة واستدامة صناعة محلّية للطاقة المتجدّدة، لا سيّما في غياب أسواق قوية للتصدير.
إنّ الطريق نحو التوطين الكامل محفوف بتحدّيات جسيمة. لا تزال الفجوات التكنولوجية ونقص الكفاءات تشكّل عوائق رئيسية. وتتطلّب عمليّات التصنيع المتقدّمة تقنياً، مثل إنتاج الرقائق الشمسية وتجميع خلايا البطاريات وتطوير تكنولوجيا المحوّلات المتقدّمة، مهارات متخصّصة تُعدّ نادرة في منطقة الخليج. وعلاوة على ذلك، تُعقّد المنافسةُ مع الصين، التي تهيمن صناعياً منذ عقود بفضل إنتاجها الضخم والمنخفض التكلفة والدعم المالي القوي من الدولة، الجهودَ الرامية إلى تحقيق إنتاج محلّي يتمتّع بقدرةٍ تنافسية من حيث التكلفة. إلى جانب ذلك، تجعل الأسواق المحلّية الصغيرة نسبياً في الخليج من الصعب تحقيق وفورات الحجم الضرورية للحفاظ على قدرة تنافسيّة مستدامة.
نظراً لهذه القيود، ينبغي على صنّاع القرار الخليجيين اعتماد إستراتيجيّة منسّقة طولية الأمد. تتمثّل الخطوة الأولى الحاسمة في إجراء مسح جيولوجي شامل على صعيد مستوى دول مجلس التعاون الخليجي لتحديد رواسب المعادن الحرجة المحتملة وتقييمها، بما فيها الليثيوم والعناصر الأرضية النادرة والنيكل والكوبالت والمنغنيز. ومن شأن تأسيس مركز خليجي للبحث والتطوير في مجال المعادن الحرجة أن يمكّن المنطقة من تطوير تقنيّات مبتكرة وفعّالة من حيث التكلفة لاستخراج هذه المعادة وتكريرها ومعالجتها، بما يتلاءم مع ظروفها الجيولوجية والبيئية الفريدة. وتُعدّ مثل هذه المبادرات أساسية، ليس لتأمين المواد الخام فحسب بل أيضاً للحدّ من الاعتماد على المورّدين الخارجيين، في ظلّ بيئة تجارية عالمية تشهد حالة من عدم اليقين.
في المقابل، لا بدّ أن تركّز المنطقة على بناء قدرات التصنيع في المراحل المتوسّطة، بدلاً من السعي إلى تقليد سلسلة الإمداد المتكاملة في الصين بشكل شامل وفوري. ومن الضروري جذب الشركات الأجنبية وتحفيز القطاع الخاص في مجالات مثل معالجة مادة البولي سيليكون وإنتاج الرقائق الشمسية وتصنيع المواد الأولية للبطاريات، بالإضافة إلى إبرام اتفاقات متينة لنقل التكنولوجيا، ما سيجذب رؤوس الأموال ويُطوّر الخبرات المحلّية.
لا تقلّ معالجة التحدّي المتعلّق بالقوى العاملة أهميّةً عن غيراها من الأولويات. ينبغي على الدول الخليجية الاستثمار في برامج تدريب متخصّصة، وفي تعزيز التعاون بين الأوساط الأكاديميّة والقطاع الصناعي، إلى جانب مبادرات التعليم المهني التي تساهم في بناء قاعدة محلّية من الكفاءات في مجالات مثل علوم المواد والهندسة الدقيقة وعمليّات التصنيع المتقدّمة. فمن دون هذه الاستثمارات، ستظلّ المنطقة تعتمد على العمالة الأجنبية إلى حدّ كبير، ما يقوّض استدامة جهودها الرامية إلى التوطين.
علاوة على ذلك، تتطلّب طبيعة السوق الخليجيّة المجزّأة مقاربةً إقليمية موحّدة. فخلافاً للصين التي استفادت من الطلب الداخلي الواسع لتعزيز توسّعها الصناعي، تُصعّب الأسواق الخليجية الصغيرة نسبياً والمشتّتة على أيّ دولة منفردة تحقيق الحجم المطلوب. وتُهدّد مقاربةٌ مجزّأة بخلق أوجه عدم كفاءة، إذ تمضي كلّ دولة في بناء صناعات موازية عوضاً عن الاستفادة من وفورات الحجم من خلال التعاون العابر للحدود. في المقابل، من شأن إستراتيجيّة صناعية خليجية منسّقة، تُوحّد السياسات والطلب، وتخصّص الاستثمارات بطريقة إستراتيجية بين الدول الأعضاء، أن تساعد على تخطّي هذه التحدّيات من خلال الحدّ من التكرار وخلق الحجم الضروري لضمان تنافسيّة الإنتاج المحلّي.
مع ذلك، تتمتّع منطقة الخليج بموقعٍ جيّد يُمكّنها من التعامل بمرونة مع المشهد الجيوسياسي المعقّد بين الولايات المتحدة والصين. وتُعدّ الشركات الصينية فاعلاً أساسياً في سوق الطاقة المتجدّدة، كما أنّها أكثر استعداداً من الشركات الغربية للانخراط في عملية نقل التكنولوجيا. وتُسلّط الحروب التجارية والنزاعات حول التعريفات الجمركية الدائرة حالياً، الضوء على أهميّة تنويع الشراكات من أجل تقليص الاعتماد على مورّدٍ واحد. بإمكان الدول الخليجية اغتنام هذه الفرصة من خلال تسخير صناديق ثروتها السيادية للاستثمار الإستراتيجي في أصول التعدين والتكرير والمعالجة على المستوى العالمي. ومن شأن هذه المقاربة أن توفّر تنوّعاً في مصادر الإمداد ويعزّز قدرة المنطقة على الصمود في وجه الصدمات الخارجية. من خلال السعي للحصول على حصص ملكية في هذه القطاعات الحيوية، بإمكان منطقة الخليج تلبية احتياجاتها من الموارد وفي الوقت نفسه تقليص التحدّيات التشغيلية المرتبطة بتطوير المناجم وإدارتها. وبذلك، تترسّخ مكانة المنطقة كمكوّن أساسي لسوق الطاقة النظيفة العالميّة التي تتشكّل.
في نهاية المطاف، تواجه تطلّعات دول مجلس التعاون الخليجي لبناء سلسلة إمداد متكاملة للطاقة المتجدّدة مخاطر تكنولوجيّة ومالية ولوجستية، ناهيك عن التحدّيات المؤسّساتية. وفي ظلّ غياب جهود مستدامة لسدّ هذه الفجوات، ستبقى أهداف التوطين بعيدة المنال. ومع ذلك، تُعدّ هذه المساعي خطوة أولى في مسار طويل، يتطلّب اجتيازه بنجاح استثمارات مكثّفة في البحث والتطوير ونقل التكنولوجيا والتعاون الإقليمي. ومن خلال توسيع نطاق تنمية الموارد المعدنية، وتدريب القوى العاملة على التصنيع في المراحل المتوسّطة، وتنسيق السياسات، يمكن للدول الخليجية الانتقال من استيراد تقنيات الطاقة المتجدّدة إلى الانخراط الفعّال في السوق العالمية للطاقة النظيفة. وفي العقود المقبلة، سيتمثّل الاختبار الحقيقي في قدرة هذه الإستراتيجيات على تحقيق استقلالٍ صناعي جذري، أو استمرار الاعتماد على سلاسل الإمداد الدولية.