أعادت المرحلة الأولية في عملية أوسلو تنظيم الاحتلال الإسرائيلي إلى مناطق سيطرة مباشرة وغير مباشرة، مما سمح لإسرائيل بالمحافظة على احتلالها لأجل غير مسمّى وبكلفة منخفضة. وبشكل أساسي، تقترح فكرة تقليص الصراع تمديد هذا المبدأ وصولاً إلى خاتمته المنطقية.
لقد أنشأ ترسيخ حكم إسرائيل الدائم على الأراضي المحتلة واقع الدولة الواحدة. تزعم فكرة تقليص الصراع أنّها تطرح “واقع الدولتين” عوضاً عن دولتَين فعليّتين وهي تنوي إعتاق إسرائيل من تداعيات الحؤول دون إقامة دولة فلسطينية سيادية.
يحاكي تقليص الصراع منطق الفصل العنصري في جنوب أفريقيا من حيث تشكيله للجيوب الجهوية أو “البانتوستانات”، والتي كان الهدف منها إعطاء صورة تقرير المصير للسود في جنوب إفريقيا وتحويل مسؤولية الحكومة السيادية تجاه كل الناس تحت سيطرتها الفعالة.
فيما يعكس هذا الأمر الدينامية الطاغية بين الجهتين، سيمنع غيابُ الرضوخ الفلسطيني في نهاية المطاف فكرة تقليص الصراع من تحقيق أهدافها وإدامة الصراع إلى أجل غير مسمى.
حين أدّت “حكومة التغيير” الإسرائيلية اليمين الدستورية في يونيو 2021، تعهّد رئيس الوزراء حينها نفتالي بينيت للبرلمان الإسرائيلي أو الكنيست بأنّه سيغيّر المسار المعتمد في الاحتلال العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية من خلال “الحدّ من الاحتكاك وتقليص الصراع”.1وكان اختيار هذه الكلمات مهماً نظراً إلى أنّها تشير بالمباشر إلى معادلة السياسات التي أجّجت على مدى السنوات القليلة الماضية الكثير من النقاشات في إسرائيل والكثير من الانتباه في الخارج. وقد طرح فكرة “تقليص الصراع” لأوّل مرّة الفيلسوف السياسي الإسرائيلي ميكا غودمان في كتاب أصدره في العام 2017 بعنوان “كاتش-67 “(Catch-67)، ولاحقاً في سلسلة من المقالات. وترتكز هذه الفكرة على الحجّة التي تقول إنّه ينبغي على إسرائيل الحدّ من سيطرتها على حياة الفلسطينيين من خلال سلسلة من الخطوات التي ترسم مساراً واضحاً يبتعد عن محاولة حلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بشكل كامل أو عن إدارته إلى أجلٍ غير مسمّى. ويقول غودمان إنّه عبر اعتماد هذا النهج، بإمكان فكرة تقليص الصراع أن تغيّر طبيعة الصراع بحدّ ذاته.
وعلى الرغم من انهيار حكومة بينيت بعد عام من توليه السلطة، إلّا أنّ تبنّي رئيس الوزراء ووزراء أساسيين،2 مفهوم تقليص الصراع قد أخرج برنامج جودمان من عالم الأفكار المجرّدة وأكسبه ثقلاً كأجندة السياسات. وفي حين أنّ تطبيق بينيت لفكرة تقليص الصراع عندما كان في السلطة جاء متفاوتاً، إلّا أنّ تأييد هذا المفهوم على أعلى المستويات الحكومية وصداه الدولي الناشئ جعله يستحق دراسة أعمق. بالإضافة إلى ذلك، وكما يوضح هذا الموجز، فإنّ الأفكار الكامنة وراء مفهوم تقليص الصراع كانت قد ترجمتها إسرائيل على أرض الواقع لسنوات عديدة قبل حكومة بينيت، وكان لها دور أساسي في تشكيل الواقع الحالي داخل الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وستستمرّ على الأرجح في التأثير في السياسات على مدى السنوات المقبلة.
يركّز هذا الموجز على تركيبة تقليص الصراع وتداعياته على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، عوضاً عن قراءة غودمان للمجتمع والسياسة الإسرائيليين، من خلال دراسة فعالية الاقتراح كرؤية تحوّلية، بالإضافة دور الفلسطينيين، أو غياب دورهم بالأحرى. ويبيّن الموجز أنّه وراء الواجهة اللامعة ظاهرياً لفكرة تقليص الصراع، التي تدّعي أنّها “سترفع الحرّية الفلسطينية إلى أعلى درجاتها”، صُمّم هذا الاقتراح ليولّد الوهم بالفصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أراضٍ لا نية لإسرائيل بمغادرتها فعلياً، وذلك من أجل حماية إسرائيل من التداعيات المترتّبة على حكمها المستمر للفلسطينيين. وتقوم فكرة تقليص الصراع بذلك من خلال دعم مبدأ الفصل بدون الانسحاب الذي وُضع في خلال المرحلة الانتقالية لاتفاقية أوسلو، من أجل حجب “واقع الدولة الواحدة” الذي برز نتيجة نشاطات إسرائيل الاستيطانية في الضفّة الغربية وحؤولها دون الوصول إلى حلّ الدوّلتين.
ويلخّص الجزء الأول من هذا الموجز اقتراح تقليص الصراع ومزاعمه التي طرحها غودمان، فيما يحلّل الجزء الثاني الاقتراح نظرياً وتطبيقياً، فيرى في فكرة تقليص الصراع امتداداً لإطار الفصل بدون الانسحاب. ويحدّد الجزء الثالث موقع الفلسطينيين إزاء تقليص الصراع، ولا سيّما كمتلقّين هامدين للسياسات الإسرائيلية، ويتساءل عمّا إذا كان تقليص الصراع قادراً على تحقيق أهدافه من دون مشاركة أو دعم فلسطيني.
أوّلاً، من المهم أن يدرك القارئ أنّ غودمان منخرط في حوار داخلي إسرائيلي، وأنّ فكرة تقليص الصراع كانت موجّهة إلى جمهور إسرائيلي، أقلّه في البداية. فظاهرياً، فكرة تقليص الصراع موضوعة في إطارٍ يطرحها كاقتراح للتخفيف من الاستقطاب بين اليمين واليسار السياسيَّين في إسرائيل، فهذا الاستقطاب برأي غودمان قد ولّد حالة من الشلل المُنهك، إذ كتب غودمان في مقالة نشرها في مجلّة “ذي أتلانتيك”3 في العام 2019: “الالتباس السياسي هو التوافق السياسي الجديد في إسرائيل”.
ويدّعي غودمان أنّه في قلب هذا الالتباس تكمن حقيقة أنّه لا يمكن إيجاد حلّ للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويُعزى ذلك في جزء كبير منه إلى أنّه سيتطلّب من الإسرائيليين التصالحَ مع معضلة أساسية مرتبطة بعلاقة دولتهم بالأراضي المحتلّة. فبحسب غودمان، “إن بقيت إسرائيل في الأراضي المحتلّة، فسوف تُعرّض مستقبلها للخطر. لكن إن خرجت من الأراضي المحتلّة، فسوف تعرّض مستقبلها للخطر أيضاً”،4 أو، بعبارة أخرى، “سيعرّض الانسحاب من الأراضي المحتلّة أمن [الأسرائيليين] القومي للخطر، لكنّ ضمّ الأراضي المحتلّة سيعرّض أكثريّتهم القومية للخطر”،5 وذلك عبر ضمّ الملايين من المواطنين غير اليهود إلى الكيان الإسرائيلي السياسي.
ومع انقسام اليمين واليسار السياسيَّين الإسرائيليين بين هذَين البرنامجَين السياسيين، يحاول غودمان إبراز ” التوافق الخفي ” في السياسة الإسرائيلية، وهو عبارة عن مقاربة تمتنع عن القيام بأيّ خطوات أو القيام بأيّ ضرر، وبموجبه لا تنسحب إسرائيل من الضفّة الغربية ولا تضمّها رسمياً. عوضاً عن ذلك، يقول إنّ إسرائيل تستفيد إلى أقصى الحدود عبر “تقليص الصراع” من خلال سلسلة من الإجراءات الأحادية (يقترح غودمان ثمانية إجراءات) تهدف إلى الحدّ من قبضة إسرائيل السلطوية على الفلسطينيين وإلى تحفيز التنمية الاقتصادية لديهم وتحسين قدرتهم على الحكم الذاتي.
وتتضمّن هذه الخطوات الثمانية بناءَ شبكة من الطرقات للفلسطينيين في الضفّة الغربية، رابطةً بذلك المناطق المحصورة المنفصلة التي تقع تحت السيطرة شبه المستقلّة للسلطة الفلسطينية، وتوسيع الأراضي التي تديرها السلطة الفلسطينية بشكل طفيف ومنح المزيد من الأراضي للتنمية الصناعية، والتخفيف من القيود المفروضة على الفلسطينيين للسفر إلى الخارج عبر الحدود مع الأردن ومطار إسرائيل الدولي، وإصدار عدد أكبر من تراخيص العمل داخل إسرائيل، وتوفير سهولة أكبر في التصدير والاستيراد، وتعديل الاتفاقية التي تحكم العلاقة الاقتصادية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ووقف بناء المستوطنات خارج المجمّعات الاستيطانية الرئيسية.
ويقول غودمان إنّ هذه الخطوات، في حال تطبيقها، ستحظى بأثر تحوّلي في طبيعة الصراع لأنّ الأراضي الفلسطينية لن تعود ضعيفة ومجزّأة، بل ستصبح ” كياناً سياسياً مستقلاً ومتجاوراً مفتوحاً على العالم “. بناء على ذلك، تتمّ ” إعادة ترتيب الصراع كخلاف ين جارَين عوضاً عن خلافٍ بين حاكم وأتباع له “. والمهمّ في المسألة، وللحرص على عدم تعريض هذه الخطوات الأمنَ الإسرائيلي للخطر، يقول غودمان أيضاً إنّه ينبغي على المؤسّسات العسكرية والأمنية ووكالات الاستخبارات الإسرائيلية متابعة العمل داخل الأراضي المحتلّة إلى أجل غير مسمّى، ويوضّح هذه الفكرة عبر خمسة مبادئ:
1. ستتابع المخابرات الإسرائيلية العمل في أجزاء الضفّة الغربية كافة
2. سيتابع الجيش الإسرائيلي إجراء ملاحقات واعتقالات في كلّ أجزاء المنطقة المستقلّة الفلسطينية
3. ستُبقي إسرائيل على قوّة عسكرية دائمة في غور الأردن
4. سيبقى المجال الجوّي تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة
5. ستبقى شبكات الاتّصالات تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة6
تشكّل هذه الخطوات والمبادئ،معاً، معادلة “ثمانية زائد خمسة” التي هي فحوى مفهوم تقليص الصراع
الانتقاد الأكثر شيوعاً الذي يتعرّض له مفهوم تقليص الصراع هو أنّه مجرّد إعادة تسمية لسياسات أخرى فاشلة أو غير مطبَّقة، ولا سيّما سياسة “السلام الاقتصادي” التي عرضها رئيس الوزراء السابق بنيامين7 نتنياهو، فضلاً عن خطط مشابهة أخذت تظهر منذ بداية الاحتلال العسكري الإسرائيلي في العام 1967. وعموماً، تهدف هذه الاقتراحات إلى رفع مستويات معيشة الفلسطينيين من خلال التنمية الاقتصادية مع تفادي تحقيق أيّ تقدّم في المسائل السياسية أو إنهاء الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفّة الغربية وقطاع غزّة الذي بدأ منذ 54 سنة. ويشكّك النقّاد عموماً بفعالية هذه المقاربة لأنّها ترتكز على افتراضَين غير مُقنعين: (1) أنّ الفلسطينيين سيكونون أكثر قابلية للتغاضي عن الغياب الجوهري الذين يعانونه في الحقوق السياسية والإنسانية في حال تمّ منحهم أوضاعاً اقتصادية أفضل و(2) أنّه يمكن الوصول إلى هذه الأوضاع المحسَّنة من دون إنهاء الاحتلال.
في الكثير من النواحي، يشبه مفهوم تقليص الصراع هذه المقاربة بالفعل، نظراً إلى وضعه في إطار يصوّره كبديل عن العمل السياسي الحاسم لدى الجهة الإسرائيلية وإلى ارتكازه على توسيع حرّية التنقّل والفرص الاقتصادية الفلسطينية من دون إنهاء الاحتلال أو وقف التوسّع الاستيطاني. بيد أنّ التاريخ قد برهن على أنّ الاحتلال الإسرائيلي لا يتوافق مع التنمية الاقتصادية الفلسطينية وأنّ إنشاء احتلال غير ضار 8 أمر مستحيل لأنّ حرمان شعب من حقّه بتقرير مصيره يتطلّب قمعاً شبه مستمرّ، لا بل قمعاً متزايداً.
وبالفعل، يتجاهل غودمان فكرة أنّ شبكة الاستخبارات التي يعتبرها ضرورية للأمن الإسرائيلي ناتجة عن استغلال انعدام الأمن الفلسطيني من خلال نظام الاعتقالات الجماعية والتعذيب المُشرّع9 والمراقبة التطفّلية10 والعقاب الجماعي11 وابتزاز اعتماد الفلسطينيين على السلطة المحتلّة للحصول على الضروريات الأساسية. بالتالي، من دون حقوق أو حمايات إضافية يمنحها الاقتراح، يضمن الوجود المستمرّ للجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية في حياة الفلسطينيين استمرار القمع الذي يواجهونه ويحدّ من إمكانية التخفيف من الاحتكاك.12 وهذا الأمر وحده كفيل بدحض مزاعم غودمان بأنّ تقليص الصراع قادر على تحويل العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى علاقة بين جارٍ وجاره.
بيد أنّ تقليص الصراع أخطر بكثير من مجرّد إعادة تسمية سطحية لأفكار بالية أو فاقدة لمصداقيّتها. فبحجّة تخطّي الاستقطاب بين اليمين واليسار في إسرائيل، تجمع فكرة تقليص الصراع التعليلَ الديمغرافي للانفصال عن الفلسطينيين الذي يدعم مبدأ الدولتَين مع الحجّة الأمنية التي ترغم إسرائيل على الحفاظ على سيطرتها على الأراضي المحتلّة إلى أجل غير مسمّى. فمن خلال هذه التوليفة، يعطي غودمان سبباً وخطّة لنظام من السيطرة الإسرائيلية المستمرّة على الفلسطينيين. والأهمّ من ذلك أنّه يطرح هذه الفكرة مع الزعم أيضاً بأنّ كيانَين سياسيين منفصلين قادران على التواجد في ظلّ حكومة سيادية واحدة، مُسقطاً بذلك مسؤوليات الحكومة الحاكمة إزاء كلّ الشعب الخاضع لسيطرتها الفعلية. بناء على ذلك، يتمّ التغاضي بالكامل عن الحقوق الفلسطينية الفردية والجماعية، فيما يتمّ استخدام التركيز على تحسين معيشة الفلسطينيين كعامل مخفِّف لحرمانهم من حقّهم بتقرير مصيرهم.
بتعابير عملية، يُعتبر مفهوم تقليص الصراع تمديداً للهيكليات الراهنة للحكم الإسرائيلي في الأراضي المحتلّة وصولاً إلى خواتيمها المنطقية. فبين عامَي 1993 و1995، تمّ تأسيس هذه الهيكليات كجزء من اتفاقيات أوسلو، وكان الهدف أن تكون مؤقّتة إلى أن يتمّ التفاوض على حلّ نهائي في غضون خمس سنوات.13 وتشمل هذه الهيكليات إنشاء حكومة السلطة الفلسطينية شبه المستقلّة، وبروتوكولات باريس التي تحكم العلاقة الاقتصادية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، ومناطق الصلاحيات (منطقة أ وب وج) التي تقسّم السيطرة الإدارية والأمنية على الضفّة الغربية وقطاع غزّة. بيد أنّه عندما انهارت عملية السلام في العام 2000 (لكن بدون التخلّي عنها بالكامل) أصبحت هذه الهيكليات المؤقّتة هيكليات دائمة فعلياً، وأوقعت الفلسطينيين في حالة من الضياع الإداري.14 فعلى أرض الواقع، احتفظت إسرائيل بالسيطرة التامة على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلّة، لكنّها نقلت موجباتها الإدارية كسلطة محتلّة إلى السلطة الفلسطينية والتكاليف المالية إلى دافع الضرائب الفلسطيني والمجتمع الدولي المانح. بالتالي، كسبت إسرائيل احتلالاً لا تترتّب عليه أيّ كلفة بدون ضغط يُذكر يدفعها لاتّخاذ قرارات ملموسة حول مستقبل هذا الاحتلال في الأراضي المحتلّة.15 علاوة على ذلك، تحتفظ إسرائيل بصلاحية كاملة على أكثر من 60 في المئة من الضفّة الغربية، مستفيدة بذلك من قدرة وصول لا قيود عليها إلى الأراضي والموارد لنشاطات الاستيطان المدني غير الشرعية التي زاد حجمها ستة إلى سبعة أضعاف منذ توقيع اتفاقيات أوسلو.16
إنّ الطابع المؤاتي لهذا الوضع الراهن لإسرائيل يمنحها حافزاً كبيراً للإبقاء عليه لأطول فترة ممكنة. وتقترح فكرة تقليص الصراع أنّه في حال اختبر الفلسطينيون احتلالاً غير مباشر في مناطقهم كافة، كما هو الحال في رام الله أو في المناطق المنفصلة الرئيسية التي تقع تحت إدارة السلطة الفلسطينية، فسيرضون بحضور إسرائيل الدائم في الكواليس.
وبعد معاينة أدقّ لمعادلة تقليص الصراع يصبح هذا الأمر جلياً. على سبيل المثال، الخطوة الأولى التي يقترحها غودمان في مقالته التي نشرها في العام 2019 في صحيفة ” ذي أتلانتيك” هي بناء شبكة طرقات في الضفّة الغربية تربط بين أهمّ المدن الفلسطينية.17 فتحت عنوان “إبقاء التدفّق مستمرّاً “(Keep It Flowing)، يعيد غودمان تدوير خطّة أطلقها الجيش الإسرائيلي عام 2003 بعنوان “كلّ شيء يتدفّق” (Everything Flows)، وبموجبها تكون المناطق المنفصلة الفلسطينية متصّلة ببعضها بشبكة طرقات خاصّة بها لتحقيق “التجاور في النقل” عوضاً عن التجاور في الأراضي.18
بيد أن غودمان لا يذكر أنّ شبكة طرقات كهذه قائمة أصلاً. فمع تزايد عدد المستوطنين اليهود بشكل كبير، باتت قدرة وصول الفلسطينيين إلى هذه الطرقات مقيّدةً وحرّيةُ تنقّلاتهم ممنوعةً. وفي السنوات الماضية، سبق أن باشرت إسرائيل ببناء بنية تحتية بديلة تضمّ تقاطعات وطرقات جانبية وأنفاقاً للفلسطينيين ضمن خطّة تعرف باسم “نسيج الحياة”،19 ويتمحور هدفها حول إنتاج فصل ممنهَج بين شعبَين يعيشان على رقعة الأرض ذاتها.
بالتالي، تبني إسرائيل شبكة طرقات تتعارض بدرجة أدنى مع نشاطها الاستعماري.20 فعبر تركيب شبكة بنية تحتية-مكانية فوق أخرى، في وسع الإسرائيليين والفلسطينيين احتلال المساحة الجغرافية ذاتها من دون الالتقاء أبداً ضمن الطوبوغرافيا ذاتها. لذا يستطيع الإسرائيليون المتابعة بتطوير مستعمراتهم من دون تعريض حرّية تنقّلهم أو أمنهم للخطر.21 و”يعطي هذا الفصل قوى الأمن الإسرائيلية قدرة أفضل على تقييد حركة الفلسطينيين، عندما تدعو الحاجة، من دون عرقلة تنقّل المستوطنين والإسرائيليين22 الآخرين الذين يقودون على طرقات الضفّة الغربية”.
وينطبق هذا المنطق على معادلة تقليص الصراع بأكملها، التي تقترح أيضاً زيادة السهولة في خروج الفلسطينيين من البلاد عبر الأردن وأن يحظى الفلسطينيون بحافلات نقل منفصلة وآمنة في مطار بن غوريون في إسرائيل.23 وهذه البنية التحتية المنفصلة التي لا تترافق بأي تغيير مجدٍ في قدرة وصول الفلسطينيين إلى باقي المنطقة الإسرائيلية الفلسطينية تعني أنّ الفلسطينيين سيعيشون مسيّجين في الداخل ويخرجون من البلاد عبر قنوات محدّدة.
لكن بحسب تفكير غودمان، يشكّل ذلك “واقع الدولتين”، مع أنّه لا يشكّل دولتين فعليّتَين، ويحوّل الفلسطينيين من أتباع للحكم الإسرائيلي إلى جيران لإسرائيل. وتحقيق هذا الأمر أساسي للمنطق الكامن في مفهوم تقليص الصراع، لأنّ إسرائيل تحرم الفلسطينيين من نيل دولة خاصّة بهم لكنّها أيضاً لا ترغب في منح الحقوق المدنية والسياسية للملايين من الفلسطينيين العديمي الجنسية الذين يعيشون داخل حدود تخضع لسيطرة إسرائيلية. فمن وجهة نظرة قانونية دولية، من ضمنها المعاهدات التي صادقت عليها الحكومة الإسرائيلية، تقع على كاهل إسرائيل مسؤولية تأمين هذه الحقوق.24 بالتالي، عبر تخصيص كيان سياسي فلسطيني على أرض منفصلة، أو على أرخبيل من الأراضي، يأمل غودمان أن تتمكّن إسرائيل من تفادي تَبِعات الحكم الدائم.
ويحاكي هذا الأسلوب في التفكير الحجّة المعتمدة للبانتوستانات في جنوب أفريقيا أيام الفصل العنصري، وذلك عبر محاولة تحويل المطالب الفلسطينية بتقرير المصير والحكم الذاتي إلى سلسلة من الجيوب الجهوية غير السيادية. لكن كما هو الحال في جنوب أفريقيا، اعتماد هذه الكيانات الجهوية على الحكومة المهيمنة يجعلها غير متوافقة مع مفاهيم الاستقلال أو الاستقلالية الحقيقية حتّى. ولهذا السبب لم تعترف الأكثرية الساحقة في المجتمع الدولي يوماً باستقلال البانتوستانات25 ورفضت المزاعمَ الإسرائيلية بأنّها لم26 تعد تحتلّ قطاع غزّة مثلاً.
ومع أنّ غودمان يستثني عمداً غزّة من اقتراح تقليص الصراع، ستحاول إسرائيل، بالمعنى الحقيقي، تحويل كلّ منطقة منفصلة معزولة في الضفّة الغربية إلى نسخة مصغّرة عن قطاع غزّة الساحلي المحاصَر، يربط بينها مزيج من البنى التحتية المخصّصة للنقل. وكما هو الحال مع غزّة، يعتقد غودمان أنّ إسرائيل ستكون قد غسلت يديها من تحمّل المسؤولية،27 مع أنّ الأمم المتّحدة28 والمحكمة الجنائية الدولية29 قد رفضتا هذه الحجّة.
مع أنّ الوضع الراهن مؤاتٍ لإسرائيل فهو على الرغم من ذلك يبقى في أصله غير مستقرّ. ففي ظلّ الظروف الراهنة، السلطة الفلسطينية، التي هي مكوّن أساسي من هذا النموذج، ضعيفة وغير شعبية ولا ملاءة مالية لها ويراها شعبها بحدّ ذاته بشكل متزايد على أنّها غير شرعية. زد على ذلك أنّه فيما لا يختبر الفلسطينيون احتلالاً عسكرياً مباشراً في مدنهم الكبرى (مع أنّ التوغّلات الإسرائيلية العسكرية تطيح بهذه الفكرة بشكل منتظم)، تتلاشى واجهة الاستقلالية مع تفاعل الناس مباشرة مع الجيش الإسرائيلي والمستوطنات والعوائق الكثيرة التي تعرقل حرّية تنقّلهم. وهذا الواقع محبط ومهين للغاية للفلسطينيين ويقوّض التنمية الاقتصادية بشكل كبير ويسبب قدراً كبيراً من الاحتكاك مع إسرائيل.
علاوة على ذلك، يكمن في قلب مفهوم تقليص الصراع هدفٌ أكثر شناعة يطيح بأيّ مكاسب يتمّ نيلها من الحدّ من الاحتكاكات القصيرة الأمد. فإطار عمل أوسلو لم ينهِ الاحتلال داخل المناطق مطوقة بل أعاد ترتيبه بكلّ بساطة.30 بناء على ذلك، تبقى الدولة الإسرائيلية السلطة العليا، فعملية اتّخاذ القرارات تتمّ في الكنيست وما زال الجيش يُملي حياة الفلسطينيين تحت إدارة السلطة الفلسطينية. ولهذا السبب ما زالت محكمة العدل الدولية والمجتمع الدولي بشكل أوسع يعرّفون الوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية على أنّه احتلال عسكري.31 بيد أنّه لا ينبغي اعتبار هذه الحالة غير قابلة للتغيير. فلم يمرّ على الاحتلال 54 سنة فحسب، بل هو قائم بالترادف مع نشاط استيطاني استعماري غير شرعي أيضاً. بالتالي، مع اندثار فرصة الوصول إلى حلّ الدولتين، يبدو الحكم الإسرائيلي دائماً ويتمّ بشكل متزايد وصفُ واقع الدولة الواحدة، الذي فيه تهيمن مجموعة إثنية قومية واحدة بنيوياً على مجموعة أخرى، بأنّه فصل عنصري.32
ونقاط الضعف الثلاثة هذه في النظام الحالي، أي الانهيار المحتمل للسلطة الفلسطينية والاحتكاك مع الجيش ومشاريعِ الاستيطان والتأييد المتعاظم للمزاعم بأنّ النظام الراهن نظام فصل عنصري،33 هي ما يبدو أنّ فكرة تقليص الصراع قد صُمّمت لمعالجته. ويأمل مؤيّدوها بشكل واضح أنّ الإجماع على الاحتلال الإسرائيلي سيفسح المجال أمام احتلالٍ لا تتحمّل فيه إسرائيل أيّ مسؤولية تجاه الفلسطينيين ضمن نطاق السلطة الفلسطينية.
باختصار، يبدو أنّ المعضلة الحقيقية التي يجري العمل على حلّها ليس ما يزعمه غودمان بل هو طريقة تفادي الموجبات السيادية مع الحؤول دون نشأة دولة فلسطينية. بناء على ذلك، أفضل ما يمكن وصف مفهوم تقليص الصراع به هو أنه خدعة لإخراج إسرائيل من فخّ نصبته لنفسها عوضاً عن كونها محاولة حقيقية للوصول إلى نتائج مرضية للجهتَين كلتيهما. ولا يخفي غودمان هذا الأمر أيضاً. ففي مقالته التي نشرها في العام 2019، يخلُص إلى أنّ “هذه الخطوات والمبادئ… تتفادى الخطر على وجود إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية من دون التقليل من الأمن الإسرائيلي. هذه خطّة للإسرائيليين الحائرين الذين لا يبحثون عن خطّة لحلّ الصراع، بل عن طريقة للهروب من الفخّ، ولتحسين حياة الفلسطينيين أيضاً.”34
صحيح أنّ المشاركة الفلسطينية تُعتبر المحور الأساسي في اقتراح تقليص الصراع، إلّا أنّها تُعتبر غير ضرورية في عملية النقاش والتنفيذ، لا بل تمّ تجاهلها تماماً. عوضاً عن ذلك، أُحيل الفلسطينيون إلى مجرّد متلقّين هامدين لـ”حسن النية” الإسرائيلي من دون أيّ رأي في مصيرهم المُقترح. وإغفال التمثيل الفلسطيني ليس هفوة ارتكبها غودمان على الإطلاق، بل هو متماشٍ مع الديناميات السياسية في الوقت الراهن، التي فيها خسر الفلسطينيون الكثير من تأثيرهم المحدود أصلاً والأحاديةُ الإسرائيلية هي القوة المحدِّدة التي ترسم معالم الواقع على الأرض.
يصعب التصديق أنّ مفهوم تقليص الصراع سيولّد رباطة الجأش الفلسطينية التي تتطلّبها سياسة غودمان. ومع أنّ بعض الخطوات التي يقترحها غودمان ستلقى ترحيباً على الأرجح لدى الفلسطينيين، على غرار التحسينات في ظروف حياتهم اليومية، من الواضح أنّ النيّة الضمنية لهذا المفهوم هي إحكام قبضة إسرائيل على الفلسطينيين وأراضيهم، فتحرمهم بذلك من حقوقهم وحرّياتهم على المدى الطويل.
بناء على ذلك، رفض المفكّرون والمحلّلون الفلسطينيون عموماً اعتبار هذا الاقتراح “إعادة تعليب” لسياسات قديمة ولم يعيروا مفهوم تقليص الصراع اهتماماً يُذكر.35 ومع أنّه من المرجّح أن تميل السلطة الفلسطينية إلى العمل مع إسرائيل لتحسين الفرص الاقتصادية وفرص الحكم في الضفّة الغربية، رفضت اللجنة المركزية لمنظّمة التحرير الفلسطينية فكرة تقليص الصراع صراحة،36 وحتّى المسؤولون الكبار الذين يتعاطون مع إسرائيل بشكل يومي يدركون أنّ العمل على تطبيق أجندة كهذه بشكل منفصل عن التقدّم في المسار السياسي أمرٌ لا يمكن الدفاع عنه.
وفي لقاءات جرت مؤخراً مع وزير الخارجية الإسرائيلي، شدّد وزير الهيئة العامة للشؤون المدنية حسين الشيخ، وهو المستشار الأقرب لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، على أهمّية وجود “أفق دبلوماسي” بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فقال: “نتكّلم على الأمن والاقتصاد والمسائل المدنية، لكن من المهم أن تكون فوق كلّ ما نفعله مظلّةٌ سياسية. فمن دون ذلك، ستكون الأمور صعبة جداً”.37
بيد أنّه عبر التغاضي عن التمثيل الفلسطيني، يتغاضى غودمان أيضاً عن التعقيد الذي تتّسم به السياسة الفلسطينية، مستخفّاً باستقرار النظام السياسي الراهن. ففي الوقت الحاضر، الكيان السياسي الفلسطيني ضعيف ومتجزّئ وتطغى عليه نخبة سياسية قمعية غير منتخَبة لها مصلحة مكتسبة في مستقبل السلطة الفلسطينية، وهي بالتالي لا تتحدّى إسرائيل أو الوضع الراهن بأيّ صفة مجدية38. وتفترض فكرة تقليص الصراع أنّ منح السلطة الفلسطينية درجة أكبر من الحيّز التشغيلي سيبقيها عائمة ومسيطِرة على الشعب الفلسطيني إلى أجل غير مسمّى. لكن مع تراجع الأفق السياسي لنشأة دولة فلسطينية تراجعت شرعية السلطة الفلسطينية لدى الشعب.
واليوم، تنظر أكثرية الفلسطينيين في الأراضي المحتلّة إلى السلطة الفلسطينية على أنّها عبء، وثلثُهم فقط ما زال يدعم حلّ الدولتين كإطار عمل لحلّ الصراع.39 فمن دون تفويض ديمقراطي حتّى، قبضة النخبة السياسية الراهنة على السلطة هشّة وتواجه تحدّياً متزايداً من شعبٍ متململ.
علاوة على ذلك، يزداد حذر المجتمع المانح الذي استمرّ بتمويل السلطة الفلسطينية حيال تحمّل التكاليف مع سقوط حلّ الدولتين. وبالفعل، سبق أن تراجع التمويل الخارجي للسلطة الفلسطينية بنسبة 83 في المئة على مدى السنوات الثلاث عشرة الماضية، إذ تراجع من 1,2 مليار دولار في العام 2008 إلى ما يقارب 184 مليون دولار في العام 2021 .40 ويُعتبر احتمال أن تسدّد الدول الخارجية الكلفة المالية لمشروع كهذا إلى أجل غير مسمّى أمراً مشكوكاً فيه في أفضل الحالات.41 لكن من دون سلطة فلسطينية عاملة تقودها قيادة خاضعة، الفرصة بأن تتمكّن فكرة تقليص الصراع من منح إسرائيل ما يعد به غودمان ضئيلةٌ.
تزعم فكرة تقليص الصراع أنّها أجندة سياسات تحوّلية لا تعلن عن توافق خفي في السياسة الإسرائيلية حيال مقاربة البلاد للمسألة الفلسطينية فحسب، بل هي قادرة أيضاً على إعادة ترتيب الصراع ليتحوّل من صراع عدواني بين أسياد وأتباع إلى صراع غير ضارّ بين جارٍ وجاره. لكن في الواقع، سبق أن شهدنا إعادة ترتيب للصراع بشكل يشبه العناوين التي تقترحها فكرة تقليص الصراع في التسعينيات مع توقيع اتفاقيات أوسلو التي أنشأت هيكليات جديدة وطبقات من الاحتلال المباشر وغير المباشر. والمهمّ في المسألة أنّ تعليق عملية أوسلو في مرحلتها الانتقالية أفرز دينامية لبّت الرغبات الإسرائيلية المتوافقة، وحتّى المتنافسة، بالاستمرار بتوسيع مشروع الاستيطان الصهيوني في الأراضي المحتلّة والتخلّي عن الإدارة المباشرة لأكثرية الفلسطينيين والمحافظة على السيطرة الأمنية على كامل منطقة إسرائيل وفلسطين.
من ناحية المفهوم، تنبع فكرة تقليص الصراع من نموذج الفصل بدون الانسحاب هذا. لكنّها تخطو خطوة أبعد عبر تعليل عملية توسيع هذا النموذج في الزمان والمكان، لكي يصبح نموذجاً شاملاً ودائماً. ويتمحور الهدف حول إنقاذ إسرائيل من فخّ الحكم الدائم على شعب محروم من الحقوق عبر إنشاء “واقع الدولتين” عوضاً عن دولتَين فعليّتين وعبر حجب واقع الدولة الواحدة الذي تبلور على الأرض. بيد أنّ رفضَ منحِ الفلسطينيين حقَّ تقرير المصير ليس نتيجة مستقرّة على الإطلاق بل هو يحرص على استمرار الصراع وعلى تعزيز نظام فصل عنصري فريد من نوعه. علاوة على ذلك، عبر عدم الأخذ بعين الاعتبار السياسة الفلسطينية الداخلية أو رغبة جهات فاعلة خارجية أساسية بالاستمرار بتمويل مشروع أوسلو، من المرجّح أن يفشل تقليص الصراع في منح إسرائيل ما تعد به.