تشكّل قضية حظر تعليم النساء فوق عمر 12 عاماً في أفغانستان إحدى أهم قضايا حقوق الإنسان. فقد اتّخذت حكومة طالبان قراراً بمنع الفتيات فوق عمر الـ12 من التعليم في ديسمبر من عام 2022 ولم تتراجع عنه حتى اليوم على الرغم من كل الجهود الدولية المبذولة في هذا الشأن. وبالعودة إلى تاريخ تعليم النساء في أفغانستان، نجد أنّ هذه القضية لطالما كانت إشكالية في المجتمع الأفغاني، اعتبرت دراسات متعدّدة أنّها واحدة من أهم معوقات التنمية الاقتصادية في البلاد لارتباطها بقضية عمل المرأة. وهي اليوم واحدة من أهم العوائق التي تمنع المجتمع الدولي من الاستثمار في أفغانستان أو المشاركة في إعادة إعمارها.
تقدّم هذه الورقة تحليلاً للسياق التاريخي والاجتماعي والديني لهذه القضيّة، لتكشف وجود نمط من علاقات السلطة والمجتمع بالدين والعادات والتقاليد والسياق السياسي، ينتج رفضاً مجتمعياً لفكرة وجود المرأة الأفغانية بالفضاء العام، من خلال ربط تعليمها وعملها بسرديات الانحلال الأخلاقي والفساد الديني التي إمّا أنتجها محتل أو سلطة تتبنّى رؤى تخالف السائد في المجتمع. وتقترح هذه الورقة حلولاً جذرية لكنها تعتمد على التدرّج في توطين مفهوم تعليم المرأة في المجتمع، واستخدام المؤسسات التعليمية التي تنسجم مع معتقدات المجتمع وأعرافه لإيصال التعليم للنساء، وفتح قنوات حوار وإدماج بين المجتمع الأفغاني والشعوب الإسلامية لكسر هذه السرديات للمساهمة في تقبّل تعليم النساء وعملهّن شعبياً.
تقدّم هذه الورقة توصيات تستند إلى المعطيات التاريخية والاجتماعية والدينية والاقتصادية من قلب السياق الأفغاني لخلق بيئة تعليمية متصالحة ثقافياً مع الواقع الأفغاني، والتي من شأنها أن تشكّل منطقة تفاوض جديدة مع حكومة طالبان، وذلك استناداً إلى التالي:
في سبتمبر 2021، حظّرت طالبان تعليم الفتيات في أفغانستان في ما بعد المرحلة الابتدائية. وبحسب مقالة لليونسكو: “هناك في الوقت الحاضر 80 في المئة من الفتيات والشابات الأفغانيات ممن هنَّ في عمر الذهاب إلى المدرسة خارج المدرسة، أي ما يعادل 2,5 مليون نسمة، و30 في المئة تقريباً من الفتيات الأفغانيات لم تطأ أقدامهنّ المدرسة الابتدائية على الإطلاق”.1 وقد علل المكتب الإعلامي لطالبان هذا الحظر بنقص في الموارد الاقتصادية يمنعها من توفير بيئة آمنة للفتيات ومناهج تتلاءم مع مبادئ الشريعة الإسلامية، بيد أنّه لا يوجد تفسير دقيق لما يقصدونه بتوافق المناهج الدراسية مع التعاليم الإسلامية، ورغبتهم في إقرار زي للنساء عموماً يناسب الشريعة والعرف.2
الجدير بالذكر أنّ طالبان قامت بالتعديل على أغلب المناهج الدراسية بالفعل لتوافق رؤيتها للتعليم، بل إنّ تدريسها للذكور يرفع علامة استفهام حول اعتبارها مخالفة للشريعة. كما أنّ الزي الرسمي لمدارس الفتيات في أفغانستان يتضمّن الحجاب أساساً كما هو اللباس التقليدي للنساء في الفضاء العام، ومع ذلك كان يمكن بوقت قصير تغيير ما يرونه مخالفاً لرؤيتهم لشكل الحجاب المفترض بالنساء ارتدائه. أمّا الظروف الأمنية، فيمكن أن تكون نسبية في كثير من الحالات.
إنّ قضية تعليم النساء ليست قضية عدالة حقوقية بذاتها فحسب، بل هي أيضاً قضية تشكل إلى حدّ كبير عائقاً أمام النهوض بالمستوى الاقتصادي للبلاد وذلك من مستويات متعدّدة. فقد أظهرت دراسات أنّ الفجوات بين الجنسين في التعليم قد تؤثّر سلباً على الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.3 كما أنّ هذا الانتهاك لحقوق الإنسان قد يشكّل عائقاً كبيراً أمام الدول التي من الممكن أن تستثمر في أفغانستان وتساهم في إعادة إعمارها. وبحسب مصدر خاص أغلقت 151 مؤسسة بسبب حظر عمل النساء وخسرت قرابة مئة ألف امرأة عملها في مجال التجميل.4
لقد كانت قضية تعليم الأفغانيات قضية شائكة ومعقّدة، منذ تأسيس التعليم النظامي، ولم يمرّ زمن عليها إلّا وكانت تُواجَه بصعوبات ومعوقات، لأن غالبية الحلول كانت تأتي من الأعلى لا من إرادة شعبية، وسريعة لا تراعي أهمية التدرّج في توطين التعليم، أي جعل المسألة تتطوّر بشكل طبيعي في سياقها المحلّي من دون إكراهات وضغط. لذا لا بدّ من حلول أكثر جذرية وتدرجّ يراعي السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي الأفغاني.
هذه الورقة تسرد بإيجاز تاريخ تعليم النساء في أفغانستان وتوضح أنه كان مسيّساً منذ نشأته وهذا هو أصل المشكلة. فقد ارتبط إمّا بنخب تتماهى مع الغرب، مما يجعل المجتمع يشعر بتهديد لهويته الدينية والقومية، أو باحتلال يحاول تدعيم وجوده أو تبريره من خلال قضية تعليم المرأة، أو لارتباط الخطاب الداعي لتعليم النساء مع دعاوى تتعارض مع صورة الأسرة التقليدية أو مظهر المرأة الأفغانية المسلمة. وهذا كلّه جعل مفهوم التعليم في أذهان عامة الناس يرتبط بالإكراه والتغريب وتدمير الأسرة الأفغانية والانحلال الأخلاقي، ما يدل على وجود سردية شعبية تتحكّم في القضية ينبغي تفكيكها. ثمّ تسلط الورقة الضوء على وضع قضية تعليم النساء في ظل حكم طالبان الثاني بداية من العام 2021 واختلاف ظروفها عن حكم طالبان الأول عام 1996. كما تناقش المنظور الديني في وجهة نظر طالبان وإمكانية وجود أفق حوار يمكن من خلاله إيجاد حل أولي لقضايا تعليم النساء. وعليه، فإنّ التوصيات تستمد حججها من تاريخ الأفغانيين أنفسهم وثقافتهم ودينهم، وأهمية إيصال التعليم للفتيات بالشكل المناسب للسياق الأفغاني، والتثقيف حول أهميته منفصلاً عن أي قضايا سياسية واجتماعية أخرى، وبخطاب إسلامي بعيد عن أي جهات أو قضايا قد تمسّ المشاعر القومية والدينية الأفغانية.
يمكن تقسيم مراحل التعليم النظامي الحديث في أفغانستان إلى ما يلي:
بدأت الدعاوى التحديثية في أفغانستان مع وصول الأمير عبد الرحمن خان إلى سدة الحكم، وقد حكم من العام 1880 إلى 5.1901 واتّسمت مرحلة حكمه بالكثير من الاضطرابات والثورات من مختلف التيارات الشعبية التي اعتبرته رجل بريطانيا وحليفاً لها حيث كانت بشؤون أفغانستان وإن لم تكن تضعها تحت الاحتلال المباشر. أطلق بعض الدعاوى التي استفزت المجتمع الأفغاني المحافظ مثل: عدم إجبار الأرامل على الزواج من شقيق الزوج المتوفَى، وكانت زوجته أول امرأة تظهر بملابس غربية بلا حجاب متحدّية الأعراف والتقاليد والأحكام الدينية.6
ولكن الدعوة لتعليم النساء في النظام الحديث تحديداً، أو ما يُسمّى التعليم النظامي، في أفغانستان بدأت في عهد الأمير حبيب الله خان (حكم بين 1901 و1919)،7 حيث افتتحت أول مدرسة للبنات وفق المنهج الإنجليزي في عهده، لكنها جُوبِهت بقوة من قِبل وجهاء العشائر الأفغانية وشيوخ الدين، واعتبرت دعوة لهدم قيم المجتمع وأعرافه ودينه خصوصاً أنّها ترافقت مع سَنِّه قيود تتعلّق بالمهر، ومحاولته توطين الحداثة الغربية في المجتمع الأفغاني.8 على الرغم من أنّ غالبية هذه التوجهات لحبيب الله خان كانت تستهدف مجتمع النخبة في أفغانستان، إلّا أنّها شكّلت في نهاية المطاف أحد أهم أسباب اغتياله من قِبل التيارات المحافظة.9وخلفه ابنه أمان الله خان10 الذي قدّم أيضاً مع محمود الطرزي خطاباً إصلاحيّاً لم تعهده البلاد،11 إذ كان الطرزي مفكّراً نهضوياً يرى أنّ التعليم وحده قادر على جعل البلاد تحظى بالنمو الاقتصادي والقوة والتقدم،12 وأنّ تساوي الفرص بين النساء والرجال في التعليم والعمل ليس من شأنه إحقاق العدل فحسب، بل هو مدعاة للتحضر والتقدم العمراني والسياسي والاقتصادي في البلاد.13
وعلى الرغم من أنّ الأمير أمان الله قد تبنى في بادئ الأمر فكرة التوفيق بين الإسلام والحداثة، إلّا أنّ السلطة على مستوى الخطاب والتنفيذ أصبحت لاحقاً في صراع مع القوى المحافظة،14 ويمكن القول إنّ ذلك يعود لعدم تقديمهم حجج شرعية مقنعة للتيار المحافظ.
وأنشأت الأميرة ثريا زوجة الأمير أمان الله -وهي ابنة محمود الطرزي- أول مدرسة للبنات باسم مدرسة مستورات في العام 1921. وبين العامين 1921 و1928، التحق بالمدرسة أكثر من 800 طالبة، وأرسلت 10 طالبات من بين 205 طالباً أفغانيّاً إلى خارج أفغانستان لإكمال تعليمهن العالي.15
ترافقت مع هذا الإصلاح التعليمي دعوات متعدّدة لتحديث المجتمع – من وجهة نظر السلطة آنذاك – مثل: منع تعدّد الزوجات، وإلغاء المهر، والسماح بخروج المرأة للعمل. ولكن الدعوة التي أثارت الرأي العام بشكل أكبر من غيرها كانت تشجيع خروج النساء بلا حجاب في الفضاء العام. واجه زعماء القبائل والتيارات الإسلامية هذه الدعاوى بقساوة بالغة، ممّا دفع بالأمير أمان الله للتراجع عن بعضها، كمنع تعدد الزوجات ورفع سن الزواج للنساء والرجال. وعادت النساء في كابول لارتداء الحجاب وأغلقت المدارس النسائية التي أُنشئت في المناطق الريفية. ولكن هذه القرارات جاءت في الوقت الضائع حيث كانت المقاومة المحافظة قد اشتدّت وأدّت بالنهاية لإزاحة أمان الله خان من الحكم ونفيه، وذلك بعد انقلاب قام به حبيب الله كلكاني الذي دام حكمه لتسعة أشهر أغلقت في خلالها جميع مدارس النساء. 16
بدأت هذه المرحلة في العام 1929 مع الملك نادر شاه17 الذي كان حذراً جدّاً في ملف حريات المرأة وتعليمها، وألزم النساء بارتداء الحجاب وأغلق مدارس النساء جميعها في مستهل فترة حكمه؛ بل إنّه استدعى الفتيات المبتعثات إلى الخارج وقام بسجنهن، ولم يُبقِ إلّا مدرسة ثانوية قديمة وحيدة ليعرضها للزوار الأجانب، وكانت تخضع لقيود وشروط قاسية نتيجة تحالفه مع القوى المحافظة التي أراد كسبها لصفه.18
اغتيل الملك نادر شاه، وتولّى من بعده ابنه محمد ظاهر شاه،19 وكان رئيس الوزراء في عهده السردار محمد داوود خان الذي كان يدعم التوجهات التحديثية، ولكنه كان أكثر حذراً في التعامل مع الرأي العام الأفغاني. افتتح في العام 1946 أول معهد نسائي في كابول، ثم في العام 1947 أُنشئت مدرستان ثانويتان للبنات وكلية تربية للنساء. وفي العام 1949، بدأت أول دفعة من خريجات المرحلة الثانوية بتدريس البنات في المدارس الابتدائية.20
شهدت الخمسينيات والستينيات تطوّراً ملحوظاً في مجال تعليم النساء ودخولهن سوق العمل، حيث كان رئيس الوزراء محمد داوود يؤمن بالتدرّج والحلول الوسطى بين الإصلاحيين والمحافظين. اعتبر محمد داوود لبس الحجاب أمراً يعود لحرية النساء الشخصية، فلم يمنعه ولم يجبرهن على ارتدائه، واتسم خطابه بالاعتدال واحترام أعراف المجتمع وقيمه. وبدعم من الاتحاد السوفياتي، تمكّن من تطوير البنى التحتية التي ساهمت في اتساع رقعة التعليم في المجتمع الأفغاني، حتى ظهر جيل لا بأس به من المعلمات والطبيبات والممرضات.21
في العام 1964، أقرّ الدستور الثالث حقّ المرأة في المشاركة السياسية والتصويت، وتسلّمت أول امرأة منصب وزيرة صحة مع ثلاث نائبات في البرلمان. كما تشكّلت أولى الجمعيات النسائية التي عملت على حظر الزواج القسري ومحو أمية النساء والمطالبة بحقوقهن.22
ويشير الرسمان البيانيان أدناه إلى تطوّر ملحوظ في عدد الفتيات المنخرطات في التعليم النظامي سواء في التعليم الابتدائي أو الثانوي.
الرسم البياني 1: زيادة التحاق الطلاب بالتعليم الابتدائي بين العامين 1950 و1993
الرسم البياني 2: زيادة التحاق الطلاب بالتعليم الثانوي بين العامين 1950 و1993
المصدر: منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة.23
مع وصول النظام الشيوعي إلى الحكم في أفغانستان زاد الاتحاد السوفياتي من المنح التي تدعم التعليم وتعديل المناهج والمساواة بين الجنسين في التعليم والعمل،24 وعلى الرغم من ذلك بدأت أعداد الطلاب الذكور تقلّ بعد اندلاع القتال في أفغانستان مع بداية الثمانينيات بينما زادت أعداد الفتيات الملتحقات بالتعليم كما هو موضح في الرسم البياني (1) و (2).25
زاد الالتحاق بمؤسسات التعليم العالي ليبلغ إجمالي عدد الطلاب 14600 طالباً في العام 1990، وكان في جامعة كابول حوالي 10000 طالب (60 في المائة منهم إناث) و620 مدرّساً.26 إلّا أنّه في نهاية المطاف، أثّرت الظروف الأمنية واندلاع القتال بين الحكومة والروس من جهة، والأفغان المحافظين من جهة، في قطاع التعليم بشكل كبير. المثير للاهتمام أنّ حملة محو الأمية التي أطلقها النظام السوفياتي للنساء والرجال أثارت غضب المحافظين من مختلف مناطق أفغانستان، ومن اللاجئين كذلك، حيث اعتبرت تدخّلاً في قيم المجتمع وثوابته.27
بعد سيطرة المجاهدين على كابول في العام 1992 بدأت تظهر معالم التمييز ضدّ النساء في التعليم والعمل. ومع ذلك، فإنّه منذ وصول المجاهدين وحتى استيلاء طالبان على الحكم عام 1996، ووفقاً لتقرير أعدّته وزارة التعليم في لعام 1994/1995، كان هنالك 628660 طالباً من بينهم 168820 طالبة (أي 27 في المئة)، و11548 معلّماً من بينهم 6662 معلّمة (أي 58 في المئة) في المدارس الابتدائية في أفغانستان. بينما بلغ عدد الطلاب المسجّلين في التعليم الثانوي 282340 طالباً، منهم 85692 طالبة (أي 30 في المئة). أمّا الهيئة التدريسية، فتكوّنت من5926 مدرّساً و6522 مُدرّسة (أي 52 في المئة). أمّا في مؤسسات التعليم العالي الأفغانية، فقد كان هناك ما مجموعه 10700 طالباً مسجّلاً (من بينهم 3000 طالبة فقط، أي حوالي 28 في المئة).28
وعلى الرغم من كل التضييق الذي فُرض على النساء، وبرغم الظروف الاقتصادية والأمنية الصعبة، إلّا أنّ تعليمهن استمر. ولكن يبدو أنّ تعليم المرأة لم يكن مسألة حساسة ومفصلية كما كان في الحكومات السابقة،29 ولعل غالبية الصعوبات التي كانت تواجهها النساء تتعلّق بالظروف والانتهاكات التي كانت يتعرض لها الناس بشكل عام في حياتهم اليومية.
بعد وصول طالبان إلى الحكم لأول مرّة عام 1996 مُنعت النساء من التعليم؛ ولكن مع الاحتلال الأمريكي لأفغانستان عام 2001 عادت المدارس لتفتح أبوابها للنساء. ومع ذلك، وعلى الرغم من كلّ الجهود التي بُذلت لأجل التعليم وتحديداً تعليم النساء، إلّا أنّ أزمة تعليم الفتيات بقيت قائمة.30 تعدّدت أسباب هذه الأزمة، ولكن يمكن تلخيص أبرز المعوقات بالتالي: الممانعة الاجتماعية وانعدام الأمن، والاعتداءات والتحرّشات سواء الجسدية أو اللفظية التي تعرّضت لها النساء أثناء ذهابهن للتعليم، إضافة إلى عوامل اقتصادية مثل قلّة عدد المدارس، وضعف الطاقم التعليمي والفساد الإداري.31
بشكل عام، ووفقاً لما جاء في تقرير اليونسكو الصادر عام 2021، ارتفع عدد الطلاب بين عامي 2001 و2018 من مليون طالب إلى قرابة عشرة ملايين طالب في مختلف المراحل التعليمية، 6,5 مليون طالب مدرسة ابتدائية (40 في المئة منهم فتيات)، مليون طالب مدرسة إعدادية (35,7 في المئة منهم طالبات)، مليون طالب مدرسة ثانوية (34 في المئة منهم بنات)، و400000 طالب جامعي (24,6 في المئة منهم طالبات). وانخفضت نسبة الأمية بين النساء من 83 في المئة في العام 2011 من مجموعهن إلى 70 في المئة عام 32.2018
كيف ارتبط تعليم النساء بالانحلال والتغريب والتبعية؟
من خلال استعراض تاريخ تعليم النساء في أفغانستان، رأينا أنّ دعوة تعليم المرأة ارتبطت بقضايا حساسة في المجتمع الأفغاني مثل: محاولة تغريب المجتمع بمهاجمة ثقافته وقيمه الدينية، من خلال قضايا الحجاب وأعراف الزواج والطلاق وفرض ثقافة المحتل. وهذا الرفض الشعبي لم يأتِ مع طالبان فحسب، بل على الرغم من كلّ التقدم الذي شهده تعليم النساء في أفغانستان قبل عودة حكم طالبان، إلّا أنّ نسب المتعلّمات كانت لا تزال ضعيفة جداً، بل إنّ الإقبال على التعليم النظامي كان يعاني أزمةً حقيقيةً، وبقيت السرديات الشعبية هي المعوّق الأقوى.33
ففي عهد أمان الله خان، كانت الصورة التي قدّمتها العائلة المالكة والطبقة الأرستقراطية من خلال رفع الحجاب، واعتباره رمزاً رجعياً يعوق تقدّم المرأة، سبباً أساسياً في الغضب الذي أدّى في المحصلة لإزاحتهم من السلطة.34 ويدل ذلك على أنّ السياق السياسي لقضايا المرأة قدّم كل الذرائع للمجتمع التقليدي في تصوّره لتعليم المرأة كرديف للتغريب وتدمير الأسرة والفساد الأخلاقي، ومهاجمة قيم الإسلام.
أما في عهد حبيب الله، فقد كان استجلاب النموذج البريطاني للتعليم سبباً أساسياً في الغضب الشعبي ضدّه؛ وكذلك الأمر بخصوص النموذج الروسي تحت ظل الحكم الشيوعي. ويذهب الأستاذ حمزة حكيمي، في مقابلة أجريتها معه، إلى أنّه في حقبة الاحتلال الأمريكي مورست ذات الممارسات من خلال قنوات التلفاز المحلية الممولة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تظهر النساء المتعلّمات بأزياء ونمط حياة أقرب إلى النموذج الغربي من النموذج الأفغاني. وهذه القنوات كانت تستهدف أهل القرى بشكل خاص، وهؤلاء أنفسهم هم من أصبحوا اليوم، مع مجيء طالبان، ذوي النفوذ في المدن الكبرى.35 لذلك، فإنّ الجيل اليافع من المقاتلين الذين يقومون بمهام على الأرض يستحضر تلك الصور المستفزّة لمشاعره القومية والدينية حين يتعاطى مع قضية تعليم المرأة.
وقد عزّز استخدام السلطات الأمريكية قضية “تحرير النساء من طالبان” بصفتها ذريعة للحرب الأمريكية على طالبان تصوّر النساء وقضاياهن كوسائل ضغط وإكراه سياسي تمارس على الشعب الأفغاني.36 كما أنّ محاولة تقنين علاقات الزواج والطلاق التي يعتبرها الأفغان هجوماً على الأحكام الدينية والأعراف العشائرية، غالباً ما ارتبطت بشكل أو بآخر بتعليم النساء. وبالتالي، صوّرت كل مطالبة بالتعليم دعوةً إلى فساد وانحلال أخلاقي وديني، في منظورهم، ممّا يجعل بعض الأفغانيات يخشين من تغريب المجتمع، ويفضّلن بقاء النظم التقليدية الاجتماعية التي تضمن قوة الأسرة وتماسكها على المطالبة بقضايا التعليم والعمل للمرأة.37
لاحظ مراقبون للوضع الأفغاني منذ سيطرة طالبان على كابول في أغسطس 2021 تغيّراً في نمط الخطاب الذي صدَّرته الحركة عن خطابها في التسعينيات. حيث سارعت الشخصيات الممثلة لطالبان في الإعلام إلى التأكيد على حرصها على حفظ الحقوق القانونية والسياسية للمخالفين لها وغيرهم من منظمات المجتمع المدني وهيئات الإعلام، والعمل على السيطرة على الأوضاع الأمنية وفعل كل ما في وسعها لخدمة الشعب الأفغاني وتأمين سبل رخائه وازدهاره. كما أكدوا على التزامهم بحفظ حقوق المرأة وحقها بالتعليم والعمل. فما الذي حصل؟
حركة طالبان ليست كتلة صماء، بل هي ككل حركة فيها تيارات واتجاهات ونقاشات داخلية. فهناك جناح عسكري وآخر سياسي؛ كما أنّ هناك أجيال متعدّدة داخل التيار العسكري تختلف من حيث المشارب والتوجهات من دون أن يعني ذلك وجود انقسام في الولاء للحركة نفسها.
وبشكل عام، يبرز اتّجاهان. يُسمّى الأول تيار الصقور: وهو التيار المتشدّد الذي يرى قضية تعليم المرأة وخروجها إلى العمل قضية مفصلية ومخالفة للشريعة الإسلامية والقيم والعادات. ويقف على رأس هؤلاء زعيم حركة طالبان وأميرها هبة الله اخند زادة، ومعه وجوه متعدّدة من حكومة طالبان الحالية، مثل وزير التعليم العالي الشيخ ندا محمد نديم، ورئيس الوزراء الملا حسن أخوند، ووزير الحج والأوقاف المولوي نور محمد ثاقب، ورئيس المحكمة العليا مولوي عبد الحكيم.38 كما يشمل هذا التيار مجموعة علماء شرعيين مقرّبين من هبة الله اخند زادة ومؤيدين لطالبان؛ في حين أنّه، وبحسب مصدر خاص، كان العلماء بأغلبيتهم في آخر اجتماع للويا جيرغا-39 مؤيدين لتعليم المرأة.40
أمّا التيار الثاني، فهو تيار الحمائم: يشمل الأعضاء الذين يغلب عليهم العمل المدني والمستوى العلمي الرفيع، ومنهم سياسيون ومقاتلون غالباً من المدن الكبرى بعكس التيار الأول الذي غالباً ما يضمّ المقاتلين من الريف والأطراف. كما يشمل هذا التيار الجناح الذي فاوض في الدوحة ومجموعة بارزة من وجوه الحركة، مثل وزير المعادن المولوي شهاب الدين دلاور ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس المكتب السياسي السابق الملا عبد الغني برادر، ووزير الدفاع الملا يعقوب نجل الملا محمد عمر مؤسس الحركة الراحل، ووزير الداخلية وزعيم شبكة حقاني سراج الدين حقاني.41 ووفقاً لصحافي أفغاني، فإنّ الجيل الأول المحارب من طالبان أكثر انفتاحاً على التحديث وتعليم النساء من الجيل الذي ترعرع في خلال الاحتلال الأمريكي للبلاد.42
وقد ظهر الاختلاف في وجهات النظر في بعض التصريحات؛ ممّا دعا أمير طالبان لدعوة جناح الحمائم لاجتماع في قندهار- بحسب بعض وسائل الإعلام – للنقاش حول كثير من القضايا، أهمّها قضية تعليم المرأة وتشكيل لجنة متابعة للقضية. وقد طلب أمير طالبان من المجتمعين عدم الإدلاء بتصريحات قد يُفهم منها وجود انقسام داخل الحركة.43 في الحقيقة، لم يقدّم تيار الصقور حجّة دينية تصمد أمام النقد الإسلامي بشكل عام. فغالباً ما يكون رأيهم مبنيّاً على نصوص لا تثبت صحتها في الشريعة الإسلامية أو يمكن ردّها بحجة دينية أخرى؛ بل يمكن القول إنّ القرار يعود في أغلب الأحيان إلى موقف هذا التيار من الغرب والمنظمات الدولية أكثر من القضية نفسها؛ إذ هو يرى أنّ أي رضوخ فيها للضغط العالمي يعني الانصياع للغرب وقيمه.44
وبحسب مصدر خاص، تغيّر الآن موقف كثير من المسؤولين في طالبان وأصبحوا يدعمون عودة تعليم النساء، ولكنهم لا يصرّحون بذلك.45 في الحقيقة إنّ أي ضغط من تيار الحمائم في سبيل تحديث جدول أعمال حكومة طالبان قد يشكّل خطراً أمنياً كبيراً في أفغانستان، وقد يؤدّي إلى حرب داخلية نتيجة تمسك قادة طالبان الأقوياء وأتباعها من سكان الأطراف بمبدأ عزل النساء عن الفضاء العام كوسيلة مواجهة ثقافية ضد الغرب. ولن يمهّد الطريق أمام تعليم النساء في أفغانستان اشتعال حرب داخلية جديدة، وبالذات حين يكون تعليم النساء مصدرها.
تتكّون أفغانستان من قوميات ومذاهب وبنى اجتماعية متعدّدة. والقومية البشتونية هي من أكبر القوميات في أفغانستان؛ وهي لها لغة مستقلة وعادات وتقاليد صلبة يستحضر فيها مبدأ “بشتون ولي”، الذي يعني كلّ ما يجمع البشتون من خصوصيات ثقافية ووجدانية. ومن خلال هذا المبدأ الأخلاقي تُفسّر كل الممارسات التي تهدف لحماية بنية القبيلة وتراتبيتها. وعلى هذا يكون وضع النساء في القبيلة هو جزء من عملية الحفاظ على التماسك القبلي والمجتمعي ولأن دور المرأة الأساسي في أوساط البشتون هو العمل المنزلي يعتبر خروجها للتعليم أمراً مخالفاً للعادات والتقاليد.46 وأكّدت طالبة دراسات عليا أفغانية، في مقابلة هاتفيّة معها، على أنّ خروج المرأة من بيتها يُعدّ منذ زمن طويل عار عند قبائل البشتون الذين استقرّ العرف عندهم على منع تعليم النساء. كما أنّهم يرون أنّ التعليم العصري يسبب فتنة داخل الأسر. من هنا، فإنّ هذا البعد القبلي هو أيضاً عائق أمام قضية التعليم.47
ولكن لا بد من التنبّه إلى أنّه في داخل بنية البشتون ذاتها، يبرز فرق بين البشتون الذين يسكنون المدن الكبرى وأولئك الذين يقطنون الريف. وقد ذكرت أسماء قانت أنّها هي أيضاً تنتمي إلى قبائل البشتون، ومع ذلك فقد حصلت على تعليم عالٍ ودعم أسري في مسيرتها العلمية. كما أنّها ترى أنّ بين البشتون في الأرياف ثمّة من يرغب بتعليم بناتهم وإن كانت نسبتهم قليلة وغيرهم من يرفض.48
لذلك قد لا تكون العادات والتقاليد المتزمّتة هي السبب الأساسي، ولكن يمكنها أن تكون أحد الأسباب الأساسية والارتباطية المتعلّقة بالعادات والتقاليد المتزمتة ومنها قضايا التحرش والخطف والاغتصاب؛ أي انعدام الأمن الجسدي للنساء. والنساء اللاتي يتعرّضن للتحرّش الجسدي والاختطاف يتعرّضن إلى ضرر مضاعف في أثناء هذه الجرائم وبعد حدوثها، فيؤدّي الوصم الاجتماعي لأسرة الضحية إلى ردّ فعل عنيف وقاسٍ من قبل ذويها. وكثير من الفتيات اللاتي يتعرّضن للاختطاف في الطريق إلى المدرسة تتخلّى عنهنّ أسرهن أو يُحبسن أو يُنبذن. كما أنّ الضحية تكون المُلام الأول بالنسبة إليهم لتعريض نفسها للخطر من خلال ذهابها إلى المدرسة في حال تعرّضت لمضايقات في الطريق من قبل الذكور. لذلك ستفضل هذه العوائل أن تمنع بناتها من التعليم لكي لا تعرّض نفسها للوصم الاجتماعي بالعار.49
الجدير ذكره هنا أنّ غالبية مقاتلي طالبان وقياداتها هم من بشتون الأرياف. وذكر مسؤول في طالبان أنّها تأخذ بعين الاعتبار هذه الأعراف والتقاليد والتحديات الأمنية في قضية عودة تعليم النساء. وهي منتبهة للمظالم التي تقع على النساء في الأوساط المتزمّتة، مثل: المنع من الميراث، وعدم الاعتراف بقدرة النساء على تدبير شؤونهن خارج المنزل؛ لذلك أصدرت الحركة بيانات تدين فيها هذه المظالم.50
تؤكّد الشريعة الإسلامية على ضرورة وضع ضوابط للتعامل بين الجنسين، وتضمن للنساء وجود مساحات آمنة في الحيّز العام لتجنيبهن التعرض لمضايقات من قبل الرجال. لذلك غالباً ما كان العمران الإسلامي عبر التاريخ منفصل الجنسين. ويعتبر الكثيرون أنّ النظام التعليمي الحديث المعاصر استُجلب من فضاء فكري مغاير عن السياق الحضاري والفكري والثقافي الإسلامي، الأمر الذي صعّب توطينه ودمجه في كل البلاد الإسلامية منذ مطلع القرن العشرين وهذا ما حدث في أفغانستان.
ويشكّل ضعف البنية التحتية للتعليم مع قلة الموارد الاقتصادية لها إحدى أهم المعوقات لعملية تكييف النظام التعليمي مع القواعد الإسلامية والأعراف المجتمعية في أفغانستان. في النظام التعليمي المدرسي الابتدائي الأفغاني، يمكن أن يقبل وجود اختلاط بين الجنسين ما داموا تحت سن البلوغ. ولكن الإشكال الحقيقي يظهر في المدرسة الإعدادية والثانوية، حيث يمنع كثير من الأهالي بناتهم من التعليم لوجود أساتذة ذكور في المدارس. كما أنّ قطاع التعليم يعاني نقصاً في الكوادر النسائية التعليمية التي يمكن أن تغطي إدارة وتعليم وحراسة كل مدارس البنات في أفغانستان. يُضاف إلى ذلك أنّ قلة عدد البنات اللاتي يدعم أهلهن التعليم في الريف أساساً، لا يخلق محفّزاً لإنشاء مدرسة للبنات في الأطراف. وذلك في حدّ ذاته لا يعطي الفتيات خيارات كثيرة، فالذهاب إلى مدارس بعيدة أو التسجيل في مدارس الذكور ليست بخيار سهل لهنَّ.51
أما في ما يخصّ التعليم الجامعي في المدن الكبرى وخصوصاً في العاصمة كابول، فقد تعرّض لعملية تشويه ممنهجة على مر العقود من قبل الأوساط المتزمّتة بسبب الاختلاط بين الجنسين في أغلب الجامعات. إلّا أنّ الجدير ذكره أنه في كابول جامعتين نسائية بشكل كامل من طالباتها وكوادرها التعليمية، ومع ذلك أُغلقت مع حظر تعليم النساء في أفغانستان. وقال مسؤول في طالبان أنهما أُغلقتا – وهما لا تخالفان الأعراف أو الشريعة- لأن هذا الإجراء يستدعي استثناء لقرار عام اتّخذته طالبان.52
في أحد أهم النصوص التي تأسس عليها المذهب الحنفي53– وهو المذهب المهيمن في أفغانستان- يُقسم العلم إلى علم ديني وعلم دنيوي:
فيقسم العلم الديني إلى قسمين: الأول هو العلم العمومي الذي يجب على كل المسلمين العلم به، وهو ما يتعلق بعباداتهم وما يتعلّق بحياتهم اليومية؛ وعلم خاص هو العلم بعلوم القرآن والحديث النبوي والفقه والأصول وغيرها من العلوم الشرعية، وهو فرض كفاية، أي إذا قام به شخص أو أكثر من المجتمع يكفي باقي المسلمين عن القيام به، فيكون هؤلاء هم المرشدون للمجتمع في ما يتعلّق بأحكامهم اليومية.
أما العلوم الدنيوية، فهي تقسم إلى: مباح وفرض كفاية، أي أنّ علوم الطب والهندسة والإدارة وغيرها في ذاتها مباحة للجميع، ولكن تصبح فرضاً دينياً على كل أفراد المجتمع في حال لم يقم أحد بتعلّمها؛ لأن مصلحة المجتمع تتعطّل فينبغي أن يكفي المجتمع فيه مجموعة من المختصين، وفي هذا كلّه لا تفريق بين الرجل والمرأة.54
وطالبان لا تجادل في وجوب التعليم الديني الذي يتعلّق بحياة النساء اليومية، ولا بإباحة التعليم الشرعي المتخصص، ولكن جدالهم يكون في وجوب أن يتعلّمن العلوم الدنيوية التي قد كفاهنَّ الرجل مؤونتها مثل: الهندسة المدنية والتي يتطلّب العمل فيها وجود اختلاط بين النساء والرجال أو وجودهن في أماكن عمل قد تعرّضهن للخطر أو المضايقات. بينما لا يجادلون غالباً بأهمية الطب للنساء؛ لأنّ في الشريعة الإسلامية لا ينبغي للمرأة أن تتكشّف أمام الطبيب الرجل إلّا في حال الضرورة، أو عدم وجود نساء طبيبات، لذلك يصبح وجود نساء طبيبات فرضاً كفائياً ينبغي أن تقوم به بعض النساء.55
كما أنهم في تقييدهم لما أباحته الشريعة للنساء من حق التعليم- غالباً ما يكون لا من حيث حرمة العلم نفسه، بل بما يترافق معه من خروج بلا محرم أو اختلاط بالرجال من دون ضوابط، أو ارتداء ملابس غير إسلامية أو إهمال الأسرة. وهو رأي قائم على سردية تَلازم التعليم مع الانحلال الأخلاقي.56
لذلك في كل الحوارات التي قام بها علماء مسلمون من المذهب الحنفي وغيره في محاولتهم لإقناع جماعة طالبان بالعدول عن رأيهم يحيل المحاورون من طالبان الأمر إلى العرف والعادات، لأنّ الشريعة الإسلامية لا تحرّم العلم في ذاته وليس لديهم حجة شرعية قوية، بل هي اجتهادات يمكن ردّها باجتهادات أخرى. وهذا يعني أنّ هناك فسحة حوار من هذا المنظور يمكن أن يعوّل عليها الخطاب الإسلامي نفسه، ويمكن استخدامها في دعم قضية التعليم.
استخدمت قضية تعليم النساء كورقة ضغط سياسية على مرّ التاريخ من قبل كل الأطراف.57 ولطالما أُدرِجت ضمن أجندة تغيير سياسي واجتماعي من الأعلى. والحال أنّه طوال فترة الوجود الأمريكي في أفغانستان، لم تتمكّن القوى السياسية الفاعلة أو منظمات المجتمع المدني من حلّ قضية تعليم النساء؛ وبقيت تواجه صعوبات جمة؛ بل إنّ كل فرض سريع للتعليم على الأفغان كان يسبب رد فعل عنيف. فالشعب الأفغاني لا يستجيب للإملاءات وخصوصاً الغربية، لذلك آن الأوان للبحث عن حلول متدرّجة من صميم بنية المجتمع، وعن سردية بديلة لتعليم النساء تكسر السرديات التي تربط ما بين التعليم وتدمير الأسرة المسلمة والخروج عن العرف والدين.
كما تبيّن ممّا سبق، فإنّ طالبان لا يمكنها أن تحرم التعليم المتعلّق بالجانب الديني. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ نظام “المدرسة”58 منذ دخول الإسلام لأفغانستان وحتى اليوم بقي صامداً منيعاً ضد أي ممارسات وصم اجتماعي في أفغانستان، فإنّ هذ النوع من التعليم يمكنه أن يكون منفذاً جيداً لتطبيع مسألة تعليم النساء في المجتمع، ويكسب قضية التدرّج المطلوب لتوطينها في السياق الأفغاني من دون ممانعة اجتماعية.
في مشروع بحثي لمعهد أوسلو لبحوث السلام حول التعليم الديني العابر للحدود بين أفغانستان وباكستان، توصّل الباحثون إلى نتائج مهمة وهي أنّ الأفغان يميلون إلى هذه المدارس لعدد من الأسباب أهمّها أنّها تُعتبر مناسبة للثقافة الأفغانية بالنسبة للفتيات.59 ومن اللافت أنّ نظام المدرسة طُور وخضع للكثير من التغييرات منذ مطلع القرن العشرين، إلّا أنّها لم تواجَه بعنف. فقد أدخلت المدرسة مثلاً العلوم الدنيوية مثل التاريخ والجغرافيا والرياضيات واللغات والاقتصاد. وفي بعض المدارس الدينية كانت تدرّس الإنجليزية وعلم النفس وغيرها من العلوم الحديثة، بالإضافة إلى العلوم الإسلامية. كما أنّ النظام التعليمي أدخل تعديلاً قانونياً يمكن أن يمنح شهادة دراسة ابتدائية أو ثانوية لطلاب هذه المدارس بعد سنّ معيّن والخضوع لاختبار وزاري يجيز تأهّل الطالب للدراسة في المرحلة التي تليها.60
إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ نسبة الأفغانيات الملمّات بالقراءة والكتابة تبلغ 23 في المئة من مجموع النساء،61 يمكن القول إنّ محاربة الأمية هي أولوية في مسألة تعليم النساء. وبما أنّ المدارس النظامية تتركّز في المدن بينما تقل في الأطراف، تصبح المدرسة حلّا لإلمام الفتيات بالقراءة والكتابة. وقد أظهر تقرير لليونسكو في العام 2020 عن الإدماج في التعليم أنّ المدارس المجتمعية شكّلت عاملاً إيجابياً في إيصال التعليم للنساء في أفغانستان.62 وعلى الرغم من ذلك، بعد ظهور حركة طالبان ومن ثمّ هجمات 9 سبتمبر، أصبح يُربَط بين الإرهاب والمدارس الدينية في باكستان وأفغانستان بشكل مكثّف. لكن الدراسات اللاحقة التي عُنيت بدراسة جذور الإرهاب وجدت أنّ هذا الربط ليس دقيقاً،63 فهذه المدارس غالباً ما تركّز على التعليم الديني من دون الخوض في الشؤون السياسية، وأنّ العنف والراديكالية تعودان في الغالب إلى أسباب شخصية أو اقتصادية.64
كما أنّه يمكن الاستفادة من تجارب دول إسلامية حدثت فيها ممانعة ثقافية للتعليم النظامي لكنها استطاعت أن تقدم صيغاً قانونية تدمج التعليم الديني في النظام التعليمي العام، مثل موريتانيا حيث اعتبرت منظمة اليونيسيف مشروع إدخال تخصصات علمية كالعلوم والرياضيات على 23 محظّرة65 وتدريب معلّميها مشروعاً واعداً وقابلاً للتطبيق وقد يكون وسيلة فعّالة لتقديم التعليم للأطفال خارج التعليم النظامي.66
لقد خلق تقديم حق تعليم المرأة للمجتمع الأفغاني كمشروع تغيير راديكالي اجتماعي واقتصادي وسياسي منذ مطلع القرن العشرين حالة توجس وقلق لدى الشريحة المتزمّتة الواسعة، ما يقتضي فك مفهوم التعليم عن الانحلال والفساد الأخلاقي والتفكك الأسري.
إحدى أهم الوسائل التي تساعد في فك هذا الارتباط في العقل الجماعي هي تقديم سردية بديلة تعتمد على مقاربات متعدّدة؛ أهمّها: تقديم نموذج بديل يُقتدى به لمجتمع إسلامي تتعلّم فيه النساء مع التزامهن بالأعراف والشريعة الإسلامية، من خلال التعريف بأدوار نساء مسلمات متعلمات ناجحات67 عبر وسائل الإعلام الأفغانية الرائجة وأيضاً برامج الراديو الذي يصل إلى المناطق النائية في الأطراف بسهولة،68 وأن تركّز على إبراز تاريخ وحاضر النساء المسلمات اللاتي اهتممن بالتعليم ووصلن فيه إلى أعلى المراتب العلمية، مع تمسكهنّ بالحجاب وقيم الأسرة والدين الإسلامي. كما يمكن تقديم نماذج بيئات علمية تفصل بين الجنسين مثل: الجامعات السعودية أو الجامعة الوطنية في قطر وتوفير منح دراسية فيها، والتعريف بها عبر طرق تصل لعامة الناس، وليس الجهات العليا أو النخبة فحسب. ويمكن للدول والجهات المانحة أن تعرض توفير الدعم المالي اللازم لبناء مؤسسات تعليمية للنساء تلبّي هذه الشروط.
يمكن لكسر العزلة الفكرية التي يعيشها الأفغان عن المجتمعات الإسلامية الأخرى- مثل ماليزيا وإندونيسيا وتركيا وإيران أو البلدان العربية الإسلامية- أن يساعد بشكل أكثر في تطبيع عمل المرأة في الأوساط الملتزمة، حيث إنّ تجارب هذه الدول يمكن أن تضع الكثير من الأفكار التي تُعد من المُسلّمات في المجتمع الأفغاني حول الضرر الذي قد يسببه تعليم المرأة، تحت المساءلة، وتمنح المؤيدين لعمل المرأة حججاً واقعية أكثر في حوارهم معهم.69 لذلك من المهم جدّاً أن تعمل الدول الإسلامية والجهات المهتمّة في قضايا المرأة على خلق طرق حوار وتفاعل مع الشعب نفسه، لأنّ قضية المرأة ليست بيد حكومة الإمارة الإسلامية فحسب، بل هي قضية مجتمعية بالمقام الأول.
وقد ذكر مسؤولٌ من طالبان أنّ هناك نقصاً كبيراً في البنى التحتية في المدارس الابتدائية وتحديات جمّة تواجه طالبان لتوفير التعليم للفتيات في مرحلة التعليم الابتدائي. كما ذكر أنّ متناع الجهات المانحة عن المساعدة في دعم التعليم الابتدائي للفتيات بحد ذاته والاكتفاء بالمطالبة بتعليم النساء يثير حفيظة التيار الرافض لتعليم النساء، لأن التركيز فقط على تعليم النساء من دون الفتيات الصغيرات يعطي مؤشّراً على أنّ القضية لا تتعلق بالتعليم فحسب، بل هي رغبة بإحداث تغييرات في المجتمع الأفغاني وهذا ما يرفضونه، ويرون أنّه محاولة فرض هيمنة ثقافية.70 لذلك، من المهم أن يقدّم الدعم المادي والعلمي لتوسيع رقعة تعليم النساء من خلال التعليم الابتدائي الذي لم تمنعه طالبان.
كذلك يمكن مساعدة الفتيات اللاتي وصلن لسن الجامعة من خلال توفير منح للدراسة في البرامج التي تعرضها كثير من الجامعات حول العالم عبر الإنترنت، أو يمكن توفير برامج أخرى عبر الإنترنت مخصّصة لهن من جامعات أفغانية أو من خارج البلاد تساعدهن على إكمال تعليمهن.
ليست حركة طالبان العائق الوحيد في قضية تعليم المرأة، بل يمكن القول إنّ جانباً كبيراً من موقف طالبان مدفوع برغبتها بعدم استفزاز المجتمع الأفغاني. لذلك، من المهم التركيز على حلول أكثر جذرية تعمل على مخاطبة الشارع الأفغاني بخطاب إسلامي، ومن جهات غير غربية ليكون الحل من الداخل الأفغاني لا يستفزّ حساسية الأفغان من الغرب وقيمه. وتبرز أربعة حلول مقترحة للقيام بذلك: