تحوّل إستراتيجي نحو المركزية والعسكرة والسلطوية: في عهد الرئيس إبراهيم رئيسي، شهدت إيران تحوّلاً كبيراً في سياستها الخارجية تجلّى في تزايد المركزية ومعاداة الغرب والعسكرة وقبضة سلطوية أقوى من جانب النخبة الحاكمة. من المتوقّع أن تستمرّ هذه الاتجاهات في رسم معالم سياسة طهران الخارجية بعد وفاة رئيسي.
تزايد دور الجهات غير الدبلوماسية في السياسة الخارجية: يعكس تراجع دور وزارة الخارجية وزيادة نفوذ المجلس الأعلى للأمن القومي والحرس الثوري الإيراني تحوّلاً من القنوات الدبلوماسية التقليدية نحو إستراتيجيات أكثر عسكرة ومدفوعة بالأمن.
إعادة التوجيه نحو الشراكات الشرقية: تتّجه سياسة إيران الخارجية بشكلٍ متزايد نحو تمتين الروابط مع القوى الشرقية، لا سيما روسيا والصين، والابتعاد عن الانخراط الدبلوماسي مع الغرب نحو اعتماد التحدّي الأيديولوجي والبراغماتية الإستراتيجية.
إمكانية التعاون الإقليمي في ظلّ موقف المواجهة: في حين تُوفّر التحوّلات في سياسة إيران الخارجية فرصاً لتعزيز التعاون الإقليمي، لا سيما مع الجيران العرب، إلّا أنّها تُثير أيضاً خطر العزلة الدبلوماسية وتُوتّر علاقات إيران الدولية بسبب مقاربتها التصادمية والانعزالية.
شهدت سياسة إيران الخارجية تغيّرات كبيرة منذ تسلّم الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي مقاليد الرئاسة في أغسطس 2021 وحتى وفاته المفاجئة في مايو 2024، ما انعكس على علاقات طهران مع القوى الإقليمية والعالمية. وقد دفع تضاؤل الآمال بإحياء الاتفاق النووي للعام 2015 وخطة العمل الشاملة المشتركة والتوتّرات المتصاعدة مع الولايات المتحدة، بإيران إلى تعزيز روابطها مع روسيا والصين لمواجهة القطيعة الغربية والضغوط الاقتصادية الناجمة عن العقوبات الأمريكية. في غضون ذلك، عزّز الموقف الموحّد من الحرب على غزّة العلاقات المحسّنة مع المملكة العربية السعودية وغيرها من الجيران العرب، بفضل الحوار المستمر وتدابير بناء الثقة، ما وفّر فرصاً للتعاون الإقليمي.
غالباً ما تُركّز تحليلات سياسة إيران الخارجية على الديناميات الإقليمية والدولية ولكنّها تميل إلى التغاضي عن التطوّر الداخلي الذي تشهده البنية المنوطة بصناعة السياسة الخارجية في إيران. ترسم التطوّرات الداخلية الرئيسية، على غرار زيادة مركزية السلطة وإضفاء الطابع الأمني على النظام السياسي وتعزيز القبضة السلطوية للنخبة الحاكمة، معالمَ سياسة إيران الخارجية والعلاقات الدولية بعمق. علاوة على ذلك، يبرز نقصٌ في التركيز على التغييرات المؤسساتية والبنيوية داخل الهيئات المكلّفة بصياغة السياسة الخارجية. ويشكّل فهم هذه التحوّلات المؤسساتية ضرورةً لتكوين نظرة شاملة حول كيفية تأثيرها في سياسة إيران الخارجية. ويمكن أن تُفسِّر هذه الاتجاهات الكامنة أيضاً السبب وراء عدم توقّع أي تغييرات مهمّة في سياسة طهران الخارجية، على الرغم من وفاة الرئيس الإيراني ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان.
يهدف موجز القضيّة هذا إلى استكشاف التحوّل في عملية صنع القرار في سياسة إيران الخارجية وبنيتها في السنوات الثلاثة الماضية، ويسلّط الضوء على انعكاسات مركزية السلطة المتزايدة ومعاداة الغرب والعسكرة والسلطوية في إيران. تكمن الحجة الرئيسية في وجود صلةٍ مباشرة بين التحوّلات في سياسة إيران الداخلية وسياستها الخارجية المتغيّرة. ويستند هذا التحليل إلى التحوّل السريع من الآليات الدستورية الرسمية إلى العمليات غير الرسمية. بالإضافة إلى ذلك، زادت استقلالية مؤسسات الدولة الموازية، ما أدّى إلى تآكل دور وزارة الخارجية. وسيناقش التحليل كذلك تداعيات هذه التحوّلات على علاقات إيران الدولية وروابطها الإقليمية.
يُحدّد الدستور الإيراني الهيئات القانونية الرئيسية المَعنيّة بصناعة السياسة الخارجية، بما فيها المرشد الأعلى والرئيس ومجلس الوزراء والبرلمان (مجلس الشورى الإسلامي) والمجلس الأعلى للأمن القومي. لكن غالباً ما تكون العملية الفعلية لصناعة السياسة الخارجية في إيران غير شفافة وغير رسمية وعمل مؤسساتها وهياكلها غامض. ينبع هذا التعقيد من التطوّرات المؤسساتية التي تتجاوز الحدود الدستورية الرسمية والصعوبة في الحصول على معلومات موثوقة من الداخل، ما يُعقّد تحليل أنماط صنع القرار.1
يأتي المرشد الأعلى في صميم صناعة سياسة إيران الخارجية، فهو يتمتّع بسلطة في توجّه الدولة الإستراتيجي، بما في ذلك سياستها النووية وعلاقاتها مع الولايات المتحدة. وعلى الرغم من سلطته الواسعة، غالباً ما يسعى آية الله السيّد علي الخامنئي، الذي يشغل هذا المنصب حالياً، إلى النأي بنفسه عن تداعيات أيّ إخفاقٍ في السياسات. وعادةً ما ينسب النجاحات إلى رؤيته وإرشاده، بينما يعزو الإخفاقات إلى الهيئات الإدارية ووزارة الخارجية التي تنفّذ السياسات. على سبيل المثال، دعم الخامنئي فريق التفاوض الإيراني في الملف النووي بين عامي 2013 و2015، ولكن بعد انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة في العام 2018 وإعادة فرض العقوبات، انتقد الاتفاق ووصفه بـ”الخسارة البحتة”.2
من جهةٍ أخرى، يُعيّن المرشد الأعلى عدداً من الشخصيات العسكرية أو الدبلوماسية السابقة كمستشاريه للسياسة الخارجية، وقد لا تتماشى وجهات نظرهم وآراؤهم دائماً مع توجّهات وزارة الخارجية. خير مثال على ذلك إنشاء المجلس الإستراتيجي للعلاقات الخارجية في العام 2006 كهيئةٍ استشارية للمرشد الأعلى.3 يُشارك رئيس المجلس الحالي ووزير الخارجية السابق كمال خرازي بنشاط في الشؤون الخارجية، بما في ذلك الاجتماع بالمسؤولين الأجانب. ويتجاوز مستوى انخراطه النشاط المعتاد في المؤسّسات البحثيّة الدولية والاستشارية.4
على الرغم من أنّ الحرس الثوري الإيراني لم يكن ملحوظاً في الدستور، إلّا أنّه يؤدّي دوراً محورياً في سياسة إيران الخارجية. لقد بات الحرس الثوري الإيراني يؤثّر ليس في القدرات العسكرية فحسب، بل أيضاً في القرارات الاقتصادية والسياسية، وبشكلٍ خاص تلك المتعلّقة بالسياسة الخارجية.5 وينخرط الحرس الثوري الإيراني، وهو مسؤولٌ أمام المرشد الأعلى وحده، لا سيما من خلال نخبة فيلق القدس، في عمليات تتجاوز الحدود الإيرانية لدعم الحلفاء والمجموعات المختلفة عبر المنطقة.
من خلال تمكين المرشد الأعلى والتأثير فيه، يؤدّي الحرس الثوري الإيراني دوراً بارزاً في توجيه عقيدة الجمهورية الإسلامية وأمنها واقتصادها نحو سياسات متشدّدة. وغالباً ما يتنافس مع مؤسسات وجهات فاعلة أخرى أو يتصادم معها في عملية صنع السياسة الخارجية.
يُجسّد الرئيس، الذي يقود السلطة التنفيذية، الوجه العام لسياسة إيران الخارجية. وهو مكلّف بالإشراف على الحكومة وبتمثيل إيران على الساحة الدولية، وتحدّ دورَه سلطةُ المرشد الأعلى الشاملة. على الرغم من ذلك، لا تزال سلطة الرئيس الرسمية كبيرة في إدارة الأنشطة الدبلوماسية اليومية وصياغة السياسات. من خلال وزارة الخارجية، تنخرط الرئاسة في المفاوضات والعلاقات الدبلوماسية والتعاون الدولي.
تؤدّي وزارة الخارجية دوراً محورياً في تنفيذ هذه الإستراتيجيات وتشكّل الذراع الدبلوماسية للحكومة الإيرانية. يقود وزيرُ الخارجية، الذي يعيّنه الرئيس ويوافق عليه البرلمان، وزارةَ الخارجية المكلّفة بصياغة السياسة الخارجية الإيرانية والإعلان عنها وبإدارة العلاقات الدولية وبالتفاوض على المعاهدات، وإن كان ذلك ضمن إطارٍ أوسع للسياسات يُحدّده المرشد الأعلى.
يعمل المجلس الأعلى للأمن القومي كحلقة وصل حيوية للتنسيق بين مختلف فروع الحكومة والقوى الأمنية في تحديد السياسة الخارجية والأمن القومي. ويضم المجلس الذي يترأسه رئيس الجمهورية ممثّلين عن السلطات العسكرية والقضائية والتشريعية، ما يسهّل بناء التوافق والتخطيط الإستراتيجي. غير أنّ المرشد الأعلى يضطلع أيضاً بنفوذ كبير على المجلس الأعلى للأمن القومي، لا سيما من خلال موافقة أمين المجلس غير الرسمية.6
بالإضافة إلى ذلك، يرسم البرلمان (أي مجلس الشورى الإسلامي) ومجلس صيانة الدستور ومجمع تشخيص مصلحة النظام إطارَ السياسة الخارجية الإيرانية. ويؤثّر البرلمان في الشؤون الخارجية من خلال التصديق على المعاهدات والتشريعات الدولية، أمّا مجلس صيانة الدستور، فيضمن توافق التشريعات مع الشريعة الإسلامية والدستور، بينما يقدّم مجمعُ تشخيص مصلحة النظام المشورةَ للمرشد الأعلى ويتوسّط بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور، مساهماً في الإشراف على سياسات إيران الخارجية وتوجهها الإستراتيجي.
في السياق الأوسع لصناعة سياسة إيران الخارجية، لطالما اضطلعت الشبكات والفصائل غير الرسمية داخل النخبة السياسية بتأثير كبير. وتساهم هذه الشبكات، التي غالباً ما ترتبط بفصائل محافظة أو إصلاحية، في التفاعل بين السلطة والسياسة في الجمهورية الإسلامية.7 بيد أنّ تراجع تأثير الفصائل المعتدلة/الإصلاحية في بنى السياسة الرسمية حدَّ بشكلٍ تدريجي من نفوذها غير الرسمي أيضاً. ومع ذلك، حتى في النظام الحالي الذي يسيطر عليه المحافظون، تكمّل العملياتُ غير الرسمية، كالمفاوضات وراء الكواليس والتحالفات بين الفصائل (مثلاً داخل البرلمان) ونفوذ الشخصيات البارزة، عمل البنى الرسمية في توجيه مسار السياسة الخارجية الإيرانية.
شهدت بنيةُ السياسة الخارجية الإيرانية وعمليّتها، كما ذُكر أعلاه، تغييرات بارزة في السنوات الثلاثة الماضية. ويمكن تصنيف هذه التغييرات إلى أربعة أنواع رئيسية: تغييرات قانونية ومؤسساتية ووظيفية وشخصية.
يُشير النوع الأول، أي التغيير القانوني، إلى التعديل الرسمي للأُطر القانونية والترتيبات المؤسساتية المتعلّقة بصناعة سياسة إيران الخارجية. خيرُ مثالٍ على هذا الاتّجاه “خطة التنمية” الإيرانية الجديدة، التي صادق عليها البرلمان في يناير 8.2024 وقد أعفى مشروع القانون عدداً من مؤسسات الدولة، بما فيها القوات المسلّحة ووزارة الاستخبارات ومنظّمة الطاقة الذرية الإيرانية، من التنسيق مع وزارة الخارجية بشأن أنشطتها الخارجية. بعد رد فعل عنيف من خبراء ودبلوماسيين سابقين وتحت ضغط وزارة الخارجية، طلب مجلس صيانة الدستور من البرلمان تعديل القانون بحيث تبقى وزارة الاستخبارات ومنظّمة الطاقة الذرية الإيرانية مُلزَمتين بالتنسيق مع وزارة الخارجية. لكن القوات المسلّحة تبقى معفاة.9
تُقوّض خطة التنمية الجديدة بفعالية سلطةَ وزارة الخارجية ودورها. بالإضافة إلى ذلك، أدّى القانون إلى زيادة التشرذم والحيرة في صناعة سياسة إيران الخارجية، إذ تسعى كل مؤسسة إلى تنفيذ أجندتها وتحقيق مصالحها الخاصة من دون إشراف وتنسيقٍ مناسبَين. وكما قال محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني السابق في ظلّ إدارة حسن روحاني، “لكل وزارة [في إيران] وزارة خارجية خاصة بها”.10 وأكّد كذلك أنّ “الدولة تنتهج سياستَين خارجيتين: الأولى تابعة لوزارة الخارجية والثانية تابعة للقوات المسلّحة”.11
أمّا نوع التغيير الثاني، أي التغيير المؤسساتي، فيُشير إلى تبديل الأدوار والإجراءات المؤسساتية في صناعة سياسة إيران الخارجية وفي تطبيقها. ويعكس التحوّل في دور المجلس الأعلى للأمن القومي هذا التغيير. فقد شكّل المجلس على مرّ التاريخ مصدرَ إجماع في مجال الأمن وصنع السياسة الخارجية، وقد تحكّم مباشرة بشكل متزايد بالملفات الإستراتيجية الحاسمة، بما فيها العلاقات مع الدول المجاورة وروسيا. بعد حوالي عقدٍ من الزمن، استعاد المجلس الأعلى للأمن القومي مكانته كجهةٍ فاعلة أساسية في الدبلوماسية النووية. في البداية، في خلال المفاوضات النووية مع الغرب بين العام 2003 والعام 2013، كان أمينُ المجلس الأعلى للأمن القومي كبيرَ المفاوضين في الملف النووي الإيراني.12 إلّا أنّه في عهد الرئيس السابق حسن روحاني، نُقل الملف النووي إلى الإدارة، وكان ظريف على رأس الجهود المبذولة.13
تعزَّز الدور العام للمجلس الأعلى للأمن القومي في عملية صناعة السياسة الخارجية مجدّداً في خلال السنتين الأخيرتين من ولاية روحاني، بين عامي 2020 و2021، أي بعد انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة في العام 2018. وأشارت تقارير غير رسمية إلى أنّ وزارة الخارجية هُمّشت في المفاوضات الرامية إلى إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة التي بدأت بعد انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة. ففي خلال المفاوضات، كان الفريق الإيراني يرفع تقاريره مباشرةً إلى المجلس الأعلى للأمن القومي، متجاوزاً بذلك وزارة الخارجية. استمرّ دور المجلس الأعلى للأمن القومي في عهد الرئيس رئيسي، حيث أدّى أمين المجلس السابق علي شمخاني دوراً رئيسياً في إبرام اتفاق الانفراج الإيراني السعودي في مارس 14.2023 استُبدل شمخاني لاحقاً بعلي أكبر أحمديان، أحد كبار قادة الحرس الثوري الإيراني سابقاً، غير أنّ المجلس الأعلى للأمن القومي بقي ناشطاً بالقدر نفسه في ملفات السياسة الخارجية المختلفة، من العلاقات مع روسيا إلى السياسة الإقليمية الإيرانية.15 وقد زار أحمديان روسيا مراراً منذ تعيينه لإجراء محادثات ثنائية مع مسؤولين روس، وللمشاركة في المناقشات الأمنية في إطار منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة البريكس.16 من خلال هذه التفاعلات، يبدو أنّ المجلس الأعلى للأمن القومي يُرسي ويُنفّذ القاعدة الأمنية لإستراتيجية “التوجّه شرقاً” الإيرانية المُعاد إحياؤها. ويتجلّى ذلك في انخراط المجلس الاستباقي في حواراته الأمنية مع أرمينيا والعراق.17
يُشير النوع الثالث، أي التغيير الوظيفي، إلى تعديل المعايير والممارسات في صناعة سياسة إيران الخارجية التي تؤثّر في دور مختلف مؤسسات الدولة ووظيفتها. ويدلّ أحد الأمثلة على هذا التغيير، الذي غالباً ما أُشير إليه في الأعوام الثلاثة الماضية كثنائية “ساحة المعركة مقابل الدبلوماسية”، فعلياً على تحويل جهاز السياسة الخارجية إلى مجرّد وكيلٍ للحرس الثوري الإيراني وإستراتيجيته الإقليمية.18 قبل إدخال هذا المفهوم بشكلٍ رسمي، أعرب ظريف عن قلقه من تأثير الحرس الثوري الإيراني المتزايد في رسم معالم السياسة الخارجية. وفي تسجيل صوتي مسرّب، قال ظريف إنّ ساحة المعركة، أي الحرس الثوري الإيراني، غالباً ما تدخّلت وخرّبت جهوده الدبلوماسية.19 بيد أنّ التحوّل أصبح جليّاً ومؤسساتياً بشكلٍ متزايد في ظلّ إدارة الرئيسي.
كان وزير الخارجية الراحل حسين أمير عبد اللهيان على صلةٍ وثيقة بفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.20 وقد أثنى علناً على وصفه بالانسجام بين الدبلوماسية وساحة المعركة وتعهّد بمواصلة السياسة الإقليمية التي يؤيّدها الحرس الثوري الإيراني والقاضية بدعم محور المقاومة ومواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل.21 لكن ما وصفه أمير عبد اللهيان وأعضاء آخرون في حكومة الرئيسي بالتناغم والتنسيق أشار فعلياً إلى أنّ الدبلوماسية، التي تُمثّلها وزارة الخارجية، أصبحت خاضعة للحرس الثوري الإيراني. وتجلّت هذه النقلة بشكلٍ صارخ في أعقاب هجوم إيران الانتقامي بالصواريخ والطائرات المسيّرة على إسرائيل في 13 أبريل 2024. وفي خرق للبروتوكول، استدعى الحرس الثوري الإيراني، وليس وزارة الخارجية، السفير السويسري لدى طهران لنقل رسالة إلى الولايات المتحدة.22
أمّا النوع الرابع، وهو التغيير الشخصي، فيُشير إلى إقالة الأفراد النافذين والشخصيات الرئيسية في السياسة الخارجية الإيرانية أو استبدالهم. ولعلّ أحد الأمثلة على هذا التغيير هو إقالة علي شمخاني وعلي لاريجاني، وهما شخصيتان بارزتان أدّتا أدوار مهمة في العلاقات الخارجية الإيرانية في ظلّ الإدارات السابقة.23 كان شمخاني أمينَ المجلس الأعلى للأمن القومي بين عامي 2013 و2023 وقد شغل هذا المنصب في عهد روحاني وفي خلال العامين الأوّلين من ولاية رئيسي، وكان دوره أساسياً في تسهيل المفاوضات حول خطة العمل الشاملة المشتركة وحوار طهران مع المملكة العربية السعودية. من جهته، كان لاريجاني رئيس البرلمان لمدة 12 عاماً، بين عامي 2008 و2020، في عهد كل من أحمدي نجاد وروحاني، وبصفته مبعوثاً خاصاً للمرشد الأعلى، أدّى دوراً حاسماً في إبرام اتفاقية التعاون الإستراتيجي لمدة 25 عاماً مع الصين في العام 24.2021 يتأثّر هذا التغيير تحديداً بنظامٍ سياسي يستعدّ لمرحلةٍ انتقالية ما بعد خامنئي تلوح في الأفق، ما يتطلّب إزالة الشخصيات المستقلّة التي يمكن أن تعرقل خطط الحرس الثوري الإيراني الطويلة الأمد.25 ويعكس أيضاً تهميش الأصوات البراغماتية والمعتدلة في النظام ومركزية السلطة بين أيدي الفصائل المحافظة/المتشدّدة.
تنعكس التغييرات في بنية السياسة الخارجية الإيرانية وطريقة عملها بشكلٍ كبير على العلاقات الخارجية الإيرانية على المستويين العالمي والإقليمي. ويمكن تحليل هذه الانعكاسات وفقاً لأربعة اتجاهات رئيسية هيمنت على السياسة الإيرانية في الأعوام الثلاثة الماضية.
يدلّ الاتجاه الأول، مركزية السلطة، على الهيمنة المتزايدة للفصائل المتشدّدة/المحافظة على كافة فروع الحكومة ومؤسساتها. وقد وصف ناقدون في إيران هذه العملية بأنّها “تطهير”، مشيرين إلى أنّها تهدف إلى إزالة الأصوات المعارضة عن الساحة.26 وقد جعل هذا الاتّجاه قرارات السياسة الخارجية أكثر توافقاً وأقل إثارة للاعتراض داخل النظام. إنّ وجهات النظر الفردية والمؤسساتية، على اختلافها، لا تخرّب عمل بعضها البعض، كونها متّحدة بفعل رؤيةٍ أيديولوجية وإستراتيجية مشتركة. وقد تجلّى ذلك بشكلٍ ملحوظ في حالة التقارب مع المملكة العربية السعودية. في خلال رئاسته، بذل روحاني جهوداً حثيثة لتعزيز العلاقات مع المملكة العربية السعودية والجيران العرب الآخرين. بيد أنّ مبادراته فشلت في اكتساب الزخم بسبب المعارضة الداخلية من المنافسين المتشدّدين إلى حدّ بعيد.27 في الوقت نفسه، حظيت المساعي الدبلوماسية التي بذلتها إدارة رئيسي في المنطقة بدعمٍ من المرشد الأعلى والحرس الثوري الإيراني على حد سواء، ما أدّى إلى تغييرات أكثر في علاقات إيران مع جيرانها.
يصف الاتجاه الثاني، وهو معاداة الغرب المتزايدة، مقاربةً أيديولوجية معادية لأمريكا على نحو علني تَعتبر الغربَ، لا سيما الولايات المتحدة، قوى متدهورة، وبالتالي تنفي الحاجة إلى تحسين العلاقات مع الدول الغربية.28 عوضاً عن ذلك، تُعطى الأولوية إلى تعزيز العلاقات مع القوى الشرقية، لا سيما روسيا والصين. فضّلت إدارة روحاني المحافظة على الروابط مع الغرب وعملت على الحفاظ على خطة العمل الشاملة المشتركة وإحيائها كبوابةٍ للتطبيع الاقتصادي والسياسي مع أوروبا، وربما الولايات المتحدة. غير أنّ السياسة الخارجية توجّهت شرقاً منذ ذلك الحين، إذ فقدت إيران الأمل في خطة العمل الشاملة المشتركة واتّخذت موقفاً أكثر تحدّياً إزاء الغرب.29
بالإضافة إلى ذلك، يعكس هذا التحوّل، المتأثّر بأحداث مثل انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة وحملة “الضغط الأقصى”، تعديلاً إستراتيجياً داخل مؤسسة السياسة الخارجية الإيرانية. في الواقع، لقد فضّل روحاني وظريف الانخراط مع الغرب من أجل تخفيف الضغوط والسعي في الوقت نفسه إلى بدائل في الشرق. بيد أنّ الحكومة الحالية تُجمع على اعتبار المقاومة الردّ الأمثل على الضغوط الغربية، وتركّز على تمتين الروابط مع الحلفاء من غير الدول وتنخرط مع القوى الإقليمية والعالمية المصطفة مع طموحات طهران التعديلية.30
والاتجاه الثالث، أي العسكرة، هو نتيجة لهيمنة الحرس الثوري الإيراني المتزايدة على السياسة الإيرانية، ما أدّى إلى سياسات إقليمية وعالمية تزداد راديكاليةً. مثال على ذلك استخدام الضربات الصاروخية لتوجيه رسائل دبلوماسية، كما في الضربات ضد إقليم كردستان العراق وباكستان في يناير 2024، وتكثيف الدعم للشركاء في ظلّ محور الممانعة.31 في حين تهدف هذه الأفعال إلى تعزيز الردع وتطوير النفوذ ضد المنافسين، إلّا أنّها تُهدّد بتصعيد التوترات والصراعات، ما قد يؤدّي إلى المزيد من العقوبات والعزلة والانتقام من المجتمع الدولي.
يتعلّق الاتجاه الرابع، أي السلطوية، جزئياً بمركزية السلطة، لكنّه يشمل أيضاً القمع المتزايد ضد المجتمع المدني وتقييد الحراك الاجتماعي والسياسي. وقد سهّل هذا الاتجاه توثيق العلاقات مع دول مماثلة، لا سيما روسيا والصين، اللتين تدعمان جهود إيران الآيلة إلى السيطرة على الفضاء الإلكتروني والانخراط في التعاون الاستخباراتي والإلكتروني.32 تُعتبر هذه العلاقات إستراتيجية، ليس لأسباب جيوسياسية فحسب، بل أيضاً لأنها تُمكّن إيران من حماية نفسها من التهديدات الداخلية والخارجية التي يسهّلها الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. خلافاً للقوى الغربية، لا تدخل حقوق الإنسان والديمقراطية في السياسات الروسية والصينية تجاه إيران، ما يسمح لطهران بمقاومة الضغوط الدولية بشأن سجلّها في مجال حقوق الإنسان، لا سيما بعد قمع الاحتجاجات الشعبية في العام 2022.
شكّلت رئاسة إبراهيم الرئيسي تحوّلاً جذرياً في البنى التي تحكم صياغة السياسة الخارجية وتنفيذها والتي تنطوي على مزيجٍ معقّد من الديناميات الداخلية والخارجية وإعادة التوجيه الإستراتيجي والتحوّل المحتمل.
وفي صميم هذه التغييرات إعادة توجيه إستراتيجية نحو زيادة المركزية ومعاداة الغرب والعسكرة وقبضة أكثر سلطوية للنخبة الحاكمة في إيران. وقد تجلّى هذا التعديل في أربعة أنواع رئيسية من التغييرات: القانونية والمؤسساتية والوظيفية والشخصية، ويساهم كل منها في إعادة تحديد مقاربة السياسة الخارجية التي تتعلّق أقل بالانخراط الدبلوماسي مع الغرب وتتّجه أكثر نحو ترسيخ الروابط مع القوى الشرقية والجهات الفاعلة الإقليمية من خلال مزيج ٍمن التحدي الأيديولوجي والبراغماتية الإستراتيجية.
يعكس نفوذُ وزارة الخارجية المتراجع والدور المتزايد للمجلس الأعلى للأمن القومي والحرس الثوري الإيراني خروجاً عن القنوات الدبلوماسية التقليدية نحو إستراتيجيات أكثر عسكرة وقائمة على الأمن في مجال السياسة الخارجية. ولا يشكّل هذا التحوّل مجرّد تعديل داخلي بل يعكس موقفاً أيديولوجياً وإستراتيجياً أوسع يُعطي الأولوية للمقاومة على الانخراط، وللسيادة على التسوية، وللنفوذ الإقليمي على الاندماج العالمي. وتُسلّط خطة التنمية الجديدة وتهميش الأصوات المعتدلة وترسيخ المواقف المتشدّدة الضوءَ على السياسة الخارجية التي ازدادت عزلةً وصداماً واصطفافاً مع القوى غير الغربية. في الوقت نفسه، تُشير هذه التطورات إلى أنّ تغيير الرئيس والإدارة لن يؤدّي إلى أيّ تحوّل كبير أو إعادة توجيه في السياسة الخارجية. في الواقع، لم يتغيّر دور المرشد الأعلى في تحديد أولويات الدولة الإستراتيجية، مدعوماً بنفوذ الحرس الثوري الإيراني القوي على السياسة الخارجية والداخلية الإيرانية. علاوة على ذلك، توحي أهمية المرحلة الانتقالية المقبلة ما بعد خامنئي بأنّ الرئيس القادم بعد رئيسي سيكون على الأرجح مسؤولاً آخر من داخل النظام ولن يتحدّى الإجراءات القائمة في السنوات الأخيرة أو يُغيّرها.
بالتالي، من المرجّح أن تواصل سياسة إيران الخارجية مسارها الحالي، مع التركيز على تعزيز التحالفات مع القوى الشرقية وفرض نفوذها الإقليمي من خلال مزيجٍ من الوجود العسكري والمبادرات الدبلوماسية الرامية إلى تشكيل كتلة مضادة للنفوذ الغربي. صحيح أنّ هذه المقاربة من شأنها أن تحقّق مكاسب قصيرة الأمد في مكانة إيران الإستراتيجية وانفتاحها الدبلوماسي على الدول المجاورة، إلّا أنّها قد تطرح كذلك تحديات طويلة الأجل لمكانة إيران الدولية وعلاقاتها مع المجتمع الدولي.
في كل الأحوال، لا شكّ في أنّ انعكاسات التحوّلات الأخيرة سترسم معالم علاقات إيران الخارجية في السنوات القادمة. من جهةٍ، تُوفّر إعادةُ رسم بنية سياستها الخارجية فرصاً لزيادة التعاون مع الجهات الفاعلة الإقليمية، متجذّرة في مقاربةٍ أكثر توحيداً وتوافقاً إزاء العلاقات الخارجية تتخطّى الانقسامات السابقة بين الفصائل. ويمكن لهذا التوافق الحديث داخل النخبة الحاكمة أن يمهّد الطريق أمام علاقات إقليمية أكثر تماسكاً وإستراتيجية، وفقاً للديناميات المتغيّرة على الساحتين العالمية والإقليمية. إلّا أنّ هذه الفرص تتناقض مع التحديات الكبيرة المنبثقة عن ردود الفعل المحتملة إزاء سياسة إيران الخارجية غير المتوازنة دبلوماسياً والتي يزداد طابعها العسكري. من هذا المنطلق، قد يهدّد هذا الاتجاه بتقويض إنجازات الدبلوماسية الإقليمية الإيرانية وعلاقاتها المتحسّنة مع الدول العربية المجاورة.