في صباح 3 فبراير 2025، أبلغت إدارة ترامب موظّفي الوكالة الأمريكيّة للتنمية الدولية (USAID) والمتعاقدين معها بالبقاء في منازلهم. وأمضى إيلون ماسك وفريقه في إدارة كفاءة الحكومة (DOGE) التي أُنشِئت مؤخّراً، النهار بأكمله وهم يبحثون في أجهزة الكمبيوتر والسجلّات الرقمية والحسابات الخاصة بالموظّفين عن معلومات حول البرامج التي اعتبروها تُشكّل هدراً أو أنّها لا تتماشى مع أولويّات الإدارة الجديدة.1 وأعلن ماسك على وسائل التواصل الاجتماعي أنّه لا يمكن إصلاح الوكالة وأنّه ينبغي إغلاقها. وللتأكيد على موقفه -ومن دون تقديم أيّ دليل ملموس- استهزأ بها ونعتها بـ”المنظّمة الإرهابية” وبـ”جُحر أفعى للماركسيّين اليساريّين المتطرّفين الذين يكرهون أمريكا”.2
وكما في ما يتعلّق بالتصريحات الأخرى الصادرة عن الإدارة الأمريكية مؤخّراً بشأن غرينلاند والتعريفات الجمركية وقناة “بنما”، تساءل المراقبون عمّا إذا كان هذا الهجوم على الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ظاهرياً بحتاً وعن مدى جدّيته. يبدو الآن أنّ ماسك والرئيس ترامب ينويان جدّياً تفكيك الوكالة ووضع ما تبقّى من مهامها الإنسانية والصحّية تحت مسؤولية وزارة الخارجية. منذ ذلك الحين، أعلن وزير الخارجية ماركو روبيو تولّيه شخصياً رئاسة الوكالة. ومن أصل 10 آلاف موظّف ومتعاقد، من المقرّر الاحتفاظ بأقل من 300 منهم؛3 وقد أُعطي الموظّفون العاملون في الخارج مهلة 30 يوماً للعودة إلى الولايات المتحدة؛4 وجُمّدت برامج الوكالة كافة؛ وأُغلق موقعها على الإنترنت وحساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي؛ ومُنع موظّفوها وأعضاء الكونغرس من دخول مقرّها الرئيسي في واشنطن العاصمة.5 وحتى أنّ لافتات الوكالة أُزيلت من مكاتبها. لكن من دون إذن الكونغرس، تُعتبر شرعية هذه الخطوات مشكوكاً فيها وستكون موضوع تقاضي أمام المحاكم.6 غير أنّ هذه العملية القضائية ستستغرق وقتاً؛ وفي هذه الأثناء، ستمضي الإدارة الأمريكية قدماً بأجندتها لتفكيك المؤسّسات.
بغضّ النظر عمّا إذا كانت خطوات إدارة ترامب تتوافق في نهاية المطاف مع المعايير القانونية أم لا، سيكون تأثيرها دائماً وضاراً على السياسة الخارجية الأمريكية ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على نطاقٍ أوسع. لقد ساهمت أموال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في منع المجاعة والطاعون في المناطق التي شهدت حروباً مثل غزة وسوريا واليمن؛ وفي مكافحة التطرّف في المغرب؛ وتطوير وظائف القطاع الخاص لجيل الشباب القلق في مصر والأردن. وقد يؤدّي انقطاعها المفاجئ إلى خلق فجوة لن يسهل سدّها، فضلاً عن تأجيج الأزمات في منطقةٍ غير مستقرّة ومضطربة أساساً.
لقد خصّصت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية على مرّ التاريخ جزءاً كبيراً من مساعداتها الخارجية لدول المنطقة. فمن أصل 13,8 مليار دولار من المساعدات الإنسانية والإنمائية الثنائية التي قُدّمت لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في العام 2022،7 ساهمت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بنحو 27 في المئة.8 وفي العام 2024، بلغت مخصّصات الوكالة للمنطقة 4,2 مليار دولار،9 بالمقارنة مع 3,7 مليار في العام 2023.10وكان نحو نصف التزامات الوكالة للعام 2024 -أي ما يوازي ملياري دولار- مخصّصاً للمساعدات الإنسانية التي تركّزت على غزة والعراق وسوريا واليمن.11 وخصّص مليار دولار للتنمية الاقتصادية في دول حليفة للولايات المتحدة مثل مصر والأردن.12 وقد قدّمت الوكالة منذ أكتوبر 2023 مساعدات لغزة تخطّت 2,1 مليار دولار، بما فيها المساعدات الغذائية والرعاية الصحية الطارئة، وتمويل مستشفيَين ميدانيين، إضافة إلى توفير إمكانية الوصول إلى المياه وخدمات الصرف الصحي.13
وقد أدّت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية دوراً بارزاً في دعم الإصلاحات والتنظيمات الموجّهة نحو السوق التي ساهمت في نمو القطاع الخاص في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. كما عزّزت الجهود الآيلة إلى تحسين الحوكمة وبناء المؤسّسات ومكافحة الفساد. واستثمرت بكثافة في المبادرات التعليمية، لا سيّما تلك المتعلّقة بالنساء والفتيات. ويشتمل بعض برامج الوكالة في المنطقة ما يلي:
في أعقاب هجمات حماس في السابع من أكتوبر والرد العسكري الإقليمي الإسرائيلي، انقلب الرأي العام في دول متعدّدة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ضد الولايات المتحدة بشدّة وبات يُفضّل مقاربة الصين تجاه المنطقة.24ومع ذلك، لا تزال المساعدات الخارجية الأمريكية تحظى بشعبية عامة، لا سيما أنّ الغالبية في المغرب والأردن ولبنان تعتبر أنّها تؤدّي دوراً مهمّاً في مجالات مثل تعزيز التعليم والمجتمع المدني. وفي غياب هذه المساعدات، سيزداد تدهور صورة الولايات المتحدة في شتى أنحاء المنطقة في الوقت الذي تحظى فيه الصين بدعمٍ متزايد كشريك جيوسياسي واقتصادي.
لم تكن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بمنأى عن االانتقاد، فقد شكّ كثير من المنتقدين في نواحٍ مختلفة من عمليّاتها. لطالما عبّر المحافظون الأمريكيون عن استيائهم من تحويل الموارد الأمريكية إلى الخارج، على الرغم من أنّ جزءاً كبيراً من أموال الوكالة كان قد أُنفق على شركات ومنتجات أمريكية. وانتقدوا أيضاً دعم الوكالة الأخير لحقوق الإنجاب وقضايا مجتمع الميم، بالإضافة إلى جهود “التنوّع والإنصاف والشمول” (DEI).
يرى البعض أنّ الوكالة تنفق جزءاً كبيراً من ميزانيتها على الشركات الأمريكية، وكان من الأفضل تخصيص نسبة أكبر من مواردها لشركائها المحلّيين. ويجادل كثيرون بأنّها باتت واقعة تحت هيمنة مجموعة صغيرة من الشركات الإنمائية الكبرى، التي غالباً ما تُعرف بـ”Beltway Bandits” (أي الشركات الكبرى المتخصّصة في تقديم الخدمات والاستشارات للحكومة الأمريكية، والتي تقع غالباً في منطقة واشنطن العاصمة داخل الطريق الدائري المعروف باسم Beltway)، والتي تمتلك القدرة على إدارة المشاريع واسعة النطاق التي تموّلها الوكالة وسجلّاً حافلاً في تقديم الخدمات بفعّالية.25 ومن وجهة نظرهم، من الصعب أن تخترق شركات جديدة ومبتكرة، أجنبية أم محلّية، شبكة مقدّمي الخدمات التابعين للوكالة.
إلّا أنّ منتقدين آخرين رأوا أنّ المساعدات الأمريكية تدفّقت لدعم أنظمة فاسدة و/أو سلطوية، أو أنّها وقعت بين أيدي النُخب في الدول النامية ولم تصل إلى الفقراء الذين في أمسّ الحاجة إليها، أو أنّ المساعدات الخارجية بحدّ ذاتها غالباً ما تكون هدراً وغير فعّالة وغير مجدية. وذهبت أصوات أكثر تشدّداً إلى القول إنّ الوكالة تمثّل واجهة تخدم المصالح الإمبريالية الأمريكية. وعلى الرغم من التشكيك في دقّة هذه الانتقادات، إلّا أنّها أثّرت في الصورة العامة للوكالة.26
في حين أنّ معظم الأمريكيين يساندون المساعدات الخارجية بشكلٍ عام، إلّا أنّهم غير مطلّعين بدقة على حجم برامج المساعدات الخارجية الأمريكية ونطاقها.27 لقد أظهرت استطلاعات الرأي أنّ الأمريكيين بمعظمهم يقدّرون نسبة المساعدات الخارجية من الميزانية الفيدرالية بنحو 25 في المئة. وعند سؤالهم عن النسبة التي ينبغي أن تشكّلها، أجابت الغالبية بأنّها نحو 10 في المئة.28 لكن في الواقع، بلغ تمويل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في العام 2024 نحو 39 مليار دولار،29 أي أقل من 1 في المئة من الميزانية الفيدرالية. وتقدّم الولايات المتحدة مساعدات خارجية للدول النامية أكثر من أيّ دولة أخرى، بيد أنّ الالتزامات الدولية بين الدول ذات الدخل المرتفع حدّدت هدف تخصيص 0,7 في المئة من الدخل القومي الإجمالي لمساعدة الدول الفقيرة. في المقابل، تشكّل المساعدات التي تديرها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أقل من 0,2 في المئة من الدخل القومي الإجمالي الأمريكي، ما يضع الولايات المتحدة في أسفل قائمة الدول ذات الدخل المرتفع من حيث نسبة المساعدات الإنمائية من الدخل القومي.30
من جهة، لم يكن قرار وضع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تحت إشراف وزارة الخارجية مستغرباً، فقد واجهت دول متعدّدة، مثل أستراليا وكندا والمملكة المتحدة، تحدّيات في إيجاد التوازن المناسب بين تقديم المساعدات الدولية وضمان انسجامها مع سياستها الخارجية الأوسع. وفي نهاية المطاف، أدمجت كل هذه الدول وكالاتها الخاصة بالمساعدات ضمن وزارات خارجيتها. وكان وزير الخارجية الأمريكي الأسبق وارن كريستوفر قد اقترح هذه الخطوة في خلال ولاية بيل كلينتون الأولى.31 إلّا أنّ نطاق الإجراءات التي اتّخذتها إدارة ترامب الثانية يتجاوز بأشواط مجرّد إعادة الهيكلة ليصل إلى تفكيك الوكالة برمّتها –أو “إطعامها لماكينة تقطيع الخشب” على حدّ قول ماسك.32 ففي 7 فبراير، نشر ترامب على منصّة “تروث سوشال” أنّ الفساد داخل الوكالة قد “وصل إلى مستويات نادراً ما شوهدت من قبل”، وطالب بالحروف الكبيرة للتشديد التأكيد: “أغلقوها!”33
يُثير عنصران من هذا القرار استياء المدافعين عن الحوكمة الرشيدة وسيادة القانون -وهما مبدآن رفعت الولايات المتحدة لواءها لأكثر من عشرين عاماً في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يتعلّق العنصر الأول بطريقة اتخاذ هذا القرار، التي اتّسمت بالتحليل السطحي والطابع الأدائي. في الواقع، لم يجر أيّ تحقيق دقيق أو تقييم متأنٍّ للتحليلات الصارمة حول تكلفة برامج الوكالة وفائدتها لقياس فعاليّتها. ولم تقم الوكالات الحكومية بأيّ عملية مراجعة شاملة في ما بينها لاستكشاف الخيارات والانعكاسات المحتملة لتقليص عمليات المساعدة، ولم توضع أيّ خطة مفصّلة لإنهاء أنشطة الوكالة تدريجياً وبحكمة بما يضمن تحقيق أقصى قيمة ممكنة لأموال دافعي الضرائب الأمريكيين. على سبيل المثال، أشار تقريرٌ حديث صادر عن المفتّش العام للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى أنّ مساعدات غذائية بقيمة 489 مليون دولار معرّضة لخطر التلف.34 عوضاً عن ذلك، أمضى إيلون ماسك، الملياردير غير المنتخب وغير المؤكّد، مع فريق من خبراء التكنولوجيا الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و24 عاماً -والذين لم يسبق لمعظمهم العمل في الحكومة، بل إنّ بعضهم لم يتخرّج حتى من الجامعة بعد- بضعة أيام في مراجعة بنود ميزانية الوكالة بهدف تحديد البرامج الأكثر إثارة للصدمة بالنسبة إلى المحافظين.35 عقب ذلك، أُطلقت عبر وسائل التواصل الاجتماعي مزاعم لا أساس لها عن عمليات احتيال وفساد واسعة النطاق من دون تقديم أيّ دليل ملموس.36
تمثّل العنصر الثاني في طبيعة النتائج الصارمة. فقد تمسّك فريق إدارة كفاءة الحكومة الجديدة بعدد محدود من المبادرات الصغيرة التي تشكّل جزءاً يسيراً من ميزانية الوكالة الضئيلة كذريعةٍ للإدّعاء بأنّ الوكالة برمتها “بمثابة علبة من الديدان” -على حدّ قول ماسك.37 قد يختلف العقلاء حول مدى جدوى إنفاق أموال دافعي الضرائب الأمريكيين لدفع أجندة مجتمع الميم قدماً في غواتيمالا أو لتدريب الصحافيين السريلانكيين على كيفية تجنّب استخدام “اللغة الثنائية الجندر”.38 لكن كان من السهل نسبياً إلغاء هذه البرامج مع الإبقاء على العمل المهمّ الذي تقوم به الوكالة. أمّا التذرّع بها لإغلاق الوكالة بأكملها ووقف المساعدات الإنسانية بمليارات الدولارات للفئات الهشّة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فهو ليس سوى خطأ جسيم بل جريمة بحدّ ذاتها.
ربما توجد وسيلة لاستمرار أهم برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. ومن الممكن أن تناضل المنظمات غير الحكومية الأمريكية والمجتمع الدولي -التي قد تتماشى مع المصالح الزراعية والتجارية الأمريكية- من أجل الإفراج الفوري عن التمويل الإنساني ومواصلة تقديم المساعدات الغذائية للفئات الهشّة والوفاء بالالتزامات التعاقدية مع الشركات الأمريكية التي توفّر هذه المساعدات. كذلك، قد تبادر دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي استفادت من دعم الوكالة في برامجها الإنمائية، إلى التواصل مع الإدارة الجديدة لتسليط الضوء على المكاسب التي حقّقتها المساعدات وأهدافها الأساسية، بالإضافة إلى المخاطر المترتّبة على إيقافها. بيد أنّ كل هذه الجهود لن تكون سوى حلول ترقيعية، إذ ستصل الإغاثة متأخّرة وجزئية، هذا إن وصلت أساساً.
من المرجّح أن تشهد المنطقة الآن اضطرابات وتشريداً على نطاقٍ يفوق بكثير المكاسب البيروقراطية والمالية المحدودة الناتجة عن إيقاف عمل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي لم يتجاوز تمويلها في العام 2023 7 سنتات من كل 100 دولار أُنفقت في الميزانية الفيدرالية.39 لن تكون المساعدات الأمريكية متاحة للمساهمة في تشكيل مستقبل الدول التي خرجت من الصراعات، أو لدعم بناء قطاعات خاصة مندمجة في سلاسل التصنيع العالمية أو موجهة كأسواق للمنتجات الأمريكية. وسيُفتح المجال أمام الصين لمواصلة توسيع نفوذها في جميع أنحاء المنطقة، كما ستتمكّن روسيا وإيران من إيجاد موطئ قدم جديد وتجاوز نكساتهما الأخيرة. أمّا الحركات المتطرفة، التي دائماً ما تستغل المعاناة واليأس، فقد تجد فرصاً لتوسيع نفوذها وعملياتها. وليس من المستغرب أن تكون جميع هذه الأطراف قد رحّبت بهذه الخطوة.
أمّا الأكثر مأساوية، فهو أنّ عشرات أو مئات الآلاف من الفلسطينيين واليمنيين والسوريين الأكثر هشاشة وعرضة للخطر قد يواجهون الجوع والمرض، ما سيؤدّ إلى مزيد من التشريد في منطقةٍ تُعدّ بالفعل من بين الأكثر عرضة للصراعات في العالم. لقد كانت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، على عِلَلها، جزءاً لا يتجزّأ من القوّة الناعمة الأمريكية وساهمت في جعل العالم مكاناً أفضل وأكثر أماناً، وسيُفتَقد دورها داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وخارجها.