قدّم زعيم حزب الحركة القومية التركي دولت بهجلي مقترحاً تاريخياً لدعوة زعيم حزب العمّال الكردستاني المعتقل عبدالله أوجلان لمخاطبة البرمان التركي، ما يمثّل تحوّلاً نوعياً في طريقة تعاطي بلاده مع الصراع القائم منذ أربعين سنة.
واقترح بهجلي، الذي ينتمي إلى حزب متجذّر في القومية التركية، على البرلمان التركي في 22 أكتوبر 2024 السماح لأوجلان بأن “يعلن من جانب واحد وضع حدّ للإرهاب وحلّ منظّمته”.1 وتحدّث عن مبدأ “الحقّ بالأمل”2 المنصوص عليه في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان الذي يدعو للإفراج عن الأشخاص الذين قضوا حدّاً أقصى يبلغ 25 سنة خلف القضبان، وهو شرط ينطبق على أوجلان.
وفي حين من المستبعد أن تؤدّي هذه المبادرة إلى نتائج فورية، إلّا أنّها قد تمهّد الطريق أمام إحراز تقدّم على المديين المتوسط والبعيد، بشرط أن تبادر الحكومة التركية إلى صياغة رؤية واضحة، تترافق مع خطوات عملية قابلة للتنفيذ، وأن تدير المسألة بطريقة شاملة، مع الحرص على إشراك المواطنين. سيعتمد نجاح هذه المبادرة أيضاً على بناء تحالف متين قادر على التصدّي لأيّ عراقيل محتملة قد تثيرها أطراف محلّية أو إقليمية. وقد يساهم نجاح عملية السلام في حلّ التوترات الداخلية، وتعزيز مكانة تركيا الإقليمية، ودفع نموّها الاقتصادي، فضلاً عن توسيع دورها الدبلوماسي.
يأتي اقتراح منح عبد الله أوجلان إطلاق سراح مشروط، غير أنّه غير متوقّع، في سياق تغيّرات كبرى طرأت على المشهد السياسي التركي الداخلي والإقليمي منذ انهيار عملية السلام السابقة عام 2015.3 وحظيت مبادرة بهجلي، التي تمثّل تحوّلاً جذرياً بعيداً عن سياسات حزبه القومية المتشدّدة، بترحيب الرئيس رجب طيب أردوغان وإن تبدّلت الأدوار بينهما هذه المرّة. ففي الجولة السابقة، تحمّل أردوغان العبء السياسي للمفاوضات، قائلاً آنذاك إنّه مستعّد “لتجرّع الشوكران السام” من أجل تحقيق السلام.4 أمّا اليوم، فإنّ بهجلي هو من يلقي بثقله السياسي وعلاقاته الوثيقة مع الدولة وأجهزتها البيروقراطية خلف هذه المبادرة، في مسعى لتأمين قبول شعبي أوسع لاقتراحه.
واجهت عملية السلام بين عاميّ 2013 و2015 معارضة وتشكيكاً واسعين، خاصة في أوساط المعارضة التركية، نظراً لطبيعة الانقسامات داخل المجتمع التركي، ولكن أيضاً بسبب قيادة أردوغان لتلك المبادرة. في المقابل، يبدو أنّ الجولة الجديدة تحظى بترحيب سياسي أوسع، إذ تُعتَبَر أنّها نابعة عن إرادة الدولة. ومن بين أبرز الداعمين لها، الزعيم الجديد لحزب الشعب الجمهوري العلماني المعارض أوزغور أوزيل الذي أكّد على أهمية إشراك البرلمان في عملية السلام.5 بالتالي، يسهم هذا الدعم السياسي الأوسع في إنشاء بيئة أكثر ملاءمة تُمكّن الحكومة من المضي قدماً في عملية السلام بفعّالية أكبر.
تعكس دعوة بهجلي، المدعومة من أردوغان، سياسة أكثر تأنيّاً وشمولية ضمن إستراتيجية حكومية أوسع، تهدف إلى إعادة تموضع تركيا في ظل تغيّر الديناميات الإقليمية. وتأتي هذه الخطوة في سياق تصعيد عسكري إسرائيلي في فلسطين ولبنان منذ 7 أكتوبر 2023، ما يفاقم التوترات الإقليمية ويزيد خطر اتساع رقعة الصراع لتشمل إيران. يضاف إلى ذلك تغيّر الإدارة في واشنطن وما ستحمله من اضطرابات قد تؤثّر في تحالف الولايات المتحدة مع المجموعات المرتبطة بحزب العمّال الكردستاني في سوريا.
في هذا السياق، يسعى هذا النهج الجديد إلى طمأنة الفصائل القومية داخل الدولة والمجتمع بأنّ عملية السلام تخضع بالكامل لسيطرة الدولة التركية، ما يقلّل من احتمال حدوث ردود فعل معارضة. يعكس هذا التوجّه في الوقت نفسه حرص أردوغان على تحقيق توازن دقيق بين استرضاء المشاعر القومية وإعادة بناء جسور التواصل مع المجتمع الكردي، الذي تراجع تواصله معه بشكل كبير. ومع ذلك، لم يتّضح بعد مدى التوافق بين أردوغان وبهجلي حول هذه القضية، ما يضفي مزيداً من التعقيد على هذه العمليّة المتغيّرة.
وقد ازداد هذا المشهد تعقيداً لأن دعوة بهجلي تزامنت مع تصعيد السلطات التركية إجراءاتها ضد رؤساء بلديات ينتمون إلى حزب الشعب الجمهوري وحزب المساواة وديمقراطية الشعوب المؤيّد للأكراد، على خلفية اتهامات بارتباطهم بحزب العمّال الكردستاني.6 ففي 30 أكتوبر 2024، اعتُقل أحمد أوزير، عمدة بلدية أسنيورت في إسطنبول المنتسب إلى حزب الشعب الجمهوري. وبعد بضعة أيام، أُقيل رؤساء ثلاث بلديات في ماردين وبطمان وخليفي من مناصبهم على خلفية تهم تتعلّق بالإرهاب، وعُيِّن أوصياء من الدولة بدلاً منهم.7 فيما اعتبر بعض المنتقدين أنّ هذه الإجراءت تقوّض الديمقراطية وتقمع المعارضة، دافعت الحكومة عن قراراتها، مؤكّدة أنّها ضرورية في إطار معركتها مع حزب العمّال الكردستاني.
والسؤال المطروح هو ما إذا كانت هذه الإجراءات القضائية ضد رؤساء بلديات منتخبين، بالإضافة إلى طرح جهود السلام من منظور قومي، ستعيق التوصّل إلى حلّ حقيقي للصراع وتعرقل مسار الديمقراطية. فهل يؤدي هذا المزيج من الضغوط والحوار المشروط إلى زعزعة الثقة وتفاقم التوترات، أو سيمهّد لحلّ مستدام للمسألة التركية الكردية؟
عُرف عن بهجلي معارضته لأي خطوة قد تُفسّر على أنّها تنازل لصالح حزب العمّال الكردستاني، لكن دعوته الأخيرة للسماح لعبد الله أوجلان بإلقاء خطاب أمام البرلمان التركي تبدو مناورة سياسية محسوبة تهدف إلى معالجة القضية الكردية من منظور قومي وبأسلوب براغماتي يطمح من خلاله إلى تحقيق الاستقرار في منطقة مضطربة تعصف بها الحروب والصراعات. قدّم بهجلي طرحاً ينطلق من أساس يحظى برضا الناخبين القوميين، بما أنّه يضمن بقاء الدولة التركية في موقع القيادة، وفق شروط يحدّدها التحالف القومي، وليس المطالب السياسية والثقافية الكردية. ومن خلال ترك قيادة هذه المبادرة لبهجلي، صوّر أردوغان الدعوة على أنّها مدفوعة بأسباب أمنية، لضمان أنّها تتماشى مع تطلّعات القاعدة القومية لحزب العدالة والتنمية، في تأطير دقيق ولكن حاسم. بالتالي، تختلف هذه الإستراتيجية عن الحلول الليبرالية التقليدية التي قد تتضمّن مثلاً بناء قاعدة داعمة لإرساء الديمقراطية
صوّر بهجلي، الذي بدا أقرب إلى ناطق باسم الدولة، مبادرته على أنّها تأتي في إطار جهود “مكافحة الإرهاب”، مستخلصاً العبر من عملية السلام السابقة التي كان استفاد منها حزب العمّال الكردستاني من أجل توسيع حضوره في المدن في فترة المفاوضات بين عاميّ 2013 و2015، ما اعتُبر إخفاقاً أمنياً كبيراً آنذاك. في ذلك الحين، بدت عملية السلام التي قادها حزب العدالة والتنمية، ونالت دعم أوجالان، إيجابية في البداية، سواء من خلال وقف إطلاق النار أو المفاوضات السرية أو بعض اللفتات العلنية، منها قراءة رسائل أوجلان في احتفالات عيد النيروز،8 إلى جانب الزيارات الدورية لسياسيين أكراد إلى أوجلان. ورغم أنّ العملية استندت إلى إطار ثلاثي يشمل وقف إطلاق النار وإرساء الديمقراطية وعودة المقاتلين وإعادة دمجهم، إلّا أنّها انهارت نتيجة غياب الاستقرار السياسي والأخطاء المرتكبة من الطرفين، إلى جانب التأثير السلبي للحرب الأهلية في سوريا. فمع تنامي نفوذ المجموعات الكردية السورية، ونيلها حكماً ذاتياً بحكم الأمر الواقع قرب الحدود التركية، زادت مخاوف أنقرة الأمنية، ما دفعها لتبنّي نهج أمني أكثر تشدّداً. تعرّضت عملية السلام في وقتها لانتقادات حادّة نظراً لغموضها وضعف مشاركة البرلمان فيها. وبعد فشلها، ركّزت أنقرة على الحدّ من نفوذ المجموعات المرتبطة بحزب العمّال الكردستاني في سوريا، وشنّت حملات اعتقال واسعة ضد سياسيين مؤيّدين للأكراد، ووسّعت عملياتها العسكرية في جنوب شرق تركيا وشمال سوريا وشمال العراق. هكذا، بقيت المسألة الكردية عالقة بدون حلّ، فيما عزّز حزب العدالة والتنمية تحالفه مع حزب الحركة القومية، إلّا أنّ ذلك أدّى في نهاية المطاف إلى إضعاف حزب العدالة والتنمية انتخابياً.
في هذه المرحلة، يبدو أنّ النهج الجديد الذي تتبنّاه تركيا في مقاربة المسألة الكردية ينطلق من إستراتيجيات تهدف إلى تحقيق مصالح الدولة الفورية، فيما لن تظهر أي نتا ملموسة لـ “مبادرة بهجلي” قبل المدى المتوسط أو الطويل. ويشمل ذلك قرارات بشأن الإفراج المحتمل عن شخصيات سياسية كردية بارزة، مثل صلاح الدين دميرطاش، الذي يرتبط مصيره بحسابات سياسية متبدّلة.10 يرى بهجلي التعامل مع أوجلان أسهل من الناحية الإستراتيجية، من معالجة المطالب الثقافية والسياسية الكردية الأوسع التي تفرض تعاملاً مع واقع أكثر تعقيداً، قد يُحدث تصدّعاً في دعم القوميين لمبادرته.
بالنسبة إلى أردوغان، قد يقدّم استئناف عملية السلام مع حزب العمّال الكردستاني فرصة إستراتيجية. فالدعم السياسي الكردي قادر على ميل الكفّة في أي إصلاح دستوري، ما يجعل من الأكراد “صانعي الملوك” في المشهد السياسي التركي. وإذا كان أردوغان راغباً في البقاء بالسلطة، سيتعيّن عليه تعديل الدستور من أجل الترشّح لولاية جديدة، وهو أمر قابل للتحقيق إذا حصل على دعم الناخبين الأكراد الذين بيّنت الانتخابات البلدية والعامة الأخيرة حجمهم الوازن في الانتخابات والاستفتاءات.11 بالتالي، يعلّق أردوغان آمالاً كبيرة على نجاح عملية السلام، بما أنّ مستقبله السياسي مرهون بالحفاظ على دعم الأغلبية التي يتمتّع بها كقائد لحزب العدالة والتنمية منذ عام 2002. في المقابل، لا يستمدّ بهجلي وحزب الحركة القومية التركية قوّتهم من أصوات الناخبين، بقدر ما يستمدّونها من عقيدتهم القومية وإيمانهم بالدولة وبيروقراطيتها، يضاف إلى ذلك تحالفهم الإستراتيجي مع حكومة أردوغان. في الانتخابات العامة لعام 2023، شكلّت قاعدة ناخبي حزب الحركة القومية التركي حوالي 10 في المئة من الأصوات، وحصل الحزب على خمسين مقعداً نيابياً، مقارنة بـ268 مقعداً لحزب العدالة والتنمية من إجمالي 600 مقعد برلماني.12
خطفت دعوة بهجلي المفاجئة لأوجلان كي يخاطب البرلمان التركي الأضواء، ولكن ما لبث أن أعقبها هجوم عنيف، بدا وكأنه تذكير صارخ بالاضطرابات المستمرّة الناجمة عن المسألة الكردية. في 23 أكتوبر 2024، أي في اليوم التالي لهذه الدعوة، وقع هجوم في أنقرة استهدف مقرّ الشركة التركية لصناعات الطيران والفضاء أسفر عن مقتل خمسة أشخاص، وقد اتُهمت فصائل مسلّحة مرتبطة بحزب العمّال الكردستاني بالوقوف خلفه.13 أجّج الهجومُ المشاعرَ القومية وعمّق الفجوة بين الدولة والمتمرّدين الأكراد. وعلى الرغم من أنّ الهجوم كان على الأرجح مخطّطاً له قبل مبادرة بهجلي، فقد تمّ تفسيره على أنّه يهدف لعرقلة جهود السلام. ردّت تركيا بغارات جوية سريعة على معاقل حزب العمّال الكردستاني في شمال العراق وسوريا، ما يدلّ على استعداد أنقرة لتبنّي نهج صارم إذا استمرّت الأوضاع في التدهور.14 ورغم أنّ هذا العنف يهدّد مبادرة السلام، فهو يبرز من ناحية أخرى الحاجة الملحّة لإطلاق عملية سلام دائم.
بعد يوم على دعوة بهجلي، تلقّى أوجلان أوّل زيارة من عائلته منذ أربع سنوات، أعرب في خلالها موافقته على دعم الانتقال من الصراع المسلّح نحو الحلّ السياسي في حال تلبية بعض الشروط.15 مع ذلك، لا يزال حزب العمّال الكردستاني متردّداً في تسليم سلاحه. فتصريحات قادته العسكريين مليئة بالتحفّظات، بدل الالتزامات الصريحة، ما يشير إلى مرونة في موقف الحزب، ولكنه لا يزال غير راغب في تقديم تنازلات فورية.16 يعقّد هذا الموقف إمكانية التوصّل إلى أي حلّ يرتكز على أوجلان وحده، بما أنّ بعض الفصائل المسلّحة في جبال قنديل، معقل القيادة العملياتية والعقائدية للحزب، قد ترفض أي حلّ لا يضمن لها “خروجاً مشرّفاً”.17وكان الزعيم الشريك السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش دعا من خلف قضبان سجنه إلى تحقيق سلام شامل يقوم على قيم الديمقراطية والشمولية، وهو ما يأيّده كثير من المواطنين الأكراد والمجموعات اليسارية الطامحين إلى إصلاحات هيكلية، لا تقتصر على تسليم السلاح. من جهتها، أبدت الرئيسة الشريكة لحزب الشعوب الديمقراطي تولاي حاتم أوغلو تفاؤلاً حذراً، واصفة الدعوة بالمهمّة، ولكنها شدّدت على الحاجة إلى إجراء مفاوضات ديمقراطية، بدل الاكتفاء بالخضوع لإملاءات الدولة.18
أثّرت الديناميات الإقليمية أيضاً على جهود السلام في تركيا، فقد أحدثت الحرب في غزة تحوّلاً في التحالفات وزادت المخاوف الأمنية المرتبطة بالولايات المتحدة وإسرائيل وإيران. في هذا السياق، يعقّد دعم طهران للمجموعات المرتبطة بحزب العمّال الكردستاني في العراق وسوريا مساعي أنقرة لتحقيق الاستقرار. ومع ذلك، فإنّ إدارة عملية سلام بشكل مدروس قد تساعد تركيا على مواجهة نفوذ إيران، والحدّ من تأثير التغيير في الإدارة الأمريكية، لا سيما مع تعهّد ترامب بتقليص التدخّلات في الخارج، ما قد يفتح المجال أمام انسحاب عسكري أمريكي محتمل من سوريا.
إلى ذلك، فإنّ إدارةَ تركيا للمسألة الكردية بفعّالية شرطٌ أساسيّ لضمان مشاركتها في مشاريع البنية التحتية الكبرى في الشرق الأوسط، مثل مشروع طريق التنمية العراقي. فالاستقرار الإقليمي سيعزّز مكانة تركيا كشريك موثوق يربط بين الأسواق الخليجية وأوروبا، ما يساعدها على استقطاب الاستثمارات الخليجية.19
يفتح مقترح بهجلي الباب أمام تركيا لإعادة النظر في مقاربتها بشأن المسألة الكردية، وإن في إطار أكثر صرامة. على عكس مساعي نزع السلاح بين عاميّ 2012 و2015 التي سادها نقاش حول الحوار المفتوح وتعزيزالدور السياسي للقوى الكردية، فإنّ المبادرة الحالية أكثر تحفّظاً وتتمحور حول المبادئ القومية. كما تسعى للاستفادة من دعوة أوجلان للحلّ السياسي كوسيلة لتقليص نفوذ حزب العمّال الكردستاني في الصراع المسلح. وإذا كُتب لهذه الجهود النجاح، فقد تفتح الباب لفترة من السلام النسبي، ما سيتيح لتركيا التركيز على تحقيق طموحاتها الإقليمية.
مع ذلك، لا تزال التحدّيات كبيرة، في ظلّ تشكيك الأتراك والأكراد المؤيّدين للديقراطية بعملية السلام، فيعتبرون الدعوة مجرّد حيلة تسعى من خلالها الدولة لإحكام سيطرتها، ولا يرون فيها خطوة حقيقة نحو التعدّدية وبناء مجتمع ديمقراطي يعترف بالحقوق والحريات، ويمتثل لمعايير الديمقراطية وللحوكمة المحلّية. مع ذلك، فإنّ تصوير المبادرة على أنّها مجرّد مناورة تهدف إلى استغلال الدعم الكردي من أجل ترسيخ الحكم السلطوي، ربما فيه شيء من الاستخفاف بإمكانياتها. فالشكوك مفهومة، لكن رفض العملية برمتها بوصفها خديعة قد يحرم الجميع من فرصة حقيقية للتقدّم الديمقراطي.
تشكّل المشاركة البنّاءة لأحزاب المعارضة في هذه المبادرة، بخاصة حزب الشعب الجمهوري، خطوة جوهرية نحو إحراز تقدّم ملموس. ففي حين لا تشارك جميع الأحزاب مباشرة في المفاوضات، فإنّها قادرة على التأثير في النقاش العام وإثرائه. ويمكن لوسائل الإعلام التقليدية والمستقلّة أن تؤدّي دوراً محورياً في توسيع النقاش حول المسألة الكردية، بما يضمن تنوّع الآراء بعيداً عن الخطاب الأحادي الذي تطرحه وسائل الإعلام المؤّيدة للحكومة أو ذات التوجّه القومي التي غالباً ما تلتزم بالسردية الرسمية للدولة.
في هذه المرحلة، يبدو أنّ الدولة التركية تسعى لجسّ نبض المجتمع ورصد ردود فعل حزب العمّال الكردستاني. وقد يكون لهذه المبادرة تأثير عميق في المشهد الإقليمي، لا سيما إذا أسفرت التطوّرات في تركيا عن تغييرات في سوريا والعراق المجاورين. وفي حال انخفضت التوترات العسكرية، ستتمكّن تركيا من تحويل تركيزها نحو تعزيز الأمن الإقليمي المشترك، لتصبح قوّة دفع للاستقرار الإقليمي، وتقدّم بالتالي نموذجاً ناجحاً لحلّ الصراعات، وتعزّز مكانتها الدبلوماسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
لضمان نجاح هذه المبادرة، ينبغي على تركيا صياغة رؤية واضحة لمسار عملية السلام وتحديد الخطوات اللازمة للتقدّم نحو المرحلة التالية. وفيما يبدو أنّ ثمّة قناة تواصل قائمة، إلّا أنّها تفتقر إلى المحتوى في انتظار أن يقدّم الفاعلون السياسيون رؤية واضحة وتعهّدات عملية بأن يبقوا المواطنين على اطّلاع بكلّ ما يجري.