تميل إستراتيجيّات حكومات الدول الخليجيّة المتعلّقة باقتصاداتها ما بعد النفط إلى التركيز على المشاريع الكبرى من جهة (وهي المشاريع الضخمة والعملاقة، والشركات الكبرى باعتبارها “شركات وطنيّة رائدة” National Champions)، والمشاريع الجديدة (أيّ الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا) من جهة أخرى. وعلى الرغم من أنّ المشاريع الكبرى والجديدة تشكّل عنصراً أساسياً في منظومة الأعمال لمرحلة ما بعد الهيدروكربونات، فإنّها غير كافية بمفردها. تُسلّط ورقة السياسات هذه الضوء على الدور الحاسم الذي يمكن أن تؤدّيه فئةٌ محدّدة من الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم، وهي الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” (Mittlestand Companies) أو “الشركات الرائدة الخفيّة” (Hidden Champions)، وتقترح مجموعة من السياسات الآيلة إلى تطوير هذه الفئة المهمّة.
لم تحقّق القوى الاقتصادية العالمية، من سويسرا إلى تايوان، نجاحها بالتركيز على “الشركات الرائدة الخفيّة” أو الشركات الناشئة العالية المخاطر فحسب، بل بتبنّيها إستراتيجيّات طويلة الأمد تقوم على تعزيز الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم المستقرّة والمبتكرة والمرموقة التي تجمع بين الريادة العالمية في مجالات اختصاصها وتوفير وظائف ذات أجور مرتفعة وقيمة مضافة عالية على حدّ سواء. وتُعدّ هذه “الشركات الرائدة الخفيّة” مكوّناً أساسياً من الاقتصاد الأوسع.
وعلى الرغم من أنّ الدول الخليجيّة دعمت الشركات المحلّية الصغيرة والمتوسّطة الحجم بطرق مختلفة، لا تزال هذه الشركات أقلّ إنتاجاً من نظيراتها العالمية. لذا، فإنّ اعتماد سياسات صناعية مناسبة يمكن أن يعزّز الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم ذات الأداء العالي على غرار نموذج “ميتلشتاند”، من خلال توفير رأس المال المالي والمادي والفكري والبشري الضروري لها، بالإضافة إلى تشجيع التغييرات في ثقافة الأعمال.
توفير التمويل: على الرغم من قدرة الشركات الخليجية الصغيرة والمتوسّطة الحجم على الوصول إلى أدوات التمويل، فإنّها لا تزال تعاني نقصاً في الخدمات،لا سيّما من البنوك الخاصة. ولإنشاء منظومة متوازنة ومتكاملة للشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم الشبيهة بنموذج “ميتلشتاند”، يتعّين على حكومات الدول الخليجية توفير الخدمات المصرفية المتخصّصة والاستشارات التي تهدف إلى إنشاء “الشركات الرائدة الخفيّة” ودعمها. ويمكن أن يستند ذلك إلى بنوك التنمية القائمة في هذه الدول.
تنمية رأس المال البشري المنتج واستثماره: يساهم تكامل المهارات الأكاديمية والعمليّة في تلبية احتياجات الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” من رأس المال البشري على أفضل وجه. ويمكن لنظام تعليمي مزدوج المسار أن يدمج المتدرّبين و”الطلاب العاملين” في الشركات المحلّية الصغيرة والمتوسّطة الحجم لتدريب قوّة عاملة ماهرة من أجل بناء علاقات عمل طويلة الأمد وذات قيمة مضافة عالية.
تقديم الدعم الموجّه: يمكن لحكومات الدول الخليجية اعتماد نهج ثلاثي الأبعاد من الممارسات الفضلى، يجمع بين إنشاء تجمّعات إقليميّة من الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” حول مراكز الابتكار، مثل جامعات العلوم التطبيقيّة في ألمانيا (Fachhochschule) والمدارس الثانوية المزدوجة المسار؛ وتقديم مِنَح مخصّصة للبحث والتطوير وحوافز للاستثمار في رأس المال البشري والمادي؛ فضلاً عن اعتماد إستراتيجيّة توظّف مزايا المنطقة النسبيّة، بهدف تحفيز الشركات العائلية الكبرى على “التحوّل إلى الإنتاج”.
الحفاظ على الكفاءات العالميّة: تتطلّب العلاقة الطويلة الأمد بين الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” وموظّفيها قدراً من الاستقرار، لا سيّما في ظلّ هيمنة العمالة الأجنبية. ويمكن لدول مجلس التعاون الخليجي تطوير سياسات تمنع العمّال غير المواطنين من ذوي الكفاءة من مغادرة البلاد بسبب قيود العقود أو التأشيرات، أو بسبب غياب سُبل للحصول على الجنسيّة.
في ظلّ ابتعاد الدول الخليجيّة عن الاعتماد على الهيدروكربونات وسعيها إلى تنويع اقتصاداتها، تعمل حكوماتها على تعزيز الصناعات المُكمّلة لقطاع النفط، مثل الصناعات المتوسّطة والنهائية والخدمات اللوجستية، فضلاً عن التوسع المتزايد في القطاعات الأقلّ ارتباطاً بالهيدروكربونات، مثل السياحة والماليّة. ترتكز عمليّة الانتقال هذه على التحوّل الرقمي، وتقوم وثائق “الرؤية”، مثل رؤية السعودية 2030 ومئوية الإمارات 2071، بربط هذا التوجّه مباشرةً بمنجزات الثورة الصناعية الرابعة (4IR)، التي تهدف إلى توظيف الذكاء الاصطناعي والأتمتة والتصنيع الذكي من أجل زيادة إنتاجية العمل.
ولا يقتصر هذا التحوّل على تغيير مصادر الدخل القومي فحسب، بل يسعى أيضاً إلى نقل المواطنين من العمل في القطاع العام إلى القطاع الخاص، من خلال حوافز ماليّة ونسب توظيف إلزامية، فضلاً عن تشجيع الاهتمام بريادة الأعمال، على سبيل المثال من خلال حاضنات الأعمال (على غرار “حاضنة الأعمال الرقميّة” في قطر)،1 وأدوات تمويل الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم (مثل برنامج “كفالة” في المملكة العربية السعودية)، والحملات الوطنية المروّجة لثقافة الشركات الناشئة. ومع ذلك، غالباً ما تصطدم هذه الإجراءات بحقائق راسخة، مثل تفضيل القطاع الخاص العمالة الوافدة المنخفضة الأجر وثقافات الأعمال التي تتجنّب المخاطرة والأنظمة التعليميّة التي لا تتماشى مع احتياجات القطاع الصناعي.
وفي حين تكثر قصص النجاح التي حظيت بتغطية إعلاميّة واسعة، مثل منصّة نون التعليميّة (Noon Academy)2(وهي شركة سعودية متخصّصة في التكنولوجيا التعليميّة) وسوق المال (Souqalmal)3 (وهي شركة إماراتية متخصّصة في التكنولوجيا الماليّة)، تحجب في ظلالها ركوداً أوسع نطاقاً. بالفعل، يشهد نصيب الفرد من الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي تراجعاً لافتاً،4 ولا تزال مشاركة المواطنين في سوق العمل تمثّل مشكلة،5 فيما يكتفي عددٌ من “روّاد الأعمال” بممارسة العمل الحرّ بالتعاقد مع الحكومة بدلاً من السعي إلى الابتكار القابل للتطوير.6 تُشير ورقة السياسات هذه إلى أنّ جزءاً من المشكلة يكمن في غياب الطبقة الوسطى، وهي فئة “الشركات الرائدة الخفية” التي لطالما عانت الإهمال لصالح المشاريع الرائدة التي تتصدّر عناوين الصحف، والسعي المحفوف بالمخاطر وراء الشركات الناشئة العملاقة التي تتجاوز قيمتها مليار دولار والتي تشتهر باسم “يونيكورن” (أو الشركات الناشئة التي فاقت قيمتها المليار دولار).
تشهد بيئة الأعمال في الدول الخليجيّة هيمنة طرفَين متناقضين. فمن جهة، تُسيطر الشركات العملاقة المدعومة من الحكومات، مثل “أرامكو” السعودية، وموانئ دُبي العالمية (DP World)، والخطوط الجوّية القطرية، على القطاعات الإستراتيجيّة، مُجسّدةً نموذجاً تنموياً قائماً على رأس المال المركزي والتكامل العمودي والطموح الجيوسياسي. وتعكس هذه الكيانات سعياً وراء المشاريع العملاقة (مثل مشروع “نيوم” في المملكة العربية السعودية، ومشاريع ردم البحر على نطاق واسع لتشكيل جزر جديدة في دبي، وخطط الكويت لإنشاء مدينة الحرير)، المصمّمة لاستقطاب الأنظار وتسليط الضوء على النمو التحويلي.7 أما في الجهة المقابلة، فيبرز صعود منظومة حديثة من الشركات الناشئة التي يغذّيها رأس المال الاستثماري، والتي أنتجت شركات مثل “كَريم” و”طلبات” و”سلّة” و”بيور هارفست”، واعدةً بالمرونة والتطوّر الرقمي ومدعومةً باستثمارات الصناديق السياديّة والبيئات التنظيمية التجريبيّة.
بيد أنّ الإفراط في التركيز على القطبَين الأبرز في مجال الأعمال يُهمل الطبقة الوسطى الحيويّة، إذ إنّ الشركات الرائدة الوطنيّة، على الرغم من استفادتها من وفورات الحجم، قد تصبح كيانات ضخمة راكدة لا يمكن السماح بإفلاسها، وتتمتّع بنفوذ سياسي هائل. وقد جسّدت كوريا الجنوبية مثالاً على ذلك، حيث تحوّلت تكتّلات “التشيبول” (chaebol) إلى عبء ثقيل في خلال الأزمة الماليّة الآسيوية.8 من ناحية أخرى، غالباً ما تتبع الشركات الناشئة صيحات مثل الميتافيرس، أو الهايبرلوب، أو الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs)، وفقاً لإستراتيجيّات خروج قصيرة الأجل. فهي تفتقر إلى رأس المال الصبور والاستمراريّة اللازمة لتوفير عدد كافٍ من الوظائف المستقرّة ذات الأجور الجيّدة للمواطنين، وهو ما يأمل صنّاع السياسات في تحقيقه.9 ويأتي التركيز على المشاريع الضخمة والشركات الناشئة على حساب نوع آخر من الأعمال الضرورية لبناء اقتصادٍ يتميّز بالاتبكار وبالمرونة، ألا وهو الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم القادرة على دفع عجلة النمو العضوي القائم على الابتكار. ولا تزال الشركات الخليجيّة الصغيرة والمتوسّطة الحجم، على الرغم من بعض الاستثناءات، مقيّدة بالتشتّت الرقابي،10>وبالاعتماد على العقود الحكومية،11وبغياب المجالات التخصّصية العالية القيمة، والأهمّ من ذلك، بمفهومٍ عام ضيّق لريادة الأعمال يركّز على الشركات الناشئة على غرار تلك القائمة في وادي السيليكون.12
يمكن للدول الخليجيّة أن تستلهم من نموذجٍ آخر لريادة الأعمال، وهو نموذج “ميتلشتاند” المعتمَد في الدول الناطقة بالألمانية.13 فمن خلال التركيز على الريادة في الأسواق المتخصّصة والتوجّه نحو التصدير وثقافة الاندماج في المناطق المحلّية والرؤية البعيدة المدى والجودة والابتكار، بالإضافة إلى العلاقات المتينة مع الموظّفين والمورّدين والعملاء، يُقدّم هذا النموذج خريطة طريق محتملة لسدّ هذه الفجوة، بشرط أن تتمكّن الدول الخليجيّة من التوفيق بين هذا النموذج ورغبتها في إيجاد حلول سريعة. لن تستبدل الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” الصادرات الصناعية ذات القيمة المضافة العالية بالهيدروكربونات فحسب، بل ستوفّر أيضاً فرص عمل مستقرّة وعالية الإنتاجية.
تُشكّل الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم العمود الفقري لأيّ اقتصاد مزدهر، حيث تُساهم اسهاماً كبيراً في التوظيف والابتكار ونموّ الناتج المحلّي الإجمالي،14 وَتبرز من بينها الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” كمحرّك حيوي للقدرة التنافسيّة الوطنية. تنحدر هذه الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم، العالية التخصّص والموجّهة نحو التصدير، من ألمانيا والنمسا وسويسرا (منطقة الدول الناطقة بالألمانيّة DACH)، لكّنها سرعان ما أصبحت نموذجاً يُحتذى به في العالم أجمع. وتُركّز هذه الشركات على التميّز في الأسواق المتخصّصة، وتُحافظ على استقرارٍ طويل الأمد من خلال الملكيّة العائلية والعمالة الماهرة. وعلى عكس الشركات الصغيرة التقليديّة، تُولّد الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” قيمة اقتصادية تتجاوز حجمها، وتُحافظ على وظائف مستقرّة ذات أجور عالية (فالشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم تُوظّف أكثر من نصف القوى العاملة في ألمانيا).15 وتُشكّل الجزء الأكبر من صادرات ألمانيا والنمسا وسويسرا وتستثمر بنسبةٍ مرتفعة في البحث والتطوير وكذلك في رأس المال المادي والبشري، وتُعزّز مرونة القطاع الصناعي. من هذا المنطلق، ينبغي على صنّاع السياسات الساعين إلى بناء منظومة أعمال ديناميكية ومستدامة، إعطاء الأولويّة لرصد هذه الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم ذات الإمكانات العالية ورعايتها، بدلاً من التعامل مع الشركات الصغيرة كافّة باعتبارها متجانسة.
الجدول 1: الخصائص النموذجيّة للشركات الرائدة الخفية القائمة على نموذج “ميتلشتاند” | |
الوصف | الخاصيّة |
شركات صغيرة ومتوسّطة الحجم | الحجم |
خاصة وعائلية | الملكيّة |
وحدة في الملكية والقيادة والمسؤولية | صناعة القرار |
هيكل تنظيمي مسطّح ورشيق ومرونة تشغيليّة | الهيكل |
توجّه طويل الأجل ونموّ مستدام | الأفق الإستراتيجي |
جذور محلّية/مجتمعية قوية، غالباً في المدن الصغيرة | الموقع |
توجّه عالمي نحو التصدير | التركيز على السوق |
تخصّص في منتجات متخصّصة، غالباً في قطاع التصنيع | التركيز على المنتَج |
مستوى عالٍ من الابتكار/كثافة براءات الإختراع | البحوث والتطوير |
تمويل ذاتي (إعادة استثمار الأرباح)؛ وتمويل عبر الائتمان | التمويل |
علاقات طويلة الأمد وتعاون وثيق مع العملاء | العلاقة مع العملاء |
توظيف طويل الأجل؛ وتدريب مهني/داخل الشركة | العلاقة مع الموظّفين |
في حين تضمّ ألمانيا والنمسا وسويسرا شركات عالميّة عملاقة مثل “فولكس واجن” (Volkswagen)، و”سيمنز” (Siemens)، و”أليانز” (Allianz)، تتصدّر الشّركات الأصغر حجماً، القائمة على نموذج ميتلشتاند في هذه المنطقة، الأسواق العالميّة في مجالات متخصّصة وعالية القيمة، إذ إنّ 48 في المئة من الشركات المتوسّطة الحجم الرائدة في السوق العالميّة تنحدر من ألمانيا،16 وغالباً ما تستحوذ على حصصٍ سوقيّة عالميّة تتراوح بين 70 و90 في المئة في قطاعاتها.17 فعلى سبيل المثال، تبلغ حصّة شركة “كونيغ آند باور” ((Koenig & Bauer 80 في المئة من السوق العالميّة لماكينات طباعة الأوراق النقدية، بينما تستحوذ شركة “لانتال تيكستايلز” (Lantal Textiles) على 65 في المئة من سوق أقمشة مقاعد الطائرات.18 وتشمل الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” الأخرى “رافنسبورغر” (Ravensburger) (للألغاز والألعاب)، و”فابير كاستل” (Faber-Castell) (لأدوات الكتابة)، و”سينهايزر” ((Sennheiser (لسمّاعات الرأس). ويُعزى تفوّق هذه الشركات إلى سمعتها المرموقة في الحرفيّة والجودة والمتانة، إلى جانب التزامها المستمرّ بالابتكار.
وخلافاً للشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم التقليدية، تتميّز الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” بقدرتها التنافسية العالمية، وغالباً ما تهيمن على الأسواق المتخصّصة. تركّز هذه الشركات عادةً على التصنيع والهندسة وتجمع بين التقاليد والابتكار، مغلّبةً الاستقرار الطويل الأجل وسمعتها في الجودة على حساب الأرباح القصيرة الأجل. وغالباً ما تكون هذه الشركات عائليّة، وتتّبع نهج “الرأسمالية العائلية المستنيرة” المتجذّرة بعمق في المجتمع المحلّي. فعلى سبيل المثال، تتّخذ شركة “كارشر” (Kärcher) (لأدوات التنظيف) من بلدة وينندن الصغيرة مقرّاً لها منذ 90 عاماً.19
تتجلّى إحدى سمات هذا النموذج في الاستثمار في رأس المال البشري؛ إذ غالباً ما يبقى الموظّفون في الشركة على مدى عقود، فيستفيدون من برامج تدريبية مكثّفة داخل المؤسّسة ويدفعهم حسّ عميق بالهدف المشترك. وتشكّل شركة “ليبهير” (Liebherr) خير مثال على ذلك، إذ تُدرّب الشركة قواها العاملة الماهرة داخلياً في “أكاديمية ليبهير”.20 كما تسعى الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” إلى بناء علاقات متينة مع عملائها، وغالباً ما تتعاون معهم لتحسين المنتجات والعمليّات على مرّ الأجيال، ما يمنحها ميزة تنافسية.
وعلى الرغم من أنّ معظم هذه الشركات متوسّطة الحجم، فقد تطوّر البعض منها، مثل شركتَي “أديداس” (Adidas) و”بوش” (Bosch) الشهيرتين، لتصبح شركات عالمية كبيرة من دون أن تفقد خصائص الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”. ولا يقتصر هذا النموذج على ألمانيا والنمسا وسويسرا أو على قطاع التصنيع فحسب، بل يتميّز في المقام الأول بمزيجٍ من الحرفيّة والتكنولوجيا الحديثة، وبأخلاقيّات مهنيّة مبنيّة على رؤية عالمية بعيدة المدى والتفوّق التشغيلي والإنتاجي والثقة والتخصّص.
غالباً ما تُوصف الشركات العالية الأداء القائمة على نموذج “ميتلشتاند” بـ”الشركات الرائدة الخفيّة”،21 وتبقى عادةً “خفيّة”، مع بعض الاستثناءات، بفعل صغر حجمها وتخصّصها، لا سيّما أنّها تبيع في معظم الأحيان منتجاتها لشركات أخرى بدلاً من المستهلك النهائي. ومع ذلك، وعلى الرغم من سهولة إغفالها، تُعدّ عنصراً أساسيّاً وجزءاً لا يتجزأ من الاقتصاد الوطني.
تؤدّي الحكومات دوراً حاسماً في تعزيز أعمال الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”.22 فسياسات الشراء الإستراتيجيّة، مثل إعطاء الأولوية لمورّدي التكنولوجيا المتقدّمة المحلّيين في مشاريع البنية التحتية، تُولّد طلباً على منتجاتها وخدماتها المتطوّرة.23 وتُسهّل السياسات التجارية صادرات هذه الشركات من خلال البعثات التجارية وحوافز التصدير والوصول إلى سلاسل التوريد العالمية.24 كما تُوفّر السياسات المتعلّقة بالبنية التحتية شبكات الطاقة والنقل والترابط الرقمي وتُنشئ تجمّعات صناعية محلّية، ما يُمكّن هذه الشركات من العمل بكفاءة والإندماج في سلاسل القيمة العالمية.25 ومن الضروري وضع إطار تشريعي وتنظيمي مستقرّ وقابل للتكيّف، بما يشمله من هياكل المسؤولية القانونية المُصمّمة خصيصاً، مثل الشركات الألمانية المحدودة المسؤوليّة (GmbH) والشراكات التجارية المحدودة (KG)، ومن حمايةٍ للملكيّة الفكرية، وأدوات مالية تُحفّز تدريب المتدرّبين وإعادة استثمار الأرباح في الأعمال.
من جهة أخرى، تُساهم صناديق دعم الابتكار، مثل برنامج الابتكار المركزي للشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم في ألمانيا (ZIM)،26 في تمويل البحث والتطوير والتجمّعات البحثيّة التطبيقية، والشراكات بين القطاعين العام والخاص، ما يدعم الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم في تحويل ابتكاراتها المخبرية إلى إنتاج تجاري.27 وللتغلّب على عوائق الحجم الاقتصادي التي تواجه الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم، يمكن للحكومات تعزيز شبكات دعم الصناعة حيث تتشارك الشركات المعرفة والموارد من دون المساس بالقدرة التنافسية.28 كما تُساهم السياسات التي تُشجع على توريث الملكيّة بين الأجيال، عبر تقديم الحوافز الضريبية للشركات العائلية أو برامج الإرشاد، في الحفاظ على المعرفة المؤسّساتية.29 ويمكن للسياسات التي تُمكّن من الصمود في وجه الأزمات أن تُساعد هذه الشركات على تحمّل الصدمات العالمية، من خلال تقديم مِنَح مخصّصة لتنويع سلاسل التوريد ودعم أمن الطاقة وتطبيق برنامج “الإجازة القصيرة” (Kurzarbeit)، وهو نوع من الإجازات المدعومة من الدولة.
يستعرض القسم التالي ثلاث سياسات محدّدة تُعدّ من السمات المعهودة للنموذج الصناعي في ألمانيا والنمسا وسويسرا، وتؤدّي دوراً رئيسياً في تطوير رأس المال البشري والابتكار والتمويل في الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”.
1. التعليم المهنيّ
يُولّد تركيز شركات “ميتلشتاند” على الحرفيّة طلباً متزايداً على العمالة الماهرة التي تجمع بين المعرفة في مجال العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات والمهارات العمليّة. وقد تطوّر نظام التعليم المهني المزدوج المسار، الذي يميّز ألمانيا والنمسا وسويسرا، بالتزامن مع نموذج “ميتلشتاند”، ما حقّق تكاملاً بين التعليم والصناعة.30 ويتوزّع وقت الطلاب بين التعلّم الصفّي في المدارس الثانوية والتدريب الميداني في الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”، ما يخوّلهم اكتساب المعرفة النظريّة والمهارات العمليّة المُصمّمة خصّيصاً لتلبية الاحتياجات الصناعية الفعليّة. ويضمن هذا النهج تدفقاً منتظماً للعمّال من ذوي المهارات العالية، ممن تلقّوا تدريباً على المهن المتخصّصة، ما يلبّي مباشرةً طلب الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” على التميّز التقني. ومن خلال دمج التدريب المهني في عمليّات الشركات، تُنشئ هذه الأخيرة خرّيجي مدارس ثانوية جاهزين للتوظيف وموظّفين مخلصين في المدى البعيد، يتمتّعون برأس مال بَشَري خاص بالشركة.31 ويحدّ هذا النظام من تكاليف البحث وعدم توافق المهارات، كما يُسهّل توظيف الشباب ويُعزز ثقافة الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” المبنيّة على الحرفيّة والابتكار.
2. التعليم العالي من أجل الابتكار التطبيقي
غالباً ما تعجز الجامعات التقليديّة عن تقديم ما يكفي من البحوث ذات الصلة العمليّة بالشركات المحلية، أو تُخرّج طلاباً يفتقرون إلى المهارات التي تلبّي احتياجات السوق. في المقابل، تُوسّع جامعات العلوم التطبيقية في ألمانيا والنمسا وسويسرا نطاق النظام المزدوج المسار ليشمل التعليم العالي، بالشراكة مع الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” لتنفيذ الأعمال التطبيقية في البحث والتطوير بهدف مواجهة تحدّيات الإنتاج الواقعية.32 وفي معظم الأحيان، يتعاون الأساتذة والطلاب مباشرة مع الشركات في مشاريع مشتركة، حيث يعمل الطلّاب العاملون (Werkstudenten) بدوامٍ جزئي في الشركات، ما يسمح لها بالوصول إلى خبرات متخصّصة ومرافق حديثة من دون الحاجة إلى إنشاء أقسام داخلية مُكلفة للبحث والتطوير. بالإضافة إلى ذلك، تُخرّج جامعات العلوم التطبيقيّة طلاباً يمتلكون مهارات تقنيّة وخبرة في البحث والتطوير في مجال التجارة، وغالباً ما يستمرّ هؤلاء الطلاب في العمل في هذه الشركات بعد تخرّجهم.33
3. البنوك العامة لتمويل الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”
تتجنّب الشركات العائلية القائمة على نموذج “ميتلشتاند” عادةً التمويل عن طريق الأسهم العامة والخاصة بغية الحفاظ على السيطرة العائلية، وتفادي ضغوط المستثمرين القصيري الأجل، وإعادة استثمار الأرباح بدلاً من توزيعها، مفضّلةً الاعتماد على القروض/الائتمان الطويل الأجل. غير أنّ البنوك الخاصة لا تحبّذ هذه المقاربة، نظراً لهوامش الربح الضيقة والمتطلّبات الصارمة لإجراءات العناية الواجبة. تسدّ البنوك العامة، مثل بنك التنمية الألماني (KfW)، هذه الفجوة من خلال توفير رأس مال طويل الأجل وصبور على شكل قروض منخفضة الفائدة، وضمانات ائتمانية، وديون المغامرة.34 وتُمكّن هذه الأدوات التمويلية، وغيرها من أدوات التمويل المماثلة، الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم من الاستثمار والنمو من دون التفريط في حقوق الملكية أو السيطرة. كما تقدّم البنوك التي تتعامل مع الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” حلولاً مُصمّمة خصيصاً، مثل عمليّات التحديث الموفّرة للطاقة والتحوّل الرقمي، ما يسمح بالتوفيق بين التمويل والأولويّات الصناعية الإستراتيجيّة.35 وتُكمّل البنوك العامة الإقليمية هذا النظام من خلال معرفتها العميقة بنموذج “ميتلشتاند” التجاري والبيئة المحلّية والعلاقات الطويلة الأجل مع المقترضين.
في حين يقدّم نموذج “ميتلشتناند” خريطة طريق مُثبتة لنجاح الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم، يحمل في طيّاته تحدّيات متعدّدة، يرتبط عدد منها بإمكانيّة تكيّفه مع طبيعة اقتصاد الدول الخليجية. فالأزمات الناجمة عن التوريث قد تُثقل كاهل الشركات العائلية.36 وقد يُؤدّي التخصّص المُفرط إلى نتائج عكسيّة في حال فشلت الشركات في التكيّف مع المتطلّبات والتقنيّات المُتغيّرة. كما أنّ تركيز الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” على التحسين التدريجي يجعلها أحياناً عُرضة للتقنيّات الثوريّة.37 فيما يؤدّي اعتمادها على التمويل المصرفي (بدلاً من الأسهم) إلى إبطاء وتيرة نموّها. ويمكن أن تتفاقم هذه القيود في الدول الخليجية بسبب النقص في مصادر الكفاءات المهنية والتركيز على العوائد القصيرة الأجل.
ومع ذلك، يُمكن تجاوز هذه العقبات من خلال اعتماد سياسات مناسبة، مثل حوافز تسليم الإدارة بين الأجيال (إعفاءات ضريبية على عمليّات البيع بين العائلات)، ومِنَح التنويع للشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم العاملة في القطاعات المتخصّصة المُعرّضة للخطر، وقسائم الابتكار للشراكات مع الشركات الناشئة في مجال الذكاء الإصطناعي/التكنولوجيا النظيفة. ويمكن لنموذج “ميتلشتاند” أن يتكلّل بالنجاح بشرط أن يُدرك صنّاع القرار احتياجات هذا النوع من الشركات ويُعدّلون سياساتهم على هذا الأساس.
لا تُعدّ الفكرة القائلة بأنّ الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم تمثّل محرّكاً اقتصادياً حيوياً في دول مجلس التعاون الخليجي، مع ما تستلزمه من إستراتيجيّات حكومية متخصّصة، فكرة جديدة.38 لكن على الرغم من إحراز تقدّم نسبي،39 لا تزال الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم في منطقة الخليج تتخلّف عن نظيراتها العالمية من حيث الناتج الاقتصادي.40 ولعلّ أحد الحلول الممكنة لسدّ هذه الفجوة يكمن في اعتماد سياسة خاصّة بالشركات الصغيرة والمتوسّطة، تركّز تركيزاً أكبر على خلق شريحة محدّدة من الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”، حيث تستثمر “شركاتها الرائدة الخفية” في البحث والتطوير المحلّي وفي رأس المال المادي والبشري بنسبةٍ تفوق المعدل المعتاد، وتوفّر وظائف بأجور عالية، وتصدّر سلعاً ذات قيمة مضافة عالية. ومن شأن هذه الشركات أن توفّر فرص عمل منتجة في القطاع الخاص، وتستقطب الكفاءات الأجنبية في المدى البعيد في ظلّ سياسات التأشيرات والإقامة المناسبة، وتُعزّز انتاجيّة العمالة الوافدة.
تزخر المنطقة بالمقوّمات اللازمة لتطوير منظومتها الخاصة من الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”، المتوسّطة الحجم والموجّهة نحو التصدير والعالية الجودة والرائدة في الأسواق المتخصّصة.41 ويمكن للدول الخليجيّة، بفضل مواردها الهائلة وبنيتها التحتية الحديثة وخططها الطموحة للتنويع الاقتصادي، أن تحتضن “شركات رائدة خفيّة” محلّية في قطاعات مثل المواد المتقدّمة (عبر الاستفادة من الخبرات الموجودة حاليّاً في مجال البتروكيماويات)، والتكنولوجيا الخضراء (من خلال تسخير مصادر الطاقة المتجدّدة الوفيرة)، أو أولويات السياسات مثل التكنولوجيا الزراعية والدفاع. وتتمتّع منطقة الخليج بميزتين رئيسيّتين: التركيز على الثورة الصناعية الرابعة والتحوّل الرقمي، وهو تحولٌ شكّل عقبة لعددٍ من الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم الألمانية؛ والجهود المستمرّة الآيلة إلى تحويل المواطنين إلى روّاد أعمال من خلال الحوافز وحاضنات الأعمال، والتي يمكن تعديلها بهدف رعاية المشاريع مثل الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”.
الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم القائمة تُثبت جدواها
تتمتّع دول مجلس التعاون الخليجي أساساً بمنظومةٍ بيئية غنيّة بالشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم، بما في ذلك عدد كبير من الشركات المملوكة للعائلات.42 ويتجلّى ذلك في قائمة “فوربس” السنويّة للشركات العائلية العربية الأقوى، حيث تُهيمن الشركات التجاريّة المتنوّعة الأنشطة باستمرار على القائمة (89 في المئة في العام 2022).43 من جهة أخرى، بالكاد تظهر الشركات الصناعية المتخصّصة ضمن هذه القائمة. وتركّز نماذج أعمال التكتّلات المتنوّعة في المنطقة العربية على المشاريع المنخفضة المخاطر والأصول (مثل التجارة وتجارة التجزئة والخدمات)، ما يعكس اعتماداً تاريخياً على التجارة والعقارات. ومع ذلك، تتشارك هذه الشركات العائليّة سمات ثقافية جوهريّة مع الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”، وهي الإدارة العائلية الطويلة الأجل والمعرفة بالسوق المحلّية والعلاقات الوثيقة مع العملاء. ففي ظلّ الدعم الحكومي المناسب، يمكن لمجموعة واسعة منها التحوّل نحو نموذج الأعمال المتخصّص العالي القيمة.
علاوة على ذلك، تتعدّد في منطقة الخليج الشركات الصناعيّة الصغيرة والمتوسّطة الحجم المتخصّصة، الموجّهة نحو التصدير والمبنيّة على الابتكار، والتي تُشبه إلى حدّ كبير نموذج “ميتلشتاند”. وتشمل الأمثلة شركة “نماء للكيماويات” (المتخصّصة في البوليمرات) وشركة “الخزف السعودي” في المملكة العربية السعودية؛ وشركة “قطر ستيل” وهي شركة متوسّطة الحجم في قطر، وشركة “جالف كرايو” (للغازات الصناعية) “وشركة الإمارات لألواح الزجاج المسطّح” في الإمارات العربية المتحدة؛ وشركة “الكابلات العُمانية” و”شركة الخليج الدولية للكيماويات” في سلطنة عُمان؛ وشركة “الخليج للكابلات والصناعات الكهربائية” في الكويت؛ وشركة “جلف بيوتك” (Gulf Biotech) في البحرين. وتشمل الحالات الخاصة بعض الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم التي لا تعمل مصدّراً بل مورّداً محلّياً، مثل شركة Precision Engineering Company (لخدمات هندسة النفط) وشركة “بلدنا” القطرية (لمنتجات الألبان) التي أُنشئت كحلّ بديل للواردات في خلال حصار العام 2017. وعلى الرغم من أنّ بعضاً من هذه الشركات الرائدة الخفيّة قد تتجاوز تصنيف الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم ولا تعدّ شركات عائلية في معظم الأحيان، فإنّها تحتفظ بعددٍ من صفات نموذج “ميتلشتاند” وتُثبت جدوى اعتماد إستراتيجيّة مخصّصة قائمة على هذا النموذج في منطقة الخليج، والآفاق الواعدة التي تفتحها.
السياسات والمؤسّسات القائمة
بينما يفتقر مجلس التعاون الخليجي إلى إستراتيجيّة شاملة قائمة على نموذج “ميتلشتاند”، تنتشر المبادرات الداعمة للشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم. صحيحٌ أنّ المبادرات في المملكة العربية السعودية على غرار إستراتيجيّة المملكة العربية السعودية للصناعة، وبرنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية (NIDLP)،44 والمركز الوطني للمنشآت العائليّة (NCFB) وبرنامج “صنع في السعوديّة”، لا تركّز تحديداً على فئة “الشركات الرائدة الخفيّة” القائمة على نموذج “ميتلشتاند”، لكنّها تمثّل برامج قوية للتصنيع وتوطين سلاسل التوريد، وتساهم في دعم الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم المحلية وتعزيزها. كما تلزم اللوائح التنظيمية المشاريع الحكومية بالتوريد من الشركات الصناعية الصغيرة والمتوسّطة الحجم المحلّية.
وتعتمد سائر دول مجلس التعاون الخليجي برامج ولوائح مماثلة. ففي الإمارات العربية المتّحدة، يُعَدّ مشروع “عمليّة 300 مليار” الإتّحادي للتنمية الصناعية45 وبرنامج القيمة الوطنية المضافة (ICV) من أبرز جهود التوطين الصناعي، إلى جانب إستراتيجيّات محلّية مثل إستراتيجيّة دبي الصناعية 2030 ،46 التي تقدّم أيضاً إعانات للمصنّعين المتخصّصين. وفي قطر، توفّر “مناطق” البنية التحتية اللاّزمة للورش وصالات العرض للشركات الصناعية الصغيرة والمتوسّطة الحجم. ويساعد برنامج “تصدير” على ترويج صادرات المصنّعين القطريين، فيما ولّدت بطولة كأس العالم 2022 طلباً كبيراً على منتجات الشركات المحلّية الصغيرة والمتوسّطة الحجم، مثل شركة “سميت بريكاست” (SMEET Precast) المتخصّصة في الخرسانة الجاهزة. ولدى سلطنة عُمان نسختها الخاصة من برنامج القيمة المحلّية المضافة، إلى جانب برنامج “تنفيذ “للتنويع الصناعي الذي يدعم الشركات الصناعية الصغيرة والمتوسّطة الحجم المحلّية. ويوفّر الصندوق الوطني لرعاية وتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسّطة في الكويت ومؤسّسة “تمكين” في البحرين الدعم اللاّزم للشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم المحلّية. كما تقدّم المؤسّسات المالية الخاصة، إلى جانب البنوك التنموية وبنوك التصدير والإستيراد المملوكة للدولة، تسهيلات ائتمانية صناعية وتمويلاً تجارياً للشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم المحلّية.
خصائص النسخة الخليجيّة من نموذج “ميتلشتاند”
تُظهر الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” في الدول الخليجية اختلافات منهجية مقارنةً بنظيراتها في ألمانيا والنمسا وسويسرا. فكما ذُكر سابقاً، تختلف هياكل الملكية، إذ تميل الشركات العائلية إلى تشكيل تكتّلات غير صناعية، بينما تكون الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم الشبيهة بالشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” مملوكة للدولة في معظم الأحيان، أو مُدرجة في الأسواق المالية (مثل شركة نماء للكيماويات)، أو تابعة لشركات كبرى. ومن النماذج اللافتة شركة كروة للسيارات (Karwa Motors)، وهي شركة عُمانية لتصنيع الحافلات تأسّست في العام 2017 كمشروع مشترك بين شركة )مواصلات( القطرية المملوكة للدولة وهيئة الاستثمار العُمانية، وبموجب ترخيصٍ تكنولوجي من الصين. وعلى الرغم من أنّ هذه الشركة لا تمثّل نموذجاً كلاسيكياً للشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”، فإنّ هيكلها قد يوفّر نموذجاً لتكييف هذا المفهوم مع خصوصيّات منطقة الخليج، ومن أهم هذه الخصائص مشاركة الشركات المملوكة للدولة وصناديق الثروة السيادية، وأهميّة نقل المعرفة من خارج منطقة الخليج، وضرورة تجاوز دول مجلس التعاون الخليجي الحدود الوطنية وتوثيق التعاون الإقليمي.
تتميّز منطقة الخليج بخصائص أخرى قد تعيق مساعي إنشاء الشركات الرائدة الخفيّة. وغالباً ما يُعطي القطاع الخاص في المنطقة الأولويّة لتحقيق عوائد سريعة من التجارة والعقارات والخدمات المنخفضة القيمة، على حساب رأس المال الطويل الأجل والصبور الذي تحتاجه الشركات الصناعية الصغيرة والمتوسّطة الحجم حتّى تتحوّل إلى شركات رائدة متخصّصة في الجودة. وفي ما يتعلّق برأس المال البشري، يبرز التباين بين نموذج التدريب المهني المزدوج المسار في ألمانيا والنمسا وسويسرا والنظرة الأكثر تقليديّةً للتعليم في الدول الخليجية باعتباره مساراً أكاديمياً بحتاً وبعيداً عن الواقع المهني. وعلى الرغم من مرونة النموذج، فإنّ اعتماد الدول الخليجية على العمالة الوافدة بعقود قصيرة الأجل قابلة للتجديد يتناقض مع النموذج السائد في ألمانيا والنمسا وسويسرا الذي يركّز على تطوير مهارات وخبرات متعمّقة داخل المؤسّسات نفسها، ما يساهم في بناء قوة عاملة مخلصة ومستقرّة ومتجذّرة محلّياً، تعزّز المعرفة التنظيميّة وتضمن استمراريتها. وعلاوة على ذلك، لم ترقَ السوق الخليجية المشتركة إلى مستوى التوقّعات الأولوية لجهة تسهيل التجارة والأعمال عبر الحدود، إذ ظلّت أسواق العمل مجزأة، وتدفّقات التجارة العابرة للحدود منخفضة نسبياً،47 ما يتعارض مع الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” في ألمانيا والنمسا وسويسرا التي تعمل بسلاسة داخل الاتحاد الأوروبي.
بمعنى آخر، لا شك في أنّ النسخة الخليجيّة من الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” موجودة، لكنها لا تزال هامشية. وبهدف مساعدتها على تحقيق كامل إمكاناتها، لا بدّ من رعايتها من خلال إستراتيجيّة منسّقة. 48بيد أنّ العقبة الأكبر أمام هذه الإستراتيجية تكمن في انحياز سياسات الدول الخليجية واستثماراتها لصالح المشاريع الرائدة، على غرار المشاريع الضخمة مثل “نيوم”، وشركات التكنولوجيا الناشئة التي تسعى إلى نيل صفة “اليونيكورن” في قطاعات تبرز لفترة قصيرة، والشركات الوطنية الرائدة المدعومة من الدولة. يؤدّي المزيج بين السعي وراء الأضواء والرؤية القصيرة الأجل والتركيز على أسواق الأسهم والإكتتابات العامة الأوّلية في الدول الخليجية إلى تحويل الانتباه والموارد بعيداً عن الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم التي قد تبدو أقلّ جاذبية وأبطأ في تحقيق العوائد، لكنّها لا تقلّ أهمية، بل تُشكّل العمود الفقري للاقتصادات المتقدّمة. في الواقع، تتطلّب الشركات الصناعية الصغيرة والمتوسّطة الحجم العالية القيمة والعاملة في الصناعات المتخصّصة أو الهندسة أو علوم المواد، رعاية صبورة وهادئة. وقد تُهمل اقتصادات الدول الخليجية، من خلال تركيزها على الحجم والظهور والنتائج الفورية، أيّ على “الشركات الرائدة اللاّمعة”، الطبقة الوسطى “الخفية” من الشركات التي تُعزّز القدرة التنافسية الطويلة الأجل من خلال التخصّص والعمالة الماهرة والابتكار التدريجي.
في ضوء هذه العناصر الواعدة وما يقابلها من تحدّيات جسيمة، كيف يمكن للدول الخليجية تحفيز طبقة وسطى مبتكرة من الشركات الرائدة الخفيّة؟ وما هي العِبَر التي يمكن أن تستقيها من النماذج العالمية مثل الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” في ألمانيا والنمسا وسويسرا؟ لا شك في أنّ النجاحات التاريخيّة التي حقّقتها الشركات المصنّعة المتوسّطة الحجم والمبتكرة والمصدّرة الألمانية، شأنها شأن التحدّيات التي واجهتها في الآونة الأخيرة، تحمل في طيّاتها دروساً بالغة الدلالة. فهي تشير إلى أنّ نجاح أيّ إستراتيجيّة قائمة على نموذج “ميتلشتاند” يعتمد على العناية المستمرّة والالتزام الطويل الأجل، وعلى رؤيةٍ متكاملة وشاملة تتجاوز حدود السياسات الصناعية. لذا لا بدّ من بذل جهود منسّقة تشمل السياسات المتعلّقة بالتجارة والتعليم والبحوث والتمويل والبنية التحتية.
بوسع الدول الخليجية تكييف نموذج “ميتلشتاند” المعتمَد في ألمانيا والنمسا وسويسرا مع السياق الإقليمي، والاستفادة في الوقت عينه من النجاح الذي حقّقته الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم على الصعيد العالمي. كما يمكنها توظيف المزايا النسبيّة المحلية وتذليل العقبات المتعلّقة بالحجم من خلال تعزيز التكامل الإقليمي. ومن الممكن أيضاً تحديث السياسات والمؤسّسات الصناعية الخليجية القائمة ودمجها، وإدماج الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم الشبيهة بالشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” في النسيج الاقتصادي، مع التركيز على قطاعات ذات أولوية محدّدة مثل التكنولوجيا الخضراء والتكنولوجيا الزراعية وقطاع الدفاع. ولا بدّ من النظر إلى فوائد الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” من منظور أوسع يتعدّى النمو الاقتصادي. في هذا المسار، يشكّل التركيز عنصراً أساسياً. لذا ينبغي على البرامج الصناعية، مثل برنامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية في السعودية، إيلاء اهتمام أكبر للشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم، فيما يتوجّب على المؤسسات التي تُعنى بهذه الفئة أساساً، مثل بنك قطر للتنمية، التركيز خاصةً على الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم الشبيهة بالشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”.
على الرغم من تعدّد توصيات السياسات، تخلص هذه الورقة إلى أربعة مقترحات رئيسيّة تستند إلى الاحتياجات الأكثر إلحاحاً والخاصة بالشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم الشبيهة بالشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”:
1. توفير التمويل
يميل النظام المالي في دول مجلس التعاون الخليجي عموماً إلى تفضيل التكتّلات الكبرى والشركات المرتبطة بالدولة. في المقابل، لا يزال هناك نقص في الخدمات المصرفية القائمة على العلاقات والقروض الطويلة الأجل الميسّرة للشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم.49 من أجل إرساء بنية تحتية مالية مشابهة لبنية الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” في ألمانيا، ينبغي على الدول الخليجية إنشاء بنوك مخصّصة لدعم الشركات القائمة على هذا النموذج. وبما أنّ المنطقة تضمّ أصلاً بنوكاً وطنية للتنمية، مثل بنك قطر للتنمية الذي موّل أكثر من ألف شركة صغيرة ومتوسّطة الحجم لغاية الآن،50 فإنّ هذه التوصية سهلة التحقيق.
يمكن لبنوك التنمية القائمة أن تُنشئ أقساماً داخلية مخصّصة للشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”. بناءً على خبرات بنوك مثل بنك التنمية الألماني (KfW) في نقل المعرفة، من شأن هذه الأقسام توفير دعم موجّه للشركات الرائدة الخفيّة الشبيهة بالشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”، بالإضافة إلى تمويل طويل الأجل ومنخفض التكلفة (يشمل منتجات متخصّصة مثل التأجير والتخصيم) مصمّم للشركات الصناعيّة الصغيرة والمتوسّطة الحجم، في مجالات الآلات والبحث والتطوير وتوسيع الصادرات، مع فترات سماح تتماشى مع الدورات الإنتاجية، فضلاً عن مِنَح الابتكار من دون ضمانات وبرامج تخطيط التوريث وحصص الأقليّة الوقائيّة ضدّ الاستحواذ.
وقد تُقدّم بنوك التنمية القائمة ضمانات لتقاسم المخاطر بهدف تشجيع المقرضين من القطاع الخاص على تمويل الشركات الصناعية المتخصّصة وتأدية دور المقرضين الرئيسيين المدعومين من الحكومة.51تضمن هذه الآليّات استخدام الأموال بكفاءة من دون استبعاد الائتمان الخاص، من خلال ترتيبات التمويل المشترك بين القطاعين العام والخاص على سبيل المثال. من الناحية المثالية، يُكمَّل مصرفٌ مركزي على نموذج “ميتلشتاند” بشبكةٍ لامركزية من المصارف الإقليمية (على غرار بنوك Sparkassen وRaiffeisenbanken وLandesbanken)، أو من خلال “تعاونيات الضمان” على النمط السويسري التي تقدّم تمويلاً من نظير إلى نظير، وتوفّر الخبرة المحلّية في اتّخاذ قرارات الإقراض، وتعمل بمثابة “بنك الشركة الرئيسي”.
2. تنمية رأس المال البشري المنتج واستثماره
يتطلّب بناء منظومة على غرار نموذج “ميتلشتاند” قوى عاملة تمتلك المعرفة النظريّة إلى جانب المهارات العمليّة. ويمكن أن يُشكّل نظام التعليم المزدوج المسار المعتمَد في ألمانيا والنمسا وسويسرا، الذي يجمع بين التعليم الثانوي والتدريب الميداني، مصدر إلهام لتعزيز هذه القوى العاملة، على أن يُستكمل هذا المسار لاحقاً بالتعليم العالي على نهج جامعات العلوم التطبيقية (Fachhochschule)، الذي يقدّم تعليماً جامعياً ممتازاً مقروناً بخبرةٍ مهنية داخل الشركات. ويمكن للدول الخليجيّة تبنّي نموذج التدريب المهني التقليدي الألماني وتحديثه بحيث يرقى إلى مستوى طموحاتها في ما يتعلّق بالثورة الصناعية الرابعة، بهدف بناء نظام مواكب لمتطلّبات المستقبل. في هذا الإطار، تُكلَّف الشركات الصناعية الصغيرة والمتوسّطة الحجم المستفيدة من العقود الحكومية بتدريب المواطنين في مجالات مثل الميكاترونيكس والتصنيع الإضافي والتصميم بالذكاء الاصطناعي.
وعلى الرغم من أنّ الشهادات المهنيّة لا تزال تُواجه نظرة دونية في الوقت الراهن، يمكن للجامعات التقنيّة، مثل جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (KAUST) في المملكة العربية السعودية، وجامعة خليفة في الإمارات، وجامعة الدوحة للعلوم والتكنولوجيا (UDST) في قطر، التعاون مع الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم لتصميم برامج الدبلوم التطبيقي التي تدمج بين التعلّم الصفي وورش العمل لبناء مؤهلات عالية ومطلوبة. ويمكن مواجهة التردّد الأولي والتحيّز لصالح الشهادات الأكاديمية البحتة بواسطة علاوات في الأجور. ولن يساهم النظام التعليمي الذي ينتج خرّيجين يملكون مؤهلات التوظيف والإنتاجيّة العالية، في رفع نسبة توظيف المواطنين الخليجيين في القطاع الخاص فحسب، بل سيؤدّي إلى تعزيز كفاءة القوى العاملة الأجنبية التي تشكّل تحدّياً مزمناً للسياسات بسبب ضعف انتاجيّتها.52
بالإضافة إلى رأس المال البشري، ستوفّر جامعات العلوم التطبيقية هذه أعمالاً تطبيقية في مجال البحث والتطوير، في حين تشكّل منظمات العلوم التطبيقية مثل “جمعيّة فراونهوفر” الألمانية (Fraunhofer Society) ومركز” في تي تي” الفنلندي للأبحاث التقنيّة (VTT) وكذلك شبكات الابتكار الإقليمية، نماذجاً يُحتذى بها للتنسيق في مجال البحث والتطوير على المستوى الوطني.
3. تقديم الدعم الموجّه
بوسع حكومات الدول الخليجية تسخير سياساتها الصناعية القائمة وتكييفها لتشجيع الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم الرائدة والخفيّة استناداً إلى ثلاثة محاور رئيسيّة. يتمثّل المحور الأول في الاستفادة من تجارب الدول الخليجيّة في ما يتعلّق بالمناطق الاقتصادية الخاصة، لإنشاء تجمّعات ابتكارية مخصّصة للشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”. فعلى سبيل المثال، يمكن تحويل “مناطق” (Manateq) القطريّة إلى تجمّعات صناعية ترتكز على نواة تعليمية، تتألّف من مدارس ثانوية مزدوجة المسار وجامعة للعلوم التطبيقيّة لتوفير رأس المال البشري والبحث والتطوير للشركات المقيمة. ويمكن كذلك استلهام الأفكار من تجمّعات الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم، مثل تجمّع صناعة الساعات في منطقة جورا السويسرية، والبرامج الحكومية على غرار البرنامج الألماني “go-cluster”.53
أمّا المحور الثاني، فيتمثّل في سياسات أفقية متاحة للشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم المؤهّلة كافة. هذا يشمل مجموعة واسعة من الإجراءات، بدءاً بتعديل حصص المشتريات في الشركات المملوكة للدولة، لخلق طلبٍ على الشركات المحلّية القائمة على نموذج “ميتلشتاند”، مروراً بدعم البحث والتطوير، وصولاً إلى تعزيز الصادرات. وبإمكان هذه السياسات تقديم حوافز للشركات العائلية الكبرى القائمة التي تستوفي معايير التأهّل للتوسّع في مجالات صناعية متخصّصة والتحوّل إلى شركات مصدّرة ورائدة من حيث الابتكار والجودة. وقد يشمل برنامج “التحوّل نحو الإنتاج” هذا مجموعة من الحوافز لإعادة استثمار الأرباح في الرأس المال الصناعي، وآليّات لحماية الملكيّة العائلية (مثل السماح بفصل وحدات التصنيع من دون فقدان السيطرة العائلية)، وإنشاء مناطق تَجمُّع صناعي مدعومة تضمّ بنى تحتية ومرافق مشتركة للبحث والتطوير. ومن شأن برامج كهذه أن تستغلّ الإمكانات المتاحة لتُحوّل الشركات العائلية الراسخة إلى شركات رائدة خفيّة في منطقة الخليج.
وأخيراً، ينبغي على الحكومات الخليجيّة إطلاق برنامج دعم أكثر استهدافاً للشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم الشبيهة بالشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند”، لا سيّما في القطاعات ذات الأولوية. وستحظى هذه الشركات بالدعم والحوافز المصمّمة خصيصاً لخدمات التصدير اللوجستية للمرة الأولى وحماية الملكية الفكرية وتحليل معلومات السوق. فمن خلال تركيز الدعم على الشركات ذات التخصّصات المُثبَتة بدلاً من الشركات الصغيرة العامة، سيساهم هذا البرنامج في تسريع بروز شركات رائدة خفية تتمتّع بقدرة تنافسية عالمية، بما يتماشى مع أهداف التنويع الاقتصادي في منطقة الخليج. وتجنّباً للفساد، يجب تصميم هذا البرنامج بعناية، مع التركيز على الشفافية والمساءلة، بما يشمل مؤشّرات القياس المعلنة والشروط المفروضة وقواعد الشفافية والإفصاح وأحكام الانقضاء.
4. المحافظة على المواهب العالمية في المدى البعيد
تزدهر سوق العمل الخليجيّة بفضل العمالة الأجنبية، التي لا تُعدّ مؤقتة فحسب، بل هشّة أيضاً، إذ تفتقر إلى الحماية الكافية وتعتمد على عقود وتأشيرات مؤقتة. ويخلق الإطار الحالي، الذي غالباً ما يربط الإقامة بالوضع الوظيفي ويتيح فرصاً محدودة للاستقرار في المدى البعيد، حالة من عدم اليقين لدى المهنيّين الماهرين ويُثنيهم عن بناء مسيرة مهنيّة وتأسيس أسرة في المنطقة. ويؤدّي ذلك إلى تقويض الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم، وتحديداً تلك القائمة على نموذج “ميتلشتاند”، التي تحتاج إلى قوى عاملة مستقرّة في المدى البعيد لبناء الخبرات الداخلية اللاّزمة للجودة والابتكار وضمان نقل المعرفة عبر الأجيال.
ينبغي على صنّاع السياسات إعطاء الأولوية لإجراء إصلاح شامل لسياسات العمل والتأشيرات والجنسية من أجل المحافظة على العمالة الأجنبية ذات الكفاءة العالية. وفيما كانت دولة الإمارات العربية المتّحدة سبّاقة في إطلاق مبادرات مثل “التأشيرة الذهبية”، لا تزال معظم الدول الخليجية متأخّرة في تقديم خيارات واضحة وجذّابة للاستقرار. وتشير الأدلة في قطر ودول مجلس التعاون الخليجي كافة إلى أنّ المهاجرين ذوي المهارات العالية يعربون عن رغبة قوية في البقاء، إلّا أنّ غياب الأمان في المدى البعيد وضعف فرص الاندماج الأسري ومحدودية آفاق التخطيط المهني تُثنيهم عن ذلك.54 لمعالجة هذا الوضع، يقتضي على حكومات الدول الخليجيّة إصدار تصاريح إقامة لسنوات متعدّدة وقابلة للتجديد ومستقلّة عن كفالة صاحب العمل، فضلاً عن توفير مسارات شفافة مرتكزة على الجدارة للإقامة الدائمة للمهنيّين المهرة وأُسرهم. وعلى السياسات أيضاً دعم تماسك الأسرة وإتاحة عقود عمل طويلة الأجل وتسهيل الانتقال بين الوظائف وتوفير الحماية الاجتماعية مثل التأمين ضد البطالة وإمكانية الاشتراك في صناديق التقاعد ومنح فترات سماح أطول بعد نهاية الخدمة.
تتخلّف الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم في الدول الخليجية عن نظيراتها الدولية من حيث الإنتاجية، كما أنها تتعرّض للإهمال من الرأي العام والمؤسّسات المالية وصنّاع السياسات، الذين يركّزون اهتمامهم على المشاريع الكبرى. ومع ذلك، يمكن للشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم الشبيهة بالشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” والعالية الكفاءة أن تؤدّي دوراً هاماً في التصنيع والاستقرار الاقتصادي والاكتفاء الذاتي في المنطقة. فبإمكانها إنتاج صادرات ذات قيمة مضافة عالية، وتوفير وظائف مستقرّة وجيدة الأجر في القطاع الخاص لكلّ من المواطنين والمهنيين المهرة من غير المواطنين. وعلاوة على ذلك، من شأن وجود طبقة من هذه الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم دعم المنظومة التي ترتكز عليها الشركات الوطنية الكبرى والمشاريع الناشئة العالية المخاطر. وبالتالي، فإنّ إعادة توجيه الجهود والسياسات نحو هذه الجهات الفاعلة التي يُقلَّل من شأنها على الرغم من تأثيرها الواسع النطاق، قد يساهم في تحقيق التكامل ويقود إلى تنمية اقتصادية أكثر استدامة.
تُسلّط ورقة السياسات هذه الضوء على المؤشّرات المشجّعة كالأمثلة الحالية على النسخة الخليجيّة المحلّية المنشأ من الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” من جهة، وعلى العقبات التي ينبغي تجاوزها من جهة أخرى. وقد استعرضت الورقة مجموعة من الدروس الجوهريّة المستقاة من نموذج “ميتلشتاند” في ألمانيا والنمسا وسويسرا. ومع ذلك، لا يتعيّن على الدول الخليجية نسخ هذا النموذج حرفياً، بل يمكنها اعتماد المزج الانتقائي بين الدروس المستخلصة من التجارب الناجحة للشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم في شتى أنحاء العالم، بما يتماشى مع مكامن القوة الخاصّة بالمنطقة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تُلهم المقاربة المتغيّرة التي انتهجتها منطقة إميليا رومانيا الإيطالية الدول الخليجية، إذ انتقلت من نموذج “إميليا” في الثمانينات إلى “التخصّص المرن” وتجمّعات الابتكار التي تتعاون فيها الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم (بدلاً من أن تتنافس) ضمن سلاسل توريد مشتركة، بدعم من البنوك المحلّية والمدارس المهنية، والتعاون في البحث والتطوير: هذه العوامل كافة قد تشكّل مصدر إلهام جديد للدول الخليجية.55
وخير مثال على ذلك تجربة الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم في قطاع تصنيع الإلكترونيات في تايوان التي ازدهرت بفضل الشراكات الوثيقة بين الجامعات والصناعات في مجال البحث والتطوير، والمجمّعات الصناعية التي تركّز على التصدير، وتُجسّد نجاح السياسة الصناعية التي تنتهجها الدولة والتي قد تجذب حكومات الدول الخليجية.56 وبالمثل، يمكن الاستفادة من النماذج الثقافية، مثل مفهوم “مونوزوكوري” (Monozukuri) في اليابان، الذي يتمحور حول إتقان المنتج والحرفة، بحيث تشكّل النتيجة النهائية نسخة خليجية فريدة من نوعها من الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” بحيث تمزج بين الخصائص المحلّية والممارسات الفضلى العالمية.
اختتاماً برؤيةٍ ملموسة، يمكن تصوّر إنشاء نسخة خليجية من الشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” من خلال التجمّعات التجريبية. وستعتمد هذه التجمّعات على الخبرات الخليجية في إنشاء مناطق اقتصادية خاصة للصناعة أو البحث أو كليهما، وتعمل على تكييفها بما يتوافق مع نموذج ميتلشتاند. ويمكن بناء مثل هذا التجمّع حول نواة تعليمية تشمل المدارس الثانوية المزدوجة المسار وجامعة للعلوم التطبيقية وفق نموذج Fachhochschule، وتتكامل تكاملاً وثيقاً مع الشركات الصناعية الصغيرة والمتوسّطة الحجم المحيطة بها. تتلقى هذه الشركات الحوافز والدعم بغية تطوير فلسفة “ميتلشتاند” المتمحورة حول القيادة المتخصّصة والمتجذّرة محلياً والموجّهة نحو التصدير من خلال توظيف خرّيجي هذه التجمّعات من المتدرّبين والطلاب العاملين، وتطوير منتجات عالية الجودة ومبتكرة عبر شراكات بحثية وتطويرية مع مؤسّسات البحث التطبيقي التابعة للتجمّع. كما يضمّ التجمّع مؤسّسات داعمة، من ضمنها بنك مخصّص للشركات القائمة على نموذج “ميتلشتاند” بهدف تقديم الخدمات المتعلّقة بالتمويل وبتطوير الأعمال.
الهوامش