تكثيف قطر استثماراتها في العراق: يؤكّد تكثيف قطر استثماراتها في العراق على أهميّة موقعها على تقاطع الطرق الإقليمية. وتستفيد قطر، الدولة الصغيرة، من حنكتها الاقتصادية في العراق من أجل تنميّة مقدّراتها المرتكزة إلى شبكة من العلاقات. مع ذلك، يتعيّن عليها حماية استثماراتها من التقلّبات السياسية في العراق، ما يتطلّب التزاماً إستراتيجياً طويل المدى لجعل العراق ضمن دائرة النفوذ.
التنبّه للحرب الاقتصادية: على قطر التنبّه إلى التنافس الاقتصادي بين الميلشيات القويّة في العراق. ففي حين قد تسهم استثماراتها في تحقيق نموّ اقتصادي وتفتح أسواقاً اقتصادية إقليمية بديلة أمام العراقيين، إلّا أنّ ذلك يتطلّب الحدّ من نفوذ الميلشيات من خلال الحرص على أن تكون هذه الاستثمارات مشروطة بسياسات توظيف تفتح الفرص أمام المواطن العراقي العادي.
حماية الاستثمارات القطرية: يتطلّب وجود قطر المتزايد في العراق اتّخاذ إجراءات احتياطية لتحصين استثماراتها، قانونياً وسياسياً. وفي هذا الإطار، يمكن لقطر اعتماد آليّات لتسوية النازعات عبر القنوات الخلفية وضمان حماية استثماراتها بموجب بنود تحكيمية واتفاقيات استثمارية ثنائية.
تعزيز الاستثمارات القطرية: يوفّر تحسّن العلاقات بين قطر والسعودية فرصة للدوحة للتعاون مع الرياض التي توسّع هي الأخرى وجودها في العراق. من شأن ذلك أن يمنح قطر عمقاً إستراتيجياً إضافياً في العراق، ويعزّز من قدرة استثماراتها على الصمود في وجه الضغوطات الخارجية والداخلية.
شكّلت علاقة قطر بالعراق علامة فارقة في سياق التحوّلات التي طرأت على شبكة علاقاتها الإقليمية الأوسع في العقدين الماضيين. فقد بلغت العلاقات القطرية العراقية أدنى مستوياتها عام 2014 على خلفية اتّهام العراق قطر بدعم مجموعات سنيّة متمرّدة،1 ثمّ مجدّداً عام 2015 عندما اختطفت ميلشيات شيعية مرتبطة بإيران 27 مواطناً قطرياً، بينهم أحد أفراد الأسرة الحاكمة، فيما كانوا برحلة قرب الحدود العراقية السعودية.2 أتت هذه التوترات في سياق ديناميات جيوسياسية أوسع أدّت إلى تدهور العلاقات بين العراق ومعظم الدول الخليجية، نتيجة تهميش بغداد للمكوّن العربي السنّي، ودعمها للحركات الشيعية المعارضة في السعودية والبحرين.3
إلّا أنّ العلاقات بين قطر والعراق تسلك اليوم مساراً مختلفاً تماماً. فقد قام أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بزيارة إلى العراق في يونيو 2023 وقّع في خلالها على مجموعة من الاتفاقيات الثنائيّة هدفت إلى توسيع الوجود الاقتصادي القطري في البلاد،4 حيث من المتوقّع أن تسهم هذه الاتفاقيات بجلب استثمارات قطريّة إلى العراق تفوق الـ9 مليارات دولار.5
يسلّط موجز القضيّة هذا الضوءَ على التحوّل الذي طرأ على العلاقات القطرية العراقية في ظلّ عدد من التطوّرات الجيوسياسية المستجدّة، بما فيها التقارب السعودي الإيراني. كما يتطرّق إلى تنامي أواصر التعاون بين قطر والعراق لتقديم نظرة ثاقبة حول كيفيّة استفادة الدوحة من علاقاتها مع بغداد من أجل تعزيز مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية.
من شأن الاستثمارات القطرية المقرّرة في العراق أن تمنحها نفوذاً وتأثيراً في البلاد، شرط أن تأتي في إطار التزام طويل المدى مع العراق، كما تستعرض هذه الورقة. ففي غياب التزام إستراتيجي تجاه العراق، ستبقى المجموعات المسلّحة العراقية المهيمنة قادرة على احتكار الاستثمارات القطرية أو عرقلتها، ما قد يفاقم الفساد المستشري ويجعل الاستثمارات رهينة تقلّبات العراق السياسية، بالإضافة إلى تعريض المستثمرين القطريين لانتهاكات العقوبات. وفي ظل سيطرة المجموعات المرتبطة بإيران، ومنها الحشد الشعبي، على البرلمان العراقي وتولّيها عدد من الحقائب الوزارية وهيمنتها على المحكمة العليا، يصعب تخيّل سيناريو لا تطالب فيه هذه القوى بحصتها من الاستثمارات القطرية.
في ظلّ هذه الأجواء، قد لا تؤتي الاستثمارات القطرية ثمارها وقد تصبح غير قابلة للاسترداد. إذ إنّها كذلك عرضة للأحداث الجيوسياسية التي يمكن أن تطال الأراضي العراقية، منها الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والصراع في سوريا والتوتّرات الأمريكية الإيرانية. مع ذلك، يمكن لقطر أن تحدّ من تأثير شبكة الميلشيات المحليّة من خلال التدرّج في استثماراتها واشتراطها بتطبيق سياسات توظيف حرّة وعادلة تفتح الباب أمام المواطن العراقي العادي. يمكن للدوحة أيضاً أن تشرط استثماراتها بإصلاحات هيكلية، بما فيها اتّخاذ تدابير لمكافحة الفساد والحدّ من نفوذ الميلشيات وتحسين كفاءة العمل في القطاع العام. فإذا اتّخذت الدوحة مثل هذه الخطوات قبل الالتزام بالقيام باستثمارات واسعة قد لا تتحقق وقبل إنفاق موارد طائلة، ستحسّن من قدرتها على تقصّي مدى موثوقية نظرائها العراقيين والتزامهم ومهنيتهم، وستتمكّن من تقييم جدوى استثماراتها بشكل أفضل.
ثانياً، لا بدّ من أن تحرص الدوحة على حماية استثماراتها من خلال بنود تحكيمية، إلى جانب اتفاقية ثنائية للاستثمار ترسم إطاراً يسهّل الاستثمارات القطرية في العراق وينظمّها. فعلى الرغم من أنّ العراق هو عضو في المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، وهو هيئة حاسمة في حلّ النزاعات الاستثمارية الدولية، ودولة موقّعة أيضاً على اتفاقية تسوية المنازعات الاستثمارية بين الدول ومواطني الدول الأخرى،6 إلّا أنّه لا يزال يُصنّف كسوق خطرة للمستثمرين نظراً للبيئة القانونيّة والرقابية السائدة التي تفتقر إلى الشفافية ولغياب الاستقرار السياسي في البلاد. بالتالي، تمنح الاتفاقية الثنائية المستثمرين القطريين حمايات قانونية قد لا يحصلون عليها تحت القوانين العراقية وتعطي المستثمرين حقوقاً إضافية بموجب أيّ عقود تحكم الاستثمارات القطرية.7
من شأن هذه التدابير أن تساعد قطر على تحقيق الإمكانيات الاقتصادية لاستثماراتها، وبالتالي ترجمة التزاماتها الاقتصادية إلى نفوذ سياسي لحماية الاستثمارات القطرية من تعقيدات المشهد السياسي العراقي الذي يهدّده تجدّد الصراعات والضغوط الجيوسياسية الخارجية.
مرّت العلاقات القطرية العراقية بمدّ وجزر في خلال العقد الماضي، غالباً بالتوازي مع علاقات العراق بالدول الخليجية بشكل عام. وقد رسمت معالمها انعطافات رئيسيّة في تاريخ المنطقة، منها الفترة التي تلت الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 والربيع العربي وظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وغيرها. أصبحت دول مجلس التعاون الخليجي، منها السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، جهات فاعلة أساسيّة على الساحة العراقية غداة الغزو الأمريكي، مع اندلاع حرب بالوكالة بين المجموعات المسلّحة السنية والأطراف العراقية الأخرى.8 فشكّلت الفصائل العربية السنيّة السياسية والمسلّحة – المؤلفة من خليط من العشائر العربية وأعضاء سابقين في الجيش العراقي المنحلّ ومقاتلين أجانب – حاجزاً في وجه توسّع النفوذ الإيراني في العراق.9 إلّا أنّ هذه الفصائل غالباً ما كانت مصدر توتّر في العلاقات بين الدول الخليجية والنخبة الشيعية الحاكمة في بغداد التي استنكرت الدعم الخليجي النشط والضمني لحركات التمرّد السنيّة ومؤيديها السياسيين العراقيين.10 وقد مهّدت الخصومة والحرب بالوكالة في العراق للمواجهات التي أعقبت انتفاضات الربيع العربي عام 2011، حيث دعمت كلّ من الدول الخليجية وإيران أطرافاً سياسية متنازعة وجهاتٍ مسلّحة غير حكومية، بما فيه دعمهما المادي الضخم للأطراف المتنازعة في الحروب الأخرى بالوكالة، أبرزها الحرب السورية.11
تفاقمت التوترات الطائفيّة في الفترة التي سبقت الهجوم الذي شنّه تنظيم داعش في العراق عام 2014، وبلغت ذروتها في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي الذي كان يلقى ازدراء الدول الخليجية، بالأخص عقب أحداث الربيع العربي حين دعا إلى انتفاضات في السعودية والبحرين. في العام 2014، اتّهم المالكي السعودية وقطر بإعلان الحرب على العراق على خلفية دعمهما للعرب السنّة والفصائل المتمرّدة.12 ودفعت سياسات المالكي التقسيميّة والطائفيّة بعدد من الشخصيات العربية السنيّة السياسيّة البارزة لطلب الدعم السياسي من قطر، منهم نائب الرئيس السابق طارق الهاشمي الذي أدين بتهم الإرهاب وحُكم عليه غيابياً بالإعدام.13 تأجّجت هذه التوترات أكثر بفعل عوامل أخرى منها استضافة قطر للداعية الإسلامي المصري يوسف القرضاوي الذي كثيراً ما كان يطلق تصريحات معادية للشيعة،14 فيما اتّهم العراق قناة الجزيرة القطرية بالتحريض على العنف وعلّق ترخيصها للعمل في البلاد عام 15.2013
مهّدت الإطاحة بالمالكي عام 2014، عقب الهجوم الذي شنّه تنظيم داعش في شمال العراق وانهيار الجيش العراقي، إلى التقارب مع قطر، بعد أن تبنّى خلفه حيدر العبادي خطاباً أكثر اعتدالاً. زار وزير الخارجيّة القطري في حينها خالد بن محمد العطية العراق عام 2015، وتلى الزيارة إعلان قطر عزمها فتح سفارة في بغداد.16 في خضم الأزمة الخليجيّة عام 2017، أرسل العراق إشارات متضاربة إلى الدوحة. فمن جهة، زار رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي قطر وتعهّد بإرسال 10 آلاف مقاتل عراقي للدفاع عنها، فيما دعا المالكي الذي كان قد غادر منصبه، الحكومة العراقية للوقوف إلى جانب قطر في التصدّي لأي اعتداء عسكري من المحور السعودي.17 في المقابل، دعا مسؤولون عراقيون آخرون الحكومة للتوسّط من أجل تخفيف التوتر والامتناع عن الاصطفاف مع طرف ضدّ آخر.18
على الرغم من هذا الموقف المعلن لبعض الساسة العراقيين من أعضاء النخبة الحاكمة في البلاد، إلّا أنّ علاقات السعودية والعراق شيئاً من التحسّن في عهد العبادي، ولو لم يكن تحسّناً معتبراً. ففي العام 2015، أعادت السعودية فتح سفارتها في العراق، فيما قام العبادي بزيارات متعدّدة إلى الرياض. وقد تكلّلت زياراته في خلال السنوات التالية بتوقيع عدد من الاتفاقيات الاقتصادية، بينها التزام السعودية ببناء مدينة رياضية في بغداد، وإعادة تسيير خطّ الطيران بين البلدين وفتح معبر عرعر الحدودي عام 2017 (الذي أعيد فتحه عام 2020) ووضع خطط لتطوير موانئ وطرقات سريعة مشتركة.19
إنّ العلاقة التي تربط قطر حالياً بالعراق تختلف كلّ الاختلاف عمّا كانت عليه في خلال العقد الماضي، وذلك بالتوازي مع التحوّل الأوسع الذي طرأ على الواقع الجيوسياسي في المنطقة في السنوات الأربعة الماضية. فقد شكّل الاتفاق السعودي الإيراني في العام الماضي لاستئناف العلاقات الدبلوماسيّة بينهما لحظة بالغة الأهميّة في خضمّ الحروب بالوكالة التي دارت على مدى العقدين الماضيين، غير أنّ الحرب في غزّة قد قوّضت تلك التوقّعات. وقد أدّى العراق الذي غالباً ما كان مسرحاً للخصومة العنيفة بين الرياض وطهران دوراً جوهرياً في تخفيف حدّة التوتر من خلال اسهاماته في الوساطة بين البلدين واستضافته مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة (قمّة بغداد).20 فإلى جانب إتاحة اللقاء بين مسؤولين إيرانيين وخليجين، جمعت القمّة أيضاً بين القيادتين القطرية والإماراتية بعد سنوات من التوترات بين الدولتين.21
أتى انخراط دول مجلس التعاون الخليجي مع العراق في إطار الجهود الحثيثة التي بذلتها واشنطن للدفع ببغداد نحو المحور الخليجي في محاولة لاحتواء النفوذ الإيراني في العراق. وفي هذا السياق، عملت واشنطن على خفض اعتماد العراق على استيراد الكهرباء من إيران الذي من شأنه تقويض العقوبات الأمريكية على طهران. فعلى الرغم من موافقة واشنطن على استيراد العراق للكهرباء الإيرانية عبر منح بغداد استثناءات من العقوبات التي تفرضها على طهران، إلّا أنّها تعتبر التكامل في مجاليّ الاقتصاد والطاقة بين العراق ودول مجلس التعاون الخليجي أساسيّاً في إطار جهودها لكبح برنامج إيران النووي على المدى الطويل،22 ويشمل هذا التكامل الربط الكهربائي بين السعودية والعراق من ضمن هيئة الربط الكهربائي لدول مجلس التعاون الخليجي. ومن المتوقّع أن يتخلّل المرحلة الأولى للمشروع تصدير السعودية جيغاواط واحد من الكهرباء إلى العراق عبر خطّ يمتد لـ270 ميلاً (434,523 كلم) بين عرعر وبغداد.23 من بين المبادرات الأخرى قيد التنفيذ، مشروع ربط كهربائي بين محطّة الوفرة في الكويت ومحطّة الفاو في جنوب العراق الذي يُتوقع أن يمدّ العراق بـ1,8 جيغاواط من الكهرباء بحلول العام المقبل.24 وقد تكفّلت دولتا الكويت وقطر بتمويل خطّ مجلس التعاون الخليجي العراقي.25
عملت قطر هي الأخرى على تعزيز استثماراتها في العراق وتنويعها على مدى السنوات الثلاثة الماضية. ففي أغسطس من العام الماضي، أعلنت مجموعة “استثمار القابضة” عن حزمة استثمارات في العراق في إطار مذكرة التفاهم التي أُبرِمت في خلال زيارة أمير قطر لبغداد في العام نفسه،26 حيث وقّعت المجموعة على اتفاقيات بقيمة 7 مليارات دولار مع الهيئة الوطنية للاستثمار العراقية في مجالات التطوير العقاري والسياحي، بالإضافة إلى تشغيل مستشفيات وإدارتها،27 بما يتضمّن بناء مجمّعات سكنية مسوّرة وفنادق خمس نجوم، في مسعى لتطوير القطاع السياحي العراقي.28
استثمارات قطر في العراق
في أبريل 2023، أعلنت شركة “ملاحة” القطرية المتخصّصة في مجال الخدمات البحرية واللوجستية عن توسيع عملياتها لتشمل شحن البضائع إلى ميناء أم قصر في جنوب العراق، ما يسهّل وصول السلع والمواد ونقلها بين العراق ودول مجلس التعاون الخليجي.29 وفي الشأن الإنساني، لدى منظمات مثل الهلال الأحمر القطري سجل حافل بالعمل على التخفيف من المعاناة الإنسانية للنازحين نتيجة الحرب على تنظيم داعش. وكان الهلال الأحمر القطري قد وسّع أنشطته في أغسطس الماضي في أربيل من خلال إطلاق مشاريع غذائية وصحية موجّهة للنازحين داخلياً واللاجئين بقيمة نحو مليونيّ دولار.30
يستند الانفتاح القطري على العراق إلى خلفيّة إستراتيجيّة أوسع ترتبط بدور الدوحة كركيزة للبنية الأمنية الأمريكية في المنطقة. إذ تستضيف قاعدة العُدَيد الجويّة في قطر أكثر من 11 ألف جندي أمريكي وكانت عاملاً حاسماً في الانتصار على تنظيم داعش في العراق وفي الجهود المتواصلة لتأمين هزيمة دائمة للتنظيم الإرهابي في العراق وسوريا.31 وتُستخدم القاعدة كمقرّ للقيادة المركزيّة الأمريكية ولمركز العمليات الجويّة والفضائيّة المشتركة التابع لسلاح الجوّ الأمريكي.32
لعلّ مشروع قطر الأضخم والأكثر طموحاً في العراق يتمثّل بحصتها البالغة 27 مليار دولار ضمن “مشروع نموّ الغاز المتكامل”، وهو اتفاق متكامل في مجالات الغاز والنفط والمياه والطاقة الشمسيّة بين الحكومة العراقية وشركة “توتال إنرجيز” (TotalEnergies) الفرنسية. وكانت “قطر للطاقة” استحوذت على حصة بنسبة 25 في المئة من المشروع، على أن يستثمر الشركاء الثلاثة معاً: “توتال إنرجيز” و”شركة نفط البصرة” وشركة “قطر للطاقة” 10 مليارات دولار في المشروع الهادف إلى تطوير منشآت لاحتجاز الغاز الطبيعي الذي يتمّ إحراقه في حقول غاز متعدّدة في جنوب العراق.33 وستنضم شركة “أكوا باور” (ACWA Power) السعودية إلى “توتال إنرجيز” في الجزء المتعلّق بالطاقة الشمسيّة من الصفقة.34
يسلّط هذا المشروع الضوءَ على مقدّرات العراق الجيواقتصادية ويدخل ضمن الطموحات العراقية لتصبح دولة مصدّرة تؤمّن احتياجاتها الداخلية من الغاز من دون الحاجة للاستيراد. وكان كلّ من رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ورئيس حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني سبق وأعربا عن أملهما في أن يصبح العراق مصدّراً عالمياً للغاز في ظلّ تنامي الطلب منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 35.2022 وفي هذا الإطار، وقّعت شركة “نفط الهلال” التي تتّخذ من الإمارات مركزاً لها على ثلاثة عقود لمدّة عشرين سنة في فبراير 2023 تهدف إلى تسهيل تطوير حقول النفط والغاز الطبيعي في محافظتَي البصرة وديالى في العراق، لتضاف إلى الحقول التي تشغّلها في إقليم كردستان.36 ونظراً لخبرات قطر في مجال الغاز الطبيعي المسال وقدراتها في مجال التصدير والتوزيع، فإن دخولها قطاع الغاز العراقي خطوة بديهيّة وإستراتيجيّة، ستحقّق لها مكتسبات اقتصاديّة وتزيد من ثقلها ومكانتها الإستراتيجيّة. وقد ظهر ذلك من خلال إشادة واشنطن بالخطوة القطرية بعد إبرام اتفاقية “نموّ الغاز المتكامل”.37
يؤكّد تعاظم الدور القطري في العراق على حنكة قطر المرتكزة إلى نسج شبكة من العلاقات تهدف إلى خلق نوع من الترابط المتبادل، يجعل من المستحيل الاستغناء عن الدوحة سواء على صعيد “مشروع نموّ الغاز المتكامل” أو على صعيد السعي لتحقيق طموحات العراق بأن يصبح دولة مصدّرة للغاز. مع ذلك، يبقى المجال مفتوحاً دائماً للمزيد من التعاون، وفق ما أوضح وزير النفط العراقي حيان عبد الغني في منتدى قطر الاقتصادي في العام الماضي الذي أعلن من ذلك المنبر عن اهتمام الشركات القطرية في الحصول على حقوق التنقيب عن احتياطات النفط والغاز في العراق.38 دُعيت الدوحة أيضاً إلى بغداد من أجل الإعلان عن إطلاق مشروع “طريق التنمية” الطموح الذي يربط آسيا بأوروبا وتقدّر تكلفته بـ17 مليار دولار.39 إلى ذلك، تدرس قطر أفق الاستثمار في قطاع الغاز في إقليم كردستان الذي يشكّل جزءاً من الحوار الأوسع بين حكومة إقليم كردستان وتركيا.40
يقع العراق على تقاطع طرق إستراتيجية، ويدخل بالتالي ضمن المصالح السياسية الخارجية الأوسع لقطر. وعليه، يمكن للدوحة أن تعزّز مكانتها كوسيط في حلّ الصراعات الإقليميّة من خلال توسيع حضورها الإستراتيجي في العراق الذي أدّى دوراً فاعلاً في فتح قنوات الحوار مع السعوديين والإيرانيين. فبالإضافة إلى الصراع في اليمن الذي انطلقت منه قنوات الحوار الخلفيّة بين الرياض وطهران بوساطة عراقية، تتولّى بغداد اليوم الحوار مع البلدين عقب الحرب في غزّة. بالتالي، فإنّ تعزيز العلاقات مع العراق والاستفادة منها، من شأنه أن يساعد على تمتين جهود الوساطة القطرية.41
تعكس طفرة المبادرات الاقتصادية القطرية والخليجية بشكل عام في العراق موقع البلاد الهام على تقاطع الطرق الإقليميّة، وانخراطه في المسائل الأكثر إلحاحاً التي تهدّد المنطقة والأمن الدولي، من الإرهاب إلى الحروب بالوكالة حتى أمن الطاقة والتنافس بين القوى العظمى. يتمتّع العراق أيضاً بمقدّرات اقتصادية هائلة، حيث يُعدّ ثاني أكبر مصدّر للنفط في منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك)، ويبلغ عدد سكّانه 43 مليون نسمة، ويسجّل نسبة نموّ سكّاني بواقع 2,5 في المئة سنوياً على أقلّ تقدير.42
إلّا أنّه يواجه ثلّة من التحديات الداخلية التي تعيق استفادته من هذه المقدّرات، منها الفساد والبيروقراطية وانعدام الأمن وسوء الحوكمة. مع ذلك، لا يمكن التقليل من أهمية دور العراق في التحوّل الاقتصادي الأوسع في المنطقة، والذي تجلّى على سبيل المثال من خلال تنامي الاستثمارات الصينيّة في البلاد. ففي العام 2021، كان العراق المتلقّي الأكبر لتمويل البنى التحية في إطار مبادرة الحزام والطريق الصينيّة، بواقع استثمارات بقيمة 10,5 مليار دولار.43
تتعدّد إذاً الأسباب الإستراتيجيّة التي تدفع قطر نحو توسيع علاقاتها مع العراق. ومن مصلحة العراق الترحيب بمثل هذا الانخراط القطري بما أنّه يساعد على إعادة التوازن إلى علاقاته مع إيران والعالم العربي، ويساعد على تحسين العلاقات العراقية مع دول مجلس التعاون الخليجي بشكل عام. ويمكن أيضاً لتعزيز الانخراط القطري في العراق أن يجلب المزيد من الاستثمارات إلى الاقتصاد العراقي ويحفّز على التنويع الاقتصادي، ويعرّف الجيل العراقي الشاب ومجتمع روّاد الأعمال المحلّي على أسواق إقليميّة بديلة.
من شأن اتّساع الدور الاقتصادي القطري في العراق، ما إن يأخذ مفاعيله، أن يُكسب الدوحة المزيد من النفوذ سواء في العراق أو على الصعيد الجيوسياسي. إلّا أن ذلك يعتمد على مدى قدرة هذه الاستثمارات على الصمود في وجه التقلّبات السياسيّة العراقية. ففي أغسطس 2022، كادت الاشتباكات بين مؤيّدي مقتدى الصدر وقوّات الحشد الشعبي المدعومة من إيران أن تدفع البلاد إلى شفير حرب أهلية.44 ويمكن لهذه التوترات أن تعود في أي وقت. وإلى جانب مخاطر الانتكاسات الأمنية، فإنّ الساحة السياسيّة العراقية مشرذمة، يغلب عليها طابع الاغتيالات المستهدِفة واستغلال مؤسسات الدولة أو مصادرتها والاضطرابات الأهلية.45 تمتد هذه الصراعات إلى الحياة الاقتصادية، حيث قد تأخذ المنافسة على القطاعات والمشاريع الأكثر جاذبية وإدراراً للربح منحىً عنيفاً.46
مثلاً تأجلت اتفاقية “مشروع نموّ الغاز المتكامل” لمدّة عام بسبب الخلافات الداخلية حول تنفيذ المشروع وإدارته. فقد اتّهم مشرّعون شيعة وزارة النفط العراقية بمخالفة الإجراءات الصحيحة، وطالبوا البرلمان بمراجعة شروط الاتفاقية.47 ثمّ عُلّق المشروع مؤقّتاً بسبب الانتخابات البرلمانية والتأخير في تعيين وزيرين جديدين للنفط والمالية.48 إلى ذلك، يتمتّع البرلمان بالصلاحية لإلزام الحكومة بمراجعة مثل هذه الاتفاقيات أو إلغائها. وهذا أمر لا بدّ أن يأخذه المستثمرون القطريون في عين الاعتبار نظراً للتركيبة البرلمانية التي تهيمن عليها المجموعات المتحالفة مع إيران49 والوضع السياسي العراقي وإندفاعية البرلمان.
إلى ذلك، بإمكان الحكومة العراقية أن تتدخّل بنفسها للسماح بتمرير المشاريع الاستثمارية الكبرى أو استبعادها. فقد عطّلت الحكومة العراقية السابقة مشروعاً مشتركاً بين “سينوبك” و”لوك أويل” لتطوير حقل غرب القرنة -2، وأحبطت محاولة كلّ من “شركة الصين الوطنية للنفط البحري” (CNOOC) وشركة “بتروتشاينا” للاستحواذ على حصة “إكسون موبيل” في حقل نفط غرب القرنة –50،1 وهو ما عادت وتراجعت عنه الحكومة الحالية.51 وعلى نحو مماثل، وفي ظل الحكومة نفسها، حصلت شركة “دايو” (Daeweoo) الكورية الجنوبية على عقد لتطوير مشروع الفاو الكبير في البصرة، بدعم من مقتدى الصدر، الذي يتمتّع بقاعدة شعبية كبيرة في جنوب العراق.52 إلّا أنّ الصدر ينتنافس على النفوذ في الجنوب مع الفصائل المتحالفة مع إيران مثل عصائب أهل الحق. ولذلك، ردّت العصائب على خطط منح العقد لشركة “دايو” بالضغط من أجل منح العقد لشركة صينية بدلاً منها، ودفعت بحلفائها في الحكومة، بينهم وزير النقل السابق عامر عبد الجبار، لانتقاد منح العقد لشركة “دايو”.53
على قطر إذاً الأخذ في الاعتبار هذه الحروب والمنافسات الاقتصاديّة، فالمشاريع الاستثمارية الكبرى تُترجم إلى وظائف وخدمات، ولكن أيضاً إلى رأسمال سياسي ونفوذ وشبكات زبائنيّة موسّعة يستفيد منها الساسة المنخرطون بهذه المشاريع. بالتالي، قد تتحوّل الاستثمارات القطرية في العراق إلى مصدر للتوترات السياسية، ما يهدّد بعرقلتها أو نسفها من أساسها. وهنا الاختبار الحقيقي لعلاقة قطر مع النخبة الشيعيّة الحاكمة، على الأخص الحشد الشعبي الذي يهيمن على المؤسسات الحكومية، بما فيها البرلمان والمحكمة العليا، وهي مؤسّسات أثبتت أنّها لا ترى حرجاً في التدخل لمصلحة حلفائها ورعاتها السياسيين، حتى من خارج صلاحيات المحاكم.54 إذ تعتبر الفصائل المدعومة من إيران العلاقات المتنامية مع الدول الخليجية (بما فيها قطر( خطراً إستراتيجياً محتملاً على المدى البعيد.55
إلى ذلك، على الدوحة أن تضع في اعتبارها احتمال تصاعد المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران التي قد تتفجّر على الأراضي العراقية كما حصل في العقد الماضي.56 فمثل هذا التصعيد سيعني حتماً تشديد الولايات المتحدة ضغوطها على المجموعات والهيئات والشخصيات المدعومة من إيران، والتي قد تتضمّن شركات وأفراداً على صلة مباشرة أو غير مباشرة بالمشاريع القطرية. وعلى الرغم من العقوبات الأمريكية على عدد من هذه الفصائل، مثل عصائب أهل الحقّ وكتائب حزب الله العراقية،57 لا تزال تعود لهذه الفصائل على الأرجح الكلمة الفصل حيال مصير كبرى المشاريع الاستثمارية القطرية.58 فهي تشرف على إمبراطورية عقارية ضخمة وتسيطر على قطاعات أخرى في بغداد تدخل ضمن البنية التحتية لعمليات غسل الأموال المصمّمة لإخفاء تورطّها في التهرّب من العقوبات الأمريكية.59 وقد يترتّب على ذلك تداعيات خطيرة وبعيدة المدى على قطر وعلاقاتها بالعراق على المدى الطويل.
إذا ما أرادت قطر تعزيز وجودها في العراق، فسيتعيّن عليها اتّخاذ تدابير احتياطيّة لتحصين استثماراتها على المستويين القانوني والسياسي. وعليه، سيتوجّب عليها أن تستحصل من الدولة العراقية ــ بسلطاتها التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة ــ على ضماناتٍ تقي استثماراتها شرّ التقلّبات السياسيّة المستمرّة. ومن الممكن أن تشمل هذه التدابير آليّات تسوية المنازعات عبر القنوات الخلفية، التي تكتسب أهمية خاصة في مشهد اقتصادي محكوم بالمعايير الثقافية والعُرفية، عوضاَ عن بيئة قانونية وتنظيمية شفّافة ومتينة، قادرة على حماية المستثمرين الأجانب. ينبغي على قطر أن توقّع معاهدة استثمار ثنائية مع العراق تتكامل مع آليات التحكيم الممنوحة للمستثمرين القطريين بفعل عضوية العراق في المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، وتوفّر مظلّة حماية قانونية واسعة قد يكون القانون العراقي قاصراً عنها.60
أمّا على المستوى الجيوسياسي، فإنّ تحسّن علاقات الدوحة بالرياض يفتح أمامها الباب للعمل جنباً إلى جنب مع المملكة التي توسّع وجودها في العراق هي الأخرى، ومن ضمنه التزامها بتخصيص 3 مليارات دولار للاستثمارات.61 ومع أنّ الدوحة قد لا ترغب في العمل مع جيرانها في مجلس التعاون الخليجي، إلّا أنّ عليها أن تدرك أنّ مشاعر المواطنين والساسة العراقيين تجاه قطر مطبوعة بنظرتهم إلى دول مجلس التعاون الخليجي ككلّ. ويمكن أن يُعزى ذلك إلى موروثات تعامل دول مجلس التعاون الخليجي مع العراق منذ عام 2003 وإلى اضطرار صنّاع القرار العراقيين للموازنة بين زيادة التعامل مع مجلس التعاون الخليجي والأخذ بمخاوف إيران.
يساعد العمل مع دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى في إزالة الحواجز التي تفصل بين مختلف الفصائل والنخب السياسية (المتنافسة أحياناً)، سواء المدعومة من دول مجلس التعاون الخليجي أو العاملة معها، وهو ما قد يعزز التزوّد بالمعلومات وتبادل الاستخبارات والتآزر. ومن شأن هذه الأمور مجتمعة أن تحدّ من تأثير قوات الحشد الشعبي.62 علاوة على ذلك، بإمكان قطر تجنّب حصر جهودها ببغداد وقوات الحشد الشعبي من خلال تركيز بعض استثماراتها في إقليم كردستان، لا سيّما مع توسيع الإقليم تعاونه مع تركيا في مجال الطاقة وإقامته علاقاته الخاصة مع مجلس التعاون الخليجي.
ولا بدّ من أن يقوم انخراط قطر في العراق على استدامة استثماراتها هناك، ما يتطلّب بناء هذه الاستثمارات حول سياسات توظيف عادلة ومفتوحة وعمليات شراء شفّافة. ومع أنّ ذلك لن يعالج الفساد وسوء الإدارة بين ليلة وضحاها، فإنّه قد يضعف قبضة الميليشيات التي تقدّم مؤيّديها على العراقيين العاديين عند منح الوظائف والعقود. إلّا أنّه قد يَصعُب تنفيذ ذلك بما أنّ التنظيمات قد لا ترى حاجة للقيام بمثل هذه التنازلات. ومع ذلك، من المهم أن يحاول المستثمرون القطريون تنفيذ هذه التدابير لقياس مدى موثوقية نظرائهم العراقيين والتزامهم، ولتقييم جدوى استثماراتهم على المدى الطويل.
ختاماً، يتمتّع العراق بأهمية جيوسياسية كبرى. ومن هذا المنطلق، تعزّز حنكة قطر الاقتصادية في العراق قدراتها القائمة على الشبكات التي نسجتها كدولة صغيرة، لحماية مصالحها، وذلك من خلال جعل الدوحة عنصراً لا غنى عنه في إنعاش الاقتصاد العراقي، والأهم عنصراً لا غنى عنه بالنسبة إلى الدول التي لديها مصالح سياسية خارجية وأمنية حيوية في العراق، بما في ذلك الولايات المتحدة. ولكن، لا بدّ من أن تضع قطر باعتبارها التداعيات غير المتوقّعة والعواقب غير المقصودة الناتجة عن تنامي علاقاتها مع العراق. ويتطلّب استباق هذه المخاطر والتخفيف منها ترسيخ التزام قطر تجاه العراق وانخراطها معه في إطار إستراتيجية طويلة الأمد.