تضخيم تصوّر التهديد هو الدافع الرئيسي وراء تغيّر الخطاب: يُعزى تغيّر خطاب إيران بشأن التسلّح النووي إلى ضغوط خارجيّة إلى حدّ بعيد، بما فيها حرب إسرائيل المستمرّة على غزة والمنطقة الأوسع، إلى جانب قدرات إيران النوويّة وحدود قدرات الردع التقليديّة.
السيناريو الأسوأ: قد تكون إيران تستعدّ للقيام بخطوةٍ ملموسة نحو التسلّح النووي، إمّا من خلال بلوغ نقطة الاختراق النووي بشكلٍ تدريجي وإمّا بتسريع اندفاعتها في هذا الاتّجاه.
النفوذ الدبلوماسي المحتمل: في أفضل السيناريوهات، قد يشكّل هذا التحوّل إستراتيجيّةً تهدف إلى رفع الرهانات في مفاوضات مستقبليّة، ما يُشير إلى احتمال انفتاح إيران على مناقشات أوسع تتجاوز الملف النووي، لا سيّما في ما يتعلّق بمخاوفها الأمنيّة الإقليميّة.
إعادة انتخاب ترامب عاملٌ حاسم: قد تؤدّي عودة ترامب إلى البيت الأبيض، بالإضافة إلى تاريخه في “الضغط الأقصى” على إيران ودعمه الثابت لإسرائيل، إلى زيادة التوترات ودفع إيران نحو التسلّح النووي.
أثار تقريرٌ سري مسرّب من الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة في نهاية أغسطس 2024 المخاوف من استمرار تطوير إيران برنامجها النووي. وانتقد التقرير عدم تعاون إيران مع الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة، محذّراً من أنّه إذا رفعت إيران مستوى تخصيب اليورانيوم في ظلّ الظروف الراهنة، ستجمع ما يكفي من المواد لإنتاج أربع قنابل نوويّة.1
في الوقت نفسه، صرّح وزير الخارجية الإيرانيّة عباس عراقجي أنّه لا يمكن إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)، مؤكّداً على ضرورة إعادة التفاوض على أجزاء من الاتفاق النووي.2 شكّل هذا التصريح خروجاً ملحوظاً عن موقف إيران السابق من هذه المسألة، الذي كان قد شدّد على العودة إلى خطّة العمل الشاملة المشتركة كما اتُّفق عليها في الأصل في العام 2015.
وتأتي هذه التطوّرات في سياقٍ إقليمي متقلّب للغاية، لا سيّما في ظلّ حرب إسرائيل المستمرّة على غزة وتصاعد المواجهات بين إيران وحلفائها من جهة وإسرائيل من جهة أخرى. ومن المرجّح أنّ يدفع اغتيالُ القادة البارزين في حماس وحزب الله وإضعافُ القوى المدعومة من إيران في المنطقة، جراء الهجمات الإسرائيلية، المسؤولين الإيرانيين إلى إعادة تقييم فعاليّة أساليب الردع المباشرة وغير المباشرة ضد إسرائيل.
في هذا الجوّ من التوتّرات المتصاعدة، علت في إيران الأصوات الداعية إلى مراجعة عقيدة الدولة النوويّة. في الواقع، يجادل البعض أنّه ربما آن الأوان لكي تُطوّر إيران أسلحة نوويّة كرادعٍ أكثر فعاليّة ضد خصومها. يُحلّل موجز القضيّة هذا التحوّل الأخير في خطاب إيران النووي، ويستكشف العوامل الداخليّة والخارجيّة الدافعة لهذا التغيير، ويُقيّم السيناريوهات المحتملة التي قد تنبثق عن هذه الديناميّات المتنامية. ويناقش كذلك الانعكاسات الإستراتيجيّة الأوسع على إيران والمنطقة.
ليست الإشارات الضمنيّة إلى احتمال تغيير إيران موقفها من اقتناء أسلحة نوويّة بجديدة. ففي فبراير 2021، أعلن محمود علوي، وزير الاستخبارات آنذاك، أنّه على الرغم من تحريم المرشد الأعلى آية الله خامنئي تطوير أسلحة نوويّة، قد يدفع ضغطُ الدول الغربيّة المتزايد على طهران بطهران إلى تطوير سلاحها الخاص. وأوضح علوي أنّ “قطاً محاصراً قد يتصرّف بشكلٍ مختلف عن قط حرّ. إذا دفعت [الدول الغربيّة] إيران في هذا الاتّجاه، فلن يكون ذلك خطأ إيران بل خطأها هي”.3 وقد أثارت هذه الإشارة غير المباشرة إلى احتمال تطوير أسلحة نوويّة جدلاً كبيراً، وحتى انتقادات من وسائل الإعلام المحافظة والمتشدّدة في إيران.
فشدّدت على أنّ خامنئي أعلن مراراً وتكراراً، بصفته القائد السياسي والديني، أنّ تطوير أسلحة نوويّة محرّم، ما أخرج هذا الخيار عن الطاولة ضمنيّاً.4 إلّا أنّ تصريحات مسؤولين حاليين وسابقين بشأن احتمال اتّجاه إيران إلى عسكرة برنامجها النووي وأرجحيّته أصبحت أكثر مباشرة وتكراراً في خلال العام الماضي. تجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أنّ علي أكبر صالحي، وزير الخارجية الإيراني بين عامي 2010 و2013 والرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذريّة، أكّد في فبراير 2024 أنّ “[إيران عبرت] كل عتبات العلم والتقنيّة النوويّة”.5 وفيما ركّزت تعليقات صالحي على قدرات إيران الحاليّة وليس على نيّتها تطوير أسلحة نووية، أزال كمال خرازي، المستشار الأول لخامنئي ورئيس المجلس الإستراتيجي للعلاقات الخارجيّة الإيرانية، أيّ التباس في هذا الصدد.
في الواقع، أكّد خرازي على أنّه “[ليس لدى ايران] أي نيّة لإنتاج قنبلة نوويّة، لكن إذا كان وجودها مهدّداً، فسيتعيّن علينا تغيير عقيدتنا النووية”.6 أتت هذه التعليقات في أعقاب الهجوم بالصواريخ والمسيّرات الذي شنّته إيران على إسرائيل في أبريل 2024 ردّاً على غارة إسرائيليّة جوّية على قنصليّة إيران في دمشق في خلال الشهر نفسه. من جهته، كرّر أحمد حق طلب، القائد في الحرس الثوري الإيراني وقائد هيئة حماية المنشآت النووية في إيران، هذا الموقف. فقد لفت حق طلب إلى أنّ تصاعد التهديدات الإسرائيليّة ضد إيران قد يدفع “الجمهورية الإسلاميّة إلى مراجعة عقيدتها وسياساتها النوويّة والانحراف عن اعتباراتها المعلنة سابقاً”.7 اعتُبر هذا التصريح تاريخيّاً لأنّه المرة الأولى التي يتحدّث فيها مسؤولٌ عسكري عن مسألة الأسلحة النووية بشكلٍ صريح.
منذ ذلك الحين، أصبحت المناقشات حول ضرورة الردع النووي روتينيّة في وسائل الإعلام الإيرانيّة، بما في ذلك الإذاعة والتلفزيون التابعين للدولة، ما يمثّل على الأرجح إشارة إلى تحوّل أوسع في الخطاب الرسمي نظراً لقبضة الحكومة الحديديّة على هيئات البث الوطنية. وقد ذهب بعض أعضاء البرلمان أبعد من المناقشات النظريّة ودعوا علناً إلى تطوير أسلحة نوويّة.8
تُشكّل الحرب المستمرّة على غزة، التي توسّعت لتشمل لبنان بشكلٍ خاص، دافعاً أساسياً وراء التغيّر في الخطاب النووي الإيراني. وقد أدّت الحرب إلى تصعيدٍ حاد في التوتّرات بين إيران وإسرائيل، حيث تبنّى الطرفان خطابات وأفعال عدائية بشكلٍ متزايد. ويضع دعمُ طهران لحماس ولأعضاء آخرين من “محور المقاومة”، إيران في قلب التوتّرات الإقليميّة.
علاوة على ذلك، كشفت الحرب حدود أساليب الردع الحاليّة الإيرانية، لا سيّما في ظلّ مواصلة إسرائيل استهداف أصول وعناصر وحلفاء لإيران في شتّى أنحاء المنطقة. ومنذ هجوم طهران الواسع النطاق على إسرائيل في مطلع العام 2024، تحدّث مسؤولون إيرانيّون عن معادلة جديدة مع إسرائيل، إذ أعلنوا أنّ أي هجوم على المصالح الإيرانيّة في المنطقة قد يتسبّب بردٍ مباشر من إيران.9
إلّا أنّ الخط الأحمر بالنسبة إلى إيران قد اختُرق مراراً وتكراراً منذ ذلك الحين -لا سيّما مع اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة في طهران وأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله بعد شهرين فقط، إلى جانب الجنرال عباس نيلفروشان، نائب قائد عمليّات الحرس الثوري الإيراني، في بيروت. وتجدر الإشارة إلى أنّ هجمات إسرائيل على إيران في 26 أكتوبر، التي قيل إنّها استهدفت منشآت رئيسيّة مرتبطة ببرنامج الصواريخ وأنظمة الرادر والبنى التحتيّة الدفاعيّة الإيرانيّة، أجّجت التحدّيات التي تواجه طهران.10 وتوحي هذه الحوادث بأنّ تهديدات إيران وقدراتها العسكريّة فشلت حتى الآن في ردع إسرائيل بشكلٍ فعّال.
يُشكّل تصميمُ إسرائيل على إضعاف حزب الله، أهم حليف إقليمي لإيران، إلى حدّ بعيد مصدر قلق جوهرياً بالنسبة إلى المسؤولين الإيرانيين. من الناحية العقائديّة، يتّفق حزب الله والجمهورية الإسلاميّة اتفاقاً عميقاً، ما يُعزّز أهميّة هذا التحالف بالنسبة إلى مصالح طهران في المنطقة. ويمنح موقعُ لبنان الإستراتيجي على حدود إسرائيل، إيران نفوذاً مباشراً في أيّ صراع مع خصمها الأساسي. وقد اضطلع حزب الله كذلك بدورٍ محوري في التنسيق بين المجموعات الأخرى داخل “محور المقاومة”، إلّا أنّه خسر، في غضون بضعة أشهر فقط، كل قادة الصف الأوّل تقريباً بالإضافة إلى عددٍ كبير من القادة من الرتب المتوسّطة والدنيا.
لقد استثمرت طهران في بناء حزب الله وغيره من المجموعات غير الحكوميّة الحليفة على مدى أربعة عقود على أمل أن تشكّل ركيزة ردع حاسمة ضد إسرائيل. واستندت إستراتيجيّةُ إيران إلى فرضيّة أنّ التهديد بردٍ إيراني غير مباشر من خلال هذه المجموعات سيثني إسرائيل عن شنّ حرب ضدّ طهران. غير أنّ السياسة المحليّة عقّدت هذه العلاقة حتى قبل الهجمات الإسرائيليّة، إذ أدّى أعضاء في الشبكات المدعومة من إيران أدوار سياسية داخل سياقاتهم الوطنيّة. وفيما عزّز ذلك سلطة هؤلاء الأعضاء، أثار شكوكاً بشأن فعاليّتهم في دفع أهداف إيران الإستراتيجيّة قدماً.
شكّل إضعاف قدرات حلفاء إيران الإقليميين، لا سيما حزب الله وحماس، جراء عدوان إسرائيل العسكري المستمرّ والمتوسّع، تحدّياً إضافياً لعقيدة “الدفاع الأمامي” الإيرانية للردع خارج حدودها الإقليمية. لقد أُضعفت قدرات حماس العسكريّة في غزة إلى حدّ بعيد منذ السابع من أكتوبر 2023 على وجه الخصوص بينما يواجه حزب لله الآن ترجعاً مماثلاً في لبنان.11 بالتالي، تتغيّر السرديّة داخل إيران باتجاه اعتبار الأسلحة النووية الرادع المطلق ضد عدوانٍ إسرائيلي مستقبلي.
بالإضافة إلى ذلك، لقد وتّرت التطوّرات في غزة والمنطقة ككل علاقات إيران مع القوى الغربيّة، لا سيما في ضوء دعمها المستمرّ لهجمات إسرائيل ضد إيران وحلفائها. وتعتبر طهران الحكومات الغربيّة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، متواطئة في عمليّات إسرائيل ضد إيران وحلفائها.12 في هذا السياق، يضخّم امتلاكُ إسرائيل أسلحة نوويّة مقروناً بالدعم الغربي تصوّرَ إيران لهذا التهديد.
بالنسبة إلى إيران، ليس التهديد مجرّد نظريّة. فقد ألمح مسؤولون إسرائيليون إلى استخدام أسلحة نووية في غزة.13 وزادت تصريحاتٌ ممثالة وافتقار إسرائيل الظاهر إلى خطوط حُمر واضحة في تطوير التكنولوجيا العسكريّة -ما أثبتته تفجيرات أجهزة البيجر في لبنان في سبتمبر 2024- من مخاوف إيران. وشملت هذه الهجمات المنسوبة إلى الاستخبارات الإسرائيلية عمليّات التفجير المتزامنة لأجهزة البيجر واللاسلكي التي يستخدمها عناصر حزب الله. وأدّت هذه التفجيرات إلى أضرار إستراتيجيّة جسيمة وأسفرت عن إصابة عددٍ كبير من المدنيين.
وفقاً للتصوّر المتنامي، قد يشكّل خلق توازن نووي سبيلَ إيران الوحيد لتحقيق ردعٍ فعّال. وبالإضافة إلى العوامل الإقليميّة، تؤدّي الديناميّات العالميّة لانتشار الأسلحة النووية دوراً في حسابات إيران النووية. وتُسلّط مراكز البحوث الإيرانيّة على غرار المجلس الإستراتيجي للعلاقات الخارجيّة (SCFR) الضوء على الطريقة التي أعادت بها الحرب في أوكرانيا المنافسة النووية إلى صدارة العلاقات بين القوى العظمى، لا سيما الولايات المتحدة وروسيا.14 ويُعدّ تعليق معاهدة “ستارت الجديدة”15 والمناقشات بشأن التغييرات في عقيدة روسيا النووية، بما فيها تخفيض عتبة الاستخدام النووي، عوامل مهمة في هذا المشهد النووي العالمي المتطوّر.
في السياق نفسه، تَعتبر إيران “معاهدة أوكوس”16 (AUKUS) دليلاً إضافياً على التزام الغرب بالمنافسة النووية، مع الصين في هذه الحالة.17 وأشار تقريرٌ حديث لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI) إلى أنّ الصين هي أكثر الدول النووية التي زادت مخزونها من الرؤوس الحربية مؤخراً، مسلّطاً الضوء على التغيرات في ديناميّات انتشار الأسلحة النووية في المحيط الهادئ. ويراقب صانعو السياسة الإيرانية عن كثب هذه التطوّرات التي ترسم الخطوط العريضة لأهدافهم الإستراتيجيّة.18
لا يمكن غضّ النظر عن الضغوط الاقتصاديّة والعقوبات الغربيّة المستمرّة على إيران. لقد حضّ انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة في العام 2018 في عهد دونالد ترامب، إيران على اتّخاذ إجراءات مقابلة كذريعةٍ لتوسيع برنامجها النووي. وعلى الرغم من وعود الرئيس جو بايدن المبكرة بالعودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، فقد تعثّرت الجهود ولم تستمرّ العقوبات الأمريكيّة ضد إيران فحسب، بل تكثّفت أكثر لأسباب مختلفة.
وقد دفع هذا الوضع البعض في إيران إلى القول إنّ البلاد تتكبّد تكاليف الحصول على أسلحة نووية من دون امتلاكها فعلياً. وفي مقابلةٍ أجراها النائب أحمد بخشايش أردستاني، عبّر عن استيائه، قائلاً: “لم يتمّ إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة وليس لدينا قنبلة نووية؛ لكننا نتحمّل العقوبات كأن لدينا قنبلة… هل هذا الوضع منطقي؟”19 بالتالي، أدّى تصاعد الاستياء من عدم تخفيف العقوبات وغياب التحسّن الاقتصادي إلى تقوية الحجج الداعمة لسعي إيران إلى أسلحة نووية كبديلٍ منطقي.
تساهم العوامل المذكورة آنفاً مجتمعةً في تصوّر متعاظم داخل عدد من الأوساط السياسية في إيران بازدياد احتمال تصنيع أسلحة نووية وضرورته. بيد أنّ العامل الأكثر حسماً الذي من المرجح أن يؤثّر في أيّ قرار نهائي بشأن التسلّح يتمثّل بتنامي تصوّر التهديد لدى إيران.
في الأشهر التي تلت السابع من أكتوبر 2023، كان القادة الإيرانيون متفائلين في البداية بأنّ التطوّرات الإقليميّة والدوليّة -على غرار الضغوط الدبلوماسيّة على إسرائيل والضغوط العسكرية من أعضاء “محور المقاومة”- ستقود إلى تحوّل ملموس ودائم في ميزان القوى الإقليمي لصالح إيران وحلفائها.20 لكن هذا التفاؤل تبدّد منذ ذلك الحين بعد ضربات إسرائيل غير المسبوقة على حزب الله وتوسيع هجومها العسكري على لبنان. وقد بدا ظاهراً أنّ الضغط الدبلوماسي لم يكن له تأثير يُذكر أو أي تأثير على الإطلاق في مقاربة إسرائيل العسكرية والأمنية.
قد يؤدّي تعزيز الوضع الراهن بعد السابع من أكتوبر، الذي حقّقت فيه إسرائيل تفوّقاً عسكرياً على إيران وحلفائها، إلى تداعيات تتجاوز تآكل الردع الإيراني غير المتكافئ. وقد يدفع انتصار إسرائيلي في الحرب- أياً كان تعريفه- الدول العربيّة إلى استئناف التعاون الرسمي معها. من شأن هذا التغيير، مقروناً بضربة لمصداقية إيران السياسية والعسكرية، أن يخلق سيناريواً لطالما كانت إيران تخشاه، ألا وهو ائتلاف عربي إسرائيلي. على الرغم من جهود طهران الدبلوماسيّة المستمرّة للتواصل مع الدول العربية، قد يُعظّم هذا الائتلاف تصوّر إيران للتهديد داخل المنطقة. ومن المرجّح أن تعزّز هذه التطوّرات نفوذ الأصوات داخل إيران المنادية بالأسلحة النووية باعتبارها “قوة الردع المطلقة”.21
لكن لن يكون قرار التوجّه نحو الأسلحة النووية سهلاً بالنسبة إلى إيران. في الواقع، يوحي التفتيش الكثيف من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بالإضافة إلى توغل الاستخبارات الإسرائيلية العميق في إيران الذي أثبتته الأعمال التخريبية والاغتيالات الأخيرة، بأنّ أي خطوة نحو تحقيق تقدّم نووي قد تُكشَف بشكلٍ فوري. في هذه الحال، قد تبادر إسرائيل وربما الولايات المتحدة إلى اتّخاذ إجراء استباقي.
ونظراً لهذه المخاطر، قد تختار إيران نهجاً تدريجياً، فتزيد من قدرتها على التخصيب من دون أن تتّخذ خطوات رسمية تمنع الوكالة من مراقبة أنشطتها أو أن تنسحب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.22 يمكن لهذه الإستراتيجيّة أن تقلّل الوقت اللازم لتحقيق تقدّم نووي وفي الوقت عينه أن تدفع بإنتاج المكوّنات الأساسيّة الأخرى الضروريّة للتسلّح، مثل أنظمة الإطلاق وبنى القيادة والتحكّم.
في هذا السيناريو، تصبح إيران “دولة على حافة العتبة النووية” بالكامل، ما يصفه بعض المحلّلين الإيرانيين بإستراتيجيّة “الردع النووي الكامن”.23 بعبارة أخرى، ستستخدم إيران قدرتها العتبية وإمكاناتها المتنامية للتسلّح النووي بغية ردع الهجمات الخارجية ضد المدنيين أو البنى التحتية النووية. وفي حال تعرّضت لهجوم، ستسارع طهران إلى اتّخاذ الخطوة الأخيرة وإنتاج سلاح نووي.
والسيناريو الثاني هو أنّ إيران قد لا تنتظر هجوماً بل تأخذ المبادرة لتطوير سلاح نووي. صحيح أنّ هذا الخيار ينطوي على خطر تعرّض المنشآت النووية الإيرانية لضربة استباقية، إلّا أنّ القادة الإيرانيون قد يعتبروا أنّ الاستمرار في تطوير أسلحة نووية خياراً أكثر واقعيّة، في حال ارتأوا أنّه لا مفر من هذه الضربة. وقال محسن رضائي، القائد الأعلى السابق للحرس الثوري الإيراني والضابط العسكري حالياً في الحرس الثوري، مؤخّراً إنّ إسرائيل ستستهدف سوريا والعراق وربما إيران بعد لبنان،24 ما يعكس شعوراً واسع النطاق بالإستعجال وتصوّر تهديد وشيك من شأنه أن يُحفّز تسلّح إيران النووي.
أمّا السيناريو الثالث، فهو أن تتبنّى طهران مقاربة دبلوماسيّة جديدة. لقد أعرب في الآونة الأخيرة مسؤولون إيرانيون، لا سيّما الرئيس مسعود بزشكيان، عن استعدادهم لاستئناف المحادثات الدبلوماسيّة مع الدول الغربيّة، خاصة في ما يتعلّق بالملف النووي. صحيحٌ أنّ اهتمام إيران بالدبلوماسية ليس جديداً وأنّ الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي غالباً ما شدّد على اهتمام إيران بالجهود الدبوماسية العالمية والإقليمية، إلّا أنّ المسؤولين الإيرانيين يبدون هذه المرة استعدادهم لتوسيع نطاق المحادثات أبعد من الملف النووي بحيث تشمل مواضيع سياسية وأمنية. على سبيل المثال، أشار عرقجي إلى أنّه في خلال زيارته إلى نيويورك لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة في أواخر العام 2024، تبادل وجهات النظر مع نظرائه الأوروبيين بشأن قضايا مختلفة، ومن ضمنها أوكرانيا ولبنان. وحذّر أيضاً من أنّه “لا يوجد أيّ طريق آخر للتحقّق من سلميّة البرنامج النووي الإيراني غير المفاوضات”.25
في الجوهر، قد تكون إيران تسعى إلى استخدام برنامجها النووي المتقدّم والتهديد المبطّن بالتسلّح كورقة ضغط لتحقيق مكاسب دبلوماسيّة أوسع يمكن أن تشمل ضمانات أمنيّة في المنطقة. غير أنّ هذه المقاربة معقّدة. فلم تتّضح بعد التنازلات التي تكون إيران مستعدّة لها حالياً أو قادرة على تقديمها. ومن شأن العودة إلى قيود خطة العمل الشاملة المشتركة على تخصيب اليورانيوم أن تمنع إيران فعليّاً من استغلال لعبة العتبة النووية، لذا من المرجّح أن تصطدم هذه الخطوة بمعارضةٍ كبيرة في طهران.
علاوة على ذلك، ما زال الغموض يلّف نوع الاتفاقات الإقليميّة التي قد تبدّد مخاوف إيران الأمنيّة، لا سيّما في ظلّ تعاظم تصوّر طهران للتهديدات القادمة من إسرائيل، والتي تفاقمها حدود قدرة الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، أو استعدادها للتأثير في حرب إسرائيل على غزة والمنطقة الأوسع. لقد أدّى التصعيد الأخير بين إيران وإسرائيل الذي شهد تبادلاً في الضربات المباشرة والمكثّفة، إلى تأجيج خطر استهدافٍ إسرائيلي للبنى التحتيّة الإيرانيّة. ورغم أنّ هجوم 26 أكتوبر 2024 اقتصر على المواقع العسكرية، إلّا أنّ الاستهداف الإستراتيجي لأنظمة الدفاع الجوّي والرادارات يوحي بأنّه قد يمهّد لهجمات أوسع على البنى التحتيّة النوويّة الإيرانيّة. ومن شأن ذلك أن يُغيّر حسابات إيران النووية إلى الأبد ويمنحها الذريعة اللازمة لاتّخاذ الخطوة الأخيرة باتّجاه تطوير سلاح نووي.
منذ بداية الأزمة النوويّة الإيرانيّة في العام 2003، لطالما شدّد المسؤولون الإيرانيون الرفيعو المستوى على الدوافع السلميّة لبرنامج إيران النووي ونكروا وجود أي نيّة لتطوير أسلحة نوويّة. ويبقى هذا الموقف الرسمي ثابتاً ويُؤكَّد عليه مراراً وتكراراً. ولكن يبرز تغيير مطّرد وملحوظ في الخطاب خارج سرديّة الدولة الرسمية. ويبدو أنّ هذا التحوّل الذي تناقلته وسائل الإعلام الرسميّة وشخصيّات سياسيّة بارزة على نطاقٍ واسع يسعى إلى تحضير الرأي العام لتغيير محتمل في عقيدة إيران النوويّة. ويعتمد حدوث هذا التحوّل على عوامل مختلفة، لا سيما تصوّر إيران للتهديد ونتيجة الانخراط الدبلوماسي بين طهران والغرب.
في هذا السياق، تُشكّل الانتخابات الرئاسية الأمريكية والتغيّر في الإدارة عاملاً حاسماً. قد يؤدّي فوز دونالد ترامب في الانتخابات إلى تصعيد التوتّرات مع إيران، نظراً لتاريخه في ما يتعلّق بمقاربة “الضغط الأقصى” تجاه طهران، وربما تسريع خطواتها نحو التسلّح النووي. من جهة، قد يقول البعض في إيران إنّه لا بدّ من تبدأ طهران في تسليح برنامجها النووي بالفعل، حتى قبل أن يتولّى ترامب منصبه رسمياّ، وذلك لتعزيز موقفها ضد الإدارة الأمريكية المقبلة. من جهة أخرى، قد يعزّز دعم ترامب القوي لإسرائيل – وخاصة لحكومة نتنياهو – موقف إسرائيل في مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية. وقد يشكّل ذلك المحفّز النهائي الذي يثبت عزم طهران على تطوير سلاح نووي.