صعود الجهات المسلّحة غير الحكومية
يهدّد انتشارُ الجهات المسلّحة غير الحكومية والعجزُ عن احتواء سلوكها الضار أو إدماجها في هيكليات الحكم والمساءلة استقرارَ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على المدى البعيد. وتؤدّي هذه الجهات دوراً محورياً في انعدام الاستقرار السياسي والصراعات المستمرّة داخل الدول، وعلى الأرجح أنّها ستتعايش مع مؤسسات الحكم النظامية على مدى العقود القادمة.
العمل من خلال استراتيجيات محليّة
تعمل الاستراتيجياتُ المتعلّقة بإصلاح القطاع الأمني عادةً من خلال مؤسسات الدولة، إلّا أنّ هذه المؤسسات قد تفتقر إلى الشرعية أو قد تكون معطّلة وغير موجودة. ومن المرجّح أكثر أن تحقّق الاستراتيجياتُ المتعلّقة بإصلاح القطاع الأمني أهدافها إذا تكيّفت مع الواقع المحلّي حيث حلّت الجهات المسلّحة غير الحكومية مكان السلطات التقليدية وباتت توفّر الخدمات والأمن للسكان.
التركيز على تحقيق التوافق والتخفيف من حدّة الصراعات
لن تكون عملية إصلاح القطاع الأمني فعّالة ومجدية إلّا إذا تمّ التوصّل إلى تسويةٍ سياسية، ولا يجب القيام بها في خضم الصراعات. ومن شأن تركيز الجهود والموارد على التخفيف من حدّة الصراعات وعلى تحقيق المصالحة أن يؤدي إلى إرساء القواعد التأسيسية لإصلاح القطاع الأمني.
العمل على التوصّل إلى تسوية سياسية
يمكن أن يُساعد التركيزُ على تحقيق توافق والتوصّل إلى تسويةٍ سياسية قبل الشروع في عملية إصلاح القطاع الأمني في تحديد الخطوط الحُمر المحتملة وفي تطوير الإجراءات التي من شأنها أن تحدّ من الآثار الجانبية للصراعات، بما فيها الأوضاع التي سادت قبل الحروب، التي غالباً ما تقوّض استراتيجيات إصلاح القطاع الأمني في فترة ما بعد الصراع.
لقد خضع سكّان البلدان التي تعصف بها الصراعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لعملية تحوّلٍ جذري في هيكليات الحكم. وفي بلدان مثل العراق وسوريا وليبيا، تُهيمن على هذه الهيكليات بشكلٍ متزايد الجهاتُ غير التقليدية التي تقدّم الخدمات الأمنية، على غرار الميليشيات والمجموعات شبه العسكرية التابعة للدولة، مما يُعقّد تحقيق الحوكمة الرشيدة وعملية إصلاح القطاع الأمني. وغالباً ما يقود هذه العمليات وينفّذها لاعبون خارجيون بالشراكة مع المجتمعات وأصحاب القرار المحليين. ويهدف إصلاح القطاع الأمني إلى تسريح عناصر المجموعات المسلّحة وإدماجهم في هيكليات الدولة النظامية، بما فيها الجيش والشرطة. غير أنّ السلطةَ التي تُمارسها المجموعاتُ المسلّحة خارج المؤسسات النظامية متجذّرةٌ بعمق بين المواطنين في بلدان ترزح تحت الصراعات مثل العراق وسوريا وليبيا، لا بل تتمتّع هذه المجموعات في بعض الحالات بشرعيةٍ وبمصادقيةٍ أكثر من المؤسسات الشرعية.
تبحث هذه الورقةُ في ما إذا كانت إستراتيجياتُ إصلاح القطاع الأمني والحوكمة الرشيدة مناسبة للتعامل مع المجموعات المسلّحة التي إمّا حلّت محل الدولة وإمّا تتعايش معها، وما إذا كان ينبغي إدماجها في هيكليات الحكم النظامية. كما تدرس كيفية استيعاب هذه الاستراتيجيات للتحوّل الذي يطرأ على الحرب في المنطقة حيث برز ميلٌ واضح لتفضيل اللجوء إلى الحروب بالوكالة على استخدام القوى والوسائل العسكرية التقليدية. بالإضافة إلى ذلك، تنظر الورقة في انعكاسات إصلاح القطاع الأمني على المجتمعات التي تشهد مرحلةٍ انتقالية في فترة ما بعد الصراع. تكمن الحجةُ الرئيسية في أنّ هذه الدينامييات تجعل المقاربات التقليدية لإصلاح القطاع الأمني التي ترتكز على الدولة ومؤسساتها والطبقة الحاكمة التقليدية لا تتلاءم مع البيئات السياسية وبيئات الصراع القائمة في ظل نظامٍ أمني هجين حيث تُعتبَر مؤسسات الدولة ضعيفة للغاية أو معطّلة.
يُجسّد إصلاح القطاع الأمني في جوهره عمليةً متعدّدة المستويات تركّز على تعزيز المساءلة واحترام حقوق الإنسان وحكم القانون.1 وتركّز هذه العملية بشكل رئيسي على إعادة تأهيل المؤسسات وإعادة إدماج المجموعات المسلّحة من خلال مساعدة المقاتلين على اكتساب المهارات والتدريب لكي يتمكّنوا من البحث عن فرص عمل بديلة خارج القطاع الأمني.
توصي الورقةُ، من خلال النظر في حالات البلدان التي تعصف بها الصراعات مثل العراق وسوريا وليبيا، بأن يُعيد صانعو القرار تحديدَ مفهوم المقاربات المتعلّقة بإصلاح القطاع الأمني وتقييمها بعيداً عن تركيزهم على الدولة، وبأن يأخذوا بعين الاعتبار التفاعل بين المجموعات المسلّحة والمجتمعات المحلّية. وغالباً ما يؤدّي إصلاحُ القطاع الأمني إلى تأجيج الصراع عوضاً عن تخفيف حدّته. ويمكن الاستفادة من عدة أمثلة في المنطقة لتسليط الضوء على كيفية مساهمة إصلاح القطاع الأمني في إحداث خللٍ يُعزّز المظالم المتجذّرة بعمق. وتوصي الورقة بإدارة الأنظمة الأمنية الهجينة وتنظيمها، عوضاً عن تحدّي المعايير والممارسات المحلية الراسخة.
عندما استولى تنظيمُ الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على شمال العراق وشرق سوريا في العام 2014، جاء الرد الأشرس من عدة جهات مسلّحة غير حكومية التي مكّنها لاحقاً المجتمع الدولي والائتلاف الدولي لهزيمة داعش بقيادة الولايات المتحدة.2 فقدّمت الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية لمواجهة الأزمة دعماً كبيراً لهذه الجهات، بشكلٍ مباشر
من خلال تزويدها بالأسلحة والأموال، أو بشكلٍ غير مباشر من خلال مؤسسات الدولة. وتضمّنت المبادراتُ برامج تدريب وتجهيز رامية إلى حشد هذه الجهات المسلّحة في وجه التهديد الداهم الذي شكّلته داعش،3 بالإضافة إلى قيام الولايات المتحدة بتأمين تغطيةٍ جوية لبعضٍ من هذه المجموعات.4
أدّى ضعف الدول والاضطرابات التي شهدها عددٌ كبير من بلدان المنطقة للمرة الأولى في تاريخها إلى خلق بيئةٍ مؤاتية لتمكين المجموعات المسلّحة وانتشارها. وقد اضطلعت كلّ هذه المجموعات، من مقاتلين ميليشياويين وقبائل وانشقاقيين ومجاهدين، بدورٍ مركزيّ في الصراعات داخل الدول والحروب بالوكالة، أو حتى سمحت بحدوثها، وأعادت كذلك تشكيل الأنظمة السياسية المحليّة من خلال نيل مقاعد نيابية والسيطرة على الوزارات.5
ووصلت الأمر بمجموعاتٍ أخرى إلى تغيير حدود الشرق الأوسط الإقليمية، وتجلّى ذلك عندما استولت داعش على الموصل في العام 2014، وبدرجةٍ أقل مع نشوء منطقة كردية تتمتّع بالحكم الذاتي في شمال شرق سوريا.6
ويصل عددُ المجموعات المسلحة مجتمعةً إلى المئات وعدد المقاتلين في صفوفها إلى مئات الآلاف. وتأوي سوريا بمفردها أعداداً كبيرة من المجموعات المسلّحة المستقلة. فهناك ما بين 50 ألف و70 ألف ميليشيا متحالفة مع النظام السوري، وما بين 10 آلاف و35 ألف مقاتل إيراني بالوكالة، وعلى الأقل 6 آلاف مقاتل متحالف مع تركيا في شمال غرب البلاد. ويضمّ حزب الله حوالي 10 آلاف مقاتل، بينما يتراوح عدد المقاتلين في وحدات حماية الشعب بين 10 آلاف و15 ألف مقاتل.7 والأمر سيّان في العراق واليمن وليبيا.8
لقد حوّل ظهورُ هذه المجموعات وتعبئتُها مشهدَ الصراع في الشرق الأوسط، حيث كانت المجموعاتُ المسلّحة موجودة منذ فترةٍ طويلة ولكنها لم تشهد من قبل صعوداً مماثلاً. وتجلّى ذلك في هيمنتها أو مشاركتها في الهيمنة على مؤسسات الدولة، وسيطرتها على شبه الدول بحكم الأمر الواقع (مثل داعش في العراق وسوريا، ووحدات حماية الشعب في سوريا)، ناهيك عن استيلائها على مساحات شاسعة من الأراضي. تستغل المجموعاتُ المسلّحة وجود ثغرةٍ قانونية ودستورية وسياسية للقيام بعملياتها حيث تعمل وتتعايش مع الجهات الحكومية النظامية (مثل الجيش والشرطة وقوات مقاومة الإرهاب)، أو تندمج بشكلٍ نظامي في إطار هذه المؤسسات من دون الخضوع لسلطة الدولة.9
ويظهر ذلك جلياً في العلاقة المعقّدة والمتناقضة بين المجموعات المسلّحة والجهات الفاعلة المحليّة والخارجية على حدّ سواء. وقد عملت الحكومات الغربية في العراق مع القوات المسلّحة ووحدات الشرطة العراقية، ومع المقاتلين الشيعة من الحشد الشعبي وقوات البيشمركة الكردية.10 وقد دعم الغربُ مجموعات المعارضة العربية المقاتلة ضد نظام الأسد في سوريا واعتمد عليها وساند أيضاً وحدات حماية الشعب التي ترفض مقاتلة النظام.11
لقد تحاربت هذه المجموعات في ما بينها في مرحلةٍ من المراحل. وفي حين دعمت الدول الأوروبية الميليشيات المتخاصمة في ليبيا، ساندت إيطاليا ومعظم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حكومةَ الوفاق الوطني القائمة في طرابلس، بينما دعمت فرنسا الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر.12 ما يزيد من تفاقم المشكلة هو أنّ الدول التي كانت تحمي مصالحها الأمنية القومية من خلال القوات النظامية باتت تعتمد الآن على الوكلاء. فقد قامت تركيا على وجه الخصوص بإنشاء مجموعات بالوكالة وحشدها في الصراعات في سوريا وفي ليبيا.13
لا ينبغي التقليل من أهمية الظروف الإنسانية المزرية التي تعمل فيها الجهات التي توفّر الأمن. فقد تسبّبت الحرب في سوريا بنزوح أكثر من 12 مليون شخص، وبحسب التقديرات الرسمية، قُتل ما لا يقل عن 300 ألف شخص، أي ما يُعادل 1,5 في المئة من سكان سوريا ما قبل الحرب- وقد يكون هذا الرقم أعلى بكثير.14 ويحتاج 13,5 مليون شخص في سوريا إلى المساعدات الإنسانية مقابل 21 مليون في اليمن و2,4 مليون في ليبيا.15 وتتجلّى إحدى تداعيات الأزمة الإنسانية في أنّ المجتمعات قد تعاني ضيقاً في المعيشة على المدى الطويل، الأمر الذي يقوّض الاستقرار والجهود الآيلة إلى تفادي الانزلاق مجدداً في الصراع في ظل أزمةٍ اقتصادية عالمية والتحديات المناخية.16 وتُشير الدراسات إلى أنّ تغيّر المناخ سيؤجج الصراعات ويساهم في اندلاعها، بحيث أنّ ظروف متعلّقة بتغيّر المناخ ستسبّب اشتباكاً من أصل أربعة داخل الدول.17
في المقابل، بينما يرزح الملايين تحت وطأة ظروف إنسانية صعبة، يعزّز الدعمُ الدولي لمجموعات مثل الحشد الشعبي أو وحدات حماية الشعب في فترة الصراعات شرعيتَها محلّياً والاعتراف الدولي بها إلى حدٍ بعيد.18 ولا تزال انعكاسات ذلك قائمة: فقد بنى الحشد الشعبي على هذا الدعم وتمكّن مقاتلوه الذين حققوا بطولات في ساحات المعارك من فرض حضورهم في البرلمان العراقي بعد نيلهم المرتبة الثانية في مشاركتهم الأولى في الانتخابات البرلمانية في العام 19.2018 فاكتسب بذلك شرعيةً دستورية بعد سنتين فقط على تأسيسه في العام 2014 لمحاربة داعش، إلّا أنّه يقاوم رقابةَ الدولة والسلطات المدنية.20 وقد أحكمت أيضاً وحدات حماية الشعب قبضتها على شمال شرق سوريا، مما ولّد حالةً من انعدام الاستقرار السياسي وعقّد علاقات الغرب مع تركيا، فقوّض حملةَ القضاء على داعش.21
بالتالي، يخضع إصلاحُ القطاع الأمني لضغوط هائلة في أماكن الصراع وضمن المجتمعات التي تشهد مرحلةً انتقالية في المنطقة.22 في الواقع، يقوم إصلاح القطاع الأمني على إعادة تأهيل المؤسسات وإعادة إدماج المجموعات المسلّحة ومساعدة المقاتلين على اكتساب المهارات والتدريب لكي يتمكّنوا من البحث عن فرص عمل بديلة خارج القطاع الأمني.23
إلّا أنّ تزايد هذه المجموعات المسلّحة والأنظمة الأمنية الهجينة التي نتجت عنها أدّى بشكلٍ مباشر إلى تغيير كيفية حصول السكان على الخدمات والأمن. وتتعايش هذه الجهات مع السلطات التقليدية أو تحلّ مكانها، وبالتالي فهي تُكمِّل الخدمات التي قد تكون الدولة قد قدّمتها سابقاً أو تُلغيها.
وبهدف تسليط الضوء على مدى سيطرة هذه الجهات على الحكم، فإن المجالس المدنية في إدلب هي التي تؤمّن خدمات الرعاية الاجتماعية في المدن والقرى، بالإضافة إلى خدمات الإغاثة في حالات الطوارئ والخدمات البلدية (مثل إزالة النفايات وإمدادات المياه).24 أمّا في شمال شرق سوريا، فإنّ وحدات حماية الشعب تسيطر على المجالس التشريعية والقضائية والتنفيذية وتُشرف عليها.25 وفي جنوب العراق، بادر الحشد الشعبي إلى تعبئة عناصره لمواجهة جائحة فيروس كورونا المستجدّ من خلال تأمين الدعم الطبّي للمرضى وبناء مستشفيات متنقّلة وتقديم خدمات الدفن وتوزيع المواد الغذائية.26 أمّا في شمال العراق، فيتوسّط زعماء العشائر لحلّ الخلافات بين عناصر داعش السابقين أو الداعمين للتنظيم والمجتمع المحلّي للحوؤل دون وقوع هجمات انتقامية، كما أنّهم يديرون العدالة غير النظامية على نطاق واسع بالإضافة إلى الخلاقات المتوسطة بالتنسيق مع النظام القضائي الرسمي.27
يواجه المسؤولون السياسيون قرارات صعبة في الأنظمة الأمنية الهجينة، إذ يحظى اللاعبون الخارجيون، بما فيهم الحكومات والجهات المانحة والمنظمات الإنمائية المنخرطة في بناء المؤسسات، بالقدرة على إشعال الصراعات. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تؤدّي إعادة تأهيل الجيش إلى إحياء مظالم قديمة حيال مؤسسةٍ قد يكون تاريخها حافلاً بالقمع. من باب المثال أيضاً، تكره الميليشياتُ الشيعية العراقية، التي انبثقت عن الحركات الاجتماعية السياسية أو الاجتماعية الدينية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الفائت، المؤسسةَ العسكرية بسبب تواطئها في انتهاكات حقوق الإنسان على نطاقٍ واسع، بما فيها الأعمال الوحشية الممنهجة التي ارتُكبت بحق المجموعات الشيعية.28 على نحو مماثل، لا يزال مستقبل قوات البيشمركة الكردية السياسي في إقليم كوردستان أو وحدات حماية الشعب في سوريا متأثِّراً بالقمع الذي مارسه نظام البعث في سوريا والعراق، بما في ذلك الإبادة الجماعية ضد الأكراد العراقيين في التسعينيات من القرن المنصرم.29 أمّا في ليبيا، فإنّ رفضَ الاندماج الكلي في صفوف قوةٍ وطنية يندرج في إطار الجهود الرامية إلى المحافظة على الهيمنة السياسية في مرحلة ما بعد الصراع، ومحاولةً للحؤول دون إحياء جيشٍ وطني يمكن أن تديره أو تستغله الطبقةُ السياسية أو خصومها.30 بعبارة أخرى، يمكن أن يتحوّل إصلاحُ القطاع الأمني إلى هزيمةٍ ذاتية نتيجةً الأوضاع التي سادت قبل الحرب.
يهدف إصلاحُ القطاع الأمني إلى إقناع المجموعات المسلّحة بتسليم السلاح للسلطات المدنية والاندماج في الدولة أو تشجيع عناصرها على اكتساب مهارات بديلة وإيجاد فرص عمل، لكنه لا يأخذ في الحسبان البيئة الاجتماعية- الاقتصادية والاقتصاد السياسي للحرب. في الواقع، تتألّف المجموعات المسلّحة في معظم الحالات من مقاتلين شباب تستقطبهم الهيبة والمكانة وسبل كسب العيش التي تقدّمها لهم هذه المجموعاتُ المسلّحة.31 ويؤدّي انخراط لاعبين خارجيين وتدفّق الموارد إلى خلق اقتصادٍ سياسي يُمَكِّن زعماء الميليشيات وأمراء الحرب والمنظمات الإجرامية من ملء الفراغ الذي يخلّفه اضمحلال الدولة أو انحدارها. ويتجلى ذلك في إجراء مقارنةٍ بين عناصر الجيش السوري والميليشيات المدعومة من إيران. ويدفع الجيش السوري في دير الزور معاشاً بقيمة 7,5 دولار أمريكي، بينما يتقاضى عناصر الميليشيات المدعومة من إيران ضعف هذه القيمة.32 وفيما يُداوم مقاتلو الميليشيات بالتناوب 15 يوماً في الخدمة و15 يوماً خارج الخدمة، غالباً ما يُرسَل الجيش السوري الجنود بعيداً عن ديارهم لفترة شهرين متتاليين على الأقل ويحقّ لهم بإجازة لزيارة عائلاتهم لا تتخطى 5 أيام.33 كما يحمل عناصر الميليشيات بطاقات هوية تُخوّلهم الحصول على سلّة غذائية شهرية وتحميهم من التوقيف والاستجواب على يد الجيش السوري وتُقدَّم لهم رحلات جوية مجانية إلى دمشق.34
لعلّ سوء الإدارة والتنظيم في دعم السلطات الوطنية التي تُسيطر عليها الميليشيات لا يساعد على حلّ المشكلة. فقد استثمر الاتحادُ الأوروبي ملايين اليوروهات لمعالجة أزمة اللاجئين في ليبيا منذ العام 2019، إلّا أنّ هذه الأموال تمّ تحويلها لصالح شبكات من المجموعات تضمّ متاجرين بالبشر وعناصر ميليشيات وأفراد خفر السواحل الذين يستغلون المهاجرين.35
ومن المعروف أنّ الميليشيات عموماً قادرة على شنّ غارات على البنى التحتية مثل الطرقات والمستشفيات وإمدادات الطاقة والشبكات المصرفية والمرافئ والحواجز، أو استغلال هذه البنى لمصالحها. يُسيطر الحشد الشعبي وسرايا السلام على اقتصادات العراق غير الشرعية، بما فيها تهريب النفط والمخدرات والصناعات المتعلقة بالبناء والخدمات وتجارة المعادن الخردة.36 ويُسهّل ذلك تشاطر العراق أكثر من 24 حدوداً ومعابر برية وبحرية مع البلدان المجاورة، تُسيطر عليها الميلشيات أو لديها نفوذ فيها. وقد أدرّ الفسادُ المستشري عند هذه المعابر الحدودية بأكثر من 10 مليار دولار من الإيرادات لصالح الميليشيات وشركائها.37 يمكن القول إنّ معالجة الاقتصاد السياسي للصراع تتطلّب موافقة جهات فاعلة متعدّدة، إذ تُعتبَر الديناميكيات السياسية والاقتصادية شبكات معقّدة من العلاقات بين الأفراد وبين المنظمات ولا تُشكِّل الميليشيات سوى جزء منها، بما أنّها تشمل أيضاً تواطؤ النخب السياسية والقبائل والعشائر.38
تُدير عمليات إصلاح القطاع الأمني جهاتٌ لا تَعتبرها المجموعاتُ المسلّحة أطرافاً ثالثة محايدة. فمن وجهة نظر زعيم ميليشيا، لا تختلف عمليةُ بناء المؤسسات التي يقودها أو يسيطر عليها الغرب، عن قوة عسكرية غربية أو عن جهة سياسية لها يد في الأزمة والاضطراب العنيف الذي يشهدة مجتمع معيّن يمرّ بمرحلةً انتقالية. فينبغي على إصلاح القطاع الأمني وضع العربة أمام الحصان بهدف مواجهة التحديات الناجمة عن الأنظمة الأمنية الهجينة، لا سيما أنّ إعادة تكوين الهيكليات الأمنية قد تؤدّي إلى صراعٍ تتمتّع فيه الجهات المقدّمة للخدمات الأمنية بشرعيةٍ أكثر مما تتصوّره الجهاتُ الخارجية، لا بل باحترامٍ أكبر من الذي تحظى به النخب السياسية في بعض الحالات.
وينبغي على صانعي القرار إقامة حوارٍ شامل قبل الشروع في إصلاح القطاع الأمني من خلال محاولة التوصّل إلى توافق في صفوف الطبقة السياسية والميليشيات، بما أنّ أي طرف قادر على نسف هذه العملية أو الانقلاب عليها أو على الأقل تقويض جدواها. وقد يشكّل ذلك تمريناً لتحديد الخطوط الحُمر المحتملة والنظر في الإجراءات التي من شأنها تخفيف حدّة الآثار الجانبية للصراع، بما فيها الأوضاع السائدة قبل الحرب. في أعقاب الإطاحة بمعمر القذافي في ليبيا على سبيل المثال، سارعت الجهات المحلية والدولية إلى الشروع في عملية إصلاح القطاع الأمني في موازاة صياغة الدستور والجهود الرامية إلى إجراء انتخابات. ترتكز هذه الورقة على فرضية رئيسية مفادها أنّ هذه العمليات فشلت في أن تكون شاملة وجامعة وأدّت في المقابل إلى تفاقم المظالم وإلى تمكين الميليشيات من استحداث وقائع على الأرض تنسف عمليات الإصلاح الوطنية على نطاقٍ أوسع. وبالتالي، استعجلت الميليشيات المتخاصمة لإجراء الانتخابات البلدية بينما كانت السلطات المركزية منهمكة بإجراء الانتخابات الوطنية لإتمام عملية الانتقال إلى حقبة ما بعد القذافي.39 يتطلّب ذلك حواراً ومصالحة كشرطٍ مسبق لإصلاح القطاع الأمني ولاستراتيجيات إدارة حقبة ما بعد الصراع على نطاقٍ أوسع، خلافاً للمقاربة التقليدية التي تعتبر المصالحة أحد مكوّنات عمليات الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع.
تمّ تجاهل المظالم المتجذّرة بعمق وإهمالها أو تأجيلها في العراق ما بعد الغزو عام 2003 كما جرى في ليبيا. وسارعت أحزاب المعارضة العراقية والولايات المتحدة، بدعمٍ ومساندة من الأمم المتحدة، إلى صياغة الدستور وإجراء الانتخابات في فترة ما بعد غزو 2003 قبل عملية تحقيق الاستقرار والمصالحة التي توصي بها هذه الورقة. فعلى غرار ليبيا، أدى ذلك من وجهة نظر طرفٍ واحد (السنّة العرب) إلى شرعنة مجموعة واحدة من الأحزاب السياسية (الأكراد والشيعة العرب على وجه الخصوص) وتمكينها.40 وقد هيّأ ذلك الظروف التي أدّت إلى التمرّد السنّي.
ويمكن التعلّم من الحالة العراقية أيضاً بما أنّ الترتيبات لتقاسم السلطة كانت قائمة ومكرّسة بعد إقرار الدستور، إلّا أنّ السنّة العرب قاطعوا عملية التصويت:41 ما كان يُمكن أن يتجلّى في المقابل هو مقاربة تدريجية لبناء التوافق وإصلاح القطاع الأمني. بإمكان حوارٌ مماثل، بصفته قاعدة تأسيسية بحد ذاتها، أن يجعل عملية إصلاح القطاع الأمني تتماشى مع الصراع والمشهد السياسي، ويُقلّل من احتمال معاودة الصراع من خلال ترسيخ الثقة وتبديد الخوف من التهميش وإرساء قنوات للتواصل بين مختلف الفصائل السياسية والعقائدية ومراكز السلطة القديمة والجديدة والقبائل والمناطق.
ستنشأ مخاوف إزاء الصعوبات العملية والتداعيات القانونية الناجمة عن العمل مع الجهات المسلّحة غير الحكومية المتورّطة في فظائع إنسانية، لا سيما إذا كان ذلك يؤمّن لها الموارد والاعتراف. غير أنّ إشراك هذه الأطراف في المفاوضات يمهّد الطريق أمام حوارٍ قد يُساهم في تمكين الجهات المعتدلة وفي مواجهة بصورةٍ مباشرة سلوك المجموعات المتطرّفة المؤذي والإجرامي. وقد يعتبر البعض أنّ إشراك المجموعات المسلّحة في مفاوضات سلام رسمية برعاية الحكومات وأطراف متعدّدة سيُعزّز شرعيتها ويُعقّد المشكلة، ولكن لا يمكن العودة إلى الوراء. صحيحٌ أنّ المجموعات المسلّحة الأقوى في المنطقة –مثل الحوثيين في اليمن وهيئة تحرير الشام أو وحدات حماية الشعب في سوريا والحشد الشعبي في العراق- قد لا تعجب الأطراف الخارجية، مثل الولايات المتحدة وأوروبا أو تركيا وإيران، بيد أنّها سبق أن فرضت نفوذها محلياً وعلى المستوى الوطني وحظيت باعترافٍ عالمي، وبالتالي ليست هذه المخاوف في محلّها.
لقد تمّت معالجة هشاشة الدولة بشكلٍ عام من خلال العمل عبر مؤسسات الدولة. بالتالي، من شأن وضع إستراتيجيات محلية وليس وطنية أن يولّد فرصاً محتملة للتخفيف من حدّة الصراعات في ظل ضعف المؤسسات التي فَقَدَت شرعيتَها. وينبغي تصوّرها على أنّها مجالات للتعايش المتبادل بين الجهات المسلّحة غير الحكومية المتجذّرة والطبقة الحاكمة التقليدية والمجتمع الأوسع، التي تعمل خارج إطار الدولة وداخله. سيساعد ذلك على الأقل في تطوير الوسائل والآليات للتعاطي بصورةٍ فردية مع المعالم المتشعّبة التي تضم الأنظمة الأمنية الهجينة. ومن شأنه أن يساهم في التأقلم مع الواقع حيث تقوم مجموعة من أطراف مختلفة بهيكلة الأمن والحوكمة وقيادتهما والسيطرة عليهما في البلدان التي تمر بمرحلة ما بعد الصراع.