لطالما رسمت مصالح القوى العالميّة الكبرى معالم المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط. على مرّ العصور، هيمنت القوى الغربيّة، وخصوصاً الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبيّة، على الأُطر الدفاعيّة والبنية الأمنيّة في المنطقة. إلّا أنّ هذه الديناميّة شهدت تحوّلاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، مع بروز الدول الآسيوية كجهات مُساهِمة في أمن الشرق الأوسط وإطاره الدفاعي.
وقد شهد التعاون الدفاعي بين آسيا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تطوّرات كبيرة على مدى العامَين المنصرمَين. ووسّعت الهند في ظلّ سياسة “التوجّه غرباً” تعاونها الثنائي في مجال الدفاع البحري مع عددٍ من دول مجلس التعاون الخليجي. وفي إشارةٍ إلى تنامي تعاونها الثلاثي، اختتمت الهند والإمارات العربيّة المتّحدة وفرنسا أولى مناوراتها البحريّة المشتركة في العام 2023. وتستضيف الإمارات “وحدة الأخ”، وهي الوحدة العسكريّة الوحيدة التي تنشرها كوريا الجنوبية في الخارج إلى جانب بعثاتها لحفظ السلام. أمّا في شمال أفريقيا، فقد أجرت الصين مناورات عسكريّة مشتركة في البحر الأبيض المتوسّط وتبقى شريكاً دفاعياً رئيسيّاً لدول مثل مصر والجزائر، رغم أنّ حصّتها من واردات الأسلحة الرئيسيّة والتقليديّة إلى شمال أفريقيا كمنطقة انخفضت بنسبة 81 في المئة من نسبة 13 في المئة من مجموع الواردات بين عامي 2014 و2018 إلى 7,2 في المئة بين عامي 2019 و2023 وفقاً لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
ويمكن أن يُعزى توسّع دور آسيا الأمني في الشرق الأوسط في المقام الأوّل إلى تعزيز الروابط الاقتصادية بين المنطقتَين، لا سيّما استثمارات مبادرة الحزام والطريق الصينيّة في شتّى أنحاء الشرق الأوسط التي عزّزت مصالح بكين في أمن المنطقة. ومهّد اعتماد اليابان على إمدادات الطاقة من منطقة الخليج الطريق إلى تعزيز التعاون الدفاعي. وأجرت اليابان في العام الماضي حوارات عسكريّة أوّلية مع كل من عُمان وقطر.
وقد أصبح الشرق الأوسط أيضاً سوقاً رئيسياً للأسلحة الآسيويّة. في خلال العقد الماضي فقط، ازدادت صادرات الصين من الأسلحة إلى المنطقة بنسبة 80 في المئة، رغم أنّ حصّة الصين من واردات الأسلحة الرئيسيّة في الشرق الأوسط لم تكن تبلغ سوى 0,5 في المئة بين العامين 2019 و2023، بحسب بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. وتضطلّع كوريا الجنوبيّة بدور يزداد أهميّة في أسواق المنطقة الدفاعيّة في ظلّ إبرام صفقات مختلفة للأسلحة بملايين الدولارات مع الإمارات العربيّة المتّحدة والمملكة العربيّة السعوديّة ومصر في العام 2022 فقط.
تحمل ديناميّات السلطة العالميّة المتغيّرة والمصالح المتنامية للدول الآسيويّة في الشرق الأوسط في طيّاتها تحديّات وفرصاً جديدة أمام الأمن الإقليمي والعالمي. فما الذي يُحفّز زيادة التعاون الدفاعي بين آسيا والشرق الأوسط؟ وكيف سيؤثّر تصاعد التوتّرات الجيوسياسيّة في شتّى أنحاء الشرق الأوسط في العلاقات الأمنيّة؟ وما هي معوّقات التعاون الدفاعي بين آسيا والشرق الأوسط؟ على خلفيّة تراجع الوجود الأمني الأمريكي الذي يلوح في أفق الشرق الأوسط، كيف تساهم أو يمكن أن تساهم القوى الآسيوية في إعادة رسم معالم البنية الأمنيّة في المنطقة؟ وكيف يمكن أن تُعزّز القوى الآسيوية دورها في المشهد الأمني في الشرق الأوسط؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، نظّم مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدوليّة بالتعاون مع معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام ورشة عمل على مدى يومين في 8 و9 سبتمبر 2024 شارك فيها عددٌ من الخبراء لتحليل هذه الديناميّات وتشجيع الحوار حول تعزيز الشراكات الأمنيّة والدفاعيّة بين دول آسيا والشرق الأوسط. وساهمت هذه الورشة في تعميق فهم هذا المشهد الجيوسياسي الناشئ من خلال مناقشات بنّاءة ورؤى إستراتيجيّة.
وأتاحت الفرصة أمام الخبراء المدعوّين لتبادل الأفكار البحثيّة بشكلٍ علني. ودرست ورشة العمل على مدى يومين أربعة قوى آسيوية كبرى، ألا وهي الصين والهند وكوريا الجنوبيّة واليابان، وحلّلت عن كثب بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام بشأن الاتجاهات الدفاعيّة في المنطقة. وعقدت جلسة استشرافية حول الاتّجاهات والمسارات المستقبليّة في مجال الأمن والدفاع الإقليميين. ورشة العمل هذه التي آقيمت في الدوحة هي النسخة الثانية للورشة التي انعقدت في ستوكهولم، السويد، في ديسمبر 2023 تحت عنوان: “منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا: الجغرافيا السياسيّة والطاقة والأمن“. وقد ركّزت على ثلاثة مواضيع عريضة: الجغرافيا السياسيّة والاقتصاد والديناميّات الإقليميّة؛ بالإضافة إلى الهيدروكربونات وتحوّلات الطاقة والمخاطر البيئيّة؛ والدفاع والتكنولوجيا.