تُلقي تداعيات الهجوم الذي شنّته إسرائيل على إيران في يونيو الفائت بظلالها على المشهد المعقّد لاقتصادات دول الخليج. فعلى الصعيد العالمي، كانت القضية الأكثر إلحاحاً هي التهديد بإغلاق مضيق هرمز، وهو الشريان البحري الذي تدفّقت عبره نحو 33 في المئة من صادرات النفط العالميّة في العام 2024 (الرسم البياني 1).1 ومع ذلك، وعلى الرغم من حجم المخاطر، جاءت ردود فعل الأسواق على الهجوم معتدلة. فبعدما ارتفعت أسعار النفط بنسبة 17 في المئة لتصل إلى 80 دولاراً للبرميل في أوج الصراع، سرعان ما تراجعت إلى مستوياتها ما قبل الحرب فور الإعلان عن وقف إطلاق النار (الرسم البياني 2).2 وحتّى داخل دول مجلس التعاون الخليجي، بدت الأسواق هادئة نسبياً إزاء الحرب (الرسم البياني 3).3 وعلاوة على ذلك، لم يُسجَّل أيّ تراجعٌ يُذكر في حركة الملاحة البحريّة عبر المضيق طوال فترة الحرب (الرسم البياني 4).4 قد يُعزى سبب هذا الهدوء النسبي إلى التوقّعات بأنّ أطراف الحرب كافة ترغب في تجنّب إغلاق المضيق بأيّ ثمن.
الرسم البياني 1: صادرات النفط لكل دولة، 2024
الرسم البياني 2: سعر نفط خام برنت منذ بداية العام 2025 حتى تاريخه (دولار أمريكي للبرميل)
الرسم البياني 3: مؤشّر “تداول” في المملكة العربية السعودية، منذ بداية العام حتى تاريخه (2025)
الرسم البياني 4: حركة المرور عبر مضيق هرمز، أبريل -يوليو 2025
يتعارض هذا الردّ المعتدل مع الأهميّة البالغة التي يتّسم بها مضيق هرمز، سواء في ما يتعلّق بصادرات دول مجلس التعاون الخليجي من الهيدروكربونات، أو بحركة الشحن غير المرتبط بالطاقة الذي يُشكل جزءاً أساسياً من سائر الاقتصادات الخليجية. إلّا أنّ التهديد يتجاوز احتمال إغلاق هذا المعبر البحري الحيوي. فقد أدّى إغلاق المجال الجوّي وإلغاء الرحلات الجوّية في أواخر فترة الحرب، ولا سيّما الضربة الإيرانية على قاعدة العديد الجوية في قطر، إلى تغييرٍ جذري في سمعة الدول الخليجية كملاذٍ هادئ وآمن، وكمركزٍ للحركة الجوّية العالمية.
في ظلّ هذه الصدمة، لا تحتاج الدول الخليجيّة إلى مراجعة إستراتيجيّاتها الجيوسياسيّة والأمنيّة فحسب، بل سياساتها الاقتصادية أيضاً، ما يستدعي إعادة تقييم العلاقات الاقتصادية العالمية والتعاون الاقتصادي الإقليمي، فضلاً عن تعزيز الاكتفاء الذاتي والمرونة في مجال الاقتصاد. وفي المدى القريب، يتعيّن على دول مجلس التعاون الخليجي تخطّي الخلافات الداخليّة وتنسيق الجهود للحدّ من تداعيات أيّ ضربة عسكرية محتملة على الصناعات المحليّة والمخزونات الإستراتيجيّة والخدمات اللوجستية في المنطقة.
لا بدّ من دراسة الجوانب المختلفة للحرب الإسرائيلية الإيرانية دراسةً منفصلةً، لما لها من آثار متباينة على دول مجلس التعاون الخليجي. أوّلاً، لقد أعاد شبح إغلاق مضيق هرمز إلى الأذهان ذكريات الحرب بين إيران والعراق قبل 40 عاماً. فقد هدّدت إيران آنذاك بإغلاق المضيق ردّاً على دعم الولايات المتّحدة والدول الخليجيَة للعراق. وعلى الرغم من أنّ إيران لم تفرض يوماً حصاراً كاملاً، إلّا إنّها شنّت هجمات على سفن الشحن بهدف إثبات جديّة موقفها،5 ما دفع الدول الخليجيّة إلى بناء بنية تحتية لخطوط أنابيب النفط من أجل الالتفاف على المضيق.6 ومن جهتها، أنشأت المملكة العربية السعودية خط أنابيب النفط الخام “شرق غرب” (المعروف أيضاً باسم “بترولاين”)، الذي يمتلك قدرة ضخّ تصل إلى 5 ملايين برميل يومياً من حقول النفط الرئيسيّة في المنطقة الشرقية إلى البحر الأحمر، بينما أنشأت الإمارات العربية المتّحدة خط أنابيب من حقول النفط في أبوظبي إلى الفجيرة، على الجانب الآخر من المضيق. وقد أُطلقت مؤخّراً حلولٌ متعدّدة للربط بين دول مجلس التعاون الخليجي والبحر الأبيض المتوسط عبر ممرّات بريّة.7
ثانياً، جاء الهجوم المفاجئ الذي شنّته إسرائيل، والذي عطّل المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتّحدة، غداة زيارة الرئيس دونالد ترامب إلى منطقة الخليج في أبريل. واعتُبرت تلك الزيارة انتصاراً دبلوماسياً لدول مجلس التعاون الخليجي،8 إذ اختار ترامب المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتّحدة كأوّل محطة خارجيّة في ولايته الثانية، متجاهلاً إسرائيل. وتُوّجت الجولة بتوقيع عددٍ من مذكّرات التفاهم بشأن استثمارات خليجيّة في الاقتصاد الأمريكي بلغت قيمتها تريليونات الدولارات، ما عزّز الاعتقاد السائد في الدول الخليجية بأنّ تضافر الجهود الدبلوماسية والاقتصادية قادر على شراء النفوذ في دوائر صنع القرار الأمريكيّة. إلّا أنّ الهجوم الإسرائيلي، الذي دعمته الولايات المتّحدة وانضمّت إليه لاحقاً، سرعان ما بدّد هذا الانطباع بعد أقلّ من شهرين، مرسّخاً فكرة أنّ الولايات المتّحدة شريك غير موثوق به، ومشكّكاً في قدرة الدول الخليجية على التأثير في الولايات المتّحدة تأثيراً فعلياً من خلال التطبيع مع إسرائيل ووعود الاستثمار بتريليونات الدولارات.
أخيراً وليس آخراً، جاء الهجوم الايراني على قاعدة العُديد القطرية ليُحدث صدمةً من نوع مختلف تماماً. فعلى عكس التهديد بإغلاق مضيق هرمز، كان هذا هجوماً مباشراً على أراضي دول مجلس التعاون الخليجي، ما بدّد وهم حصانة الدول الخليجية من تبعات الحروب العسكرية. وقد أدّى سحب الولايات المتّحدة قواتها كافة من القاعدة قبل الضربة (ملقيةً مسؤوليّة الدفاع الجوّي على كاهل الجيش القطري) والتنسيق (المرجّح) لهذا الردّ بين الولايات المتّحدة وإيران من دون علم قطر وسائر الدول الخليجيّة، إلى تعزيز الانطباع بأنّ القواعد الأمريكية قد تُشكّل عبئاً أمنياً أكثر منه مكسباً.9 كما سدّد ذلك ضربةً قاسية للثقة المتبادلة التي دأبت دول مجلس التعاون الخليجي وإيران على بنائها على مدى السنوات الأخيرة.
وفي شتّى أنحاء منطقة الخليج، خلّفت الصدمة النفسيّة آثاراً عميقة. فالتقارير عن امتلاء الفنادق المصرية فجأة بمواطنين خليجيين هرباً من الصراع على أمل أن يضع أوزاره عمّا قريب، إلى جانب انتشار مقاطع الفيديو المتداولة على الهواتف الذكية لهجمات الصواريخ على قطر، أعادت إلى ذاكرة الخليجيين مشاهد هجمات الحوثيين بالصواريخ والطائرات المسيّرة على السعودية والإمارات في العام 2019؛ بل وأيقظت في أذهان الأكبر سنّاً صوراً من غزو صدام حسين للكويت وهجمات صواريخ سكود على السعودية والبحرين. كما أنّ إغلاق المجال الجوي حمل أصداء حظر الطيران في خلال جائحة فيروس كوروناّ، فيما تذكّر القطريّون الحصار المؤلم الذي فُرض عليهم في العام 2017 ومحاولة غزو بلادهم. أمّا المواطنون الخليجيّون والمقيمون غير المواطنين والمستثمرون الأجانب، الذين لطالما اعتبروا الدول الخليجيّة جزيرةً آمنة وسط بحر هائج من الأزمات والصراعات، فباتوا اليوم يُعيدون النظر في هذا الانطباع.
مرّ شهر على اندلاع الحرب، ويبدو أنّ وقف إطلاق النار لا يزال صامداً، وقد عادت الأسواق إلى طبيعتها إلى حدّ كبير. بيد أنّ جميع القضايا الأساسية لا تزال عالقة، بل قد لا يمكن حلّها.10 في الواقع، تُصعّد إسرائيل من وتيرة الإبادة في غزة، ماضيةً في مسعاها لشنّ حرب شاملة على إيران، وهو المشروع الذي لطالما دافع عنه رئيس الوزراء نتنياهو علناً على مدى أكثر من ثلاثين عاماً.11 أمّا المحادثات النووية الأمريكية الإيرانية، فقد تعثّرت وانحرفت عن مسارها، وأظهرت الولايات المتّحدة أنّها شريك تفاوضي غير موثوق، في حين منحت الحرب إيران دافعاً كافياً لمضاعفة قدراتها الردعية، وربما حتى النووية. لذا، يصعب تصوّر حلّ سلمي للمأزق الحالي.
وعليه، وعلى الرغم من محدوديّة التداعيات الاقتصادية المباشرة للحرب على الدول الخليجيّة، لا يزال خطر تجدّد الصراع يلوح في الأفق. وقد بدأت الأسواق الماليّة تأخذ هذا الخطر في الحسبان جزئياً، من خلال زيادة أقساط التأمين على الشحن عبر مضيق هرمز على سبيل المثال. غير أنّ المضيق ليس بالمشكلة الوحيدة كما ذُكر آنفاً. حتّى لو لم تتضرّر دول مجلس التعاون الخليجي، فإنّ زعزعة استقرار إيران أو تدميرها لن يصبّ في مصلحتها السياسية أو الاقتصادية. صحيحٌ أنّ احتواء إيران قد أضعف قوّتها الجيوسياسية والاقتصادية. ولكن، على الرغم من أنّ احتواء إيران مرغوب فيه لدى مجلس التعاون الخليجي، فإنّ تدميرها ليس كذلك،12 إذ لا تشكّل إيران ثقلاً موازناً لا يُستهان به في ميزان القوى الإقليمية الهشّ فحسب، بل هي أيضاً شريكٌ اقتصادي مهمّ. وتجدر الاشارة إلى أنّ جزءاً كبيراً من واردات إيران وصادراتها يمرّ عبر دول مجلس التعاون الخليجي، وتحديداً عبر الإمارات العربية المتّحدة؛ ويرى بعض الخبراء أنّ التهرب من العقوبات هو المحرّك الرئيسي لهذه العلاقات التجارية. بمعنى آخر، لا يصبّ احتمال انزلاق إيران إلى مصيرٍ شبيه بمصائر ليبيا أو سوريا أو العراق أو الصومال أو أفغانستان، في مصلحة مجلس التعاون الخليجي، لا سياسياً ولا ماليّاً.
وأخيراً، قد يتبيّن أنّ الضربة التي استهدفت قاعدة العديد تُجسّد الصدمة الأشدّ وقعاً من الناحية الاقتصادية، لا سيّما أنّ الاقتصاد يرتبط بالتوقّعات ارتباطاً وثيقاً. ولا شيء يُنفّر المستثمرين والكفاءات الأجنبية أكثر من شبح الصراع وعدم الاستقرار. ففيما كان احتمال تعرّض البنية التحتية في الدول الخليجية لدمارٍ واسع شبه معدوم قبل الضربة، سرعان ما ارتفع ارتفاعاً ملحوظاً في أعقابها. ستتمكّن الدول الخليجيّة من استعادة سمعتها في حال بقي الصراع محصوراً واستمرّ وقف إطلاق النار. لكن في حال تجدّد الهجوم أو تفاقمت حدّته، واستهدف موانئ دول مجلس التعاون الخليجي أو مصافيها أو منشآتها الحكومية على سبيل المثال، فسيُلحق ضرراً دائماً بسمعتها.
خلقت الحرب معضلة لصنّاع القرار في الدول الخليجيّة الذين يسعون جاهدين إلى الحدّ من آثارها الاقتصادية ومن تداعيات أيّ تصعيد مستقبلي. فمن جهة، يجب على الحكومات الاستعداد فعليّاً للتخفيف من وطأة الضربة الاقتصادية التي قد تنجم عن حرب شاملة محتملة. ومن جهة أخرى، من الضروري الحدّ من التصوّر السائد لإمكانية اندلاع هذه المواجهة.
من أجل المحافظة على ثقة المستثمرين والعمّال على حدّ سواء، ينبغي على دول مجلس التعاون الخليجي إطلاق مبادرة سلام منسّقة، وتسخير شبكتها الدبلوماسية العالمية بأكملها لتحقيق حلّ دائم. ولا يعني ذلك إشراك الولايات المتّحدة وحلفائها الغربيين إلى جانب إيران فحسب، بل وربما قوى عالمية أخرى مثل مجموعة البريكس. وفي ما يتعلّق بإيران، يكمن التحدّي الرئيسي في إعادة بناء الثقة بعد الهجوم الصاروخي على قاعدة العُديد. وفي الوقت عينه، تحتاج الولايات المتّحدة إلى استعادة ثقة إيران في مسار المفاوضات وقدرة البيت الأبيض على منع إسرائيل من شنّ هجمات جديدة.
ستحتاج الدول الخليجيّة إلى ضمانات موثوقة من إيران بأنّها ستكون بمنأى عن أيّ حرب مستقبلية محتملة. غير أنّ مجلس التعاون الخليجي لا يمكنه انتزاع مثل هذه الضمانة إلّا في حال شكّل جميع أعضائه جبهةً دبلوماسية موحّدة. ومع ذلك، يبقى الحصول على هذه الضمانة غير مؤكّد في المدى القريب، إذ إنّ جهود التطبيع مع إسرائيل، شأنها شأن حملة الاستمالة التي أطلقها مجلس التعاون الخليجي تجاه الولايات المتحدة، لم تثمر عن النتائج المرجوّة على الأصعدة الأمنيّة والدبلوماسيّة والاقتصادية. لذا، من غير المرجّح أن تحقّق أيّ حملة دبلوماسية يُطلقها مجلس التعاون الخليجي، حتى ولو أتت موحّدة وشاملة، تقدّماً ملحوظاً نحو تحقيق السلام.
بالإضافة إلى تقليص احتمالات اندلاع حرب عسكرية جديدة تشمل دول مجلس التعاون الخليجي، لا بدّ من بذل جهود قصوى لحماية اقتصادات الدول الخليجيّة في حال حدوث أسوأ السيناريوهات. ويمكن تحقيق ذلك من خلال تطوير القدرات الدفاعية المحلّية المستقلّة والمتعدّدة المصادر. وقد أثبتت منظومة الدفاعات الجوّية القطرية قدرتها على صدّ الضربة الإيرانية إلى حدّ كبير. ومع ذلك، فقد أظهرت الضربات الإيرانية على إسرائيل، والتي استهدفت قواعد عسكرية ومنشآت استخباراتية ووزارة الدفاع والموانئ والمصافي وألحقت أضراراً اقتصادية تُقدّر بنحو 3 مليارات دولار،13 قدرتها على اختراق حتّى أكثر المجالات الجوية تحصيناً. وما يزيد الأمر تعقيداً أنّ الدول الخليجية ستضطر إلى التنافس مع إسرائيل وأوكرانيا وتايوان على الإمدادات المحدودة والمتناقصة من أجهزة الدفاع الجوي والصواريخ الاعتراضية من الولايات المتّحدة، في الوقت الذي تدافع فيه عن منطقةٍ أوسع بكثير من أيّ من هذه المناطق. بالتالي، من المرجّح أن يؤدّي أيّ تصعيد مستقبلي إلى تدمير بعض البنى التحتية العسكرية أو الاقتصادية في دول مجلس التعاون الخليجي. كما سيُعطّل نشوبُ حرب صاروخية في منطقة الخليج حركةَ الركّاب والبضائع الجوّية، وربما تخلّف أثراً مشابهاً لما شهده العالم من حظر للطيران بسبب جائحة فيروس كورونا المستجدّ.
علاوة على ذلك، يبرز غياب دفاع اقتصادي فعّال في حال فرض حصار على مضيق هرمز. في الواقع، أمام إيران مجموعة من الخيارات لإغلاق المضيق، من ضمنها زرع الألغام وشنّ الهجمات البحريّة عبر سفن سطحيّة وغوّاصات “قزميّة” تتمركز خفية في قاع البحر،14 واستخدام الطائرات المسيّرة البحريّة والجويّة وإطلاق الصواريخ الباليستيّة وصواريخ من نوع “كروز”. وتشمل الهجمات الأخرى التي يصعب منعها فعليّاً استهداف كابلات الاتّصالات البحريّة.15 ولا تملك خطوط الأنابيب المستخدَمة للالتفاف على المضيق طاقةً احتياطيّة كافية لتعويض حركة ناقلات النفط، كما ثبُت أنّها عُرضة للهجمات.16 ولا يمكن لهذه الخطوط تأمين حركة الشحن غير النفطية عبر المضيق، التي تُشكّل نحو 40 في المئة من حجم التجارة التي تمرّ عبره.
بالإضافة إلى ذلك، تواجه الاقتراحات المتعلّقة بالممرّات البرّية المؤدّية إلى البحر الأبيض المتوسط، مثل الممرّ الاقتصادي الرابط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، مشاكلها الخاصة، لا سيّما أنّها لا تحلّ محلّ صادرات الهيدروكربونات المنقولة بحراً إلى آسيا، وواردات البضائع القادمة منها، علماً أنّها الشريك التجاري الأكبر لدول مجلس التعاون الخليجي بفارق شاسع.17 وأخيراً، لا تزال إيران قادرة، من خلال حلفائها الحوثيين، على التأثير في الممرّ المائي الإقليمي الآخر، أي مضيق باب المندب، وهو ما فشلت الجهود العسكرية الأمريكية والأوروبية في تأمينه حتّى الآن.18 باختصار، لا تملك دول مجلس التعاون الخليجي حلاً مُقنعاً في المدى القريب أو المتوسّط لمشكلة مضيق هرمز باعتباره شرياناً اقتصادياً حيوياً.
في ما يتعلّق بالخطوات العمليّة والفعّالة، يمكن استخلاص درسين أساسيين من الحرب. أولاً، بسبب عدم موثوقية الشركاء غير الخليجيّين المذكورين أعلاه، ينبغي أن يستند أمن الكتلة الجماعي إلى التعاون الداخلي بين دول مجلس التعاون الخليجي.19 ويتطلّب ذلك جهوداً حثيثة ومساع لبناء العلاقات ونسج الروابط. ولا يزال الطريق طويلاً أمام “قوات درع الجزيرة”، أي ذراع التعاون العسكري لمجلس التعاون الخليجي، ورغبة الدول في تقديم ضمانات دفاعية متبادلة، إذ غالباً ما تطغى المصالح الوطنية على اعتبارات الأمن الجماعي، كما تجلّى في حصار قطر. ومع ذلك، فإنّ صدمة الحرب، ولا سيّما الهجوم على قاعدة العُديد، قد دفعت قادة مجلس التعاون الخليجي نحو التحرّك والتضامن. فعلى سبيل المثال، قام رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد بزيارة مفاجئة إلى الدوحة بعد الهجوم، في خطوة قد تمهّد لإحياء ترتيبات دفاعية خليجية مشتركة. وقد يشكّل تنفيذ الرؤية الأمنية الأخيرة لمجلس التعاون الخليجي، ومنح قوات درع الجزيرة جناحاً للدفاع الجوي، خطوة في هذا الاتجاه. وفي الوقت عينه، تعكس استحالة حماية منطقة الخليج من هجوم إيراني كارثي (بواسطة هجوم صاروخيّ أو حصار) الحاجة الملحّة إلى حوارٍ منسّق بين مجلس التعاون الخليجي وإيران بهدف إصلاح العلاقات المتضرّرة.
ثانياً، أثبتت الحرب أنّ الدول الخليجية لا يمكنّها تجاهل احتمال اندلاع حرب أخرى، مع ما تحمله من تداعيات كارثية على اقتصادها المحلّي. وهذا يتطلّب اتّخاذ تدابير لتعزيز المرونة الاقتصادية الإقليمية، بدءاً بتطوير قدرات صناعية محلّية في القطاعات الحيويّة مثل الغذاء والدفاع، مروراً بتنويع شبكات التوريد للمواد الأولية والمكوّنات الأساسية، وصولاً إلى توسيع البنية التحتية اللوجستية الإقليمية مع توفير البدائل الاحتياطية المناسبة للتعامل مع نشوب الحرب، بالإضافة إلى إنشاء مخزونات وطنية قادرة على حماية المنطقة من الاضطرابات الواسعة النطاق في مجال التوريد. ولا بدّ من إعادة تقييم ممارسات إدارة التوريد القائمة على مبدأ “التوريد عند الحاجة” بحيث تأخذ في الحسبان مخاطر الانقطاع. وفي المدى البعيد، يتمثّل السبيل الوحيد للتقليل من المخاطر الاقتصادية الناتجة عن حصار ناقلات النفط في تسريع فصل الاقتصاد عن الصادرات الهيدروكربونية. ويُفضَّل اتّخاذ هذه التدابير في إطار التعاون الإقليمي، ما لن يتحقّق إلاّ إذا تجاوزت دول المنطقة الخلافات السياسية والاقتصادية المستمرّة، لا سيّما بين الاقتصادين الأكبر حجماً في المنطقة، أي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة.20
من اللافت أنّ آثار الحرب التي استمرّت 12 يوماً بين إسرائيل وإيران أتت محدودة على الأسواق العالمية والإقليمية. ومع ذلك، لا تزال دول مجلس التعاون الخليجي تواجه مخاطر كبيرةً، لا سيّما أنّ أسباب الصراع الجذريّة لم تُحل بعد (بل تفاقمت في بعض الحالات). وقد أظهرت هذه الحرب، وخصوصاً الضربة التي استهدفت قاعدة العُديد، أنّ الدول الخليجيّة ليست بمنأى عن تداعيات الصراعات والأزمات التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على نطاق أوسع. كما أنّها بدّدت انطباع مجلس التعاون الخليجي بتنامي نفوذه الدبلوماسي، سواء على “الشركاء” الغربيين أم على إيران. وأخيراً، سلّطت الضوء على اعتماد منطقة الخليج المتعذّر تغييره على ممرّات إستراتيجية هشّة.
يتمثّل الدرس الأساسي من هذه الحرب في الحاجة الملحّة إلى إحياء روح التعاون المشترك ضمن مجلس التعاون الخليجي، وخاصةً في مجالَي الدفاع والاقتصاد. ولعلّ إحدى النتائج الإيجابية القليلة لهذه الحرب تكمن في تجدّد الحافز لتجاوز الانقسامات والخلافات داخل المجلس في مواجهة المخاطر الخارجية. وعلى الدول الأعضاء السعي إلى تنسيق الإجراءات الاقتصادية من أجل ترسيخ المرونة الاقتصادية، مثل تطوير القدرات الصناعية المحلّية وإنشاء مخزونات إستراتيجيّة وتعزيز البنية التحتية وشبكات التوريد. ولا بدّ من تنسيق العلاقات الدبلوماسية العالمية داخل مجلس التعاون الخليجي، مع الولايات المتّحدة وإيران وأعضاء مجموعة البريكس وغيرها، بهدف تعظيم النفوذ، مع الأخذ في الحسبان بأنّ الثقة المفرطة بأيّ طرف خارجي قد تكون في غير محلّها.
وفي المدى البعيد، لا بدّ من تحقيق التوازن بين التوجّه الاقتصادي نحو التصدير والإنتاج المحلّي الذي يقلّل من المخاطر الاقتصادية الناجمة عن نقاط الاختناق الإقليميّة، بما في ذلك تسريع وتيرة التحوّل بعيداً عن صادرات الهيدروكربون وتجنّب الاعتماد المفرط على الاستيراد، لا سيّما من الصين.
[10] Khitam Al Amir, “Israel-Iran ceasefire holds — but is the conflict really over? What comes next?” Gulf News, June 25, 2025, https://gulfnews.com/world/mena/israel-iran-ceasefire-holds-but-is-the-conflict-really-over-what-comes-next-1.500176478.