تستعرض ورقة السياسات هذه ديناميّات المنافسة والتعاون المعقّدة بين اليابان وجمهورية كوريا (كوريا الجنوبيّة) في الشرق الأوسط، وتُسلّط الضوء على كيفيّة إسهام التحوّلات الجيوسياسيّة والاعتبارات الاقتصادية والتطوّرات السياسية الداخلية في رسم معالم التنافس، ولكن أيضاً في فتح الباب أمام فرص التعاون. تولي اليابان وكوريا، باعتبارهما الأكثر نفوذاً من بين القوى الوسطى في شرق آسيا، أهميّة إستراتيجيّة متزايدة للشرق الأوسط، نظراً لما تؤدّيه هذه المنطقة من دورٍ حيوي في مجالات أمن الطاقة والتجارة والإستقرار الإقليمي.
ورغم المنافسة الحتميّة بين الدولتين، خصوصاً في قطاعات البنية التحتية والتكنولوجيا النووية والصناعات الدفاعية، تُحدّد هذه الورقة مجالات مهمّة للتعاون، انطلاقاً من مصالحهما المشتركة في تأمين خطوط الملاحة البحريّة وتعزيز استقرار المنطقة ومواكبة التحوّل العالمي في مجال الطاقة. وتُبرز الاضطرابات الجيوسياسيّة، بدءاً من الصراع في غزة والتوتّرات في البحر الأحمر وصولاً إلى تنافس القوى الكبرى كالصين وروسيا والولايات المتحدة، الحاجة الملحّة إلى تنسيق انخراط الدولتين. وتخلص ورقة السياسات هذه إلى أنّ تحقيق التوازن بين ديناميّات المنافسة وفرص التعاون الانتقائي يتيح مساراً إستراتيجياً لكلّ من اليابان وكوريا الجنوبيّة لتعزيز دورها كقوّة وسطى تتحلّى بروح المسؤوليّة.
تعزيز التعاون في مجالَي الأمن البحري وبناء السلام: يمكن لليابان وكوريا الجنوبية تعميق تعاونهما الأمني في الشرق الأوسط بهدف الحدّ من التهديدات المحدقة بالطرق البحريّة الحيويّة لإمدادات الطاقة والتجارة العالمية. فمن شأن الدوريّات البحريّة المشتركة وتبادل المعلومات الاستخباراتيّة وتنسيق العمليّات، تعزيز قدرة البلدين على حماية خطوط الشحن في البحر الأحمر وخليج عدن ومضيق هرمز.
التنسيق لدعم جهود بناء السلام في الشرق الأوسط: ينبغي على اليابان وكوريا الجنوبية التعاون في دعم إعادة إعمار قطاع غزة، انطلاقاً من مبادرات مثل مؤتمر التعاون بين دول شرق آسيا من أجل تنمية فلسطين (CEAPAD)، وتوسيع نطاق المساعدات التنموية المخصّصة للشرق الأوسط. فمثل هذا التنسيق يُعزّز نفوذ الدولتين الدبلوماسي ويعظّم فعاليّة توزيع المساعدات الإنسانية والتنموية.
تعزيز الشراكة في مجال أمن الطاقة والتحوّل إلى الطاقة النظيفة: في ظلّ تصاعد المخاطر الجيوسياسيّة والتحوّل العالمي في مجال الطاقة، ينبغي على اليابان وكوريا الجنوبية تطوير آليّات مشتركة لحماية البنية التحتية الحيويّة للطاقة في الشرق الأوسط من التهديدات الماديّة والهجمات السيبرانية. كما ينبغي على البلدين العمل معاً على ضخّ استثمارات مشتركة في مشاريع الطاقة المتجدّدة في شتّى أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما يسهم في تحقيق التنويع الاقتصادي الإقليمي والأهداف المناخية المرجوّة. ومن شأن إطلاق حوارٍ ثلاثي رسمي يضمّ مجلس التعاون الخليجي واليابان وكوريا الجنوبية بشأن التحوّل في قطاع الطاقة، أن يسهّل التنسيق في صناعة السياسات وتبادل التكنولوجيا وتحفيز استثمارات القطاع الخاص.
تشجيع التعاون المحايد سياسياً والمركّز على الاقتصاد: تسهم الدبلوماسيّة ذات القيادة المدنيّة ومنصّات التعاون المتعدّد الأطراف في استمرار الحوار والشراكات بين اليابان وكوريا الجنوبية، في ظلّ تبدّل الأولويّات الإستراتيجيّة وتصاعد الضغوط الناجمة عن المنافسة بين القوى الكبرى، سواء على شرق آسيا أو على الشرق الأوسط. ومن خلال التركيز على التعاون الاقتصادي البراغماتي والشراكات الصناعيّة ذات المنفعة المتبادلة في الشرق الأوسط، يمكن للدولتين حماية مصالحهما في المدى البعيد والمحافظة على دورهما البنّاء في المنطقة. ومن جهتها، توفّر استراتيجيّة “منطقة المحيطَين الهندي والهادئ الحرّة والمفتوحة” (FOIP) التي تقودها اليابان إطاراً مفيداً لتوسيع نطاق المبادئ المشتركة المتعلّقة بالاستقرار وسيادة القانون وأمن التجارة البحريّة، بحيث تشمل السياسات المتعلّقة بالشرق الأوسط.
تشهد المنظومة الدوليّة اليوم تغيّرات جذريّة لم يسبق لها مثيل منذ أن وضعت الحرب الباردة أوزارها، في ظلّ عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وتآكل القانون الدولي وسط استمرار الحرب في أوكرانيا وغزة، واشتداد المنافسة بين القوى الكبرى، ما يدلّ على تحوّلات عميقة في النظامَين الإقليمي والعالمي.
في موازاة ذلك، يُعيد صعود نجم القوى الوسطى تشكيل النظام الدولي بطرقٍ جوهريّة.1 فتحتلّ هذه الدول، التي تجمع بين النفوذ الإقليمي والطموح العالمي، موقعاً فريداً بين القوى الكبرى والدول الصغرى. وقد منحها ثقلها الاقتصادي المتصاعد وتوسّع حضورها الدبلوماسي وتعزيز قدراتها العسكرية والدفاعية فرصاً لدعم النظام العالمي والمعايير الدوليّة. وتُعدّ اليابان وكوريا الجنوبيّة من أبرز القوى الوسطى في شرق آسيا، وتوليان اهتماماً مطّرداً للشرق الأوسط، بدافع الاحتياجات المتعلّقة بأمن الطاقة والمصالح الاقتصادية والاعتبارات الجيوسياسيّة والجيواقتصادية على نطاق أوسع.
وتنظر ورقة السياسات هذه في ديناميّات المنافسة والتعاون بين اليابان وكوريا الجنوبية في الشرق الأوسط. فغالباً ما تتنافس الدولتان على الصفقات في مجال الطاقة وعقود البنية التحتية وأسواق التصدير والنفوذ الجيوسياسي. ويتأثّر هذا التفاعل بين التعاون والتنافس بمجموعةٍ من العوامل، مثل التاريخ والسياسة الداخلية والاعتبارات الاقتصادية، فضلاً عن الضغوط الخارجيّة التي تمارسها قوى عالميّة مثل الولايات المتحدة والصين.
ورغم ما يعتري هذه العلاقة الثنائيّة من تنافسٍ وعراقيل، ترى هذه الورقة أنّ ثمّة مساحة مشتركة للتنسيق في قضايا تتقاطع فيها مصالح الطرفين، لا سيّما في ما يتعلّق باستقرار المنطقة وأمنها والتوافق الجيوسياسي وبناء السلام الإقليمي ومبادرات أمن الطاقة والتحوّل في مجال الطاقة. وعلى الرغم من التحدّيات التي تُعيق التعاون الثنائي على وقع التنافس المتقطّع بين الدولتَين، تؤكّد هذه الورقة أنّ التنسيق بين طوكيو وسيول يمكن أن يعود بمنافع ليس على الدولتين فحسب، بل على الشرق الأوسط والعالم بأسره.
في ظلّ المسارَين التنموي والسياسي لكلّ من اليابان وكوريا الجنوبية وتاريخهما المشترك المُثقل بالتعقيدات، تبدو المنافسة بينهما حتميّة، سواء على الساحة الدوليّة أو الإقليميّة. ويمثّل الشرق الأوسط مورّداً رئيسيّاً للطاقة لكلتا الدولتين، وبالتالي سوقاً محوريّة تتنافس فيها المنتجات والخدمات اليابانية والكوريّة مباشرةً على حصص السوق والوصول إلى الأسواق. وقد سبقت اليابان كوريا الجنوبية في بناء قاعدتها التصنيعيّة، ما منح شركاتها أفضليّة مبكرة في تصدير الإلكترونيّات المتقدّمة والسيّارات والآلات الصناعيّة إلى المنطقة. ويشهد الطلب على المنتجات اليابانية في الشرق الأوسط منذ السبعينات نموّاً متواصلاً بفضل سمعتها الراسخة من حيث الجودة والدقّة.
غداة أزمة النفط عام 1973، بدأت الشركات اليابانيّة الدخول في مشاريع البنية التحتيّة الضخمة وشرعت في تطوير قطاع النفط في المنطقة، وفازت بدايةً بعقود هندسة ومشتريات وإنشاءات (EPC) لبناء محطّات الطاقة وغيرها من المرافق الحيويّة. ومع مطلع الألفيّة، تحوّلت إلى العمل كمنتج مستقلّ للطاقة (IPPs)، ولم يقتصر ذلك على امتلاكها حصصاً في المرافق، شأنها شأن الشركات الحكومية المحلية، بل تولّت أيضاً تشغيلها وصيانتها. واليوم، باتت الشركات اليابانية تستحوذ على حصّةٍ لا يُستهان بها من القدرة الإنتاجية للطاقة في دول مجلس التعاون الخليجي.
عادت شركات البناء اليابانيّة لتندفع مجدّداً نحو الشرق الأوسط في خلال العقد الأوّل من الألفيّة هذه، بالتوازي مع نموّ اقتصادات المنطقة وزيادة الطلب على مشاريع البنى التحتيّة. فعلى سبيل المثال، رُسي عقد تشييد مترو دُبي إلى ائتلاف عُرف باسم “دبي رايل لينك” (DURL) وضمّ شركات يابانيّة، من بينها “ميتسوبيشي للصناعات الثقيلة” (Mitsubishi Heavy Industries) و”ميتسوبيشي كوربوريشن”(Mitsubishi Corporation) وغيرها. ورغم التعديلات التي طرأت على المواصفات والأزمة المالية التي عصفت بالعالم في العام 2008، أُنجز المشروع في موعده المحدّد في سبتمبر 2009، وكان أوّل نظام نقل حضري مؤتمت بالكامل ومن دون سائق في الشرق الأوسط،، ما زاد من تلميع صورة اليابان وتعزيز سمعتها في المنطقة.2
وقد عكس انخراط اليابان في قطاعات البنية التحتية والصناعة على امتداد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التزاماً إستراتيجياً بالتنمية الاقتصادية، تجلّى في مشاريع بارزة مثل المخطّط العمراني الشامل لتطوير أبوظبي، ودار الأوبرا في القاهرة، ومشروع “بترو رابغ” للبتروكيماويات في السعودية، ومصنع إنتاج ضفائر السيارات في المغرب، إلى جانب المشاركة الناشطة للمؤسّسات المالية اليابانية الكبرى في أسواق المنطقة. إلا أنّ الشركات اليابانية بدأت تواجه في الآونة الأخيرة صعوبات مطّردة للفوز بمشاريع مشابهة، مع دخول الشركات الكورية والصينية بقوّة إلى السوق وتقديمها أسعاراً تنافسية.
وفي ظلّ تطوّر الاقتصاد الكوري وتوسّع قاعدته التصنيعيّة، تمكّنت سيول من اللحاق بالشركات اليابانية في الشرق الأوسط. واليوم، تنشط التكتّلات الكوريّة الكبرى مثل “سامسونغ” (Samsung) و”هيونداي” (Hyundai) و”إل جي” (LG) و”دايو” (Daewoo) على نطاق واسع في المنطقة، مستحوذة على حصص سوقيّة كبرى في قطاعاتها الصناعية المختلفة. وعلاوة على ذلك، وسّعت كوريا الجنوبية مجالات تعاونها مع دول المنطقة لتشمل التكنولوجيا النووية، إلى جانب دخولها قطاعات ناشئة متنوّعة مثل الطاقة الشمسيّة والهيدروجين وطاقة الرياح والمدن الذكية الصديقة للبيئة والرقمنة والتصنيع المتقدّم والرعاية الصحية والسياحة. كما وقّعت سيول مع دول مجلس التعاون الخليجي اتفاقية للتجارة الحرّة في ديسمبر 2023، نصّت على إلغاء سيول الرسوم الجمركية على نحو 90 في المئة من السلع كافة، مقابل قيام دول المجلس بإلغاء التعريفات الجمركية على أكثر من 75 في المئة من السلع المتداولة.3 ورغم توقيع الاتفاقيّة في العام 2023، لم تدخل حيّز التنفيذ بعد.
نجحت الشركات الكورية منذ السبعينات في ترسيخ حضورها في اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، من خلال تقديم عروض بأسعار منخفضة تفوّقت بها على المنافسين، وإبداء مرونة في تقليص هوامش الربح لضمان الفوز بالعقود.4 ولا تزال هذه الشركات تحتفظ بميزةٍ تنافسيّة لجهة تأمين العقود الإنشائية في المنطقة. فبين عامَي 2002 و2020، مثّلت منطقة الشرق الأوسط أكثر من 50 في المئة من قيمة العقود الإجمالية التي وقّعتها التكتّلات الصناعية الكورية في الخارج، أي ما يعادل 444 مليار دولار من أصل 845 مليار دولار.5 بالإضافة إلى “برج خليفة”، أطول مبنى في العالم، ساهمت كوريا الجنوبية في تنفيذ مشاريع ضخمة أخرى، من بينها جسر الشيخ جابر الأحمد الصباح في مدينة الكويت6 ومفاعل نووي صغير لتحلية المياه في السعودية.7
الرسم البياني 1: الشركاء التجاريّون العشرة الأهم لكوريا الجنوبية في الشرق الأوسط بين 2010 و2024 8
الرسم البياني 2: الشركاء التجاريّون العشرة الأهم لليابان في الشرق الأوسط بين 2010 و2022 9
في مجال الطاقة النووية، تفوّقت كوريا الجنوبية على اليابان في عدد من المناقصات المتعلّقة بإنشاء محطّات نووية، ما زاد من حدّة التنافس وحالة التوتّر بين البلدين. ففي عام 2009، وقّعت كوريا الجنوبية عقداً مع دولة الإمارات لبناء أربع وحدات من محطة “براكة” للطاقة النووية، وهي أوّل منشأة من نوعها في البلاد، متفوّقة على عروض منافسة قدّمها تحالف ياباني أمريكي ضمّ شركتي “هيتاشي” (Hitachi) و”توشيبا” (Toshiba) اليابانيّتين وشركة “جنرال إلكتريك” (General Electric) الأمريكيّة. وعلى الرغم من خبرة اليابان العريقة في هذا المجال وسمعتها الدولية الراسخة، فقد اعتُبر عرضها أقلّ تنافسيّة من حيث الكلفة ومعايير السلامة والجدول الزمني للتنفيذ.10 وفي سبتمبر 2024، أعلنت الإمارات بدء التشغيل التجاري للوحدة الرابعة من محطة “براكة”، ما سلّط الضوء على الدور الأساسي الذي تؤدّيه المنشأة التي بنتها كوريا الجنوبية في جهود الإمارات لإزالة الكربون. وفي السعودية، حجزت كوريا الجنوبية موقعاً متقدّماً في سباق الفوز بعقد برنامج المفاعلات النووية، الذي من المتوقّع أن تنطلق مرحلة تقديم العروض بشأنه في أواخر عام 2025. 11
تسعى كوريا الجنوبية إلى تنشيط قطاعها النووي، واضعة نصب عينَيها هدفاً طموحاً يتمثّل في تصدير 10 مفاعلات نوويّة بحلول العام 2030، باعتباره أولويّة وطنيّة. ولتحقيق هذا الهدف، دعمت تكتّل “فريق كوريا” الذي يضمّ الشركة الكوريّة للطاقة الكهربائية (KEPCO) وشركة كوريا للطاقة المائية والنووية (KHNP) إلى جانب مؤسّسات مالية وشركات خاصة. وفي يناير 2025، وقّعت كوريا الجنوبيّة والولايات المتحدة اتفاقية للتعاون في مجال تصدير الطاقة النووية، تهدف إلى دخول السوق العالمية كمجموعةٍ مشتركة تحت اسم “فريق كوريا الولايات المتحدة” (Team KORUS). ومن المتوقّع أن يسهم هذا التعاون في تسريع وتيرة ولوج كوريا الجنوبية إلى أسواق الطاقة النووية في الشرق الأوسط. فبموجب هذه الشراكة، من المرتقب أن تضطلع كوريا الجنوبية بدورٍ ريادي في الشرق الأوسط، فيما تتصدّر الولايات المتحدة السوق الأوروبية، في إطار توزيعٍ إستراتيجي للأدوار.
الرسم البياني 3: صادرات كوريا الجنوبية واليابان إلى دول مجلس التعاون الخليجي بين 2010 و2022 12
من جهتها، تربط اليابان علاقات اقتصادية متينة بدول مجلس التعاون الخليجي، إذ إنّها حلّت في المرتبة الرابعة بين الشركاء التجاريين الأهم للخليج في العام 2023، وبلغت قيمة واردات دول مجلس التعاون من السلع اليابانية نحو 22 مليار دولار.13 بالإضافة إلى ذلك، لطالما هيمنت الشركات اليابانية على سوق المركبات في الدول الخليجيّة، بحيث باتت الدول الخليجيّة مجتمعةً تشكّل الوجهة الثانية الأهمّ للصادرات اليابانية من المركبات.14 كما يعتمد قطاعا البناء والنفط في دول المجلس على مجموعةٍ واسعة من المعدّات والآلات التي توفّرها أبرز الشركات اليابانية المتخصّصة في هذا المجال.
أما في قطاع الدفاع فلا تزال كوريا الجنوبية متقدّمة على اليابان بأشواط، وتسعى إلى تعزيز مكانتها في الشرق الأوسط الذي يستحوذ على نسبة كبيرة من صادراتها الدفاعية.15 فقد ارتفعت الصادرات الكورية من الأسلحة إلى المنطقة بنحو عشرة أضعاف بين عامَي 2013 و2022 .16 وفي الآونة الأخيرة، تقدّمت كوريا الجنوبية إلى المرتبة التاسعة بين كبار مصدّري الأسلحة في العالم، معلنةً عن نيّتها الوصول إلى المركز الرابع بحلول العام 2027. 17
يُعزى صعود كوريا الجنوبية اللافت في قطاع الصناعات الدفاعية إلى أربعة عوامل رئيسيّة، تتمثّل بارتفاع الطلب العالمي على الأسلحة نتيجة الحرب في أوكرانيا، والفعاليّة العالية للأسلحة الكورية من حيث الكلفة والأداء، وسرعة التسليم، فضلاً عن الدعم الحكومي لتسويق إستراتيجيّة “الدفاع الكوري” (K-Defense). يُشير هذا المصطلح إلى مبادرةٍ دفاعيّة متكاملة تهدف إلى توسيع وجهة الصادرات الكوريّة من الأسلحة لتشمل أسواق إستراتيجيّة مثل الشرق الأوسط وأوروبا، من خلال أنظمة متطوّرة محليّة الصنع، مثل مدفع الهاوتزرK9 والطائرات المقاتلة من طراز FA-50 والدبّابات من طراز K2 ومنظومة الدفاع الجوّي “تشونغونغ-2” (Cheongung-II). وتسعى هذه المبادرة في الوقت نفسه إلى تحويل قطاع الدفاع الوطني إلى محرّكٍ رئيسي للنموّ الاقتصادي وإلى تعزيز نفوذ البلاد على الساحة الدوليّة من خلال توسيع نطاق التعاون الأمني والدبلوماسيّة الدفاعيّة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ كوريا الجنوبية وسّعت صادراتها من المنتجات الدفاعية الأساسيّة، مثل منظومة الدفاع الجوّي “تشونغونغ-2″، ومدافع الهاوتزر الذاتيّة الحركة من طراز K9، ودبابات القتال الرئيسيّة من طراز K2، من خلال إدماجها في برامج التدريب الخاصّة بالدول المستوردة في الشرق الأوسط. وتسهم هذه المقاربة في تسهيل نقل التكنولوجيا وبناء القدرات، وتتطوّر تدريجياً إلى مشاريع تجريبيّة للتعاون الصناعي، بما ينسجم مع أهداف الدول الخليجية الساعية إلى تعزيز قدراتها الدفاعيّة المحلية. وإذ وقّعت كوريا الجنوبية على اتفاقية التجارة الحرّة مع دول مجلس التعاون الخليجي وعلى اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة (CEPA) مع الإمارات في العام 2024، أُلغيت الرسوم الجمركية على معظم صادرات كوريا من الأسلحة إلى الدول الخليجية. ومن المتوقّع أن يسهم ذلك في تسريع نموّ مبيعات الأسلحة الكورية في منطقة الخليج.
من جهة أخرى، ظلّت مبيعات الأسلحة اليابانية إلى الشرق الأوسط محدودة بفعل القيود الدستورية والتشريعية التي تفرضها طوكيو، وعلى رأسها “المبادئ الثلاثة لتصدير الأسلحة”18 التي تحظّر تصدير الأسلحة إلى الدول الشيوعية وإلى البلدان الخاضعة لحظر الأسلحة المفروض من الأمم المتحدة وإلى الدول المتورّطة في صراعات دوليّة أو يُحتمل أن تتسبّب بها.
رغم أنّ حكومة شينزو آبي الثانية خفّفت القيود المفروضة على صادرات الأسلحة عام 2014 عبر تعديل جزئي “لـلمبادئ الثلاثة”، لا تزال المخاوف على سمعة البلاد نتيجة الانخراط في صراعات إقليمية، ناهيك عن المنافسة الحادّة من كبار مصدّري الأسلحة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، تصعّب توسّع الصادرات الدفاعية اليابانية إلى دول مجلس التعاون الخليجي. ومع ذلك، أجرت اليابان وسلطنة عُمان الحوار العسكري المباشر الأوّل في مسقط في يونيو 2023، الذي ركّز على تعزيز التعاون البحري، تلاه اجتماعٌ ثانٍ في طوكيو في مايو 2025.19 كما عقدت اليابان وقطر في العام 2023 الحوار العسكري الأوّل بينهما.20 وفي العام نفسه، وقّعت اليابان والإمارات اتفاقية بشأن نقل المعدّات والتكنولوجيا الدفاعية، أرست إطاراً قانونياً للتعاون في مجالات البحث والتطوير والإنتاج المشترك، وتُعدّ هذه الاتفاقية الأولى من نوعها التي توقّعها طوكيو مع دولةٍ في المنطقة.21
إلى جانب التنافس الاقتصادي، يمكن القول إنّ التعاون بين اليابان وكوريا الجنوبية تعثّر بسبب تاريخهما المشترك المثقل بالتعقيدات، والسياسة الداخلية في كلّ من الدولتين.22 لكنّ هذه التحديات لم تقف حائلاً دون بذل حكومتي فوميو كيشيدا (2021-2024) ويون سوك يول (2022-2025) جهوداً حثيثة لتحقيق قفزة نوعيّة في العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية، بتيسيرٍ من الولايات المتحدة في عهد الرئيس جو بايدن. وقد شهد عام 2023 انعقاد قمّة بين كيشيدا ويون، مثّلت الاجتماع الياباني الكوري الأوّل منذ 12 عاماً، وركّزت على التصدّي للتهديد المشترك الذي تشكّله كوريا الشمالية وتصاعد المخاوف بشأن الصين.23
بيد أنّ إعلان يون قرار الأحكام العرفيّة الذي أدّى لاحقاً إلى عزله، بالإضافة إلى إجراء انتخابات رئاسيّة مبكرة في يونيو 2025، عكس تحوّلاً سياسياً حاسماً.
مع انتخاب مرشّح الحزب التقدّمي لي جاي ميونغ رئيساً، من المتوقّع أن تشهد السياسة الخارجية لكوريا الجنوبية تحوّلاً، بحيث تتجّه نحو الحدّ من التركيز على الشرق الأوسط كأولويّة إستراتيجيّة ونحو اتّباع نهج أكثر تحفّظاً في التعاون مع اليابان. في الواقع، لطالما فضّلت الأحزاب التقدّمية في كوريا الجنوبية الانفتاح على كوريا الشمالية واتخاذ موقف أكثر تشدّداً تجاه اليابان على خلفيّة التوتّرات المتعلّقة بماضيها الاستعماري. وغالباً ما أعطت الأولوية للدبلوماسيّة الإقليميّة المتمحورة حول شبه الجزيرة الكورية. على هذا الأساس، تُركّز سياسة الحزب الخارجيّة على الشؤون الإقليمية، لا سيّما العلاقات مع الصين وروسيا وجنوب شرق آسيا، مقابل انخراط محدود نسبياً مع مناطق أبعد، مثل الشرق الأوسط.
وكانت إدارة مون جاي إن التقدّمية تبنّت سياسة التخلّي التدريجي عن استخدام الطاقة النووية محليّاً، ما قوّض الثقة في جهود كوريا الجنوبية لبناء محطّات الطاقة النووية في الإمارات العربية المتحدة. فقد علّقت إدارة مون مشاريع محطّات طاقة نوويّة كانت قيد التنفيذ، ما دفع بالعديد من المهندسين النوويين إلى مغادرة البلاد للعمل في دول أخرى، من بينها الصين. كما بَلَغت العلاقات الكورية اليابانية أدنى مستوياتها، حيث قوبلت المشاعر المعادية لليابان، التي أجّجتها إدارة مون، بردّ محافظ وحازم من رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي.
في يونيو 2025، أعلن الرئيس لي عقب انتخابه عن انتهاج سياسة خارجية قائمة على مبادئ براغماتية وموجّهة نحو السوق. وقد أكّدت الولايات المتحدة بالفعل ضرورة احتواء الصين وتعميق التعاون الثلاثي مع كوريا الجنوبية واليابان. في غضون ذلك، أعربت كلّ من الصين وروسيا عن أملها في تحسين العلاقات مع الرئيس الكوري الجنوبي الجديد، فيما أبدت اليابان تحفّظاً.
على الصعيد المحلّي، يكمن خوف كوريا الجنوبية الأكبر في التهديدات الأمنيّة التي يشكّلها برنامج كوريا الشمالية النووي، والعلاقات المتنامية بين كوريا الشمالية والصين وروسيا.24 ويبدو أنّ موقف الرئيس لي من الطاقة النووية قد تحوّل من سياسة التخلّي التدريجي السابقة إلى نهج أكثر واقعية يقوم على التخفيض التدريجي. وقد أعرب عن دعمه للبحوث والتطوير بشأن الجيل الجديد من التقنيّات النووية، مثل المفاعلات النمطيّة الصغيرة (SMRs). ويُعتبَر هذا التحوّل استجابةً عمليّة تُوازن بين الاحتياجات الواقعية من الطاقة وأهداف كوريا الجنوبية الآيلة إلى تحقيق الحياد الكربوني.25
في اليابان، تعهّد رئيس الوزراء شيغيرو إيشيبا، الذي تولّى منصبه في أكتوبر 2024، بالحفاظ على الإطار الدبلوماسي الذي وضعته إدارة كيشيدا والذي أعطى الأولوية لتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة والدول الشريكة. وفي ظلّ التحديّات الأمنية المتصاعدة، بما فيها الإجراءات الصينيّة الصارمة وتطوّر البرنامجين النووي والصاروخي في كوريا الشمالية، يعمل إيشيبا على تعزيز قدرات الردع والاستجابة في إطار التحالف الأمريكي الياباني. وبالتالي، سيتصدّر نسجُ علاقة عمل متينة مع الرئيس دونالد ترامب والشخصيّات الرئيسيّة في إدارته سلّم الأولويات الدبلوماسية الفورية اليابانية. في أكتوبر 2024، استهلّ إيشيبا جولته الخارجيّة الأولى بالمشاركة في عدد من الفعاليات المتعلّقة برابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، بما فيها القمة السابعة والعشرين التي انعقدت في اليابان، مسلّطاً الضوء على أهميّة تعميق الروابط السياسية والاقتصادية والأمنية مع دول جنوب شرق آسيا.26
بيد أنّ إيشيبا يترأس حكومة أقلية، هي الأولى من نوعها منذ 30 عاماً، ما يجعل إدارته هشّة سياسياً وتتطلّب تنسيقاً دقيقاً مع الأحزاب الأخرى لدفع مبادرات السياسات الرئيسية قدماً. وفي خضّم تصاعد التوتّرات في شرق آسيا، أصبح تعزيز قدرات اليابان الدفاعية وتأمين الموارد المالية اللازمة لهذه الجهود أولويّة ملحّة. ففي ظلّ هذه الضغوط السياسية والأمنية، قد يتراجع انخراط اليابان في الشرق الأوسط، ويتضاءل بالتالي حضورها الإقليمي. ويثير هذا التحوّل مخاوف بشأن تراجع زخم التعاون بين اليابان وكوريا الجنوبية في المنطقة، ما قد يُضعف جهود التعاون الأوسع في مجالات الاستقرار الأمني والاقتصادي.
على الرغم من التنافس الاقتصادي والتعقيدات التاريخيّة والسياسيّة، تبرز مجالات تلتقي فيها مصالح اليابان وكوريا الجنوبية. وفيما يزداد المشهد الجيوسياسي العالمي تعقيداً، من مصلحة البلدين إيجاد سُبل للتعاون في الشرق الأوسط، بما فيها:
الأمن البحري وبناء السلام
أدّت هجمات السابع من أكتوبر 2023 والعملية العسكرية الإسرائيلية الواسعة النطاق التي أعقبتها في غزة، فضلاً عن الحرب الإيرانية الإسرائيلية في يونيو 2025 إلى زعزعة الإستقرار في الشرق الأوسط. وقد خلقت الصراعات والتوتّرات الإقليميّة مخاطر إضافية تُحدق باليابان وبكوريا الجنوبية في حين تسعى الدولتان إلى توسيع نطاق انخراطهما في المنطقة. وتجلّت هذه المخاطر في حوادث مثل هجمات الحوثيين في اليمن على السفن اليابانية واستيلائهم عليها في البحر الأحمر.
تشكّل القرصنة في نقاط الاختناق البحريّة الرئيسية، مثل خليج عدن ومضيق هرمز، خطراً حقيقياً ليس على اليابان وكوريا الجنوبية فحسب، بل على الشحن العالمي وأمن الطاقة على نطاق أوسع، ما يُبرز الحاجة إلى ترسيخ التعاون بين اليابان وكوريا الجنوبية. في هذا السياق، يمكن لقوّات الدفاع الذاتي اليابانية، بفضل الخبرة التي اكتسبتها على مدى عقد ونيف في عمليّات الأمن البحري في خليج عدن، تعزيز تعاونها مع البحريّة الكورية الجنوبية من خلال الدوريات والتدريبات المشتركة، ما يساعد في تأمين طرق ناقلات النفط وردع القرصنة. كما يُمكن أن تشكّل قاعدة قوات الدفاع الذاتي اليابانية في جيبوتي مركزاً إستراتيجيّاً للعمليّات المشتركة وتبادل المعلومات الاستخباراتيّة والمهام الإنسانيّة، لا سيّما في ظلّ خطط اليابان لتوسيع نطاق تفويضها للعمليّات الخارجية.27 ومن شأن ذلك أن يتيح فرصاً جديدة للتعاون العسكري بين الطرفين بغية تأمين الممرّات البحرية الحيويّة بين الشرق الأوسط وشرق آسيا.
تندرج مشاركة كوريا الجنوبية واليابان في تحالف الأمن البحري الدولي (IMSC) لحماية حريّة الملاحة بقيادة الولايات المتحدة، في إطار تضافر الجهود الآيلة إلى مواجهة الاضطرابات المُزعزعة لأمن الطاقة وسلاسل التوريد. فعندما طلبت الولايات المتحدة من كوريا الجنوبية الانضمام إلى التحالف عام 2020، اختارت سيول تشغيل وحدتها البحرية
على نحوٍ مستقلّ، مفضّلةً التعاون مع التحالف عند الضرورة، وأوفدت ضابطَي اتّصال كوريين جنوبيين إلى التحالف.28
تؤدّي اليابان دوراً فعّالاً في ضمان الأمن البحري في البحر الأحمر من خلال التعاون الدولي، ولها خبرة سابقة في نشر قوّات الدفاع الذاتي البحريّة لمكافحة القرصنة في خليج عدن، بالقرب من الصومال. وفي حال تفاقمت حالة عدم الاستقرار في البحر الأحمر، قد تنظر اليابان في توسيع دور قوّات الدفاع الذاتي البحريّة أو إرسال قوّات إضافية. ومن المرجّح أن يندرج التعاون الياباني في إطار التحالف الياباني الأمريكي، شرط ألّا يتعارض طلب الولايات المتحدة مع القيود الدستورية أو يُثير جدلاً سياسياً داخليّاً. في أبريل 2024، أجرت القوّات البحريّة الأمريكيّة والكوريّة الجنوبية واليابانيّة مناورة بحريّة ثلاثية، مؤكّدة التزامها بتعزيز الأمن والاستقرار الإقليميين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.29 من شأن هذه العمليّات أن تمهّد الطريق لتوسيع نطاق التعاون في مجال الأمن البحري في الشرق الأوسط، لا سيّما في ظلّ ترسّخ التحالف بين الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية.
تعزيز التنسيق لدعم جهود بناء السلام الفلسطيني الإسرائيلي
يبقى حلّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مسألة جوهريّةً لتحقيق الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط. من هذا المنطلق، يمكن لليابان وكوريا الجنوبية تنسيق جهودهما لدعم حلّ لهذا الصراع المزمن. على الصعيد الإنساني، لطالما دعمت الدولتان الفلسطينيين من خلال تقديم المساعدات. فقد حوّلت اليابان منذ العام 1993 أموالاً بقيمة 2,3 مليار دولار أمريكي لمساندة السلطة الفلسطينية.30 وعلى مرّ العقود، أيّدت اليابان حقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. من جهتها، مدّت كوريا الجنوبية يد العون للفلسطينيين أيضاً على مرّ العقود. وبالتالي، فإنّ البلدين على أهبّة الاستعداد لدعم إعادة إعمار غزة.
على الرغم من أنّ كوريا الجنوبية زادت من مساعداتها ودعمها الإنساني للشرق الأوسط على مرّ السنين، فإنّ مساهمتها في المنطقة تبقى محدودة. في عام 2024، بلغت المساعدات الإنمائية الرسمية التي تقدّمها كوريا الجنوبية نحو 0,21 في المئة من دخلها القومي الإجمالي، أي أقلّ من متوسّط لجنة المساعدة الإنمائية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية البالغ 0,33 في المئة.31
علاوة على ذلك، ونظراً للقرب الجغرافي والعلاقات التاريخية، ركّزت المساعدة الإنمائيّة الرسمية المقدّمة من كوريا الجنوبية على دول جنوب شرق آسيا، بينما اتّخذ دعمها للشرق الأوسط في الغالب شكل الإغاثة الإنسانية الطارئة. وفي حين تستفيد كوريا الجنوبية من أسواق الدفاع والطاقة النووية في الشرق الأوسط، فإنّ مساعداتها ومساهماتها الماليّة لفلسطين محدودة. ويمثّل دعم إعادة إعمار غزة وجهود بناء السلام فرصة حاسمة أمام كوريا الجنوبية لتعزيز دورها في مساندة الجهود الإنسانية على المستويين العالمي والإقليمي.
في أبريل 2024، اتّخذ البلدان قراراً بدعم الاعتراف بفلسطين في الأمم المتحدة، في خطوة تاريخية لعلّها ضاعفت الضغوط على إسرائيل لخفض التصعيد. وعليه، يتماشى دعم حلّ دائم للقضية الفلسطينية مع قيم اليابان وكوريا الجنوبية ومصالحهما.32وستزداد أهميّة بناء آليّات للتعاون في مجال إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية، ربما مع الجهات الفاعلة الأوروبية وغيرها من الجهات الإنمائية والمالية، مع تعليق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) معظم برامجها، بما في ذلك البرامج في الشرق الأوسط في ظلّ إدارة ترامب الثانية. كما يمكن أنّ يشكّل مؤتمر التعاون بين دول شرق آسيا من أجل تنمية فلسطين، الذي أُنشئ بمبادرة يابانية في فبراير2013، منصّةً لتعزيز الدعم التعاوني للمساعدات الإنسانية وجهود التعافي وإعادة الإعمار في فلسطين.33
التوافق الجيوسياسي
سيتعمّق التعاون الإستراتيجي بين كوريا الجنوبية واليابان في الوقت الذي تترسّخ فيه العلاقات بين كوريا الشمالية وروسيا والصين وإيران. تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً مكثّفة على حلفائها لحضّهم على توسيع مساهماتهم في مواجهة صعود النفوذ الصيني في منطقة المُحيطين الهندي والهادئ. وقد عقدت كوريا الجنوبية والولايات المتحدة واليابان قمّة مشتركة في كامب ديفيد في العام 2023، للبحث في سُبل مواجهة المنافسة المتجدّدة بين القوى العظمى والتهديد النووي والصاروخي الصادر عن كوريا الشمالية.
بإمكان كوريا الجنوبية واليابان توسيع نطاق هذا التوافق ليشمل دفع التعاون قدماً في الشرق الأوسط. فبالإضافة إلى التعاون بين وزارتَي الخارجية، يمكن لوكالات التنمية، مثل الوكالة الكورية للتعاون الدولي (KOICA) والوكالة اليابانية للتعاون الدولي (JICA)، ووكالات التجارة، بما في ذلك الوكالة الكورية لتعزيز التجارة والاستثمار(KOTRA) ومنظّمة التجارة الخارجيّة اليابانية (JETRO)، عقد اجتماعات دوريّة لاستكشاف فرص التعاون في مجالَي التنمية والأعمال.
وقد تُشكّل رؤية اليابان لـ”منطقة المُحيطَين الهندي والهادئ الحرّة والمفتوحة” (FOIP) آليةً جوهريّة للتعاون المتعدّد الأطراف، باعتبارها جيوستراتيجيّة تجمع بين العناصر الاقتصادية والدبلوماسيّة والأمنية. ومن منظور ضمان أمن الممرّات البحريّة ومصادر الطاقة في منطقة المُحيطين الهندي والهادئ، تبرز فرصةٌ سانحة أمام اليابان وكوريا الجنوبية ودول أخرى للتعاون والانخراط في الشرق الأوسط، لا سيّما في ظلّ المشهد السياسي الدولي المتقلّب في خلال ولاية ترامب الثانية.
في خلال زيارة رئيس الوزراء الياباني كيشيدا إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر في يوليو 2023، تمحورت المناقشات حول دفع جهود التعاون قدماً في ما يتعلّق بتقنيّات إزالة الكربون وإنتاج الهيدروجين والأمونيا، بحيث تصبح منطقة الشرق الأوسط مركزاً عالمياً مستقبلياً للطاقة النظيفة والمعادن الأساسية. يُعزّز هذا التوجّه الإستراتيجي نحو التعاون الاقتصادي والتكنولوجي المتعلّق بالتحوّل في مجال الطاقة نقاط قوّة اليابان ويتماشى مع أهداف التحوّل العالمية. كما يوفّر نهجاً براغماتياً لضمان تدفّق مستمر ومستقر للنفط والغاز الطبيعي إلى آسيا في خلال فترة التحوّل الطويلة نحو مستقبل منخفض الكربون.
من أجل تعزيز أمن الطاقة وجهود التحوّل في مجال الطاقة، يمكن لليابان وكوريا الجنوبية التعاون في حماية البنية التحتية الحيوية للطاقة من خلال تشكيل فرق عمل مشتركة لرصد التهديدات المحدقة بمنشآت الطاقة الإقليمية والتعامل معها. في هذا الإطار، يمكن لوزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية ووكالة الموارد الطبيعية والطاقة والمنظّمة اليابانية للمعادن وأمن الطاقة (JOGMEC) التعاون مع نظيراتها في كوريا الجنوبية في هذا المسعى. ونظراً لتصاعد المخاطر الجيوسياسية، يمكن لسيول وطوكيو إنشاء آلية استجابة مشتركة لمراقبة البنية التحتية الحيوية مثل محطّات الغاز الطبيعي المسال وشبكات الكهرباء، وحمايتها من التهديدات المادية والسيبرانية، من خلال تعزيز تبادل المعلومات الاستخبارية بين الوكالات المعنيّة.
بالإضافة إلى ذلك، بإمكان الدولتين الاستثمار معاً في مشاريع الطاقة المتجدّدة في المنطقة، مع التركيز على مبادرات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين في دول مجلس التعاون الخليجي وشمال أفريقيا من جهة، وتشجيع الاستثمارات الخاصة من جهة أخرى. ويمكن إجراء حوار ثلاثي حول الأمن والتحوّل في مجال الطاقة يضمّ دول مجلس التعاون الخليجي وكوريا الجنوبية واليابان، بحيث يشكّل نقطة انطلاق للتعاون الرسمي. ومن شأن هذه الاستثمارات والمبادرات أن تُسهم في تحقيق الإستقرار الاقتصادي الإقليمي من خلال معالجة الأسباب الكامنة وراء عدم الاستقرار، ما يعزّز الأمن الشامل في المنطقة.
لطالما شجّعت اليابان مشاركة كوريا الجنوبية في مجتمع آسيا للانبعاثات الصفرية (AZEC) باعتباره خطوة مهمّة على درب التعاون بشأن التحوّل في مجال الطاقة. وفي عهد يون، عزّزت كوريا الجنوبية تعاونها مع اليابان في إطار التحوّل في مجال الطاقة، لا سيّما من خلال تطوير مشاريع مشتركة في مجالات مثل الإحتراق المشترك للأمونيا والهيدروجين وتقنيّات احتجاز الكربون وتخزينه.
من المرجّح أن تنتهج حكومة كوريا الجنوبية الجديدة سياسة شرق أوسطية تحافظ على التعاون المُرتكز على المصالح التجارية، فيما تحدّ من الشراكات الإستراتيجية. ومن المتوقّع أن يدافع الرئيس لي عن اعتماد دبلوماسية براغماتية تُركّز على المصلحة الوطنية، ما يشير إلى إمكانية استمرار مشاريع التصدير الكبرى، مثل مشروع الدفاع الكوري والتكنولوجيا النووية الكورية. ومع ذلك، من المُرجّح أن تعيد كوريا النظر في تعاونها الأمني الإستراتيجي مع الشرق الأوسط.
وقد تعمد الحكومة الجديدة إلى الحدّ من التعاون مع اليابان، مع تراجع الحوار الرفيع المستوى، على الرغم من احتمال استمرار بعض أوجه التعاون بين القطاعَين العام والخاص. وفي ضوء إعادة الاصطفاف الإستراتيجيّة هذه، تبرز الحاجة إلى وضع إستراتيجية جديدة للاستجابة بغية الحفاظ على التعاون الثلاثي بين كوريا الجنوبية واليابان والشرق الأوسط.
وعلى الرغم من أنّ الإدارة الكورية الجديدة لا تزال في مراحلها الأولى، يمكن المحافظة على قنوات التعاون القائمة من خلال مواءمتها مع إطار الدبلوماسية الاقتصادية البراغماتية الذي أرسته سياسات الرئيس لي، والتركيز على التعاون الاقتصادي والشراكات الصناعية المتكافلة بين كوريا الجنوبية واليابان والشرق الأوسط. ومن الضروري تفعيل القنوات الدبلوماسية المدنية تفعيلاً استباقياً والتحوّل نحو منصّات محايدة ومتعدّدة الأطراف، بما يتيح إعادة هيكلة التعاون وفقاً لأجندات غير مسيّسة وفي إطار الشرعيّة الاقتصادية والتكنولوجيّة والمدنيّة.
في الوقت الذي تُعمّق فيه اليابان وكوريا الجنوبية انخراطهما في الشرق الأوسط، سيستمرّ التفاعل بين المنافسة والتعاون في تشكيل المقاربات والإستراتيجيّات الإقليمية في كل من الدولتين. وقد ألقت المظالم التاريخية، والتوجّهات السياسية المتباينة، والتنافسات الاقتصادية، لا سيّما في قطاعات البنية التحتية والطاقة والدفاع، بظلالها على مسارَي البلدين اللذين غالباً ما يتلاقيان على الرغم من بعض الاحتكاكات الظرفيّة. ومع ذلك، يشكّل واقع تداخل المصالح الإستراتيجية، والاعتماد المشترك على النفط والغاز من الشرق الأوسط، وتفاقم حالة عدم الاستقرار على الساحة الدولية، حجّة مُقنعة للتعاون الانتقائي والبراغماتي، لا سيّما في ما يتعلّق بالأمن البحري والتحوّل في مجال الطاقة وبناء السلام الإقليمي.
وفي ظلّ خلط أوراق التحالفات العالمية في خلال ولاية ترامب الثانية، وتسارع وتيرة المنافسة بين القوى العظمى، وهشاشة النظام الإقليمي من البحر الأحمر إلى مضيق هرمز مروراً بغزة، تُواجه كلّ من طوكيو وسيول خياراً استراتيجيّاً: إما تعميق التنسيق لحماية مصالحهما وتعزيز نفوذهما، أو المخاطرة بالتعرّض للتهميش في منطقةٍ تُعدّ محورية في مجالات الطاقة والتجارة والدبلوماسية العالمية. وتتعدّد فرص التعاون المرتكز على القضايا وبقيادة مدنية، لا سيما من خلال آليّات مثل مؤتمر التعاون بين دول شرق آسيا من أجل تنمية فلسطين ومجتمع آسيا للانبعاثات الصفرية، والتنسيق البحري الثلاثي، والاستثمار المشترك في مبادرات الطاقة المتجدّدة. ومن خلال نزع الطابع السياسي عن الانخراط وترسيخ التعاون في أطر وظيفيّة غير سياسية، يمكن لليابان وكوريا الجنوبية التخفيف من القيود الناجمة عن التوتّرات في علاقتهما الثنائية من جهة، والاضطلاع بدورٍ فعال في تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط من جهة أخرى.
في نهاية المطاف، يتطلّب بناء نموذج متوازن للتعاون التنافسي إرادةً سياسية ومؤسساتية، مقرونةً بدبلوماسيّة خلاقة. وعلى الرغم من أنّ التحوّلات السياسيّة الداخلية، ولا سيّما في كوريا الجنوبية، قد تعقّد التنسيق الرفيع المستوى بين البلدين، يمكن للتركيز المستمرّ على الدبلوماسيّة الاقتصادية البراغماتية المحافظة على قنوات التعاون القائمة، لا بل توسيع نطاقها. وبذلك، لا تُعزّز كل من اليابان وكوريا الجنوبية دورها كقوّة وسطى مؤثّرة فحسب، بل تَبني مستقبلاً أكثر استقراراً وأمناً واستدامة للشرق الأوسط والعالم.