العراق في المرحلة المقبلة:

نحو الحرب أم التوافق؟

مذكرة سياسات، نوفمبر 2025
9 نوفمبر، 2025

في الحادي عشر من نوفمبر، يُدلي العراقيون بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية السادسة منذ الغزو الأمريكي في العام 2003. وتأتي هذه الانتخابات في مرحلة مفصلية، لا سيما وأنّ المنطقة ككلّ شهدت في العام الماضي صراعات طالت العراق أيضاً، بما في ذلك حرب الاثني عشر يوماً التي اندلعت في يونيو بين إسرائيل وإيران.1 وحتى الآن، وعلى الرغم من توّرط قوات الحشد الشعبي الموالية لإيران، والتي يبلغ عديدها 160 ألف جندي، نجح العراق في تجنّب اندلاع حرب كبرى على أراضيه.2 وعلى الرغم من أنّ بغداد قد تمكّنت من احتواء التصعيد في الوقت الراهن، فإنّ الخطر لا يزال يلوح في الأفق لا سيما وأنّ قوات الحشد الشعبي تشكّل جزءاً من شبكة إقليمية واسعة مكوّنة من مجموعات مسلّحة موالية لإيران، وتُعدّ أساسية لبقاء الجمهورية الإسلامية.

 

فقد أدّت هذه الشبكة، على مدى أكثر من عقدين من الزمن، دوراً محورياً في تحقيق أهداف سياسة إيران الخارجية، ما منح طهران نفوذاً واسعاً في العراق وسوريا واليمن. غير أنّ الحملة العسكرية الموسّعة التي شنّتها إسرائيل منذ أواخر العام 2023 قضت على قيادة حزب الله في لبنان وقوّضت صفوفه، كما أطاحت بحكومة الحوثيين في اليمن.3 وقد تطال هذه الحملة الآن قوات الحشد الشعبي، لا سيّما إذا ما اندلعت جولة ثانية من حرب الاثني عشر يوماً، أو إذا صعّدت قوات الحشد الشعبي هجماتها على إسرائيل والولايات المتحدة.

 

في هذه الأوقات العصيبة التي تمرّ بها إيران وشبكتها الإقليمية من المجموعات المسلّحة التي تعرّضت لانتكاسات موجعة، تعدّ انتخابات نوفمبر استحقاقاً حاسماً للمحافظة على مكانة العراق باعتباره الرئة التي تتنفّس منها إيران. في الواقع، يُمثل العراق دائرة نفوذ حيوية بالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية في الوقت الذي تواجه فيه الحملة العسكرية الإسرائيلية، والعقوبات المفروضة من الغرب، وإدارة ترامب التي لا تُمانع استخدام القوة العسكرية بغية تحقيق أهدافها الجيوسياسية.4

 

تنظر مذكرة السياسات هذه في أهميّة الانتخابات المقبلة بالنسبة إلى استقرار العراق الداخلي، وفي تداعياتها الجيوسياسية والمسار المستقبلي للدولة العراقية. كما تُبيّن أنّ المناخ الجيوسياسي السائد يقيّد قدرة إيران وحلفائها على اللجوء إلى الأساليب العنيفة التي مكّنتهم من بسط هيمنتهم على المشهد السياسي في أعقاب انتخابات العام 2021، وما يتيحه ذلك من فرصة لإعادة توجيه المسار نحو انخراط سلميّ. وتُظهر المذكرة أنّ هذه الديناميّة قد تُساهم في منع انزلاق العراق إلى آتون حرب إقليمية، ما يسمح بتحقيق توازن هشّ يُمكّن العراق من المحافظة على علاقاته مع الولايات المتحدة وإيران وموازنتها، فضلاً عن إنعاش اقتصاده، وتطوير علاقاته مع المنطقة الأوسع، وتجنّب اندلاع صراع إقليميّ.

 

 

الانضباط الإستراتيجي للحشد الشعبي

 

تجري الانتخابات في العراق في ظلّ تصاعد التوتّر في المنطقة ككلّ، وبعد عامٍ مثقلٍ بالخسائر الفادحة التي مُنيت بها إيران وحلفاؤها، بما فيها سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، والقضاء على قيادة حزب الله في لبنان، واستمرار الحملة العسكرية ضدّ الحوثيين في اليمن الذين أسقطت إسرائيل حكومتهم بالكامل في أغسطس.5 وعلى الرغم من هذه الخسائر، فقد خرج حلفاء إيران في العراق سالمين نسبياً، إذ لا تزال قوات الحشد الشعبي تحتفظ بنفوذ واسع من خلال هيمنتها على البرلمان العراقي وسيطرتها على عددٍ من الوزارات وعلى السلطة القضائية.6 ولا بدّ من الإشارة إلى أنّه خلال حرب الاثني عشر يوماً بين إسرائيل وإيران، التزمت قوات الحشد الشعبي موقفاً حذراً، على الرغم من قربها من القوات الأمريكية المنتشرة في العراق وسجلّها الحافل بالهجمات على القواعد الأمريكية في البلاد.7

 

وعلى الرغم من استمرار التصعيد الإقليمي، يعكس موقف الحشد الشعبي الإستراتيجي نضجاً وانضباطاً من جانب هيئةٍ صعد نجمها طوال العقد الماضي. وقد أبصرت قوات الحشد الشعبي النور في خضمّ استيلاء تنظيم داعش على الموصل في العام 2014، وإثر فتوى المرجع الديني الأعلى في العراق، السيد علي السيستاني، التي دعت إلى حشد المتطوّعين. فتَشكّل الحشد الشعبي كتحالفٍ يضمّ ميليشيات متفرّقة. وفيما شارفت الحملة العسكرية ضدّ داعش على نهايتها في العام 2017، تحوّل هذا الحشد من مجرّد قوة مساعدة غير نظامية إلى جزء من القوات المسلّحة العراقية التي تموّلها الدولة وتتمتّع بشرعية دستورية.8 وخاضت الهيئة الانتخابات في العام 2018 ككتلة متماسكة، فحلّت في المرتبة الثانية في أوّلى مشاركاتها الانتخابية.9

 

تحظى قوات الحشد الشعبي، بصفتها قوة مساندة رسمية ضمن القوات المسلّحة العراقية، فضلاً عن كونها هيئة سياسية وقوة انتخابية، بمكانة متعدّدة الأوجه في ظلّ التصعيد الإقليمي الراهن. وكجهة سياسية فاعلة، تمتدّ جذورها إلى عمق المجتمع العراقي حيث تملك شبكات واسعة من المحسوبية ودعماً شعبياً واسعاً.10 وقد أدّى فوز الحشد الشعبي في انتخابات مجالس المحافظات في ديسمبر 2023، حيث نال 101 مقعد من أصل 285، إلى تأكيد شعبيته وتمهيد الطريق لتعزيز نفوذه من خلال سيطرته على المجالس التي تُدير محافظات العراق بميزانياتٍ ضخمةٍ ونفوذٍ واسعٍ على قوات الشرطة المحلية.11

 

أمّا على الصعيد الاقتصادي فتُعدّ قوات الحشد الشعبي جهة فاعلة هجينة، لها قدم داخل الدولة وأخرى خارجها. وتتمتّع بميزانية تفوق 2,6 مليار دولار سنوياً، وتولّد في الوقت نفسه مليارات الدولارات من التجارة غير المشروعة وشبكات التهريب.12 وفي نوفمبر 2022، أنشأ الحشد الشعبي “شركة المهندس العامة”، التي صُمّمت صراحةً على شكل مقرّ خاتم الأنبياء التابع للحرس الثوري الإيراني. وقد مُنحت الشركة أرضاً على طول الحدود السعودية تبلغ مساحتها نصف مساحة لبنان تقريباً، ورُصدت لها ميزانية تشغيلية أوّلية تبلغ نحو 70 مليون دولار.13 ويمكن للحشد الشعبي، بفضل نفوذه السياسي والاقتصادي، أن يحافظ على شبكات المحسوبية وتوسيعها، ويقدّم الخدمات، ويزيد عديده، فضلاً عن تعزيز قدرته على تشكيل التحالفات السياسية والهيمنة على المؤسسات العراقية أو مصادرتها.

 

 

الأبعاد الجيوسياسية للانتخابات

 

ظاهرياً، يبدو أنّ قوات الحشد الشعبي مهيأة للصمود في وجه التصعيد الإقليمي الراهن. ومع ذلك، تبقى هذه المرحلة مرحلة اختبار غير مسبوقة، قد تكشف عن ثغرات في دفاعات الهيئة وتوسّعها. فعلى الصعيد المحلي، حلّ الحشد الشعبي مراراً وتكراراً في المرتبة الثانية بعد التيار الصدري في الانتخابات، كما أنّه يفتقر إلى الدعم من خارج قاعدته التقليدية المكوّنة من الشيعة العراقيين الفقراء والمحرومين، وهي قاعدة ازدادت هشاشتها بسبب دور الحشد في قمع حركة الاحتجاج في العام  2019 .14

 

طالبت حركة الاحتجاج بإنهاء النفوذ الإيراني، بالإضافة إلى إصلاحات لمكافحة الفساد وتحسين الخدمات. وقد قامت ميليشيات من الحشد الشعبي، بدعم من الدولة وتوجيه من إيران، بقتل الآلاف من قادة المجتمع المدني والمتظاهرين العاديين واختطافهم.15 وبعد فترة وجيزة على هذه الحملة القمعية، أدان آية الله العظمى السيستاني استغلال الحشد الشعبي لفتواه لزيادة صفوفه. وفي العام 2020، انسحبت الفصائل الموالية للمرجع الديني الشيعي من قوات الحشد الشعبي بسبب ولائها لإيران.16 وعلى خلفية هذه الاضطرابات الداخلية والخارجية، تراجع أداء الحشد الشعبي في الانتخابات البرلمانية للعام 2021، حيث حصل على 17 مقعداً فحسب، بعدما كان قد حصد 57 مقعداً في العام 2018، وهو عددٌ أقلّ بكثير من المقاعد الـ74 التي فاز بها التيار الصدري، المنافس الأقرب له والفائز في الانتخابات.17

 

أدّى اغتيال قائد الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس وقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في العام 2020 على يد الولايات المتحدة إلى تعميق الانقسامات الداخلية داخل قوات الحشد الشعبي وأثار أزمة على مستوى القيادة.18 لكن على الرغم من هذه الضربة، نجحت مناورات الحشد الشعبي الفاضحة بعد الانتخابات في العام 2021 في تشكيل تحالفات واستخدام تكتيكات عنيفة للتخفيف من وطأة هزيمته. وقد شمل ذلك هجوماً على مصافي النفط في أربيل انطلق من المناطق الخاضعة لسيطرة الحشد الشعبي.19 وتُوّج ذلك ببروزه كأكبر كتلة بعد الانتخابات، ما مكّنه من الاضطلاع بدور أساسيّ في تعيين محمد شياع السوداني رئيساً جديداً للوزراء في العراق. وشنّت قوات الحشد الشعبي، في إطار إستراتيجيتها لمرحلة ما بعد الانتخابات، هجمات بالطائرات المسيّرة واغتيالات سياسية ضد منافسيها، بينما نفّذت إيران هجمات صاروخية على أربيل.20 وقد أدّت هذه التكتيكات مجتمعة إلى تعزيز موقف الحشد الشعبي التفاوضي، ونسفت تحالفاً ناشئاً يضمّ الحزب الديمقراطي الكردستاني ومقتدى الصدر ومحمد الحلبوسي، كان من شأنه أن يفضي إلى تشكيل حكومة غير مسبوقة عابرة للطوائف تستبعد الحشد الشعبي.21

 

بيد أنّ هذا النهج قد لا يكون قابلاً للتطبيق في السياق الحالي. وقد يضع ذلك إيران وحلفاءها في العراق أمام معضلة. فمن جهة، يمكن لقوات الحشد الشعبي أن تلجأ إلى تكتيكاتها المعتادة المتمثّلة بالعنف والاستقطاب للمحافظة على نفوذها في حال تحقيقها نتائج ضعيفة. ومن جهة أخرى، أبدت الولايات المتحدة استعدادها لإسناد جوانب من إستراتيجيتها الأمنية الإقليمية إلى إسرائيل، التي أظهرت بدورها جهوزيّة واضحة لاستخدام القوة ضد المجموعات الموالية لإيران، بدعمٍ أمريكي.

 

وقد استغلّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في سبتمبر الماضي الخطاب الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لتوجيه تحذير مباشر إلى عدد من فصائل الحشد الشعبي، مصنفاً إيّاها ضمن الفئة نفسها مع حركة حماس وحزب الله والحوثيين والمنشآت النووية الإيرانية.22 وقد جاء هذا التصريح بعد أيام قليلة على تصنيف الولايات المتحدة رسمياً أربع فصائل من ضمن الحشد الشعبي كمنظمات إرهابية أجنبية.23 كما جدّدت الولايات المتحدة دعمها لخصوم الحشد الشعبي، بما في ذلك حكومة إقليم كردستان.24 بالإضافة إلى ذلك، فرضت واشنطن عقوبات على بنوك عراقية بتهمة تسهيلها تسريب الدولار إلى إيران ومساعدتها على الالتفاف على العقوبات؛ كما هدّدت بفرض عقوبات على الدولة العراقية نفسها في حال استمرّت في مساعدة إيران في التحايل على العقوبات.25

 

في الماضي، لربما كان بإمكان الحشد الشعبي تجاهل هذه التطوّرات واعتبارها مجرّد مناورات أو إجراءات رمزية. لكن على خلفية العمليات الإسرائيلية في لبنان واليمن وسوريا، فإنّ الاستخفاف باحتمال قيام إسرائيل بشنّ هجوم في عمق الأراضي العراقية، بدعم من الولايات المتحدة، سيشكّل خطأً فادحاً في التقدير.

 

 

الضغوط الداخلية

 

سيكون للانتخابات في نوفمبر وما سيعقبها من تطوّرات تداعيات داخلية طويلة الأمد. فقد تدهورت العلاقة بين الدولة والمجتمع في العراق في السنوات الأخيرة، إذ بات ملايين العراقيين يشعرون بخيبة الأمل والتهميش نتيجة سوء الحوكمة والفساد والحكم السلطوي.26 ويواجه العراق تحديات اجتماعية واقتصادية جسيمة ناجمة عن الزيادة السكانية في نسبة الشباب، والتدهور الاقتصادي، وتردّي البُنى التحتية. ومن المتوقّع أن يصل عدد سكان البلاد، الذي يتجاوز حالياً 45 مليون نسمة، إلى 50 مليون نسمة في غضون عقد من الزمن.27 فأكثر من 60 في المئة من العراقيين تقلّ أعمارهم عن 24 عاماً، ويسعى نحو 400 ألف خرّيج سنوياً إلى دخول سوق العمل.28

 

ولزيادة هذه التحديات تعقيداً، تواجه الدولة العراقية والنظام السياسي الذي تشكّل بعد العام 2003 أزمة شرعية، نتيجة فشل النخب الحاكمة في الاستجابة لمطالب السكان وشكاواهم، ما جسّدته احتجاجات تشرين التي سعت إلى إحداث إصلاح شامل للنظام السياسي الذي نشأ بعد العام 2003.

 

ويتجلّى الإحباط في تراجع نسب الإقبال على التصويت. ففي العام 2005، بلغت نسبة المشاركة نحو 80 في المئة، ما يرمز إلى التفاؤل بالتحوّل الديمقراطي في البلاد. غير أنّ هذا الحماس تراجع مع مرور الوقت، إذ انخفضت نسبة الإقبال إلى 45 في المئة في العام 2018 لتصل إلى 36 في المئة في العام 2021. وتشير التقارير إلى أنّ الأرقام الحقيقية قد تكون أقلّ من ذلك.

 

تطوّرت احتجاجات تشرين لتتحوّل إلى قوّة انتخابية تُعرف باسم حركة “امتداد”، وفازت بتسعة مقاعد في الانتخابات السابقة، بعد أن تعاونت مع جهات فاعلة في المجتمع المدني الأوسع التي تستمرّ في المطالبة بالحوكمة الرشيدة والإصلاحات.29 ومع ذلك، فإنّ النظام السياسي في العراق مصمّم لمقاومة أيّ إصلاحات جوهرية، إذ تتحكّم شبكة معقّدة من الجهات الفاعلة الرسمية وغير الرسمية، من الدولة ومن غير الدولة، بهياكل السلطة وتؤثّر فيها. ويعاني العراق انتشاراً غير منضبط للأسلحة والفصائل المسلّحة، ونقصاً في فعالية المؤسسات، ووجود مراكز قوى متنافسة غالباً ما تتجاوز سلطة الدولة. وفي عدد من المناطق، لا تتمتّع الحكومة بقدر كبير من السيطرة، إذ تتوزّع السلطة بين الأحزاب السياسية والمليشيات وزعماء العشائر والشخصيات الدينية.

 

علاوة على ذلك، لا تزال القضايا الجذرية التي مهّدت الطريق للانتفاضة الفاشلة في العام 2019 قائمة، كما تستمرّ المظالم الناشئة عن القمع العنيف الذي يمارسه الحشد الشعبي المدعوم من الدولة، والذي أسفر عن مقتل 550 متظاهراً بالرصاص، وإصابة الآلاف، واحتجاز المئات أو اختطافهم .30 وبالنظر إلى الانتخابات المقرّرة في نوفمبر، سيعتمد مسار حركة الاحتجاج في العراق ومستقبل النظام السياسي ما بعد العام 2003 إلى حدّ كبير على الخيارات التي سيتّخذها مقتدى الصدر. فالصدر لا يقود أقوى حركة اجتماعية وسياسية في العراق فحسب، بل أيضاً كتلة سياسية فازت في العمليتين الانتخابيتين البرلمانيتين الأخيرتين في البلاد على حدّ سواء.

 

ففي العام 2020، ورداً على قمع الاحتجاجات، نأى الصدر بنفسه عن الإطار التنسيقي الشيعي وعن الطبقة السياسية الشيعية الأوسع التي وحّدت صفوفها في وجه الاحتجاجات. إلا أنّ الصدر سحب لاحقاً دعمه للمتظاهرين، ما سدّد ضربة شديدة لهم وسلّط الضوء على نقاط ضعفهم (وقلة موثوقية الصدر).

 

تُطرح علامات استفهام حول الطريقة التي ينوي الصدر من خلالها تحديد موقفه في السباق الانتخابي المقبل، وما إذا كان سيدعو مجدداً إلى التعبئة الجماهيرية كوسيلة للضغط على منافسيه. وعلى الرغم من دعوة الصدر إلى مقاطعة الانتخابات، فإنّه قد يسعى إلى إحياء الحركة الاحتجاجية في محاولة لقلب الوضع الراهن أو التخفيف من وطأته، مصوّراً نفسه كحامٍ لها، ومدرجاً في الوقت نفسه مطالبها ضمن أجندته الشعبوية الأوسع. ومن شأن تحالف مماثل أن يوفّر للمتظاهرين غطاءً سياسياً وحماية مادية، نظراً لقدرة الصدر على حشد العناصر المسلّحة إلى جانب الدعم الشعبي. غير أنّ ذلك قد يأتي على حساب استقلاليّتهم ويعرّضهم لخطر إدماجهم ضمن مشروع الصدر السياسي بدلاً من دفع أجندتهم للإصلاح الجذري قدماً.

 

من جهة أخرى، قد يقرّر الصدر متأخّراً خوض الانتخابات، ثم يسعى إلى بناء تحالف مع حركة امتداد، ما يخلق حاجزاً بين المتظاهرين والميليشيات الموالية للدولة ضمن قوات الحشد الشعبي. وقد تكتسب هذه الخطوة أهمية خاصة في حال أثارت الانتخابات جدلاً نتيجة التزوير أو انخفاض نسبة المشاركة. ففي مثل هذا السياق، قد تتضافر التوترات الداخلية مع التوترات الإقليمية لتُنتِج بيئة تُمكّن الحشد الشعبي وحلفاءه من قمع المجتمع المدني والمتظاهرين بذريعة الصراعات الإقليمية، على غرار الأسلوب الذي اعتمدته المجموعات الموالية لإيران في العام 2020.

 

 

تحقيق التوازن

 

قد تفتح انتخابات نوفمبر الباب أمام اضطرابات وصراعات في العراق، بما في ذلك احتمال إحياء حركة تشرين الاحتجاجية وتكرار الاشتباكات التي وقعت بين التيار الصدري والحشد الشعبي عقب الانتخابات السابقة.31 فهذه المرة، قد يجد الحشد الشعبي نفسه منخرطاً في مواجهات متعدّدة، تشمل خصمه الأقرب، التيار الصدري، وحركة احتجاجية قد تستعيد زخمها، بالإضافة إلى إسرائيل والولايات المتحدة، اللتين قد تنظران إلى أيّ عنف تمارسه قوات الحشد الشعبي بعد الانتخابات كفرصة لاستهداف قيادتها وبنيتها التحتية. بالإضافة إلى ذلك، لقد ضعفت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الداعم الرئيسي للحشد الشعبي، إلى حدّ كبير.

 

تشير هذه العوامل مجتمعة إلى أنّ الحشد الشعبي يفتقر إلى المساحة اللازمة لمواجهة خصومه باستخدام التكتيكات التي اعتمدها في الماضي. إلا أنّه بدلاً من دفع قوات الحشد الشعبي إلى الزاوية، قد تتيح هذه الظروف فرصة للعراق لتصحيح مساره، وإبراز نفسه كجهة فاعلة محايدة تحقّق توازناً في علاقاتها مع إيران والولايات المتحدة، وتركّز اهتمامها على الحوكمة الرشيدة، عوضاً عن الانغماس في صراعات إيران.

 

بالتالي، يحظى الحشد الشعبي بفرصة لإعادة ضبط مساره، والاتجاه نحو الانخراط السلمي مع خصومه بغية تجنّب الانزلاق إلى حرب قد تُسفر عن خسائر فادحة له وللعراق على حدّ سواء. وتعدّ انتخابات نوفمبر استفتاءً على المسارات أكثر منه على الأحزاب، إذ يؤدّي المسار الأوّل إلى ترسيخ نظام هجين، حيث يتمسّك الحشد الشعبي بنفوذه بصرف النظر عن الكلفة التي يفرضها على الدولة والمجتمع، حتّى ولو وصلت إلى حدّ اندلاع حرب على الأراضي العراقية. أمّا المسار الآخر، فيؤدي إلى توازن هش وإلى سلام يسمح للعراق بالمحافظة على علاقاته مع كلّ من الولايات المتحدة وإيران وموازنتها، ما يتيح له إنعاش اقتصاده، وتطوير علاقاته مع المنطقة ككلّ، وتجنّب اندلاع صراع إقليمي.

 

 


الهوامش
1 Adrian Blomfield, “Mass assassinations to bunker-busters: the 12 days that reshaped the world,” The Telegraph, June 25, 2025, https://www.telegraph.co.uk/world-news/2025/06/24/iran-israel-12-day-war-that-shook-world/.
2 “Popular Mobilization Commission (PMC) in Iraq adopts Code of Conduct for Humanitarian Norms”, Geneva Call, December 22, 2022, https://www.genevacall.org/news/popular-mobilization-commission-pmc-in-iraq-adopts-code-of-conduct-for-humanitarian-norms/.
3 Jaroslav Lukiv, “Houthis confirm their prime minister killed in Israeli strike”, BBC News, August 30, 2025, https://www.bbc.co.uk/news/articles/c620ykrxedwo.
4 Muhanad Seloom, “From Rivals to Allies: Iran’s Evolving Role in Iraq’s Geopolitics,” in Iran in the Middle East: Building Bridges or Expanding Influence? (Doha: Middle East Council on Global Affairs, April 19, 2024), https://mecouncil.org/publication_chapters/from-rivals-to-allies-irans-evolving-role-in-iraqs-geopolitics/.
5 “Bashar al-Assad: Sudden downfall ends decades of family’s iron rule,” BBC News, December 9, 2024, https://www.bbc.co.uk/news/10338256 ; “One year after killing of leader Nasrallah, Hezbollah says no to disarming,” Al Jazeera, September 28, 2025, https://www.aljazeera.com/news/2025/9/28/one-year-after-killing-of-leader-nasrallah-hezbollah-says-no-to-disarming.
6 Michael Knights, Hamdi Malik, and Aymenn Jawad Al-Tamimi, Honored, Not Contained: The Future of Iraq’s Popular Mobilization Forces, Policy Focus 163. (Washington, D.C.:The Washington Institute for Near East Policy, May 23, 2020), https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/honored-not-contained-future-iraqs-popular-mobilization-forces.
7 Knights, Malik & Al Tamimi, Honored, Not Contained, 163.
8 Ahmad Majidyar, Iran-backed militia groups will receive full military benefits under new decree, (Washington, D.C.: Middle East Institute, March 9, 2018), https://www.mei.edu/publications/iran-backed-militia-groups-will-receive-full-military-benefits-under-new-decree.
9 “Iraq elections final results: Sadr’s bloc wins parliamentary poll,” Al Jazeera, May 20, 2018, https://www.aljazeera.com/news/2018/5/20/iraq-elections-final-results-sadrs-bloc-wins-parliamentary-poll.
10 Majidyar, Iran-backed militia groups will receive full military benefits under new decree.
11 “Iraq’s governing Shia alliance strengthened in provincial elections,” Al Jazeera, December 20, 2023, https://www.aljazeera.com/news/2023/12/20/iraqs-ruling-shia-alliance-tops-provincial-elections.
12 Amir al-Kaabi and Michael Knights, Extraordinary Popular Mobilization Force Expansion, by the Numbers, (Washington, D.C.:The Washington Institute for Near East Policy, 3 June 2023), https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/extraordinary-popular-mobilization-force-expansion-numbers ; Laura Adal and Sarah Fares, “Smuggling, subsidies and shortages: Iraq’s latest oil troubles,” Global Initiative Against Transnational Organized Crime, February 10, 2023, https://globalinitiative.net/analysis/iraq-oil-smuggling/.
13 Amir al-Kaabi and Michael Knights, Extraordinary Popular Mobilization Force Expansion, by the Numbers, Policy Analysis. (Washington, D.C.:The Washington Institute for Near East Policy, June 3, 2023), https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/extraordinary-popular-mobilization-force-expansion-numbers
14 Ranj Alaaldin, “The Origins and Ascendancy of Iraq’s Shiite Militias,” Current Trends in Islamist Ideology, November 1, 2017, https://www.hudson.org/national-security-defense/the-origins-and-ascendancy-of-iraq-s-shiite-militias.
15 “Iraq: Protest death toll surges as security forces resume brutal repression”,” Amnesty International, January 23, 2020, https://www.amnesty.org/en/latest/news/2020/01/iraq-protest-death-toll-surges-as-security-forces-resume-brutal-repression/.
16 Mustafa Saadoun, “Shiite factions close to Sistani move to separate from Iran-backed militias,” Al-Monitor, May 18, 2020, https://www.al-monitor.com/originals/2020/12/iraq-iran-pmu-sistani.html.
17 “Final results confirm Sadr’s victory in last month’s Iraqi vote,” Reuters, November 30, 2021, https://www.reuters.com/world/middle-east/final-results-show-cleric-sadr-won-iraq-vote-state-media-says-2021-11-30/.
18 Gareth Browne and Zaheena Rasheed, “‘Perilous times’ for Iraq’s Shia militias after Soleimani killing,” Al Jazeera, January 22, 2020, https://www.aljazeera.com/features/2020/1/22/perilous-times-for-iraqs-shia-militias-after-soleimani-killing.
19 “Missile Attack Causes Fire in Iraqi Oil Refinery: Officials,” Al Jazeera, May 2, 2022, https://www.aljazeera.com/news/2022/5/2/missile-attack-causes-fire-erbil-oil-refinery-officials ; “A Thousand Hezbollahs: Iraq’s Emerging Militia State”, New Lines Institute, 4 May 2021, https://newlinesinstitute.org/nonstate-actors/a-thousand-hezbollahs-iraqs-emerging-militia-state/.
20 Mohanad Faris, “The Popular Mobilization Forces in Iraq: A Political Bargaining Chip?”, The Washington Institute for Near East Policy, Fikra Forum, April 8, 2022, https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/popular-mobilization-forces-iraq-political-bargaining-chip ;
21 Renad Mansour, “The Political Logic behind Iraq’s Fragmented Armed Forces” Middle East Research and Information Project, April 4, 2023, https://www.merip.org/2023/04/the-political-logic-behind-iraqs-fragmented-armed-forces/.
22 “Netanyahu Threatens to Destroy Iraqi Militias Leaders in Fiery UN Address,” Kurdistan 24, September 26, 2025, https://www.kurdistan24.net/en/story/865896/netanyahu-threatens-to-destroy-iraqi-militias-leaders-in-fiery-un-address ; “US lists 4 Iran-backed Iraqi militias as foreign terrorist organizations”, Al Monitor, September 17, 2025, https://www.al-monitor.com/originals/2025/09/us-lists-4-iran-backed-iraqi-militias-foreign-terrorist-organizations.
23  “US designates four Iran-aligned militias as terrorist organizations,” Reuters, September 17, 2025, https://www.reuters.com/world/middle-east/us-designates-four-iran-aligned-militias-terrorist-organizations-2025-09-17.
24 Mohammed Salih, “The Multi-Billion Dollar Relationship: The New Chapter in Kurdistan-U.S. Relations,” MEPS Forum, 26 May, 2025, https://www.mepsforum.org/post/the-multi-billion-dollar-relationship-the-new-chapter-in-kurdistan-u-s-relations.
25 U.S. Department of the Treasury, “U.S. Treasury Takes Action to Protect Iraqi Financial System From Abuse,” press release, January 29, 2024, https://home.treasury.gov/news/press-releases/jy2053.
26 “Iraq’s Rafidain Bank pushes back amid US accusations,” Rudaw, August 19, 2025, https://www.rudaw.net/english/middleeast/iraq/19082025.
27 Qassim Abdul-Zahra, “46.1 million people were counted in Iraq’s first census in nearly 40 years,” AP News, February 25, 2025, https://apnews.com/article/iraq-census-final-count-45b7753ddc82c188c79faea0d5a8c90d ; “Iraq population projected to hit 50 million by 2030,” Kurdistan24, September 18, 2021, https://www.kurdistan24.net/en/story/385597.
28 Amna Haider and Mahnaz Vahdati, “Reimagining a way forward: Iraq’s economy and energy sector in the post-invasion era,” (Washington, D.C.: Atlantic Council, May 9, 2023), https://www.atlanticcouncil.org/uncategorized/reimagining-a-way-forward-iraqs-economy-and-energy-sector-in-the-post-invasion-era/.
29 Taif Alkhudary, “Fragmentation of Iraq’s ‘Protest Parties’ amid the Muhasasa System’s Resilience,” PeaceRep, October 14, 2022, https://peacerep.org/2022/10/14/fragmentation-iraq-protest-parties-muhasasa/.
30 Amnesty International, “Iraq: Protest death toll surges.”
31 John Davison and Haider Kadhim, “Deadly clashes rage in Baghdad in Shi’ite power struggle,” Reuters, August 30, 2022, https://www.reuters.com/world/middle-east/iraqi-cleric-sadr-announces-full-withdrawal-political-life-twitter-2022-08-29/.