القرن الأفريقي محوري للمصالح الخليجية: بات القرن الأفريقي محوراً رئيسياً لسياسة الدول الخليجية الخارجية، بالأخصّ الإمارات والسعودية وقطر، مدفوعاً بسببين رئيسيّين: الاستثمارات الاقتصادية والأمن.
الدول الخليجية أمام بيئة أمنية معقّدة: ركزّت إستراتيجيات الدول الخليجية الأمنية في القرن الأفريقي بشكل أساسي على التصدّي لما تعتبره تهديداً إيرانياً. وفيما توسّع نفوذها السياسي، لا بدّ أن تأخذ إستراتيجياتها في عين الاعتبار احتمال تصاعد التطرّف العنيف والصراعات في القرن الأفريقي.
الارتباط بين الاقتصاد والأمن: تتسارع الاستثمارات الخليجية في القرن الأفريقي نظراً لما تعد به هذه المنطقة من فرص اقتصادية ضخمة. إلّا أنّ هذه الإستراتيجية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالاعتبارات الأمنية. قد تسهم هذه الاستثمارات في تعزيز السلام والاستقرار في المنطقة، وهو ما يحمي بدوره المصالح الأمنية الخليجية.
خطر العسكرة: رغم أنّ الدول الخليجية استفادت من حضورها في القرن الأفريقي، فإنّ عسكرة المنطقة والصراعات بين الدول الخليجية فاقمت التوتّرات القائمة منذ زمن طويل.
يربط القرن الأفريقي1 ودول مجلس التعاون الخليجي تاريخ طويل من العلاقات التجارية والثقافية والدينية والأمنية. وقد شهدت هذه العلاقات تطوّرات بارزة على مرّ السنوات الماضية، بالأخصّ في مجالي الأمن والاقتصاد اللذين زادت أهميّتهما في رسم معالم العلاقة بين المنطقتين، نظراً للأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر كممرّ بحري حيوي.
تسعى القوى العالمية والإقليمية إلى توطيد علاقاتها مع القرن الأفريقي، مدفوعة بعوامل متنوعّة، أهمّها غنى المنطقة بالموارد الطبيعية، مثل المعادن الأساسية والنفط والغاز، بالإضافة إلى الأراضي الخصبة والمياه. كانت هذه المنطقة ساحة صراع محتدم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي إبّان الحرب الباردة، واليوم تستقطب مجموعة من القوى العظمى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، وعدداً من القوى متوسطة الحجم مثل فرنسا وإيطاليا وإيران وتركيا، بالإضافة إلى بعض دول مجلس التعاون الخليجي.
تعمل ثلاث دول خليجية على وجه الخصوص، هي الإمارات وقطر والسعودية، على ترسيخ مصالحها في القرن الأفريقي، سواء بهدف التصدّي لخصومها الإقليميين و/أو لدعم الأنظمة السياسية في المنطقة. في هذا السياق، تجري المملكة العربية السعودية محادثات مع جيبوتي منذ العام 2017 من أجل بناء قاعدة عسكرية سعودية في البلاد.2 وعلى الرغم من أنّ هذه القاعدة لم تبصر النور،4 إلّا أنّ الدولتين ملتزمتان بمواصلة التعاون معاً للحفاظ على أمن البحر الأحمر.3 وفي العام 2024، وقّعت السعودية على اتفاقية مع جيبوتي لإنشاء قاعدة لوجستية، ستكون مركزاً للصادرات نحو القارة الأفريقية.5 وكانت السعودية، إلى جانب قطر والإمارات قد ضخّت استثمارات ضخمة في المنطقة، شملت قطاعات الزراعة والطاقة والعقارات والمصارف والصناعة والبناء واللوجستيات والشحن والاستشارات وخدمات الأعمال والاتصالات، فضلاً عن الضيافة والسياحة والرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية والتعليم والتعدين.6
يتناول هذا الموجز الحضور القويّ للسعودية وقطر والإمارات في القرن الأفريقي وتطوّر العلاقات الثنائية حكوماتها. كما يسلّط الضوء على الدوافع الأمنية والاقتصادية خلف انخراط الدول الخليجية في القرن الأفريقي، وأسباب اهتمامها في المنطقة، فضلاً عن العوامل التي تشجّع حكومات القرن الأفريقي على الانفتاح على الدول الخليجية.
يُقدّر عدد سكّان القرن الأفريقي بأكثر من 200 مليون نسمة،7 ويعدّ من أكثر المناطق عرضة للصراعات في العالم. ويُعزى ذلك بجزء منه إلى موقعه الإستراتيجي الحسّاس والسياسات المحلّية والعوامل التاريخية، وتأثير الأحداث الكبرى التي تجري في المناطق المجاورة.8 وقد أصبح القرن الأفريقي اليوم محوراً رئيسياً ضمن دائرة المصالح الإستراتيجية للدول الخليجية.
بدأ الانخراط السعودي في القرن الأفريقي، وخاصة في السودان والصومال، منذ سبعينيات القرن الماضي. فقد ارتبط هذا الدور في البداية بالصراع العربي الإسرائيلي، ثم تركّز لاحقاً على التصدّي لانتشار التشيّع في أفريقيا عقب الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 .9 في تلك الحقبة، كان اهتمام الإمارات وقطر بالمنطقة لا يزال محدوداً. إلّا أنّ الأزمة المالية العالمية في العام 2008 شكلّت نقطة تحوّل بارزة، إذ دفعت الدول الخليجية إلى استكشاف فرص اقتصادية في مناطق لم تتأثّر كثيراً بالركود الاقتصادي العالمي، ما زاد من أهمية القرن الأفريقي.10
أدّى البحر الأحمر دوراً محورياً عبر التاريخ في تسهيل حركة السلع وتنقّل الأفراد بين ممالك شرق أفريقيا والدول الخليجية. وقد أسهمت هذه التبادلات التجارية في ترسيخ الروابط الثقافية بين الجانبين وانتشار الإسلام وتشكيل هوية مشتركة. ولا يزال هذا الإرث التاريخي العميق يترك بصماته على السياسات الخارجية للدول الخليجية فيما تسعى إلى توطيد علاقاتها مع إثيوبيا والصومال وجنوب السودان وإريتريا وجيبوتي انطلاقاً من إرث ثقافي مشترك. كما يُفسّر ذلك جزئياً “الاندفاعة الكبيرة للدول الخليجية نحو بسط نفوذها في المنطقة واستمالة الجهات الفاعلة الأفريقية لدعم أهدافها”.11
ويعزى أيضاً اهتمام الدول الخليجية بالقرن الأفريقي منذ بداية الألفية لإدراكها الأهمية الإستراتيجية للمنطقة كبوّابة إلى المحيط الهندي وما خلفه. فقد أتاح هذا الموقع الجغرافي المميّز للدول الخليجية الثلاثة تعزيز حركة التجارة بين شرق أفريقيا ومختلف أنحاء العالم، ما أسهم في تشكيل الديناميات الاقتصادية للمنطقة. ولكن هذا وحده لا يكفي لتفسير انخراط الخليج العميق في القرن الأفريقي.
تحتلّ المصالح الأمنية والاقتصادية صدارة الدوافع لاهتمام القوى الخليجية بالقرن الأفريقي، حيث يرتبط هذان المجالان ارتباطاً وثيقاً، ما يشير إلى أنّ اهتمام هذه الدول بالمنطقة يأتي ضمن إستراتيجية جيوسياسية أوسع تهدف إلى التعامل مع شبكة معقّدة من الديناميات الإقليمية والتحوّلات في موازين القوى العالمية. وتستعرض الأقسام التالية أبرز الدوافع التي تقف خلف انخراط قطر والسعودية والإمارات في دول القرن الأفريقي.
عانى القرن الأفريقي في حقبة ما بعد الاستعمار هشاشةً مزمنة أدّت إلى اندلاع الكثير من الصراعات وانتشار القرصنة والإرهاب، بالإضافة إلى نشوء دول ضعيفة وفاشلة، ما فتح المجال للتدخلات الأجنبية. ومع تزايد أهميّة البحر الأحمر على الساحة الجيوسياسية الدولية، زاد اهتمام القوى الخارجية بالمنطقة.12 يُعدّ البحر الأحمر ممرّاً حيوياً للتجارة العالمية، فهو يربط بين قناة السويس في الشمال ومضيق باب المندب في الجنوب. كما وأنّ تراجع دور الولايات المتحدة الظاهري في الشرق الأوسط وتحوّلها نحو آسيا منذ إدارة أوباما13 قد ساهم في تصاعد التنافس بين القوى الإقليمية التي سعت لتعزيز نفوذها في القرن الأفريقي من أجل إعادة بناء الأنظمة الإقليمية بما يتماشى مع مصالحها.
وقد دفعت ثورات الربيع العربي عام 2011 وتزايد نشاط جماعة الإخوان المسلمين في أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك مصر والسودان، بالسعودية وقطر والإمارات إلى إقامة تحالفات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومناطق أخرى، بما في ذلك دول القرن الأفريقي، لمواجهة ما اعتبرته تهديداً وجودياً.14 وفي حين أظهرت قطر ترحيباً بالحكومات الإسلامية، عارضت السعودية والإمارات تنامي شعبية هذه الحركات السياسية وصعودها إلى السلطة في بعض الحالات.15 في الوقت ذاته، كان على الدوحة والرياض وأبوظبي إدارة الديناميات الإقليمية بحذر لمنع تصاعد التوتّرات في المنطقة.
في العام 2015، تدخّلت السعودية والإمارات ودول أخرى عسكرياً في الحرب الأهلية في اليمن بهدف الحدّ من نفوذ الحوثيين ومن خلفهم إيران. سعت الإمارات إلى إنشاء قواعد عسكرية في إريتريا وجمهوريّة أرض الصومال الانفصالية (إقليم أرض الصومال)،16 بينما أكّدت السعودية نيّتها لبناء قاعدة عسكرية في جيبوتي17 لاستخدامها كمنصّة انطلاق لعملياتها العسكرية في اليمن. كما ركّزت السعودية والإمارات على حماية الممرّات البحرية الحيوية للتجارة العالمية وتدفّق النفط، ما دفعهما للاستثمار في الموانئ والقواعد العسكرية على البحر الأحمر وخليج عدن.18 وبعد ثورات الربيع العربي،19 عزّزت كل من قطر وتركيا حضورهما في القرن الأفريقي. وفي حين أظهرت قطر استعداداً أكبر للتعاون مع الحكومات أو الجهات المرتبطة بجماعات إسلامية، تحالفت الإمارات مع الأطراف المناهضة للتيارات الإسلامية.
دفع الحصار الدبلوماسي والاقتصادي الذي فرضته السعودية والإمارات ومصر على قطر بين عاميّ 2017 و2021 بالدوحة إلى تعزيز تعاونها مع تركيا. وفي العام 2018، فازت قطر بعقد بقيمة أربعة مليارات دولار لتحديث ميناء سواكن في السودان،20 ولكن الصفقة جُمِّدت في العام التالي بسبب الاضطرابات في الداخل السوداني.21 وفي العام 2019، بدأت شركة “موانئ قطر” مفاوضات مع الصومال لإبرام عقد شراكة استثمارية لبناء ميناء هوبيو في إقليم غلمدغ وسط الصومال قرب ممرّ باب المندب، ولكنّ الصفقة عادت وانهارت، وتولّـت تركيا المشروع في العام 2024.22 وكانت الدوحة منحت الصومال أسطولاً من 68 آلية مدرّعة.23
تنافست الدوحة وأبوظبي على الاستحواذ على مشاريع موانئ في مقديشو والأقاليم الانفصالية في الصومال على التوالي.24 وفي السنوات الماضية، مالت جيبوتي أكثر نحو السعودية، إثر توتّرات مع الإمارات في العام 2021،25نجمت عن إعلان جيبوتي في العام 2018 سيطرتها على محطة حاويات تملك جزءاً منها شركة “موانئ دبي العالمية”وتتولّى تشغيلها. 26وفي هذا الإطار، تسلّط محاولات السعودية إقامة قاعدة عسكرية في جيبوتي 27واستثمارات الإمارات في ميناء بربرة في إقليم أرض الصومال الانفصالية 28 الضوء على تزايد عسكرة المنطقة.
استفادت دول مجلس التعاون الخليجي من انخراطها السياسي في القرن الأفريقي من أجل حماية جوارها البحري الأوسع وتعزيز نفوذها الإقليمي ودعم مصالحها التجارية. مثلاً، تحوّلت الإمارات تدريجياً إلى لاعب أساسي على الساحة الأمنية الإقليمية.29 وقد اغتنمت حكومات القرن الأفريقي فرصة هذا الاهتمام الخليجي، فعمدت إلى توظيف التحالفات السياسية مع الخليج لتدعيم أنظمتها وحماية مصالحها الإستراتيجية وتطويرها. سعت إثيوبيا، على سبيل المثال، لتصبح قوّة مهيمنة إقليمياً، بينما استفادت الدول الصغيرة مثل إريتريا وجيبوتي، وإقليم أرض الصومال الانفصالية، من مواقعها الإستراتيجية وصراعات القوى الخارجية لتطرح نفسها كمقرّات مهمّة لاستضافة القواعد العسكرية، مثل القاعدة الإماراتية التي أنشئت عام 2015 في مدينة عصب الساحلية في إريتريا، ولكن فُكّكت عام 2021 عقب انسحاب الإمارات من الحرب في اليمن.30
سعت الدول الخليجية لتحقيق أهدافها في القرن الأفريقي من خلال تبنّي إستراتيجيات متنوّعة. فقد ركّزت السعودية مثلاً على مجالات التعليم والاستثمارات المالية، فيما وجّهت الإمارات جهودها نحو التطوير الزراعي وإدارة الموانئ وتطويرها، بالإضافة إلى مجال الأمن.31 ومن الأمثلة على ذلك، وقّعت الحكومة السودانية في ديسمبر 2022 على عقد مبدئي بقيمة ستّة مليارات دولار مع تحالف شركات إماراتية لتطوير ميناء أبو عمامة على البحر الأحمر وتشغيله، بما يشمل إقامة منطقة اقتصادية.32 ولكنّ العلاقات بين الإمارات والحكومة السودانية توترت بسبب دعم أبوظبي المزعوم لدعم قوّات الدعم السريع، ما أدّى إلى إلغاء الاتفاق في نوفمبر 33.2024
صحيح أنّ دول مجلس التعاون الخليجي تتشارك مصالح اقتصادية في القرن الأفريقي، إلّا أنّ انخراط كلّ منها يختلف باختلاف الدوافع. فقد ركّزت السعودية والإمارات، في ظلّ الحرب في اليمن، على مواجهة النفوذ الإيراني الداعم للحوثيين، بالتوازي مع تصاعد تنافسهما مع قطر وتركيا الذي انعكس على الساحة السياسية للقرن الأفريقي.34 كما أسفرت التحوّلات الإقليمية، مثل الأزمة الخليجية، عن تشكيل تحالفات جديدة بين الدول الخليجية ودول القرن الأفريقي، حيث عزّزت تركيا وقطر تعاونهما، فيما وظّفت الإمارات والسعودية نفوذهما في المنطقة بهدف عزل قطر.
زادت السعودية والإمارات وقطر سياسياً كذلك انخراطها في القرن الأفريقي، فكثّفت منذ أواخر التسعينيات نشاطها الدبلوماسي في هذه الدول، حيث عملت على تسوية النزاعات الحدودية ووقف الحروب بالوكالة. في العام 1999، قادت قطر وساطة ناجحة بين السودان وإريتريا، أسهمت في استئناف العلاقات الدبلوماسية التي كانت مقطوعة منذ العام 1994.35 وفي منتصف العقد الأول من الألفية، وسّعت قطر جهودها لتشمل الوساطة بين الفصائل المتناحرة في الصومال. وقد تنامى الدور القطري في القرن الأفريقي لدرجة أنّ إثيوبيا قررت في أبريل 2008 قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الدوحة، متهمة إياها بزعزعة الاستقرار الإقليمي، ولم تُستأنف هذه العلاقات إلّا بعد أربع سنوات.36 امتدّت جهود الوساطة القطرية إلى نزاعات متعدّدة، من بينها الخلاف الحدودي بين جيبوتي وإريتريا في العام 2008. غير أنّ قطر عادت وسحبت قوّاتها لحفظ السلام من الحدود في العام 2017، على خلفية الأزمة الخليجية التي انحازت فيها كلّ من جيبوتي وإريتريا إلى المحور الذي تقوده السعودية.37 استأنفت جيبوتي وإريتريا العلاقات بينهما في العام 2018،38 على الرغم من أنّ الصراع بينهما لم يحسم بعد.
ولم تكن قطر الوحيدة التي سعت لتأدية دور الوسيط على ساحة القرن الأفريقي. فالسعودية والإمارات القلقتان من تداعيات الحرب في اليمن على المنطقة، عزّزتا جهودهما الدبلوماسية الرامية لحلّ عدد من الصراعات في القرن الأفريقي، كان أبرزها توقيع الخصمين اللدودين في القرن الأفريقي: إثيوبيا وإريتريا على اتفاق سلام في جدّة عام 2018 تحت رعاية سعودية إماراتية،39 نجحت من خلاله الدولتان الخليجيتان في تطبيع العلاقات بين أديس أبابا وأسمرة. ولكن على الرغم من هذه الجهود، تبقي التوتّرات المتكرّرة بين إريتريا وإثيوبيا اللتين خاضتا حروب متعدّدة منذ استقلال إريتريا في العام 1993، الباب مفتوحاً على عودة النزاعات بينهما.
توسّطت قطر أيضاً من أجل إعادة العلاقات الدبلوماسية بين كينيا والصومال في مايو 2021،40 بعد ستّة أشهر من قطع الصومال علاقاته مع كينيا، متّهماً إياها بانتهاك سيادته والتدخّل في شؤونه الداخلية.41 نجحت قطر في تحقيق هذا الإنجاز بفضل حيادها ومواردها المالية الهائلة، ما يبيّن العلاقة الوثيقة بين توزيع المساعدات والتنافس الإقليمي بين الدول الخليجية، وتأثير ذلك على إستراتيجيات قطر في تقديم المساعدات للقرن الأفريقي وانعكاساته على استقرار الصومال.
تأتي هذه الجهود ضمن إطار إستراتيجية قطرية شاملة تهدف إلى معالجة الأسباب الجذرية للنزاعات، بهدف تعزيز الأمن والسلام والتنمية في القارة الأفريقية. 42 إذ تطرح قطر نفسها كوسيط دبلوماسي من خلال بناء علاقات مع الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، وقد نجحت في توظيف قدراتها المالية وحيادها من أجل دعم ما تقوم به من جهود وساطة وما تقدّمه من مساعدات.43
تعتمد إستراتيجية الإمارات في القرن الأفريقي على توظيف المشاريع الاقتصادية، مثل تطوير الموانئ، لحماية ممرّات التجارة البحرية بين آسيا وأوروبا، وبسط نفوذها في منطقة تعدّ أيضاً جسراً بين الشرق الأوسط وأفريقيا. ومنذ العام 2010 على الأقلّ، أنشأت الإمارات نقاطاً تجارية وعسكرية (مثل بربرة في إقليم أرض الصومال الانفصالية وعصب في إريتريا) بهدف تأمين مصالحها العسكرية والأمنية والاقتصادية في المنطقة. كما سعت إلى إقامة موطئ قدم لها في اليمن وإريتريا وإقليم أرض الصومال الانفصالية وأرض البنط والصومال، أو تعزيز حضورها في هذه الدول.44 تحرص الإمارات على الابتعاد عن الأضواء في تعاملاتها الإستراتيجية مع دول القرن الأفريقي من أجل الحدّ من أيّ تداعيات سياسية محتملة، فهي تحاول تجنّب أي ردود فعل غاضبة من المجتمعات المحلّية التي قد تعارض انخراطها، وحماية مكانتها الدولية، بالأخصّ في الحالات التي استُخدمت فيها قواعدها لدعم أطراف متحاربة.
تهدف القواعد العسكرية الإماراتية بشكل أساسيّ إلى حماية الممرّات البحرية، بالأخصّ البحر الأحمر وغرب المحيط الهندي اللذين يواجهان تحديّات أمنية متعدّدة، بما فيها هجمات الحوثيين على السفن التجارية وعودة القرصنة قبالة السواحل الصومالية وتصاعد أنشطة تنظيميّ القاعدة والدولة الإسلامية على طول الساحل الشرقي لأفريقيا. وتفرض المصالح الاقتصادية المتنامية للإمارات في البحر الأحمر وشرق البحر المتوسط وأجزاء واسعة من القارة الأفريقية التصدّي لحالة عدم الاستقرار من خلال تدخّلات تجمع بين الأبعاد الاقتصادية والعسكرية. ومنذ العام 2023، وسّعت الإمارات حضورها الأمني ليشمل جزيرة عبد الكوري اليمنية، ومدينة كيسمايو في الصومال، وأمدجراس على الحدود بين تشاد والسودان.45 إلّا أنّ هذا التوسّع يؤدّي حتماً إلى تأجيج التنافس الجيوسياسي والجيواقتصادي مع كلّ من قطر والسعودية.
يعتمد نفوذ الدول الخليجية في القرن الأفريقي على شبكة معقّدة ومتداخلة من العوامل، تتجلّى في إستراتيجيات شاملة تدمج بين التعاون الأمني، والجهود الدبلوماسية ومساعي الوساطة، إلى جانب بناء شراكات اقتصادية متينة. تنظر الدول الخليجية إلى الاقتصادات الأفريقية سريعة النموّ كفرصة لتوسيع استثماراتها والحدّ من اعتمادها على الموارد الهيدروكربونية. وقد دفع الارتفاع الكبير في أسعار الغذاء العالمية في خلال العقد الأول من الألفية هذه الدول إلى توجيه بعض استثماراتها نحو الأراضي الزراعية بدول مثل السودان وإثيوبيا وكينيا وأوغندا.46 فعلى سبيل المثال، استحوذت قطر على مساحات زراعية واسعة في السودان لتعزيز أمنها الغذائي.47 وفي ظلّ توقّع استمرار انعكاس الاضطرابات التي طرأت مؤخّراً على تدفّقات تجارة المحاصيل الزراعية نتيجة جائحة فيروس كورونا المستجدّ والحرب بين روسيا وأوكرانيا وتحديد الهند سقف لصادراتها من الأرز، فإنّ الأمن الغذائي سيبقى على الأرجح أحد المحرّكات الرئيسية التي تدفع الدول الخليجية نحو تعزيز استثماراتها في القرن الأفريقي.48
تعتمد الدول الخليجية على الاستيراد لتلبية ما يصل إلى 85 في المئة49 من احتياجاتها الغذائية، بالتالي، فهي تركّز على الزراعة من منطلق إستراتيجي. وقد اتّخذت إجراءات متعدّدة من أجل ضمان استقرار الإمدادات الغذائية، شملت استثمارات ضخمة في دول شرق أفريقيا، من السودان إلى الصومال. والمفارقة أنّ هذين البلدين يشهدان أزمات غذائية حادّة نتيجة الصراعات المستمرّة، حتى أنّ الإمارات أعربت في أغسطس 2024 عن قلقها الشديد تجاه الأوضاع الإنسانية المأساوية في السودان.50 وبحسب تقارير الأمم المتحدة، نحو 25,6 مليون شخص، أي أكثر من نصف السكان، هم تحت خط الجوع الشديد، فيما يقترب 755 ألف شخص من حافة المجاعة.51 صحيح أنّ الحرب في السودان هي السبب الرئيسي لهذه الأوضاع المأساوية، ولكن هذا الواقع يطرح أيضاً علامات استفهام حول اعتماد الدول الأجنبية الثرية على دول أفقر من أجل ضمان أمنها الغذائي.
رغم التحديات، شكّلت مبادرات مثل إنشاء منطقة التجارة الحرّة القارية الأفريقية (AfCFTA) دفعة قوية للعلاقات الاقتصادية بين الخليج وشرق أفريقيا بشكل خاص. وتهدف هذه الاتفاقية، التي أُطلقت في العام 2021، إلى توحيد أسواق القارة، مع توقّعات بأن يبلغ عدد سكّانها 1,7 مليار نسمة، وأن تحقّق إنفاقاً استهلاكياً وتجارياً بقيمة 6,7 تريليون دولار بحلول العام 2030.52 ومن المتوقّع أن تسهم هذه الخطوة في جذب المزيد من الاستثمارات الخليجية، إذ ستوفّر للشركات الخليجية فرصة الوصول إلى سوق أوسع وأكثر تكاملاً.
تحتلّ الإمارات حالياً المرتبة الرابعة من حيث الاستثمارات الأجنبية المباشرة في أفريقيا، بعد الصين والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.53 وعلى مدى العقد الماضي، ضخّت الإمارات استثمارات بقيمة 59,4 مليار دولار في القارة، بينما بلغت استثمارات السعودية 25,6 مليار دولار، وقطر 7,2 مليار دولار.54
حجم إجمالي التجارة بين السعودية والإمارات وقطر ودول القرن الأفريقي بين عاميّ 2017 و2021 (بملايين الدولارات)
السعودية | الإمارات | قطر | |
جيبوتي | $2,494,700.54 | $4,052,361.81 | $129,985.92 |
إريتريا | $24,786.61 | $1,308,260.43 | $328.65 |
إثيوبيا | $1,371,497.24 | $4,744,679.10 | $47,420.41 |
الصومال | $585,404.92 | $6,397,363.60 | $38,856.10 |
السودان | $5,759,145.25 | $15,001,068.19 | $370,072.41 |
جنوب السودان | $7,192.13 | $1,149,511.35 | / |
لقد ازدادت أهمية القرن الأفريقي الجيوإستراتيجية بالنسبة إلى الدول الخليجية على مدى السنوات الماضية. في غضون ذلك، تستمرّ دول القرن الأفريقي في الاعتماد على تحويلات مواطنيها العاملين في الدول الخليجية، فيما يمكن للاستثمارات والأنشطة التجارية الخليجية في المنطقة أن تسهم في ازدهاره والتخفيف من وطأة التحدّيات الاجتماعية الاقتصادي التي يعانيها. ولكنّ التنافس الخليجي تسبّب أيضاً في بعض الحالات في تأجيج التوتّرات في القرن الأفريقي. مثلاً في العام 2017، خفّضت جيبوتي مستوى علاقاتها مع قطر عقب الحصار الذي فُرض على الدوحة بقيادة السعودية.55
وفي الآونة الأخيرة، وقّعت إثيوبيا الحبيسة على اتفاقية تمكّنها من استخدام ميناء على خليج عدن في إقليم أرض الصومال الانفصالية. يمكن لهذه الاتفاقية أن تعمّق الانقسامات بين تحالفين ناشئين: الأوّل يضم السعودية ومصر وحلفاء مثل إريتريا وجيبوتي، والثاني يضمّ الإمارات وإثيوبيا وشركاءهما.56 إذ تجمع بين السعودية ومصر وإريتريا مصلحة مشتركة بمنع دول أخرى من اكتساب نفوذ في البحر الأحمر.
وتهدد هذه الديناميات بتصعيد عسكرة منطقة القرن الأفريقي، حيث يمكن أن يؤدّي التنافس بين القوى الإقليمية والعالمية إلى تقويض أي مكاسب إيجابية محتملة.57 صحيح أنّ القواعد العسكرية توفّر إيرادات مالية حيوية لدول القرن الإفريقي، إلّا أنّها غير كافية بمفردها لتحقيق التنمية المنشودة. لذا، يتوجّب على هذه الدول تحديد رؤى وأهداف إستراتيجية طويلة الأمد، والعمل على تعزيز استقرارها السياسي والأمني من أجل جذب الاستثمارات وتحسين صورتها الدولية، وتنويع اقتصاداتها.