إيران وسياسة التعتيم النووي:

بين الغموض الإستراتيجي والردّ والنفوذ

مذكرة سياسات، سبتمبر 2025
زميل غير مقيم

24 سبتمبر، 2025

المقدّمة

في 2 يوليو 2025، أصدر الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان قانوناً يُعلّق رسميّاً تعاون إيران مع الوكالة الدوليّة للطاقة الذريّة. وقد حظيت هذه الخطوة بموافقة البرلمان الإيراني بالإجماع، وأقرّها مجلسُ صيانة الدستور، ووضعت حدّاً فعليّاً لعمليّات التفتيش التي تجريها الوكالة والتقارير التي تعدّها بشأن البرنامج النووي الإيراني “إلى حين ضمان أمن المنشآت النووية”.1 ويُجسّد هذا التشريع التحوّل الأهمّ في الموقف النووي الإيراني منذ انضمام البلاد إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية في العام 1970.

 

جاءت هذه الخطوة المصيريّة في أعقاب حرب الاثني عشر يوماً التي نشبت بين إسرائيل وإيران في العام 2025، والتي بلغت ذروتها بشنّ ضربات إسرائيليّة أمريكيّة منسّقة على منشآت نووية إيرانيّة في نطنز وفوردو وأصفهان. وبينما يبقى حجم الأضرار التي لحقت بالبرنامج النووي الإيراني موضع جدل، فقد كثّفت هذه الهجمات النقاش حول المسار المستقبلي لسياسة طهران النووية.2 ويؤكّد المسؤولون الإيرانيون أنّ تعليق زيارات الوكالة الدوليّة للطاقة الذرية الروتينيّة لا يعني قطع العلاقات معها بالكامل، بل يصرّون على أنّ أيّ تعاون مستقبلي يجب التفاوض عليه في إطار خريطة طريق جديدة تُراعي البيئة الأمنيّة لمرحلة ما بعد الحرب.

 

ومع ذلك، واجه قرار إيران ضغوطاً خارجيّة مكثّفة منذ البداية. ففي أغسطس 2025، قرّرت الدول الأوروبيّة الأطراف في الاتّفاق النووي للعام 2015 (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) تفعيل “آليّة سناب باك” (Snapback) (أيّ العودة السريعة إلى العقوبات)، التي من شأنها أن تُعيد فرض المجموعة الكاملة من عقوبات الأمم المتحدة التي كانت قائمة قبل العام 2015، والتي رُفعت بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة. وقد ارتبط هذا القرار بانتهاء صلاحيّة القيود الرئيسيّة التي فرضتها الأمم المتحدة بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2231، والمقرّرة في أكتوبر.3 وتُبرز هذه الخطوة الحاسمة من جانب الاتحاد الأوروبي ارتباط تعليق إيران لتعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالنقاش الأوسع حول مصداقيّة المعايير والمقاييس الدولية لمنع انتشار الأسلحة النووية على المدى الطويل.

 

وفي ظلّ تصاعد حالة عدم اليقين، شرع الخبراء والمراقبون في إجراء مقارنات متزايدة مع سياسة “التعتيم النووي” التي تنتهجها إسرائيل منذ فترةٍ طويلة. وقد احتدم هذا الجدل نتيجة إقران المسؤولين الإيرانيين تعليق تعاونهم مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتحذيرات من إعادة النظر في عضويّة إيران في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية في حال تصاعد الضغوط.4 وبالتالي، إنّ المخاطر جسيمة. فما يبدو حالياً غموضاً تكتيكيّاً قد يتطوّر إلى موقفٍ يُرسّخ التعتيم النووي، مع ما يحمله ذلك من عواقب وخيمة على الاستقرار الإقليمي والنظام العالمي لمنع انتشار الأسلحة النووية.

 

ومع ذلك، لا بدّ من تقييم أيّ انزلاق نحو التعتيم النووي وفق الشروط التي تضمن استدامة هذه الإستراتيجيّة، مثل البنية التحتيّة المتينة، والحصانة السياسيّة، وأجهزة الاستخبارات المُحكمة. غداة حرب الاثني عشر يوماً، تفتقر إيران إلى هذه الركائز. لذا، من المرجّح أن يؤدّي التعتيم إلى إشعال جولة جديدة من التصعيد بدلاً من تعزيز الردع. تُشير مذكّرة السياسات هذه إلى أنّ المسار الأكثر واقعيّة يكمن في الدبلوماسيّة الشاملة، بما في ذلك الانخراط الموازي والمنظّم مع أوروبا والولايات المتحدة، بالإضافة إلى إطار تعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ويوفّر هذا النهج لطهران السبيلَ الموثوق الوحيد لتقليص دوافع خصومها لشنّ هجوم، والمحافظة في الوقت نفسه على حقوقها بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.

 

 

سياسة التعتيم النووي: المفاهيم والسوابق

يُشير التعتيم النووي، الذي يُعرَف أيضاً بالغموض المتعمّد، إلى سياسةٍ تعتمدها دولةٌ ما لإخفاء الوضع الحقيقي لقدراتها النووية عمداً. ووفق هذا النهج، لا تُؤكّد الحكومات أو تُنكر امتلاكها أسلحة نووية، ولا تُفصح عن معلومات حاسمة تتعلّق بتطوير الأسلحة أو بالجهوزيّة التشغيليّة أو بالعقيدة. وفيما تهدف سياسة التعتيم إلى تعظيم الردع والنفوذ الإستراتيجي، فإنّها تسعى أيضاً إلى تأجيل التداعيات السياسيّة أو القانونيّة أو العسكريّة المباشرة المرتبطة بالتسلّح النووي العلني، أو تجنّبها.5

 

تُجسّد سياسة الغموض النووي التي تنتهجها إسرائيل، والمعروفة بـ”أميموت” (Amimut)، المثال الأبرز والأقدم على ذلك. فمنذ أواخر الستينيات، حافظت إسرائيل على موقفٍ يتجنّب فيه المسؤولون الإعلان عن امتلاكها ترسانة نووية، على الرغم من الإجماع الدولي الواسع على امتلاكها ما يتراوح بين 80 و100 رأس حربي.6 ويشكّل هذا الغموض رادعاً ضد التهديدات الوجوديّة، وآليّة لتجنّب العقوبات أو للحيلولة دون إشعال سباق إقليمي على التسلّح.

 

من جهة أخرى، تُمثّل كوريا الشمالية نموذجاً على الانتقال من التعتيم إلى التسلّح العلني. فقد حافظت بيونغ يانغ لسنوات على غموض متعمّد بشأن حجم برنامجها النووي ومدى تطوّره. وخلافاً لإسرائيل، اجتازت كوريا الشمالية العتبة في نهاية المطاف من خلال إجراء تجارب علنيّة، حيث لجأت إلى الاستعراض بدلاً من الصمت لترسيخ الردع.7 ويُسلّط هذا المسار الضوء على درسٍ مختلفٍ، وهو أنّ التعتيم قد يكون مرحليّاً وليس دائماً، إذ إنّه يُمهّد الطريق للتسلّح العلني عندما تقرّر الدولة أنّ التكتّم لم يعد يُحقّق أهدافها.

 

وتُجسّد حالات أخرى المخاطر المترتّبة على سياسة الغموض النووي حين تبوء بالفشل. فقد سعى العراق في الثمانينات إلى إخفاء برنامجه النووي تحت ستارٍ من الغموض، غير أنّ تقدّم هذا البرنامج ما لبث أن تعثّر، أوّلاً بسبب الضربة الإسرائيليّة على مفاعل أوزيراك في العام 1981، ثمّ لاحقاً بسبب عمليّات التفتيش الدولية المفاجئة بعد حرب الخليج بين عامَي 1990 و1991. 8 أمّا ليبيا فقد خاضت بدورها تجربة التطوير النووي السرّي، لكنها تخلّت في نهاية المطاف عن برنامجها بموجب اتفاق تفاوضي أُبرم في العام 2003، مستبدلةً سياسة التعتيم بتخفيف الضغوط الدوليّة.9 وتؤكّد الحالتان كيف يمكن لسياسة الغموض أن تنهار تحت وطأة الضغط الخارجي في حال افتقارها إلى قدر كافٍ من الحصانة أو القدرة على الصمود، فتَجد الدول نفسها إمّا منزوعة السلاح بالقوة أو مُجبرةً على الدخول في صفقات بشروط غير مُواتية.

 

من ناحيتها، اعتمدت دول أخرى، بما فيها الهند وباكستان والصين، على سياسة التعتيم الجزئي أو الانتقائي في مراحل مختلفة، وإن في ظلّ ظروف مختلفة تماماً وبمسارات انحرفت في نهاية المطاف عن المعضلات التي تواجه إيران اليوم.

 

تُظهر هذه الأمثلة عموماً أنّ استدامة التعتيم النووي رهنٌ بمجموعة من الشروط، وهي النضج التكنولوجي اللازم لدعم الردع الموثوق؛ والغطاء السياسي من خلال التحالفات أو المكانة العالمية؛ وتوفّر بيئة معلومات محلية مُحكمة لمنع التسريبات أو الخروقات الاستخباراتية؛ بالاضافة إلى القدرة على إدارة الضغوط الدولية أو استيعابها، بما في ذلك العقوبات أو التهديدات الاستباقية. وفي غياب هذا المزيج من الشروط، يمكن أن يتحوّل التعتيم إلى إجراء مؤقّت وتفاعلي بدلاً من أن يشكّل موقفاً إستراتيجيّاً دائماً.

 

 

الردّ والغموض التكتيكي

دفعت الخطوات التي اتّخذتها إيران غداة الضربات الإسرائيلية والأمريكية غير المسبوقة في يونيو 2025، البعض إلى مقارنتها بسياسة التعتيم النووي، إلا أنّ طبيعتها ونواياها لا تزال أكثر تعقيداً. فمن الناحية القانونية، لا تزال الجمهورية الإسلامية موقّعة على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وعلى الرغم من تصاعد الخطاب السياسي، لم تنسحب منها رسميّاً حتى الآن. وبدلاً من ذلك، أقرّ البرلمان الإيراني تشريعاً ينصّ على تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية حتى استيفاء شرطين: الحصول على ضمانات أمنيّة كاملة في ما يتعلّق بالبنية التحتية النووية الإيرانية والعاملين فيها، والاعتراف بحقّ إيران غير المقيّد في القيام بأنشطة نووية سلميّة بموجب المادة الرابعة من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.10 وقد تحوّل هذا الإجراء من مجرّد رسالة سياسية إلى قانونٍ داخلي مُلزم بعد موافقة مجلس صيانة الدستور السريعة عليه وإقراره من قِبَل الرئيس بيزيشكيان.

 

من الناحية العمليّة، غيّرت هذه الخطوة بالفعل موقف إيران النووي. فبموجب القانون الجديد، توقّفت طهران عن تقديم المعلومات الروتينيّة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، بما في ذلك البيانات حول مواقع مخزون اليورانيوم. وتخشى الوكالة والقوى الغربيّة من أن يُحدث هذا التطوّر ثغرات رقابية ضخمة.

 

وقد ساهمت السرديّات الإيرانية المتضاربة في زيادة الغموض عقب الضربات. فبعد الهجمات مباشرةً، قلّل المسؤولون ووسائل الإعلام الرسمية من حجم الأضرار، وصوّروا البرنامج النووي على أنّه صامد وبالكاد تضرّر.11 ومع ذلك، أقرّ مسؤولون رفيعو المستوى، بمن فيهم وزير الخارجيّة عباس عراقجي، في غضون أيام، بأنّ الهجمات قد تسبّبت بتعطيل عمليّات التخصيب تعطيلاً خطيراً، مؤكّدين أنّه لم يتّضح بعد ما إذا كانت إيران ستتمكّن من استئناف أنشطتها النووية بكامل طاقتها ومتى سيتمّ ذلك.12 وفي الوقت نفسه، يواصل المسؤولون التعبير عن انفتاحهم على المحادثات الدبلوماسية بشأن البرنامج النووي.13

 

يمكن تفسير هذه الإجراءات مجتمعةً بأنّها إستراتيجيّة قائمة على الغموض التكتيكي، إذ تُثير حالة من عدم اليقين بين الخصوم بشأن ما تبقّى من القدرات النووية الإيرانية، ومدى قدرتها على إعادة بنائها، مع المحافظة على هامشٍ للمناورة الدبلوماسيّة. بيد أنّ ذلك يختلف عن سياسة التعتيم النووي المستدامة، التي لا تقتصر تاريخيّاً على الإخفاء، لا سيّما وأنّ التعتيم النووي يتطلّب وفرةً تكنولوجيةً ومرونةً (أي بنية تحتية نووية موزّعة ومتينة ومستدامة)، بالإضافة إلى غطاءٍ سياسي مستدام وقدرةٍ على تحمّل الضغوط الدولية على المدى الطويل.

 

 

النقاش الداخلي والقيود التقنيّة

لا يعكس انزلاق إيران التدريجي نحو الغموض النووي إستراتيجيّة موحّدة، بل نقاشاً داخلياً متغيّراً ومثيراً للجدل. وبينما يمثّل تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية تحوّلاً ملحوظاً، لا تزال التساؤلات مطروحة داخل إيران حول مدى رغبة البلاد في تبنّي سياسة التعتيم النووي، وجدواها على المدى الطويل.

 

وتعلو الأصوات المتشدّدة المطالِبة باتّخاذ موقف أكثر جرأة. فقد وصفت صحيفة “جوان”، المقرّبة من الحرس الثوري الإسلامي، القانون الجديد بأنّه بداية لـ”مرحلةٍ من الصمت والغموض”، مشيرةً صراحةً إلى أوجه الشبه مع الإستراتيجيّة النووية الإسرائيلية.14 وفي السياق نفسه، صرّح أحمد بخشايش أردستاني، عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجيّة في البرلمان الإيراني، أنّ “الأمريكيين والوكالة الدولية للطاقة الذرية لا يعلمون الآن أين نُخزّن اليورانيوم المخصّب؛ إنّهم في حالة من عدم اليقين”.15 وقد ذهب بعض المتشدّدين أبعد من ذلك، فدَعوا إيران علناً إلى السعي لامتلاك القدرة على إنتاج أسلحة نووية أو اعتماد سياسة التعتيم التام على غرار النموذج الإسرائيلي، مستشهدين بالحرب والهجمات الإسرائيلية الأمريكية كدليل على فشل موقف إيران الحالي في ردع العدوان.16

 

بيد أنّ هذه الدعوات تواجه تعقيدات متجذّرة في الواقع القانوني والأيديولوجي والتقني الإيراني. فحتى في أوساط المتشدّدين، يشكّل الالتزام بفتوى المرشد الأعلى القائمة منذ فترة طويلة والتي تحرّم الأسلحة النووية، مفارقةً واضحة. وقد شرع بعض الناشطين والمسؤولين في حثّ خامنئي علناً على مراجعة هذه الفتوى، إلا أنّها لا تزال سارية المفعول، لا بل ترسم ملامح السرديّة الإيرانية الرسميّة وتقيّد أيّ تحرّك علنيّ باتجاه التسلّح النووي.17

 

أمّا على الصعيد القانوني فيُشير الخبراء إلى أنّ إيران تفتقر إلى الأُسس السياسية والدبلوماسية والهيكليّة اللازمة لمحاكاة سياسة التعتيم التي تنتهجها إسرائيل، مفترضين أنّ النهج الإسرائيلي يستند إلى تحالفات دولية متينة ومعاملةٍ تفضيليّةٍ من المؤسّسات الدوليّة، والأهمّ من ذلك، إلى حصانةٍ منهجيّة ضد عمليّات التفتيش الخارجية؛ وهذه امتيازات لا تمتلكها إيران.18 ويحذّر البعض من أنّ محاولات محاكاة الإستراتيجيّة الإسرائيلية قد تؤدّي، في غياب ضمانات مماثلة، إلى عزلة دوليّة أشدّ أو حتّى إلى تصعيد عسكري.

 

وتزيد العقبات العمليّة من تعقيد المسار الإيراني، إذ كشفت الحرب الأخيرة عن هشاشة إيران الشديدة أمام اختراق أجهزة الاستخبارات الأجنبية، وهو ما تجلّى في دقّة الضربات الإسرائيلية التي استهدفت مواقع نووية حسّاسة، وكبار القادة العسكريين، وعلماء نوويين بارزين.19 وتقوّض مثل هذه الاختراقات قدرة إيران على إخفاء البنية التحتيّة للتخصيب أو حماية المخزونات الحيوية. علاوة على ذلك، لا تزال وفرة التكنولوجيا ومرونتها، وهما من سمات أيّ سياسة تعتيم قابلة للاستمرار، بعيدتين عن متناول إيران في الوقت الراهن. وعلى الرغم من أنّ إيران قد أظهرت قدرة ملحوظة على التخصيب، لا تزال التساؤلات تُطرح حول قدرتها على جمع قدرات عسكرية ونشرها بسرعة، ولا سيما في ظلّ الضغوط الخارجية المستمرّة.

 

وبالتالي، وعلى الرغم من تصاعد الخطاب المتشدّد والتحرّكات التكتيكيّة نحو الغموض الانتقائي والتكتيكي، تواجه إيران انقسامات داخلية وقيوداً قانونية وعملية تُعقّد -من دون أن تعدم- مسارها نحو إضفاء الطابع المؤسّساتي على سياسة التعتيم النووي.

 

 

الديناميّات الدولية والمعضلات السياسيّة

بعيداً عن التحدّيات الداخلية المذكورة أعلاه، ما يميّز سياسة الغموض الحالية التي تنتهجها إيران عن غيرها من حالات التعتيم الدائم هو غياب الحصانة السياسية المنهجية والدعم الخارجي. حتّى أنّ روسيا والصين، شريكتَي إيران الدوليّتين الرئيسيتين، اللتين تعارضان الضغوط الغربية علناً، لم تبديا أيّ استعداد لتأييد أيّ توجّه نحو التعتيم الرسمي، ناهيك عن الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية أو التسلّح العلني.20 فبالنسبة إلى موسكو وبكين، لا تزال إيران شريكاً مفيداً، إلّا أنّ تسلّحها النووي العلني قد يؤدّي إلى زعزعة استقرار المنطقة وتقويض المعايير الدولية لمنع انتشار الأسلحة النووية التي تعتمد عليها كلتاهما.

 

في المقابل، أظهرت إسرائيل والولايات المتحدة بالفعل أنّهما تعدّان الغموض بحدّ ذاته شكلاً من أشكال التصعيد. ويَعتبر القادة الإسرائيليون أنّ إخفاء إيران مخزونات اليورانيوم وبناء مواقع تخصيب غير مُعلنة، يُشكّلان تهديدَين لا يمكن التسامح معهما، ما يستدعي تعطيلاً استباقياً.21 أمّا في الولايات المتحدة فيواصل الرئيس دونالد ترامب الترويج للفكرة القائلة بأنّه قد تمّ القضاء على البرنامج النووي الإيراني. غير أنّ هذه السرديّة باتت تحت المجهر، لا سيّما وأنّ الأدلّة تشير إلى أنّ إيران لا تزال تحتفظ بقدرات كبيرة. في الوقت نفسه، قد تكون إسرائيل والصقور النافذون في واشنطن قد بدأوا بالفعل بالضغط على ترامب لتبنّي موقف أكثر صرامة، بما في ذلك إمكانيّة استئناف العمل العسكري في حال واصلت إيران انزلاقها نحو الغموض النووي.22

 

يخلق هذا التلاقي ديناميّة محفوفة بالمخاطر، إذ إنّ الغموض قد يتحوّل إلى حافزٍ يُشعل فتيل جولة جديدة من المواجهة العسكرية عوضاً عن التخفيف من حدّة التوتّرات. لكن مع كل دورة من الهجوم والردّ، تزداد دوافع إيران للتخلّي عن سياسة الغموض لصالح التسلّح العلني، لا سيّما إذا خلصت قيادتها إلى أنّ الرّدع لا يمكن استعادته من خلال أنصاف الحلول فحسب.

 

لا تزال فرصة تثبيت هذا المسار متاحة، وإن كانت تتقلّص. فقد استغلّت إيران الغموض لاستعادة نفوذها، لا سيّما للدفاع عن حقّها في التخصيب المحلّي بموجب أحكام معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. إلا أنّ الغموض، في حال لم تُرسّخه آليّاتُ التفتيش المتجدّدة وضمانات دبلوماسية موثوقة، قد يتحوّل إلى منحدر زلق يقود إلى انهيار إطار هذه المعاهدة بالكامل.

 

فالمخاطر مرتفعةٌ بالنسبة إلى صنّاع السياسات الأمريكيين والأوروبيين. لقد ثبت أنّ الضربات العسكرية عاجزة عن نسف القدرات النووية الإيرانية، لكنّها فعّالة للغاية في تسريع وتيرة التشدّد السياسي. وقد لوّح بعض المسؤولين الإيرانيين جهراً بالانسحاب الكامل من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية في حال أعادت الأمم المتحدة فرض العقوبات، ما يزيد من حدّة المخاطر.23 ومن شأن هذه الخطوة أن تُشكّل قطيعةً قانونيّة رسميّة بحيث تزيل ما تبقّى من الرقابة الدولية على برنامج طهران النووي. وفي حال تفاقم الغموض من دون انخراط دبلوماسي موازٍ، قد يواجه المجتمع الدولي أسوأ السيناريوهات، بحيث تصبح إيران أكثر جرأة وأقلّ شفافية وتقترب من انتشار نووي لا رجعة عنه، في ظلّ غياب منظومة رقابيّة قابلة للاستمرار.

 

وفي ظلّ هذا المناخ، يُعدّ استئناف عمليّات التفتيش الفعّالة (على سبيل المثال من خلال تصديق إيران الرسمي على البروتوكول الإضافي لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية وتطبيقه) بالإضافة إلى توضيح الحدود القانونية للتخصيب المحلّي، وسدّ الفراغ الاستخباراتي الذي خلّفته حرب الاثني عشر يوماً، من بين التدابير الواقعيّة القليلة المتبقية لاحتواء تجربة إيران في سياسة التعتيم قبل أن تتحوّل إلى عاملٍ أكثر زعزعةً للاستقرار. وفي المقابل، تحتاج طهران إلى حوافز حقيقية، مثل تخفيف العقوبات الاقتصادية، وضمانات أمنيّة مرتبطة بالعودة إلى الشفافية أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والاعتراف الرسمي بحقّها في التخصيب المحلّي بموجب المادة الرابعة من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. ومن شأن الالتزامات المتبادلة أن تُبدّي إعادة الانخراط على التصعيد، من خلال تقديم غطاء إستراتيجي لا يُكافئ عمليّة التسلّح.

 

 

الخاتمة

يجب تقييم الغموض الحالي الذي تنتهجه إيران في ضوء سجلّ الدول التي اتّبعت مواقف مماثلة. لا تزال سياسة التعتيم الإسرائيلية قائمة لأنّها تعتمد على بنية تحتيّة قوية وتحالفات متينة وسرّية تامة. في المقابل، انهار البرنامج السرّي في كلّ من العراق وليبيا تحت وطأة الضغوط الخارجية، الأوّل بالقوّة والثاني في إطار صفقة، ما يسلّط الضوء على مخاطر انتهاج سياسة التعتيم في غياب أُسس مماثلة. وفي أعقاب حرب الاثني عشر يوماً، باتت إيران أقرب إلى هذه الحالات الهشّة منها إلى نموذج إسرائيل المحصّن.

 

لذلك، من غير المرجّح أن يوفّر التعتيم ردعاً مستداماً لإيران، بل قد يقود إلى تجدّد الضربات وتعميق عزلتها الدولية. ويكمن المسار الأكثر واقعيّة في الدبلوماسيّة الشاملة، التي تتضمّن الانخراط المباشر مع الولايات المتحدة بغية تحديد الخطوط الحُمر وقنوات إدارة الأزمات؛ وإجراء محادثات موازية مع أوروبا لمنع التصعيد وربط تخفيف العقوبات بالشفافية التدريجية؛ وإعادة ضبط إطار التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بما يحمي المنشآت الحسّاسة ويستعيد الرقابة الموثوقة في الوقت نفسه. لن تشجّع هذه الإستراتيجية التسلّح، لا بل تُقدّم لطهران السبيل الوحيد القابل للاستمرار من أجل المحافظة على حقوقها النووية بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وتقليص الدوافع لشنّ هجوم جديد.

 

وفي الوقت نفسه، تُجسّد سابقةُ كوريا الشمالية خير مثال على كيفيّة انزلاق سياسة الغموض إلى تسلّحٍ علني حين تنهار قنوات الدبلوماسيّة. وفيما ترتفع في طهران الأصوات المُطالبة باعتماد هذا النهج، قد تختار إيران سلوك هذا المسار في حال استنتجت أنّه لا يمكن التوصّل إلى اتفاقٍ يضمن لها مخرجاً مشرّفاً. لهذا السبب، يُعدّ إبداء الولايات المتحدة وأوروبا قدراً من المرونة، من خلال الاعتراف بخطوط إيران الحُمر واقتراح حلول وسطى، عاملاً حاسماً وبالغ الأهميّة لتجنّب هذا المصير.

 


الهوامش
1  “Iran’s parliament approves bill on suspending cooperation with IAEA,” Reuters, June 25, 2025, https://www.reuters.com/world/middle-east/iran-parliament-approves-bill-suspend-cooperation-with-un-nuclear-watchdog-2025-06-25/.
2  Nicole Grajewski, “Iran After the Battle,” Diwan (blog), July 1, 2025, https://carnegieendowment.org/middle-east/diwan/2025/07/iran-after-the-battle?lang=en.
3 Ellie Geranmayeh, “Snap Out of It: Europe, Iran and Nuclear Negotiations,” European Council on Foreign Relations, July 21, 2025, https://ecfr.eu/article/snap-out-of-it-europe-iran-and-nuclear-negotiations/.
4 Avner Cohen, “Israel and Iran’s Nuclear Strategies: Unexpected Parallels,” Haaretz, July 20, 2025, https://www.haaretz.com/opinion/2025-07-20/ty-article-opinion/.premium/the-unexpected-parallels-in-israel-and-irans-nuclear-strategies/00000198-17ee-d89e-a7bf-77efb47a0000.
5 Krzysztof Tyszka-Drozdowski, “The Coming Age of Nuclear Opacity,” American Affairs Journal VI, no. 3 (Fall 2022), https://americanaffairsjournal.org/2022/08/the-coming-age-of-nuclear-opacity/.
6  “Nuclear Weapons: Who Has What at a Glance,” Arms Control Association, January 2025, https://www.armscontrol.org/factsheets/nuclear-weapons-who-has-what-glance.
7 Shane Smith, North Korea’s Evolving Nuclear Strategy (Washington, DC: US-Korea Institute at SAIS, August 2015), https://wmdcenter.ndu.edu/Portals/97/Documents/Publications/Articles/Evolving-Nuclear-Strategy.pdf.
8  Pierre Goldschmidt, “Nuclear Nonproliferation: Six Lessons Not Yet Learned,” Arms Control Today, March 20, 2018, https://carnegieendowment.org/posts/2018/03/nuclear-nonproliferation-six-lessons-not-yet-learned?lang=en.
9 Målfrid Braut-Hegghammer, “Giving Up on the Bomb: Revisiting Libya’s Decision to Dismantle Its Nuclear Program,” Sources and Methods (blog), October 23, 2017, https://www.wilsoncenter.org/blog-post/giving-the-bomb-revisiting-libyas-decision-to-dismantle-its-nuclear-program.
10 Patrick Wintour, “Iran’s Parliament Approves Bill to Suspend Cooperation with IAEA,” The Guardian, June 25, 2025, https://www.theguardian.com/world/2025/jun/25/irans-parliament-approves-bill-to-suspend-cooperation-with-iaea.
11  “Iran’s Nuclear Facilities Are Indestructible [in Persian],” IRIB News, June 22, 2025, https://www.iribnews.ir/fa/news/5502235.
12  Abbas Araghchi, “Fordow Is Seriously Damaged, but Iran’s Nuclear Program Will Not Be Destroyed by Bombing [in Persian],” Eco Iran, July 2, 2025, https://ecoiran.com/fa/tiny/news-96075.
13 Abbas Araghchi, “If Iran’s Interests Require It, We Will Negotiate [in Persian],” IRNA, June 26, 2025, https://www.irna.ir/news/85873893.
14 “The Beginning of a Period of Silence and Ambiguity [in Persian],” Javan Online, July 3, 2025, https://www.javanonline.ir/fa/news/1305494/.
15 Ahmad Bakhshayesh Ardestani, “The US and the IAEA Are Confused about the Location of Iran’s Enriched Uranium [in Persian],” Didban Iran, June 30, 2025, https://www.didbaniran.ir/fa/tiny/news-228126.
16 “Punishing Rafael Grossi with the ‘Nuclear Opacity’ Strategy [in Persian],” Farhikhtegan Daily, June 24, 2025, https://farhikhtegandaily.com/page/268788/.
17 “Request to the Leader to Change the Fatwa on the Prohibition of Building an Atomic Bomb [in Persian],” Khabar Online, October 15, 2024, https://www.khabaronline.ir/news/1971355.
18 Reza Nasri, “Notes on ‘Strategic Ambiguity’ in Iran’s Nuclear Program [in Persian],” Jamaran, July 3, 2025, https://www.jamaran.news/fa/tiny/news-1673584.
19 “How Extensive Are Israel’s Intelligence Operations inside Iran?” Al Jazeera, June 23, 2025, https://www.aljazeera.com/news/2025/6/23/how-extensive-are-israels-intelligence-operations-inside-iran.
20 Edward Wong, “China and Russia Keep Their Distance from Iran During Crisis,” The New York Times, July 6, 2025, https://www.nytimes.com/2025/07/06/us/politics/axis-china-russia-iran-north-korea.html.
21 Amichai Stein, “Netanyahu Seeks US Mechanism for Approval on Future Iran Strikes if Nuclear Threat Resurfaces,” The Jerusalem Post, July 6, 2025, https://www.jpost.com/israel-news/article-860175.
22 Andrew Roth, “Republican Hawks vs Maga Isolationists: The Internal War That Could Decide Trump’s Iran Response,” The Guardian, June 17, 2025, https://www.theguardian.com/us-news/2025/jun/17/republican-hawks-vs-maga-isolationists-the-internal-war-that-could-decide-trumps-iran-response.
23 “Iran Warns It May Withdraw from N.P.T. if U.N. Sanctions Are Reinstated,” IRNA, June 12, 2025, https://en.irna.ir/news/85859600/Iran-warns-it-may-withdraw-from-N-P-T-if-U-N-sanctions-are.