الرسوم الجمركية تدفع مستوردي الغاز الطبيعي المسال في شرق آسيا نحو السوق الأمريكية: تدفع التداعيات الصناعية الناجمة عن الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وما رافقها من ضغوط سياسية متصاعدة، كبار مستوردي الطاقة في شرق آسيا، مثل الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، إلى زيادة مشترياتهم من الغاز الطبيعي المسال الأمريكي بدلاً من الخليجي، في محاولة لسدّ العجز في الميزان التجاري مع الولايات المتّحدة.
واشنطن تضغط على دول شرق آسيا للاستثمار في قطاع الطاقة الأمريكي: تحثّ الولايات المتّحدة تايوان وكوريا الجنوبية واليابان على الاستثمار في مشروع خطّ أنابيب ألاسكا وفي قطاع بناء ناقلات الغاز الطبيعي المسال. وتُبدي تايوان اهتماماً بالمشروع، رغم تحفظّات اليابان وكوريا الجنوبية وتردّدهما. وفي الوقت نفسه، يؤدّي حظرُ واشنطن ناقلات الغاز الطبيعي المسال الصينية من الرسو في موانئها، إلى إعادة رسم معالم مسارات الشحن العالمية.
ثورة الذكاء الاصطناعي تفرض إنشاء مراكز بيانات تعمل بالطاقة النووية في دول شرق آسيا: سيؤثّر التزام دول شرق آسيا بتطوير الذكاء الاصطناعي وببناء مجمّعات ضخمة لصناعة الرقائق في خططها المتعلّقة بالطاقة تأثيراً عميقاً، في ظلّ تنامي الحاجة للطاقة النووية من أجل توليد الكهرباء اللازمة لتشغيل هذه المراكز.
إستراتيجيّات دول شرق آسيا في مجال الطاقة ترسم المسار المستقبلي لإمدادات الغاز الطبيعي المسال: ينبغي على هذه الإستراتيجيات توجيه السياسات الخليجية المتعلّقة بالغاز الطبيعي المسال. وبهدف تجنّب المخاطر المتعلّقة بسلاسل الإمداد وسط تقلّبات السوق، يتعيّن على الدول الخليجية توفير شروط أكثر مرونة، مثل العقود القصيرة الأجل وإلغاء بنود تحديد الوجهة النهائية، في إطار إستراتيجيتها للتنويع الاقتصادي.
فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ولايته الأولى أنواعاً متعدّدة من الرسوم الجمركية على منتجات محدّدة، شملت مكافحة الإغراق والتدابير التعويضية والوقائية. وفي السياق نفسه، أُقرّ قانون إصلاح ضوابط الصادرات الأمريكي (ECRA) عام 2018، بالتوازي مع حظر شركة الاتصالات الصينية “هواوي” في الولايات المتحدة،1 الأمر الذي أنهى عقوداً من سياسات تحرير الضوابط على الصادرات الأمريكية،2 ما مهّد لاحقاً لفرض قيود صارمة على صادرات أشباه الموصّلات في عهد الرئيس جو بايدن. ومع الوقت، دخلت الحرب التكنولوجية في صلب الحرب التجارية إثر تحديد إدارة بايدن لقطاعات تكنولوجية أساسية تسهم في تحقيق أهداف التحوّل الرقمي والبيئي (DX & GX)، والتي تخلّفت فيها الولايات المتحدة.3 في هذا الإطار، اقترحت واشنطن تقديم إعانات لهذه القطاعات، وسعت إلى تحفيز حلفائها على الاستثمار في التحوّل الرقمي والبيئي في الولايات المتحدة، بموجب تشريعات جديدة مثل “قانون الرقائق والعلوم” و”قانون الحدّ من التضخّم” لعام 2022.
الرسم البياني 1. الميزان التجاري بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين الرئيسيين (مليار دولار أمريكي)4
استهلّ ترامب ولايته الثانية بفرض نظام موسّع للرسوم الجمركية المتبادلة، يُطبَّق وفق معايير خاصّة بكل دولة على حدة،5 اعتباراً ممّا وصفه بـ”يوم التحرير” في 2 أبريل 2025. دفع ذلك شركاء الولايات المتحدة التجاريين المستهدَفين إلى المسارعة نحو طاولة المفاوضات، سعياً للتوصّل إلى اتفاق يخفّف هذه الرسوم أو يجنّبهم إيّاها، مع التركيز على قطاعات التكنولوجيا الأساسية والناشئة، والعمل على سدّ العجز التجاري عبر شراء الغاز الطبيعي المسال الأمريكي وسلع أخرى، أو من خلال ضخّ استثمارات مباشرة في السوق الأمريكية. وكان ترامب قد علّق تطبيق الرسوم المتبادلة على جميع الدول باستثناء الصين، مكتفياً بفرض رسوم أساسية بنسبة 10 في المئة على تلك الدول خلال الفترة التفاوضية التي امتدّت ثلاثة أشهر. خاضت معظم الدول التي تسجّل فوائض تجارية مع الولايات المتحدة (الرسم البياني 1)، وفي مقدّمتها الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، سلسلة من الجولات التفاوضية مع واشنطن، فيما حدّدت الإدارة الأمريكية مهلة تنتهي في 1 أغسطس 2025 لاتخاذ قرارها النهائي بشأن الرسوم المتبادلة، ما وضع شركاءها التجاريين أمام خيارين: إمّا فرض رسوم مضادّة، أو مواصلة المفاوضات.
من اللافت أنّ اليابان وكوريا الجنوبية كانتا على وشك مواجهة رسوم جمركية بنسبة 25 في المئة اعتباراً من 1 أغسطس 2025، لولا إبرام اتفاقات إضافية مع واشنطن.6 فبعد مفاوضات مطوّلة، توصّل الاتحاد الأوروبي7 واليابان8 وكوريا الجنوبية9 إلى اتفاق مع الولايات المتحدة نصّ على فرض رسوم دنيا بنسبة 15 في المئة على صادراتها إلى السوق الأمريكية. بالتالي، رضخت الأطراف الثلاثة للضغوط الأمريكية، متعهّدةً باستثمار مئات المليارات من الدولارات داخل الولايات المتحدة، وبزيادة مشترياتها من الغاز الطبيعي المسال من المورّدين الأمريكيين، إلى جانب النظر في المساهمة أو الإستثمار في مشروع خطّ أنابيب الغاز الطبيعي المسال في ألاسكا. من جهته، كان الاتحاد الأوروبي قد التزم سابقاً بإنفاق 750 مليار دولار للاستغناء عن وارداته من الغاز والنفط الروسيين،10 فيما تعتزم اليابان إنفاق 200 مليار دولار لاستيراد 5,5 ملايين طنّ سنوياً من الغاز الطبيعي على مدى 20 عاماً.11 أمّا كوريا الجنوبية فترمي إلى إبرام صفقات بشأن الغاز الطبيعي المسال مع الولايات المتحدة بقيمة 100 مليار دولار.12 تأتي هذه التعهّدات في الوقت الذي تسعى فيه الأطراف الثلاثة إلى تنويع مصادر إمداداتها من الغاز الطبيعي المسال، في ظلّ تصاعد المخاوف حيال أمن الطاقة وسلاسل التوريد.
منذ انطلاق ثورة الغاز الصخري في العقد الثاني من الألفيّة، رسّخت الولايات المتحدة موقعها كأكبر منتج ومصدّر للغاز الطبيعي المسال في العالم،13 وكثالث أكبر مصدّر للنفط (أنظر إلى الرسمَين البيانيين 3 و4). وفي العام 2024، مثّلت صادرات الطاقة 16 في المئة من إجمالي الصادرات الأمريكية.14 لكنّها لم تكن بمنأى عن تداعيات الاضطرابات في أسواق الطاقة العالمية. على الصعيد الجيوسياسي، أحدثت الحرب الدائرة في أوكرانيا منذ عام 2022 تحوّلات معقّدة في سوق الطاقة؛ ففيما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الغاز الروسي، استمرّ هذا الغاز بالتدفّق إلى أوروبا (الرسم البياني 2)،15 سالكاً في بعض الأحيان مسارات بديلة عبر الصين.16 حتى حلفاء واشنطن، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، لا يزالون يستهلكون كميّات من الغاز الروسي، رغم الضغوط الأمريكية المتواصلة لوقف واردات الغاز الطبيعي المسال من موسكو. في هذه الأثناء، تطالب واشنطن دول الاتحاد الأوروبي بشراء الغاز الطبيعي المسال الأمريكي،17 غير أنّ هذه الدول تعارض فرض رسوم جمركية دنيا عليها بنسبة 10 في المئة كالتي طالبت بها الولايات المتحدة باعتبارها نقطة انطلاق في الاتفاقات18 التي أبرمتها مع المملكة المتحدة19 والصين.20
الرسم البياني 2. صادرات الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي الـ27 بين 2022 و2025 (مليار متر مكعب)21
الرسم البياني 3. صادرات الطاقة الأمريكية حسب الدولة الوجهة (2024)22
من جانبها، تواصل الدول الخليجية تنفيذ مشاريع الغاز الطبيعي المخطّط لها. بالفعل، تعمل قطر على توسيع مشروع حقل الشمال بهدف زيادة الطاقة الإنتاجية من الغاز الطبيعي المسال23 بنسبة 43 في المئة، لترتفع من 77 مليون إلى 110 ملايين طنّ سنوياً، على أن تكتمل أعمال التوسيع بحلول عام 2027. 24 وفي الإمارات العربية المتحدة، ينصبّ التركيز على تفعيل منشأة منخفضة الكربون في مدينة الرويس الصناعية بأبوظبي، وتشغيل مرافق تصدير الغاز الطبيعي المسال باستخدام الطاقة النظيفة، بالإضافة إلى استخدام الذكاء الاصطناعي والتحوّل الرقمي لتحسين كفاءة العمليّات. ومن المرتقب أن تصل السعة الإنتاجية لمشروع “الرويس للغاز الطبيعي المسال” الذي تديره شركة “أدنوك”، إلى 9,6 ملايين طنّ سنوياً. أما في المملكة العربية السعودية فتعمل شركة “أرامكو” على استغلال الغاز غير التقليدي (الصخري) في حقل “الجافورة” بالمنطقة الشرقية، لتلبية الطلب المحلّي المتزايد.25 ومن المتوقّع أن يبدأ الحقل بالإنتاج في عام 2025، على أن يصل إنتاجه إلى ملياري قدم مكعبة قياسية يومياً بحلول عام 2030، أيّ ما يعادل نحو 15,19 مليون طن سنوياً من الغاز الطبيعي المسال.26
في المحصّلة، من المرجّح أن تدفع المشاريع الجديدة أو أعمال التوسيع سوقَ الغاز الطبيعي المسال العالمية نحو فائض في الطاقة الإنتاجية، ما يخلق سوقاً “منحازة” للمشترين تحت وطأة الضغوط الجمركية، بحيث لا تعود الأسعار المنخفضة أو قرب مسافة النقل عوامل حاسمة في قرارات الشراء.
في ولاية ترامب الأولى، أبرمت الدول الكبرى المستهلكة للغاز الطبيعي المسال، منها الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، عقوداً طويلة الأجل مع الولايات المتحدة، بهدف تخفيف الضغوط التجارية وتنويع مصادر الإمداد من الغاز الطبيعي المسال.27 وبناءً على هذه السابقة، كانت تلك الدول تتوقّع أن تطالبها واشنطن بصفقات شراء مماثلة مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض. وبالفعل، واجهت الدول الأربعة هذا النوع من الضغوط في الاجتماعات الأولى مع الرئيس الأمريكي.28 وفي ظلّ استمرار نموّ الطلب على الغاز الطبيعي المسال في الأسواق الآسيوية الرئيسيّة مثل الصين والهند، اشتدّت المنافسة بين المورّدين وسط الضغوط السياسية الناجمة عن الرسوم الجمركية الأمريكية.29 في هذا الإطار، روّجت واشنطن لعقودها باعتبارها أكثر تنوّعاً ومرونة من حيث المدّة الزمنية، كما تخلو من القيود على الوجهة النهائية للشحنات30 ولا تحظّر إعادة بيعها لطرف ثالث، خلافاً للعقود التقليدية الطويلة الأجل، لا سيما تلك المبرمة مع قطر أو أستراليا.
بدأ ترامب بالضغط على دول شرق آسيا للاستثمار في مشروع خطّ أنابيب ألاسكا منذ ما قبل عودته إلى البيت الأبيض. وفي هذا السياق، زار مسؤولون من “شركة تطوير خطوط الغاز في ألاسكا”AGDC) ) وشريكتها في عمليات التطوير “غلينفارن غروب” (Glenfarne Group) كلاً من تايوان وكوريا الجنوبية واليابان، للتسويق للمشروع. تُعد ألاسكا ولاية جمهورية ومعقلاً لمؤيّدي ترامب،31 ورغم أنّها خامس أكبر ولاية أمريكية في استخراج الغاز الطبيعي الجاف (نحو 3,5 تريليون قدم مكعبة سنوياً)32 من احتياطيات تُقدَّر بنحو 125 تريليون قدم مكعبة، فإنّ هذه الكميّات يُعاد ضخّها في آبار النفط للحفاظ على معدّلات إنتاج الخام، في ظلّ غياب خط أنابيب ينقل الغاز الطبيعي إلى المستهلكين في جنوب الولاية أو إلى مرافق التصدير.33 هذا المشروع البالغة قيمته 44 مليار دولار الذي تحثّ إدارة ترامب كلاً من تايوان وكوريا الجنوبية واليابان على الاستثمار فيه، هو في الدرجة الأولى مشروع بنية تحتية قبل أن يكون مشروع غاز طبيعي مسال. ويهدف إلى إنشاء خطّ أنابيب بطول 807 أميال يربط خليج برودو، حيث تقع محطة معالجة الغاز، بمدينة نيكيسكي في جنوب ألاسكا (الرسم البياني 4). ومن هناك، يمكن شحن الغاز الطبيعي المسال نحو آسيا، بحيث يصل إلى اليابان في غضون سبعة أيام تقريباً وإلى كوريا الجنوبية في غضون ثمانية أيام، متجنّباً قناة بنما، سالكاً مساراً مباشراً عبر المحيط الهادئ.
الرسم البياني 4. المسار المقترح لمشروع خطّ أنابيب ألاسكا، حتى ديسمبر 2023 34
كان المشروع قد حصل على ضمان قرض فيدرالي أمريكي35 بقيمة 30 مليار دولار من وزارة الطاقة، بموجب “قانون الحدّ من التضخم”36 الذي أقرّته إدارة بايدن، مع تحديد عام 2030 أو 2031 موعداً مقترحاً لإنجاز المشروع. غير أنّ بقية التمويل اللازم لم يتم تأمينه حتى تاريخ إعداد هذا التقرير، فيما يُنظر إلى المشروع على نطاق واسع على أنه يفتقر إلى الجدوى الاقتصادية. في ولاية ترامب الأولى، وقّعت كلّ من “مؤسّسة البترول الوطنية الصينية” (CNPC) المملوكة للدولة و”مؤسسة الاستثمار الصينية” (CIC) التي تُعدّ صندوق الثروة السيادي الصيني و”بنك الشعب الصيني” (PBOC)، أي المصرف المركزي، اتفاق تطوير مشترك في مجال الغاز الطبيعي المسال مع الولايات المتحدة في نوفمبر 2017 باستثمارات مقترحة بلغت 43 مليار دولار، تحت ضغوط من إدارة ترامب الأولى، بهدف خفض العجز التجاري الأمريكي. إلا أنّ الأطراف الصينية عادت وانسحبت من المشروع بحلول عام 2019 بسبب مخاوف من ضعف العوائد.37
في مارس 2025، سعت تايوان، الحريصة على تعزيز أمن الطاقة والمرتابة من الصين، إلى اتفاق مع الولايات المتحدة، مُبديةً نيّتها شراء سلع أمريكية بقيمة 200 مليار دولار، تشمل الغاز الطبيعي المسال.38 كما وقّعت شركة النفط الوطنية التايوانية (CPC) خطاب نوايا ينصّ على الاستثمار في مشروع خط أنابيب ألاسكا،39 وأعلنت إرسالها وفداً للمشاركة في “قمّة ألاسكا للطاقة المستدامة” التي نظّمتها وزارة الطاقة الأمريكية في يونيو 2025 .40 كذلك، تواجه اليابان وكوريا الجنوبية ضغوطاً شديدة للاستثمار في مشروع ألاسكا لتوزيع الغاز الطبيعي المسال وتصديره،41 غير أنّ السّجل السابق غير الموفّق للمشروع يثير شكوك البلدين.42مع ذلك، حضر مسؤولون من وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية وشركة المرافق اليابانية “جيرا” (JERA) قمّة ألاسكا، وأبدت الأخيرة اهتمامها بالمشروع رسمياً، عارضة المساهمة مالياً وتقنياً والاستثمار فيه، في محاولة لتيسير المحادثات بشأن الرسوم الجمركية، لكن من دون تحديد كميّة الغاز الطبيعي المسال التي تنوي شراءها.43 كما شارك في القمّة مسؤولون من وزارة التجارة والصناعة والطاقة الكورية والشركة الوطنية الكورية للغاز الطبيعي (KOGAS).
تدرك الولايات المتحدة رغبة اليابان في الحصول على الضوء الأخضر من ترامب من أجل إتمام صفقة استحواذ شركة “نيبون ستيل” (Nippon Steel) على شركة الصلب الأمريكية “يو أس ستيل” (U.S Steel)، وتستغلّ ذلك لجذب الاستثمارات اليابانية إلى مشروع خطوط أنابيب ألاسكا، داعية لاستخدام الصلب الياباني.44 أمّا كوريا الجنوبية فقد أنشأت في السابق مشاريع مشتركة لتطوير الغاز الطبيعي المسال في ألاسكا في عامَي 1984 45 و2022 46 تحت الضغوط الأمريكية، من دون أن يؤدي ذلك إلى نتائج ملموسة.
نظراً لتفوّق كوريا الجنوبية في صناعة السفن وتراجع هذا القطاع في الولايات المتحدة،47 دعت واشنطن شركات بناء السفن الكورية إلى تصنيع ناقلات الغاز الطبيعي المسال والسفن الحربية داخل الأراضي الأمريكية.48 وتأتي هذه الخطوة في أعقاب الإجراءات التنظيمية الآيلة إلى مواجهة صعود نجم الصين في قطاعات الملاحة والخدمات اللوجستية وصناعة السفن، فيما تخطّط الولايات المتحدة لفرض رسوم على السفن الصينية عند رسوّها في الموانئ الأمريكية.49
بحسب توقّعات وكالة الطاقة الدولية، ستؤدّي ثورة الذكاء الاصطناعي إلى مضاعفة الطلب على الطاقة بحلول عام 2030 مقارنة بالمستويات الحالية.50 يحتلّ الذكاء الاصطناعي مكانةً محوريّة في صلب خطط الطاقة في دول شرق آسيا، بالتوازي مع أهدافها لتحقيق الحياد الكربوني. بالتالي، سيتطلّب تشغيل مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي وصيانتها زيادة هائلة في إمدادات الكهرباء، ما تجلّى مؤخراً في إعلان الإمارات عن إنشاء مجمّع لمراكز بيانات الذكاء الاصطناعي بسعة كهربائية قدرها 5 جيغاواط.51 وفيما تعمل دول شرق آسيا على تعزيز إنتاجها لأشباه الموصّلات عبر إنشاء مجمّعات صناعية أو توسيع المصانع القائمة، تجد نفسها أمام حاجة ملحّة لزيادة الامدادات الكهربائية. غير أنّ هذه الدول تعتمد على مصادر مختلفة من الطاقة لتوليد الكهرباء، تبعاً لمواطن القوّة والضعف في مزيجها الطاقي، ما يؤثّر بدوره في مدى حاجتها إلى تنويع محافظها من الغاز الطبيعي المسال.
تشير “خطّة الطاقة الإستراتيجية السابعة” في اليابان، الممتدة حتى عام 2040، إلى توسيع نطاق الاعتماد على الطاقة النوويّة ومصادر الطاقة المتجدّدة بما يتماشى مع أهداف البلاد لتحقيق الحياد الكربوني (الرسم البياني 5).52 بيد أنّ الخطّة تعرّضت لوابل من الانتقادات بدعوى عدم واقعيّتها، إذ إنّ اليابان لا تشغّل اليوم سوى 12 مفاعلاً نووياً، أي أقل بكثير من 27 مفاعلاً، وهو العدد اللازم لتحقيق هذه الأهداف.53 ورغم التوقّعات بانخفاض الطلب الياباني على الغاز الطبيعي المسال، تسعى طوكيو إلى ضمان إمدادات مستقرّة منه بشروط مرنة. ففي عام 2017، قضت لجنة التجارة العادلة اليابانية بأنّ القيود على وجهة الشحنات التي تمنع إعادة بيع الغاز الطبيعي المسال المتعاقد عليه، تنتهك قوانين مكافحة الاحتكار،54 ما دفع شركتي “جيرا” و”طوكيو غاز” إلى إعادة التفاوض على بعض عقودهما مع المورّدين.55 وتخوض “جيرا” حالياً مفاوضات لإبرام عقد طويل الأجل لشراء 3 ملايين طنّ سنوياً من “قطر للطاقة”،56 مع العلم أنّ محفظة الغاز الطبيعي المسال لدى اليابان متنوّعة نسبياً.57 كما أجرت طوكيو جولات تفاوضية مع واشنطن سعياً لإلغاء الرسوم الأمريكية على السيارات وقطع الغيار والصلب والألمنيوم اليابانية. وفيما لم تتّضح بعد كميّة الغاز الطبيعي المسال الأمريكي التي ستلتزم اليابان بشرائها، تعهّدت طوكيو بضخّ استثمارات بقيمة 550 مليار دولار في الولايات المتحدة، إضافة إلى صفقة غاز طبيعي مسال وقّعتها شركة “جيرا” بقيمة 200 مليار دولار. وبفضل خلوّ العقود الأمريكية المتعلّقة بالغاز الطبيعي المسال من قيود على وجهة الشحنات، استطاعت اليابان ترسيخ مكانتها كمركز إقليمي للغاز عبر إعادة بيع الشحنات لدول ثالثة في جنوب شرق آسيا.
الرسم البياني 5. خطّة اليابان للطاقة بين عامَي 2022 و2040، كيلوواط ساعة58
الرسم البياني 6. واردات اليابان من الغاز الطبيعي، 2023-2024، اعتباراً من فبراير 2025 (مليون طنّ سنوياً)59
في كوريا الجنوبية، تتوقّع “الخطّة الأساسية الحادية عشرة لإمدادات الكهرباء والطلب عليها في المدى الطويل” (BPLE) الممتدّة حتى عام 2038، حدوث تحوّل كبيرا في آليات إمداد القطاعات التقنية بالطاقة مثل أشباه الموصلات والبطاريات وشاشات العرض والتكنولوجيا الحيويّة والسيارات المستقبلية والروبوتات، إضافة إلى تشغيل مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي (الرسم البياني 7).60 في هذا السياق، سيقود كلٌّ من مجمّع “يونغين” لأشباه الموصلات (Yongin Chip Cluster) (1,4 جيغاواط)، ومراكز البيانات (4,4 جيغاواط)، والتوسّع في استخدام الطاقة الكهربائية في قطاع النقل وغيره من جوانب الحياة (11 جيغاواط)، إلى مستويات غير مسبوقة من استهلاك الطاقة ستتم تلبيتها عبر مزيج من الطاقة النووية والمتجددة، انسجاماً مع أهداف الحياد الكربوني وكفاءة الطاقة. ومن المقرّر تشغيل مفاعلين نوويين جديدين بين عامَي 2037 و2038 بسعة إجمالية تبلغ 2,8 جيغاواط، وللمرّة الأولى سيتمّ تشغيل مفاعل نووي صغير(SMR) بسعة 0,7 جيغاواط بحلول عام 2036، مع إمكانية إضافة المزيد في المستقبل. 61
الرسم البياني 7. خطة الطاقة في كوريا الجنوبية في الفترة بين عامي 2024 و2038: مزيج الطاقة المستقبلي (تيراواط/ساعة)62
تستورد كوريا الجنوبية نحو 9 ملايين طنّ سنوياً من الغاز الطبيعي المسال من قطر، فيما تصدّر إليها ناقلات الغاز الطبيعي المسال.63 وفي نوفمبر 2024، زار مسؤولون من “قطر للطاقة” كلاً من سيول وطوكيو للقاء نظرائهم في شركة الغاز الكورية “كوغاز” (KOGAS) وشركة “جيرا” بهدف تعزيز الشراكة، تمهيداً لتجديد العقود الطويلة الأجل مع الطرفين الكوري والياباني التي تقترب من نهاية أجلها.64 وخلال الاجتماعات، تمسكّت “قطر للطاقة” بالبنود المتعلّقة بالوجهة النهائية. وفي ديسمبر 2024، أدرجت “كوغاز” شركات “بي بي” (BP) و”ترافيغورا” (Trafigura) و”توتال” (TotalEnergies) ضمن القائمة المختصرة المرشّحة للفوز بعقد طويل الأجل لتوريد 2,1 مليون طنّ سنوياً من الغاز الطبيعي المسال. كما أفادت تقارير بأنها وقّعت عدداً من الاتفاقات الأوليّة مع مورّدين أمريكيين، شملت تحديد الكميات وهيكلية التسعير وفترات الإمداد وآليات التسليم ضمن العقود طويلة الأجل.65
وفي يوليو 2021، وقّعت شركة الغاز الكورية “كوغاز” عقداً مع “قطر للطاقة” لاستيراد مليونَي طنّ سنوياً من الغاز الطبيعي المسال لمدّة 20 عاماً (2025-2044).66 غير أنّ عقود كوريا الجنوبية الطويلة الأجل مع قطر، بشأن توريد 2,02 مليون طنّ من الغاز الطبيعي المسال في 2025 ومليوني طنّ في 2026، يُرجَّح أن تنتهي من دون تجديد، في ظلّ تركيز سيول على تنويع محفظتها من الغاز الطبيعي المسال. وتتّجه كوريا الجنوبية إلى البحث عن مصادر جديدة عبر التحوّل نحو مورّدين أمريكيين، بما أنّها ما زالت تعتمد على منطقة الخليج لتأمين 36 في المئة من إجمالي وارداتها من الغاز الطبيعي المسال،67 وتسعى إلى المزيد من التنويع (الرسم البياني 8). تقدّم كوريا مثالاً واضحاً لحالات استبدال العقود المنتهية بعقود مع مورّدين من الولايات المتحدة، في جهدٍ للتخفيف من وطأة الرسوم الجمركية الأمريكية على صناعاتها الحيوية، مثل السيارات وأشباه الموصلات.
الرسم البياني 8. محفظة واردات كوريا الجنوبية من الغاز الطبيعي المسال، 2009-2023 (مليون طن سنوياً)68
وضعت الصين من جانبها خطّة طموحة في مجال الطاقة، تتضمّن مشاريع ضخمة في مجالَي الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، بالإضافة إلى توليد الكهرباء من الطاقة النووية (الرسم البياني 9). وتحتضن البلاد أحد أكبر مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي في العالم، ما يسهم في زيادة الطلب على الكهرباء إلى حدّ كبير. لا شكّ في أنّ الصين ستستمرّ في استهلاك الغاز الطبيعي المسال، لكنّها توقّفت عن شرائه من الولايات المتحدة منذ 6 فبراير.69 وفي ظلّ الحرب التجارية الدائرة بين واشنطن وبكين، لا سيّما الخلافات المتعلّقة بضوابط تصدير رقائق الذكاء الاصطناعي، لم يتّضح بعد ما إذا كان الجانبان سيتوصّلان إلى اتفاق شبيه باتفاق “المرحلة الأولى” المبرم عام 2020. فمنذ ذلك الحين، اتّجهت الصين نحو الإمارات، حيث أبرمت اتفاقاً مع “أدنوك” لاستيراد الغاز الطبيعي المسال لمدّة خمس سنوات.70 وتمتلك بكين بالفعل محفظة متنوّعة جداً من الغاز الطبيعي المسال وتستهلك الغاز الطبيعي الروسي المنقول عبر الأنابيب، ما يعني أنّها لن تواجه مشكلة في تأمين الإمدادات، حتى لو فشلت المفاوضات مع الولايات المتحدة (الرسم البياني 10).
الرسم البياني 9. خطّة الصين للطاقة بين عامي 2025 و2060 71
الرسم البياني 10. محفظة واردات الصين من الغاز الطبيعي المسال في الفترة 2015-2025 (مليون طن سنوياً)72>
أصبحت الهند بدورها لاعباً رئيسياً في سوق الغاز الطبيعي المسال في الخليج، معتمدةً في معظم وارداتها على قطر. وعلى عكس اليابان وكوريا الجنوبية اللتين ركّزتا في العقدين الماضيين على إبرام اتفاقات تجارة حرّة واتفاقات شراكة اقتصادية، لم توقّع الهند أول اتفاقية تجارة حرّة مع اقتصادٍ غربي (المملكة المتحدة) إلا في يونيو 2025. كما اختتمت الجولة الخامسة من محادثات اتفاق التجارة الثنائية مع الولايات المتحدة التي ألقت الرسوم الجمركية بظلالها عليها،73 من دون التوصّل إلى اتفاق بشأن استبدال الغاز الروسي، وبقيت متمسّكة بموقفها الدبلوماسي تجاه موسكو.74 تركّزت الخلافات في المفاوضات على ملفَي الزراعة والسيارات، في الوقت الذي تسعى فيه الهند إلى إلغاء الرسوم الإضافية البالغة 26 في المئة، وخفض الرسوم على الصلب والألمنيوم (50 في المئة حالياً) والسيارات (25 في المئة). في هذا الإطار، بادر كبار مستوردي الغاز الطبيعي المسال في الهند إلى شراء كميّات أكبر من الموردين الأمريكيين قبيل انعقاد القمة بين ترامب ومودي في واشنطن في فبراير،75 ما عكس اتجاهاً أوسع بين الدول الآسيوية والاتحاد الأوروبي لزيادة مشتريات الغاز الطبيعي المسال الأمريكي بهدف تقليص اختلال الميزان التجاري مع الولايات المتحدة والتحوّط ضد رسوم ترامب. وتجدر الإشارة إلى أنّ الهند تستورد أكثر من نصف احتياجاتها من الغاز الطبيعي المسال من الخليج (قطر والإمارات وعُمان)، وقد زادت مشترياتها بشكل ملحوظ في العامين الماضيين (الرسم البياني 10).
الرسم البياني 11. محفظة واردات الهند من الغاز الطبيعي المسال، 2023-2024 (مليون طن سنوياً)76
منذ انطلاق ثورة الغاز الصخري، ظهرت الأسواق الفورية للغاز الطبيعي المسال، في ظلّ استمرار الاعتماد على العقود الطويلة الأجل بصيغة اتفاقات البيع والشراء. وإثر التداعيات الجيوسياسية لحرب أوكرانيا على سلاسل توريد الغاز الطبيعي المسال، بدأت أشكال متنوّعة من هذه الاتفاقات تظهر مع انتهاء العقود التقليدية الطويلة الأجل.77 أدركت دول شرق آسيا أنّ العقود الطويلة الأجل لا تضمن بالضرورة أسعاراً أدنى (أنظر الرسم البياني 13.1، في حالة اليابان حيث كانت أسعار الغاز الطبيعي المسال المستورد من الإمارات وقطر من بين الأعلى)، ما أدّى إلى اندفاع لاستبدال العقود المنتهية الأجل بترتيبات أخرى. يتجلّى ذلك بوضوح في حالة كوريا الجنوبية، التي تشهد نقاشاً داخلياً حول الأسعار المرتفعة نسبياً التي تدفعها مقابل الغاز الطبيعي المسال الخليجي مقارنة بوجهات شرق آسيوية أخرى، مثل الصين، إمّا بسبب الفشل في توقّع الطلب أو نتيجة الارتباط بعقود طويلة الأجل (أنظر الرسمين البيانيين 13.2 و14).78 وفي هذا السياق، ومع تراجع أسعار الغاز الطبيعي والغاز الطبيعي المسال في العامين الماضيين (2024-2025) بما يتماشى مع الاتّجاه المستمرّ لانخفاض أسعار الغاز الطبيعي (الرسم البياني 12)، ستلجأ الدول الآسيوية إلى مجموعةٍ متنوّعة من الخيارات.79 وبالنظر إلى تأثير الرسوم الجمركية، من المرجّح أن تفضّل هذه الأطراف العقود القصيرة والمرنة والمجزّأة للغاز الطبيعي المسال، الخالية من بنود تحديد وجهة الشحنات.
الرسم البياني 12. أسعار الغاز الطبيعي المسال العالمية، 2014-2023 (دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية)80
الرسم البياني 13. أسعار الاستيراد في اليابان وكوريا الجنوبية81
الرسم البياني 14. أسعار استيراد الغاز الطبيعي المسال في السوق الآسيوية خلال حرب أوكرانيا (دولار أمريكي لكل مليون وحدة حرارية بريطانية)82
من المتوقّع أن تشهد سوق الغاز الطبيعي المسال فائضاً في السعة الإنتاجية في السنوات المقبلة،83 مع انتهاء عقود توريد صافية تتجاوز 70 مليونّ طن سنوياً بحلول عام 2030. 84 وفي ظلّ الحرب التجارية الدائرة والمفاوضات الثنائية المتواصلة مع إدارة ترامب، يصعب استشراف أوجه الاختلاف بين دول شرق آسيا من حيث كميّات الغاز التي ستستوردها من الولايات المتحدة وشروط العقود التي ستبرمها. ومع ذلك، يبدو جليّاً أنّ هذه الدول تسعى إلى انتزاع أفضل الشروط الممكنة والحدّ من آثار الرسوم الجمركية، من خلال الدفع باتجاه ترتيبات تخدم مصالحها وتتماشى مع خططها المستقبلية في مجال الطاقة. ومن المرجّح أن تفضّل هذه الدول الترتيبات التعاقدية المحدّدة الأجل التي تضمن حماية المشتري من أيّ نقصٍ في الإمدادات على حساب الحفاظ على علاقات تجارية طويلة الأمد. ومن هذا المنطلق، لا بدّ أن تنظر دول الخليج في إدراج بنود أكثر مرونة في عقودها المقبلة للحفاظ على جاذبيّة الغاز الطبيعي المسال الخليجي، في ظلّ تداعيات رسوم ترامب على أسواقها الآسيوية الرئيسية، ولا سيما الصين واليابان وكوريا الجنوبية.
الهوامش