مأزق اليمن:

لماذا فشلت القوة الأمريكية؟

مذكرة سياسات، يوليو 2025
زميل زائر مبتدئ

27 يوليو، 2025

شهد البحر الأحمر تحوّلاً جذريّاً في المشهد الأمنيّ البحريّ العالميّ منذ أكتوبر 2023، عندما بدأت جماعة الحوثي اليمنيّة (المعروفة أيضاً باسم أنصار الله) بشنّ هجمات متكرّرة على السفن التجارية والعسكريّة في أحد أهم الممرّات المائيّة في العالم. وقد أحدثت هذه الهجمات، التي أعلن الحوثيّون أنّها تأتي تضامناً مع الفلسطينيين في غزة، اضطرابات غير مسبوقة في التجارة العالمية، إذ أجبرت شركات الشحن الكبرى على تغيير مساراتها، وأدّت إلى ارتفاع تكاليف النقل البحري بنسبة 250 في المئة ، مهدّدةً سلاسل التوريد العالميّة.1

 

والجدير بالذكر أنّ الحوثيّين يسيطرون على نحو 25 في المئة من أراضي اليمن، وهي المناطق ذات الكثافة السكانية المرتفعة في الشمال والغرب، كما يسيطرون على مساحات شاسعة من الساحل الغربي، بالإضافة إلى معظم الجُزر اليمنيّة في البحر الأحمر.2 ومنحتهم هذه الهيمنة على الساحل الغربي موقعاً إستراتيجياً يخوّلهم التأثير في الملاحة في البحر الأحمر. وتطوّرت قدراتهم العسكرية تطوّراً ملحوظاً في خلال أعوام الصراع، ولا سيّما في مجالَي الصواريخ الباليستية والطائرات المسيَّرة. وقد ساهم الدعم الإيراني، المباشر أو غير المباشر، في تعزيز هذه القدرات. وعلاوة على ذلك، تمكّن الحوثيّون من تطوير صناعة عسكرية محلّية راسخة، مدعومة بموادّ مهرّبة من إيران، على الرغم من الحصار المفروض عليهم.

 

في مواجهة هذا التهديد، أطلقت الولايات المتّحدة الأمريكية في ديسمبر 2023 عمليّة “حارس الازدهار” (Operation Prosperity Guardian)، وهي مَهمّة بحرية متعدّدة الجنسيّات تهدف إلى حماية طرق التجارة في البحر الأحمر. وفي ظلّ استمرار هجمات الحوثيّين، صعّدت الولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة ردّهما العسكريّ في يناير 2024، من خلال شنّ موجة من الضربات الجوّية ضد مواقع الحوثيّين في اليمن. وفي مارس 2025، أطلقت إدارة ترامب “عمليّة الفارس الخشن” (Operation Rough Rider) العسكرية الواسعة النطاق ” ضد الحوثيّين.3

 

استمرّت هجمات الحوثيّين على السفن في البحر الأحمر، وظلّت حركة الملاحة البحرية عرضةً للاضطرابات، ما يُثير تساؤلات جوهريّة حول فعاليّة الإستراتيجيّة الأمريكية، وأسباب فشلها في تحقيق أهدافها المُعلنة. وفي مايو 2025، أعلن الرئيس ترامب فجأة عن التوصّل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار مع الحوثيّين، بوساطةٍ دوليّة فعّالة، لكن من دون أن يشمل إسرائيل، ما أثار المزيد من التساؤلات حول طبيعة المواجهة الأمريكيّة الحوثيّة ونتائجها.

 

وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها الولايات المتّحدة، والتي تضمّنت شنّ 931 غارة جوّية على الحوثيّين وإنفاق ما يقارب 7 مليارات دولار أمريكي، فإنّها فشلت في ردعهم أو القضاء عليهم.4  ويُعزى هذا الفشل بشكل أساسي إلى ثلاثة أسباب رئيسية: أولاً، التعقيدات الجيوسياسية المتعدّدة الأبعاد في منطقة الشرق الأوسط؛ ثانياً، تطوّر قدرات الحوثيّين العسكرية في حرب اللاتماثل، إذ تمكّنوا من اعتماد تكتيكات حيّدت التفوّق العسكري الأمريكي، مثل استخدام الطائرات المسيَّرة المنخفضة التكلفة والصواريخ البسيطة؛ ثالثاً القيود الهيكلية التي تواجهها الولايات المتّحدة، والمتمثّلة في التخوّف من التورّط في صراع برّي.5

 

تكمن أهميّة مذكّرة السياسات هذه في تناولها قضيّة راهنة ذات أبعاد إستراتيجية واقتصادية وجيوسياسية متشابكة، تؤثّر في الأمن البحري العالمي والتجارة الدولية والتوازنات الإقليمية في الشرق الأوسط. كما أنّ دراسة الأسباب وراء فشل القوّة العظمى الوحيدة في العالم في مواجهة مجموعة مسلّحة غير حكومية تحمل في طيّاتها عِبَراً مهمّة بشأن طبيعة الصراعات المعاصرة وحدود القوّة العسكرية التقليدية في مواجهة التهديدات غير التقليدية في القرن الحادي والعشرين.

تطوّر أساليب الحوثيّين في التدخّل: المراحل والتكتيك

 

في خلال المرحلة الأولى التي امتدت من أكتوبر إلى نوفمبر 2023، شرع الحوثيّون في تنفيذ هجمات محدودة النطاق، استهدفت إسرائيل والسفن المرتبطة بها ارتباطاً أساسيّاً. وشكّل اختطاف سفينة “غالاكسي ليدر” (Galaxy Leader) في 19 نوفمبر 2023 نقطة تحوّل مفصلية، إذ كشف عن قدرة الحوثيّين على تنفيذ عمليات معقّدة في عمق البحر الأحمر. واتّسمت هذه المرحلة باستخدام الحوثيّين صواريخ كروز المضادّة للسفن من طراز “الماندب-2″، والطائرات المسيَّرة الانتحارية. وتدلّ المؤشّرات على أنّ هذه الأسلحة طُوّرت بدعمٍ إيراني، وأنّ تصميمها وتشغيلها يعتمدان على تقنيّات شبيهة بالتي استُخدمت في الهجمات التي استهدفت منشآت نفطية في المملكة العربية السعودية عام 6.2019

 

وشهدت المرحلة الثانية (بين ديسمبر 2023 ويناير 2024) توسّعاً ملحوظاً في نطاق العمليات الحوثيّة، إذ استهدفت جميع السفن المتّجهة إلى إسرائيل، بغضّ النظر عن جنسيّتها أو ملكيّتها. وقد عكس هذا التوسّع في الإستراتيجيّة تصعيداً في موقف الحوثيّين السياسي، وزيادة في ثقتهم بقدراتهم العسكرية، ولا سيّما أنّهم شنّوا في خلال هذه الفترة ما لا يقلّ عن 20 هجوماً على سفن تجارية في البحر الأحمر، ما أسفر عن إصابة بعض السفن وإلحاق أضرار جسيمة بها.7 كما أطلقوا صواريخ باليستية باتجاه مدينة إيلات الإسرائيلية، ما دفع الولايات المتّحدة الأمريكية إلى إطلاق عملية “حارس الازدهار” في 18 ديسمبر 2023، بمشاركة أكثر من 20 دولة، من أجل حماية حرّية المِلاحة في البحر الأحمر. وشملت هذه العملية نشر سفن حربية وطائرات استطلاع في المنطقة، ما أضفى بُعداً جديداً على الصراع. كما اعتمد الحوثيّون على إستراتيجية الحرب غير المتكافئة، إذ استخدموا أسلحة منخفضة التكلفة نسبياً مثل الطائرات والزوارق المسيَّرة لتحقيق تأثير كبير في القوى الدولية، وهي إستراتيجيّة مكّنتهم من تحدّي قوى عظمى بموارد محدودة نسبياً.8

 

اتّسمت المرحلة الثالثة (بين فبراير ومايو 2024) بتصعيد حادّ في المواجهة بين الحوثيّين والقوّات الأمريكية والبريطانية التي شنّت في خلال هذه الفترة ضربات جوّية ضد مواقع عسكرية تابعة للحوثيّين في اليمن، مستهدفةً منصّات إطلاق الصواريخ ومراكز القيادة والسيطرة. وتفيد التقارير العسكرية بتدمير أكثر من 60 هدفاً للحوثيّين في خلال هذه العمليات. ففي المقابل، بدأت جماعة الحوثي باستهداف السفن الأمريكية والبريطانية استهدافاً مباشراً.9 ومن أبرز الحوادث التي وقعت في خلال تلك الفترة، يُذكر غرقُ السفينة البريطانية “روبيمار” (Rubymar)، وإصابة عدد من السفن الأخرى. وتوسّعت دائرة هجمات الحوثيّين لتشمل خليج عدن، حيث أُطلقت صواريخ على السفينة “ترو كونفيدنس” (True Confidence) ما أسفر عن مقتل ثلاثة بحّارة. وتزامنت هذه التطوّرات مع تصاعد التوتّرات الإقليمية، الأمر الذي دفع القوّات الأمريكية إلى شنّ غارات جوّية على مواقع الحوثيين في اليمن ردّاً على تلك الهجمات. في المقابل، كثّف الحوثيون هجماتهم على السفن التجارية والحربية في البحر الأحمر، مستخدمين تكتيكات جديدة مثل الهجمات الجماعية بالطائرات المسيَّرة والزوارق السريعة المفخّخة.10

 

أمّا في المرحلة الأخيرة (بين يونيو وديسمبر 2024) فشهدت العمليّات الحوثيّة توسّعاً غير مسبوق من حيث تنوّع الهجمات والتنسيق مع مجموعات مسلّحة في العراق، إذ أعلن الحوثيّون عن البدء بتنسيق العمليّات العسكرية مع الفصائل المسلّحة العراقية الموالية لإيران.11 ويُشير هذا التطوّر إلى تحوّلٍ إستراتيجيّ مهمّ، لا سيّما أنّ عمليات الحوثيّين أصبحت جزءاً من إستراتيجيّة إقليمية أوسع تشمل استهداف جميع السفن المرتبطة بإسرائيل، بما في ذلك السفن التابعة للولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة. وترافق هذا التطوّر النوعيّ مع هجومٍ بطائرة مسيَّرة نفّذه الحوثيّون في يوليو 2024 على تل أبيب، وأحدث ضجة كبيرة على الساحة الدوليّة، إذ تمكّنت الطائرة من الوصول إلى أحد الأهداف الحيوية في تل أبيب قبل أن تُسْقِطها أنظمة الدفاع الجوّيّ الإسرائيلية.12 وعلى الرغم من محدودية الأضرار، فإنّ هذا الهجوم شكّل رسالة قوية من الحوثيّين ودليلاً على قدرتهم على ضرب عمق إسرائيل، ما دفعها إلى الردّ باستهداف ميناء الحُديدة. ثم استهدف الحوثيون تل أبيب بصاروخ فرط صوتيّ، على حد قولهم، وهو صاروخ يتميّز بسرعته العالية وقدرته على اختراق الدفاعات الجوّية، أثار قلقاً بالغاً في الأوساط العسكرية الإسرائيلية والدولية، لا سيّما أنّه سلّط الضوء على تطوّر القدرات الصاروخية الحوثيّة. ومع أنّ الدفاعات الجوّية الإسرائيلية تمكّنت من اعتراض الصاروخ، فقد أدّت هذه الحادثة إلى المزيد من التصعيد.

 

في الواقع، ردّت اسرائيل على هذه الهجمات في يوليو وسبتمبر 2024 بغارات جوّية مكثفة على ميناء الحُديدة، الذي يُعدّ من أهم الموانئ الخاضعة لسيطرة الحوثيّين، وعلى البُنى التحتية الحيويّة في مدينة الحُديدة. غير أنّ الهجوم عكس تصعيداً خطيراً في الصّراع، لا سيّما أنّ الميناء يشكّل منفذاً رئيسياً لدخول المساعدات الإنسانية إلى اليمن. وفي الوقت نفسه، قد يكون الهدف من استهداف ميناء الحُديدة قطع طرق إمداد الحوثيّين بالأسلحة الإيرانية ، ما عدّته إسرائيل خطوةً استباقية لتقليص قدرات الحوثيين العسكرية المتطوّرة. إلّا أنّ التصعيد في هذه المرحلة ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالتوتّرات الإقليمية بين إيران وإسرائيل من جهة، وحزب الله من جهة أُخرى، إذ يُعتقد أنّ إيران زوّدت الحوثيّين بتكنولوجيا الصواريخ المتقدّمة والطائرات المسيَّرة التي استُخدمت في الهجمات على السفن وتل أبيب. وتزامن وقف التصعيد مع الهدنة المُعلنة في غزة في يناير13.2025

 

في نهاية المطاف، فرض الحوثيّون أنفسهم رقماً صعباً في المنطقة ، فبلغ الحدّ بالولايات المتّحدة والمملكة المتّحدة أن نفّذتا 931 غارة جوّية على المواقع الحوثية بين يناير 2024 ويناير 2025. غير أنّ هذه الضربات لم تفلح في ردع الجماعة التي واصلت هجماتها في أعقاب انهيار الهدنة المُعلنة في غزة في مطلع مارس.14

 

 

أسباب فشل الإستراتيجية الأمريكية

 

تُظهر الحقائق الميدانية أنّ فشل الإستراتيجيّة الأمريكية في صدّ هجمات الحوثيين في البحر الأحمر لا يُعزى إلى مجرّد عامل ظرفيّ أو تكتيكي، بل إلى مجموعةٍ من الأسباب البُنيوية المتجذّرة التي تعزّز من احتمال استمرار هذا الفشل في المدى المنظور. وتتمحور هذه الأسباب حول ثلاث ركائز جوهرية:

 

أولاً، التعقيدات الجيوسياسية الإقليمية والدولية: تندرج الأزمة الحوثيّة في إطار شبكة معقّدة من الصراعات في الشرق الأوسط، أبرزها الحرب الإسرائيلية الفلسطينية. استغلّ الحوثيون هذا التشابك في تسويق هجماتهم البحريّة بوصفها إسناداً لغزة، ما وضع الولايات المتحدة أمام معادلة صعبة: السعي إلى حماية الملاحة من دون المساس بدعمها العسكري والسياسي لإسرائيل. وهذا التناقض أضعف الموقف الأمريكي دبلوماسيّاً، وقلّل من فعاليّة أدواته الإستراتيجية. كما أنّ التردّد الإقليمي، ولا سيّما من جانب السعودية والإمارات، في الانخراط الفعلي في العمليّات العسكرية ضد الحوثيّين، فاقم عزلة واشنطن في هذا الملف، وجعل من عملية “حارس الازدهار” جهداً دوليّاً هشّاً بلا زخم سياسي حقيقي.

 

وعلى المستوى السياسي والاجتماعي، تستمدّ الجماعة قوّتها من نواة صلبة متجذّرة في البيئة اليمنية، تعزّزها سرديّة أيديولوجية فعّالة مكّنت الحوثيّين من ترسيخ قاعدة الدعم الشعبي من خلال ربط عملياتهم بالقضية الفلسطينية، وتقديم أنفسهم كممثّلين عن محور “المقاومة” في مواجهة الهيمنة الغربية. كما أقاموا علاقات عابرة للحدود مع الميليشيات الإقليمية من مجموعات عراقية وصومالية، ووفّرت لهم موارد بشرية ولوجستية إضافية وأكسبتهم خبرةً في التكيّف والصمود.

 

ثانياً، كفاءة الحوثيين في اعتماد إستراتيجيّة لاتماثلية: تمكّن الحوثيّون من تحويل ميدان البحر الأحمر إلى ساحة اختبار ناجحة لأساليب الحرب غير المتماثلة. فقد مارسوا، باستخدام المسيّرات المنخفضة التكلفة والصواريخ البدائية نسبياً، نفوذاً كبيراً على حركة الملاحة الدولية، وأجبروا شركات شحن كبرى مثل “ميرسك” (Maersk) على تغيير مساراتها على الرغم من الوجود العسكري الأمريكي. وبالتالي، انخفضت حركة العبور اليوميّة عبر مضيق باب المندب بنحو الثلثين بين نوفمبر 2023 وفبراير 2025. وعلى الرغم من العمليّات العسكرية الأمريكية، استمرّت شركات الشحن الكبرى مثل ميرسك في تجنّب البحر الأحمر في ضوء تصريح رئيسها التنفيذي أنّ “العمليّات العسكرية لم تكن كافية لضمان سلامة السفن التجارية.”15 ومع أنّ البحرية الأمريكية أسقطت نحو400 طائرة وصاروخ، فإنّ الهجمات استمرّت بلا هوادة، لا بل تصاعدت أحياناً، ما أدّى إلى فشل إستراتيجي في إعادة الملاحة إلى طبيعتها. وقد وصف تقريرٌ صادر عن “ميدل إيست مونيتور”(Middle East Monitor) الحوثيين بأنّهم خرجوا “أقوى بعد نجاتهم من أكثر من 1000 غارة جوّية” مشكّكاً بفعاليّة القوّة العسكرية الأمريكية.16 ويعكس هذا حقيقة أنّ التفوّق العسكري لا يُترجَم بالضرورة إلى نصر سياسي أو ميداني في وجه خصمٍ لامركزي ومرن ومتماسك أيديولوجيّاً.

 

ثالثاً، القيود البُنيوية في القرار الأمريكي: اصطدمت الإستراتيجية الأمريكيّة بعوامل مؤسّساتية وسياسية عميقة على المستوى الداخلي. فقد تخوّف صُنّاع القرار من الانزلاق إلى صراع برّيّ طويل الأمد، على غرار العراق وأفغانستان، يقيّد هامش المناورة العسكرية، ويحدّ من قدرة واشنطن على استخدام وسائل أكثر حسماً. كما أنّ استهلاك الذخائر الموجّهة بدقّة في العملية العسكرية “الفارس الخشن” التي أطلقتها إدارة ترامب في مارس 2025، وأَنفقت عليها ما يزيد على مليار دولار، مستهدفةً أكثر من 800 موقع حوثي، أثار مخاوف داخل قيادة المحيطَين الهندي والهادئ من نفاد المخزون الإستراتيجيّ.17 وعلى الرغم من إعادة تصنيف الحوثيين منظمةً إرهابية وفرض عقوبات على قادتهم، فإنّ الجماعة واصلت تلقّي الدعم غير المباشر من إيران، وتوسيع قدراتها العسكرية.18

 

وفي السياق الاقتصادي، لم تأخذ واشنطن في الاعتبار البُعد التجاري في البحر الأحمر، فقد جاء قرار شركات الشحن بالانسحاب متأثّراً ليس بالتهديدات فحسب، بل أيضاً بتراجع الطلب العالمي المرتبط بسياسات ترامب التجارية، ما جعل من ” عودة الملاحة” هدفاً أقل إلحاحاً في حسابات السوق. وقد وصف تقرير نشرته مجلّة “ذي إيكونوميست” اتفاق وقف إطلاق النار المحدود في 6 مايو 2025 بأنّه “صفقة فاوستية”، لأنّه عزّز السيطرة الحوثية على اليمن بدلاً من إعادة الاستقرار البحري. أمّا عبد الملك الحوثي فوصفه بـ”الهزيمة الأمريكية النكراء”، ما يعكس التحوّل الرمزي والمعنوي في موازين الصراع.19

 

إن تفكّك هذه العوامل الثلاثة، الجيوسياسية والعسكرية والبنيوية، الذي استندت إليه الإستراتيجية الأمريكية في البحر الأحمر، يكرّس استمرار هذا الفشل ما لم تخضع المقاربات الأمنية والدبلوماسية لمراجعة شاملة، ويبدو سيناريواً أكثر ترجيحاً من النجاح التكتيكي المحدود.

 

وفي ظلّ تعقيدات المشهد الإقليمي، تؤكّد هذه الدراسة ضرورة إعادة صياغة مقاربة أكثر توازناً تجمع بين الأبعاد الأمنية والسياسية والإنسانية، وتراعي المتغيّرات الواقعية على الأرض. وفي هذا السياق، نقترح أربعة توجّهات إستراتيجيّة قابلة للتنفيذ، مع أنّ صياغة إستراتيجيّة واقعيّة وفعّالة تتطلّب الاعتراف بحدود القوّة التقليدية وتوجيه الجهد نحو حلول تدريجيّة ومتعدّدة الأدوات، تأخذ في الاعتبار التوازن بين الأمن والاستقرار الإنساني وتفتح مساراً دبلوماسيّاً لا يُغفل الحقائق السياسية على الأرض:

 

1 – اعتماد إستراتيجية احتواء ذكية وفعّالة من خلال بناء قيادة يمنية موحّدة ودعمها، وتقليص الانخراط العسكري المباشر:

 

بدلاً من توسيع نطاق العمليّات العسكرية المُكلفة، يمكن للولايات المتّحدة انتهاج إستراتيجية احتواء مرنة ترتكز على تمكين الشركاء المحلّيين في اليمن، وتعزيز قدراتهم الدفاعية على الأرض. وهذا يتطلّب تركيز الجهد الأمريكي على معالجة الخلل البُنيوي في قيادة القوّات اليمنية الموالية للحكومة والمعترف بها دولياً، لا سيّما أنّ الانقسام بين الولاءات للسعودية والإمارات يُعدّ إحدى أبرز نقاط الضعف الإستراتيجية. وهنا تبرز أهميّة الدور الأمريكي في استخدام نفوذه السياسي للضغط على الحليفَين الخليجيَّين من أجل توحيد القيادة العسكرية اليمنية ضمن هيكل موحّد ما من شأنه تحسين الأداء الميداني والحدّ من الاعتماد على التدخّلات الخارجية وتمهيد الطريق لتأسيس دفاع وطني مستدام.

 

2 – تحييد المسار الإنساني عن التصعيد السياسي والعسكري وضمان وصول المساعدات:

 

في ظلّ تصنيف الولايات المتّحدة جماعةَ الحوثي جماعةً إرهابية والاستهداف المتكرّر لميناء الحُديدة، ناهيك عن تقييد عمل منظّمات الإغاثة سواء من طرف الجماعة أو نتيجة القيود الذاتية التي تفرضها هذه المنظّمات، يلوح خطر تدهور الكارثة الإنسانية في أفق اليمن ، لا سيّما أنّ ما يزيد على ثلثي السكان اليمنيين يعيشون في مناطق خاضعة لسيطرة الحوثيين. لهذه الأسباب، يجب فصل المسار الإنساني عن الحسابات العسكرية والسياسية من خلال دبلوماسيّة إنسانية متوازنة تتضمّن التالي: إنشاء آليّة محايدة للتنسيق الإنساني ترعاها الأمم المتّحدة، وتضمّ ممثّلين عن المنظّمات الإغاثية والجهات المحلّية، بهدف ضمان تبادل المعلومات وتحديد أولويّات التدخّلات غير العسكرية؛ وتوسيع نطاق عمل مكتب الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) ، من خلال تمويلٍ مرنٍ وتفويض سياسي أوسع من مجلس الأمن يسمح له بالتفاوض المباشر مع الأطراف كافة وضمان حرّية حركة القوافل وتدفّق الإمدادات؛ تقديم حوافز إنسانية مشروطة مثل تسهيل دخول الواردات التجارية أو دعم المشاريع التنموية الصغيرة في المناطق التي تلتزم بضمان حرّية تنقّل العاملين في المجال الإغاثي؛ ووضع إطار ذكيّ ودقيق للعقوبات يستهدف الأفراد أو الكيانات المعرقلة للمسار الإنساني من دون أن يمتدّ أثره إلى السكان المدنيين، أو يقيّد عمل وكالات الإغاثة الدولية.

 

وفي ضوء هذه المعطيات، تتبلور ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل المواجهة: السيناريو الأول والأكثر ترجيحاً هو استمرار الوضع الراهن من دون أيّ تغيير جوهري في ميزان القوى أو ديناميّات الصراع؛ ويتمثّل السيناريو الثاني في تصعيد عسكري أمريكي شامل قد يؤدّي إلى شنّ عمليات برّية، لكنّه يواجه عقبات سياسية واقتصادية وإنسانية بارزة تجعله أقلّ احتمالاً. أمّا السيناريو الثالث، فيتضمّن حلاً دبلوماسياً شاملاً للصراع اليمني ومرتبطاً بتسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ ولكن على الرغم من اعتباره مثالياً من الناحية النظرية، فإنّه يبقى بعيد المنال في ظلّ التعقيدات الجيوسياسية الراهنة والتباينات الجوهرية في المصالح الإقليمية والدولية.

 


الهوامش
1 Fareed Rahman and Alvin R. Cabral, “Shipping Costs Rise by up to 250% Due to Red Sea Attacks,” The National, January 9, 2024, https://www.thenationalnews.com/business/2024/01/09/shipping-costs-have-risen-up-to-250-since-the-red-sea-attacks-began.
2 “بعد 9 سنوات من الحرب في اليمن.. خارطة السيطرة على الأرض”، وكالة الأناضول، تمّت زيارة الموقع في 2 يوليو 2025، https://www.aa.com.tr/ar/التقارير/بعد-9-سنوات-من-الحرب-في-اليمن-خارطة-السيطرة-على-الأرض-إطار/2869770.
3 “US Strikes: Operation Rough Rider, 15 March – 6 May 2025,” Yemen Data Project, accessed June 22, 2025, https://yemendataproject.org.
4 “Houthi Leader Claims 106 Killed, 314 Injured in US Airstrikes in 2024,” Yemen Monitor, January 3, 2025, https://www.yemenmonitor.com/en/Details/ArtMID/908/ArticleID/130291.
5 Nicholas Kristof, “The $7 Billion We Wasted Bombing a Country We Couldn’t Find on a Map,” The New York Times, May 17, 2025, https://www.nytimes.com/2025/05/17/opinion/yemen-war-trump.html.
6 “The Iranian and Houthi War against Saudi Arabia,” Center for Strategic and International Studies (CSIS), December 21, 2021, https://www.csis.org/analysis/iranian-and-houthi-war-against-saudi-arabia.
7 “Houthi Red Sea Attacks: Briefing and Consultations,” Security Council Report, January 2, 2024, https://www.securitycouncilreport.org/whatsinblue/2024/01/houthi-red-sea-attacks-briefing-and-consultations.php.
8 Alexandra Stark, “Don’t Bomb the Houthis,” Foreign Affairs, January 11, 2024, https://www.foreignaffairs.com/africa/dont-bomb-houthis.
9 Edward Beales and Wolf-Christian Paes,  “Operation Poseidon Archer: Assessing One Year of Strikes on Houthi Targets,” Military Balance (blog), March 18, 2025, https://www.iiss.org/online-analysis/military-balance/2025/03/operation-poseidon-archer-assessing-one-year-of-strikes-on-houthi-targets/.
10 “”إجلاء طاقم سفينة استهدفها الحوثيون وقتلوا عدداً من بحارتها Deutsche Welle, March 7, 2024, https://www.dw.com/ar/a-68464690.
11 “الحوثيون يعلنون استهداف سفينتين في البحر الأحمر والمحيط الهندي” Al Jazeera News, June 24, 2024, https://shorturl.at/1v71D.
12 ما الذي نعرفه عن إعلان الحوثيين استهداف تل أبيب بطائرة مسيرة؟” BBC Arabic, July 19, 2024, https://www.bbc.com/arabic/articles/c51yqye8zrpo.
13 مايا ديفيز, “تسلسل زمني: كيف وصلنا إلى وقف إطلاق النار في غزة؟”، 16 يناير  BBC Arabic, January 16, 2025, ،https://www.bbc.com/arabic/articles/cn4zxn7w91go.
14 “The Houthis’ Red Sea Attacks Explained,” International Crisis Group, April 3, 2025, accessed July 17, 2025, https://www.crisisgroup.org/visual-explainers/red-sea/.
15 Alex Longley and Sanne Wass, “Shipping Bosses Warn Maritime Security in the Red Sea Getting Worse Not Better,” Bloomberg, February 8, 2024, https://www.bloomberg.com/news/articles/2024-02-08/shipping-bosses-warn-maritime-security-in-the-red-sea-getting-worse-not-better.
16 Peter Rodgers, “A Story of Retreat: America’s Military Failure in the Red Sea,” Middle East Monitor, May 18, 2025, https://www.middleeastmonitor.com/20250518-a-story-of-retreat-americas-military-failure-in-the-red-sea/.
17 Rodgers, “A Story of Retreat.”
18 جنيفر هولايس، “”المعركة ضد الحوثيّين.. لماذا هي الأكثر تكلفة لأمريكا حالياً؟”” Deutsche Welle, May 4,, 2025, https://www.dw.com/ar/a-72414019.
19 Military commander (Captain), interview by author, Damascus, Syria, April 14, 2025.