المقاتلون اليمنيون:

بين الفقر والتجنيد وتحدّيات العودة

موجز قضية، أبريل 2025
زميل زائر

زميل زائر مبتدئ

16 أبريل، 2025

النقاط الرئيسية

 

تداعيات استمرار الحرب: لقد أدّى طول أمد الحرب في اليمن إلى انهيار اقتصادي وتفاقُم معدّلات الفقر والبطالة، فضلاً عن تفكك شبكات الدعم الاجتماعي التقليدية. وقد خلق ذلك بيئة خصبة لشبكات منظّمة تستغلّ الأزمة الإنسانية لتجنيد الشباب اليمني، ودفعهم نحو اتّخاذ خيارات محفوفة بالمخاطر، مثل الهجرة غير الشرعية والانخراط في شبكات التهريب والتجنيد.

 

دوافع المقاتلين اليمنيين: يكشف البحث في ظاهرة المقاتلين اليمنيين عن ثلاثة دوافع رئيسية تُحرّكهم، وهي دوافع أيديولوجية وسياسية ومادية. إلّا أنّ هذه الدوافع تتداخل بحسب الحالة والظروف المحيطة بهم وبمَن يجنّدهم.

 

التحدّيات والمخاوف من عودة المقاتلين: يواجه المقاتلون العائدون تحدّيات جمّة تهدّد استقرار المجتمع اليمني على غرار تجربة المقاتلين العائدين من أفغانستان في الثمانينات وأثرهم السلبي. وتتمثّل أبرز المخاوف والتحدّيات في خطر نقل الخبرات القتالية والأفكار المتطرّفة إلى المجتمعات المحلّية، وصعوبة إعادة اندماجهم مجتمعياً في ظلّ غياب برامج إعادة التأهيل والدمج المجتمعي.

 

التداعيات الإقليمية: لم يَعُد اليمن مجرد ساحة صراعات محلية أو حرب بالوكالة، وإنما تحول إلى مُصدِّر للمقاتلين في صراعات إقليمية متعدّدة. وهذا التحوّل يعكس تشابك المصالح الإقليمية والدولية، وتحويل الصراعات المحلية في المنطقة إلى حروب استنزاف بالوكالة.

 

المقدّمة

 

بعد مرور أكثر من عقد على الحرب في اليمن، والتي تُعدّ الأطول في تاريخها المعاصر، فإنّ تداعياتها العميقة على نسيج البلد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بدأت تتكشّف. إذ دفع الفقر المُدقع والانهيار الاقتصادي والمجاعة بشريحة واسعة من اليمنيين إلى اتخاذ خيارات صعبة لتأمين سُبُل العيش، ومنها الانخراط في شبكات التهريب أو العمل بشكل غير قانوني في دول الجوار أو التحوّل إلى مقاتلين مأجورين في صراعات خارجية.

 

وعلى الرغم من غياب التغطية الإعلامية الكافية لظاهرة المقاتلين اليمنيين خارج حدودهم، فإنّ التقارير عبر الإنترنت والتصريحات شبه الرسمية تؤكد مشاركتهم في ساحات متعدّدة مثل: سوريا والعراق والسودان، بل حتى جنباً إلى جنب مع القوات الروسية في أوكرانيا. وهذا التطوّر، وإن كان مقلقاً، ليس مفاجئاً في ضوء الحرب الأهلية والتدخّلات الخارجية والحروب بالوكالة التي شهدها اليمن منذ الحراك الشعبي في العام 2011 ضدّ نظام علي عبد الله صالح.

 

فقد شهد اليمن في تاريخه المعاصر نماذج مشابهة، مثل مشاركة اليمنيين في أفغانستان وفلسطين والعراق لأسباب أيديولوجية أو إرسال قوّات حكومية إلى العراق خلال حربه مع إيران وإلى ليبيا في صراعها مع تشاد. غير أنّ خطورة الموجة الحالية تكمن في حجمها غير المسبوق، وفي تنوّع ساحاتها وتعقيد دوافعها.

 

تُحرّك ظاهرةَ المقاتلين اليمنيين ثلاثة دوافع رئيسية قد تتداخل في بعض الحالات: الأول، هو دافع أيديولوجي يتمثّل في دعم الحوثيين لـ”محور المقاومة”، عندما أرسلوا مقاتلين لدعم نظام بشّار الأسد ومساندة قوّات حزب الله في سوريا. والثاني، سياسي أو تحقيقاً لمصالح متبادلة، كما في حالة المقاتلين اليمنيين في السودان، المدعومين من الإمارات. أمّا الدافع الثالث، فهو ماديّ بحت، وعادة ما يتقاطع مع الدافعَين الأوّلين، كتجنيد الروس لليمنيين واستخدامهم دروعاً بشرية في أوكرانيا مقابل وعود بمبالغ مالية كبيرة.

 

يهدف موجز القضية هذا إلى دراسة ظاهرة المقاتلين اليمنيين في الخارج وتحليلها، والتأكيد أنّه لا يمكن الفصل بين معالجة هذه الظاهرة والوصول إلى حل شامل للحرب في اليمن. ويستدعي هذا الأمر فهماً عميقاً للعلاقة بين الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية من ناحية، والتجنيد من ناحية أُخرى، مع تبنّي سياساتِ تعافٍ شاملة تتجاوز المساعدات الإنسانية لتشمل إعادة بناء القطاعات الإنتاجية، وخلق فرص اقتصادية مستدامة. ولذلك، يجب إيجاد إستراتيجية متكاملة تعالج الجذور الاجتماعية والاقتصادية، بعيداً عن النظرة العسكرية والأمنية الضيّقة، وتقدّم لليمنيين بديلاً حقيقياً من خلال تكامل الأدوار بين الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين وآليّات مساءلة دولية.

 

الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية وراء تجنيد المقاتلين

تتشابك الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لتشكّل بيئة خصبة لاستغلال الضعف المجتمعي، فقد بيّن بعض التقارير الإعلامية أنّ أغلبية المقاتلين اليمنيين كانوا عاطلين عن العمل لأكثر من عامين قبل تجنيدهم، وهو ما يعكس علاقة مباشرة بين الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية وقابلية الانخراط في شبكات التهريب والصراعات المسلّحة.1 وبناء على ذلك، فإنّ مجموعات التجنيد تعتمد على معطيات اقتصادية مهمّة تتمثّل في ارتفاع معدّلات البطالة التي تجاوزت 33 في المئة ومعدّلات الفقر التي بلغت 74 في المئة، وتسبّبت في قلّة الفرص البديلة للشباب.2 وبالتالي، تصبح خيارات، مثل التجنيد أو الانخراط في شبكات التهريب، من أكثر المسارات المتاحة للحصول على الدخل في ظلّ انهيار القطاعات الإنتاجية التقليدية، وعلى رأسها إنتاج النفط اليمني. تشير الإحصاءات إلى انخفاض الإنتاج من 150 إلى 200 ألف برميل يومياً قبل سنة 2011، إلى أقل من 55 ألف برميل، ما أدّى إلى تراجع إيرادات الميزانية العامة وانهيار قدرة الدولة على دفع الرواتب وتقديم الخدمات الأساسية.3 وعلاوة على ذلك، تراجعت أيضا المساعدات الدولية لليمن من 3,6 مليار دولار في العام 2019 إلى 1,38 مليار دولار في العام 4.2023

 

المصدر: بيانات “CEIC، منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك)5

 

أمّا على الصعيد الاجتماعي، فقد أدّى تفكّك الشبكات الاجتماعية التقليدية إلى تآكل الروابط الأُسرية والمجتمعية، ما زاد من شعور الشباب بالعزلة والاغتراب، ذلك بأنّ شبكات الأمان الاجتماعية قد فقدت قدرتها على الصمود. فعلى مدى العقد الماضي، شهدت الأُسَر اليمنية تحوّلاً جذرياً في مصادر دخلها، وخصوصاً مع انخفاض قيمة الريال اليمني بنسبة 75 في المئة بين عامي 2015 و 2023، وهو ما أدّى إلى لجوء 45 في المئة من الأُسر اليمنية إلى آليّات تكيُّف قصوى كإخراج الأطفال من المدارس، وتزويج الفتيات في سنّ مبكرة.6 لذا، فإنّ الانخراط في التجنيد (محلّياً أو خارجياً) بات يمثّل مساراً جاذباً، ولا سيّما أنّ هؤلاء المقاتلين يعولون أُسراً ممتدّة، فراتب المقاتل يتراوح ما بين 300 إلى 1000 دولار شهرياً، وهو ثلاثة أضعاف ما يمكن تحقيقه في أفضل الوظائف المحلية المتاحة. 7 وإلى جانب الدعم المادي، فإنّ المجموعات المسلّحة تقدّم أيضاً شعوراً بالانتماء والهويّة المشتركة اللذين يعوّضان عن غياب الدعم الاجتماعي التقليدي. وهنا يجب النظر إلى التجنيد ليس كخيار مالي فحسب، بل أيضاً كوسيلة لاستعادة الكرامة وتعزيز الاعتزاز الذاتي، الأمر الذي يجعل الانضمام إلى المجموعات المسلّحة يبدو حلّاً لمشكلات العزلة الاجتماعية التي طالت شرائح واسعة من المجتمع جرّاء الحرب المستمرّة منذ أكثر من عشرة أعوام.

 

لقد تسبّبت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الهشّة في بروز اقتصادٍ موازٍ تمثّل في نشوء فئة الوسطاء المحلّيين (سماسرة التجنيد وشبكات التهريب) الذين يتقاضون عمولات لقاء كل يمني ينجحون في تجنيده كي يقاتل في الخارج. وتزاول هذه الشبكات نشاطها تحديداً في المناطق الريفية الفقيرة ومخيّمات النازحين، وذلك لانخفاض تكلفة التجنيد وزيادة فعّاليته، نظراً إلى حاجة النازحين الملحّة إلى العمل والدعم المالي. فعلى سبيل المثال، أفاد برنامج الأغذية العالمي بأن 70 في المئة من النازحين داخلياً يعانون انعداماً في الأمن الغذائي.8 وحذّر البنك الدولي من خطر أكبر وهو الأثر طويل المدى على رأس المال البشري، لأنّ الفقر سيمتدّ إلى الأجيال المقبلة ويقوّض فرص التعافي الاقتصادي.9

 

 

الحوثيون والأيديولوجيا البراغماتية

 

تكشف التطورّات الأخيرة المتعلّقة بجماعة الحوثيين عن تحوّل إستراتيجي في مسارها، يتجاوز حدود الصراع المحلّي اليمني ليرسم ملامح دور إقليمي متصاعد. يقدّم الحوثيون نموذجاً جديداً للمجموعات المسلّحة يجمع بين القدرة على إدارة صراعات متعدّدة المستويات، وبناء تحالفات عابرة للحدود، والتغلغل في النسيج الاجتماعي المحلّي. وما يميّز هذا النموذج هو قدرته على التكيّف مع المتغيّرات الإقليمية وتوظيفها لمصلحته. فمنذ تدخُّل هذه الجماعة دعماً لغزة في أكتوبر 2023، عبر إطلاق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل ومهاجمة سفن الشحن في البحر الأحمر، نراها تسعى لتأكيد وجودها كلاعب إقليمي قادر على خوض معارك متعدّدة المستويات، من الداخل اليمني إلى الساحة الإقليمية.

 

لكن ما يثير الاهتمام في هذا التحوّل هو نمط العلاقات المعقّد الذي تنسجه الجماعة، والذي يتجاوز الحدود اليمنية. فعبر تصدير مقاتليها إلى ساحات متعدّدة (العراق وسوريا ولبنان)، وعلى عكس المقاتلين اليمنيين الآخرين الذين يذهبون إلى القتال في الخارج طمعاً في المال أو بسبب ضغط المصالح السياسية، فإنّ المقاتلين الحوثيين يتحرّكون، في أغلب الأحوال، بدافع أيديولوجي.10 وهو ما يجعل تأثيرهم أخطر بعد عودتهم محمّلين بخبرات قتالية وأفكار راديكالية اكتسبوها بعد احتكاكهم مباشرة بالميليشيات المتطرّفة، الأمر الذي يجعلهم نواة لتحوّل أعمق في بُنية الجماعة والمجتمع اليمني.

 

وهذا التحوّل يتجاوز التهديد المباشر في البحر الأحمر إلى إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية، ولا سيّما في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، وتدفّق مقاتليه جنباً إلى جنب مع المقاتلين الحوثيين من سوريا نحو العراق، وهو ما يفسح المجال أمام الحوثيين لتوسيع علاقاتهم عبر استقطاب بعض المقاتلين السوريين ذوي الخبرات القتالية العالية. وهذا التوجه ليس جديداً، فمنذ بداية الحرب في اليمن، استفادت الجماعة من خبرات مقاتلين من لبنان والعراق ونقلها إلى المقاتلين الحوثيين، وتدريبهم على تكتيكات حرب العصابات وتطوير القدرات الصاروخية.11

 

ويزداد المشهد تعقيداً مع التقارير التي تفيد بتقارب الحوثيين مع تنظيم القاعدة بعد عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023، وكذلك علاقاتهم المتنامية مع حركة الشباب الصومالي، وجهودهم في تجنيد مهاجرين من القرن الأفريقي، الأمر الذي يكشف عن براغماتية سياسية تتجاوز الحدود المذهبية والأيديولوجية. أمّا على المستوى الداخلي، فإنّ سياسة الحشد والتجنيد ازدادت بعد 7 أكتوبر2023، عن طريق تجنيد المُهمَّشين، 12 مستغلّةً معاناتهم الاجتماعية والاقتصادية المزمنة، وتتبنّى خطاباً أيديولوجياً يستثمر في المظالم التاريخية لهذه الفئة. وهذا المزيج من النفوذ الإقليمي والتجذّر المحلّي يجعل من الصعب تفكيك شبكة الحوثيين أو احتواء نفوذهم المتنامي، حتى مع إعادة تصنيف الولايات المتحدة لهم كجماعة إرهابية.

 

 

يمنيون في صراع المصالح السودانية

 

كشفت تقارير صحافية عن وجود مقاتلين يمنيين في صفوف قوّات الدعم السريع في السودان، وهو ما أكّده رئيس مجلس السيادة السوداني في سبتمبر 2023، بعد مرور خمسة أشهر على اندلاع الحرب.13 يشير هذا إلى تحوّل اليمن من مجرّد ساحة للصراعات المحلّية أو للقوى الإقليمية إلى مُصدِّر للمقاتلين، ويربطه بشبكة معقّدة من المصالح والمقايضات السياسية والاقتصادية عبر مختلف ساحات الصراع في المنطقة.

 

إنّ الحرب في السودان ليست مجرد صراع محلّي على السلطة بين الجيش وقوّات الدعم السريع، بل أصبحت أيضاً حلقة في سلسلة متّصلة من صراعات النفوذ الإقليمية. وقد أشارت تقارير “نيويورك تايمز” وتحقيقات الأمم المتحدة إلى دعم إماراتي واسع النطاق لقوّات الدعم السريع يشمل تهريب الأسلحة وتمويلها وتشغيل طائرات مسيّرة من قواعد في تشاد. 14وفي مقابل تدخّل الإمارات ودعمها ، فإنّ الجيش السوداني يحصل على دعم متفاوت في درجته من كل من مصر وروسيا وإيران.15 ومع استمرار الحرب في السودان، وارتفاع أعداد القتلى والمهجّرين وتدمير المدن والبُنية التحتية، أعلنت الولايات المتّحدة الأمريكية مؤخّراً عن فرض عقوبات على قيادات وشركات مسجلة في هونغ كونغ والإمارات، تابعة للجيش السوداني ولقوّات الدعم السريع، وتتحايل على حظر توريد السلاح المفروض على السودان. 16

 

إنّ أسباب تنامي علاقة الإمارات بقوّات الدعم السريع متعدّدة، وفي مُقدّمتها المكاسب السياسية والمادية والخبرات العسكرية لقيادات هذه القوّات التي سبق لها، وبتنسيق إماراتي أيضاً، أن قاتلت في اليمن مع قوّات التحالف العربي، وفي ليبيا دعماً لقوّات خليفة حفتر.17 ولهذا ليس مستغرباً الزعم بوجود يمنيين في حرب السودان لدعم قوّات الدعم السريع، الأمر الذي يجعل هذه الحرب الأهلية حلقة متّصلة من العنف، تديرها قوى إقليمية وتستثمرها كأداة لتحقيق مصالحها.

 

 

يمنيون في حرب روسيا وأوكرانيا

 

اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بالكثير من المقاطع والمنشورات عن وجود مئات المقاتلين اليمنيين في جبهات القتال الروسية الأوكرانية حيث تُجسّد ظاهرة تجنيد العمالة اليمنية للقتال في هذه الحرب نموذجاً لاستغلال الأزمات الإنسانية في الصراعات الدولية.

 

ويكشف رصد الحالات الموثّقة، ومنها قصة “حمّود” (اسم مستعار)، عن وجود شبكات منظّمة تستغل هشاشة وضع اليمنيين الاقتصادي والاجتماعي، سواء أكان ذلك في الداخل أم في المهجر. فحمّود نموذج لمأساة الشباب اليمني الباحث عن حياه أفضل خارج البلد لمساعدة أهله، والذي شكّل أيضاً فرصة لشبكات التجنيد المنظّمة التي استطاعت تجنيده مع وعود برواتب تصل إلى 10 ألف دولار، وبالحصول على الجنسية الروسية.18

 

لكن ما إن وصل حمّود إلى موسكو، حتى صادر مُجنِّدوه جواز سفره، وأجبروه على تلقّي تدريب عسكري قصير قبل إرساله إلى خطوط الحرب الأمامية ليجد نفسه درعاً بشرياً في الحرب مع أوكرانيا. إلى جانب ذلك، تبرز حالات أخرى تكشف أنّ بعض اليمنيين كانوا يعلمون مسبقاً بذهابهم إلى جبهات القتال، وكان دافعهم إلى ذلك الوضع المادي المتردّي في البلد. هذه القصص تلخّص مأساة جيل كامل من الشباب اليمني المحاصر بين مطرقة الحرب الأهلية وسندان الفقر المُدقع. وهنا تبرز إشكالية غياب المساءلة الدولية كعامل رئيسي في استمرار هذه الظاهرة، إذ على الرغم من الجهود الدبلوماسية، مثل تلك التي بذلتها السفارة اليمنية في موسكو، فإنّ الاستجابة الدولية ما زالت بطيئة وغير فعّالة. وفي مقابل هذا التقاعس الدولي عن مجابهة هذه الظاهرة، يواصل المتاجرون بالأرواح عملهم بحرّية نسبية، مستفيدين من ثغرات النظام القانوني الدولي وضعف آليّات المتابعة والمحاسبة.

 

إنّ فرضية ارتباط جماعة الحوثيين بعمليات تجنيد اليمنيين للقتال في أوكرانيا تثير جدلاً واسعاً، خصوصاً وأنّ السياسي الحوثي البارز، عبد الولي حسن الجابري، مسؤول عن إحدى شركات التجنيد.19 إلّا أنّ عمليات الاستقطاب لم تقتصر على مناطق نفوذ الحوثيين في شمال البلاد، بل امتدّت لتشمل أيضاً جميع المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، مثل تَعِز ومآرب وعدن، بغضّ النظر عن السيطرة السياسية أو الأيديولوجية. ومع ذلك، يمكن رصد مكاسب الحوثيين الإستراتيجية غير المباشرة إلى جانب العوائد المالية من تجنيد اليمنيين، وهو ما تجلّى في تزايد النشاط البحري الروسي قبالة السواحل اليمنية، ووصول شحنة قمح إلى الحوثيين في الصيف الماضي، فضلاً عن المفاوضات بشأن صفقات أسلحة محتملة.20

 

ولعلّ التطوّر الأهم في هذا السياق هو حاجة روسيا المتزايدة، في ظلّ تطوّرات الحرب الأوكرانية، إلى أوراق ضغط في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتّحدة وسقوط نظام الأسد في سوريا. وهذا الأمر ربّما يفسّر الاهتمام الروسي المتزايد بتعزيز نفوذ روسيا في المنطقة من خلال قنوات متنوّعة، بما فيها توقيع اتفاقية إستراتيجية مع إيران وخلق فرص للتواصل والتعاون مع القوى المحلّية الفاعلة، مثل جماعة الحوثيين.21

 

وعلى صعيد آخر، تتجاوز قضية تجنيد العمالة اليمنية في الحرب الروسية الأوكرانية حدود الأزمة الإنسانية والسياسية المحلّية لتكشف عن خلل عميق في النظام العالمي المعاصر. فما نشهده ليس مجرّد ظاهرة عابرة، أو حالة معزولة، بل إنّ هذا النمط من الاستغلال يمتدّ ليشمل استقطاب مقاتلين من دول أفريقية، ومن الهند والنيبال وكوريا الشمالية، مشكّلاً منظومة عالمية متكاملة تحوّل معاناة المستضعفين إلى سلعة قابلة للتداول في سوق الصراعات الدولية.22

الخاتمة

 

إنّ هذا المزيج من الدوافع الأيديولوجية والسياسية والمادّية، في ظلّ اتّساع رقعة انتشار المقاتلين اليمنيين بدءاً من السودان وصولاً إلى أوكرانيا، يشكّل تحدّياً خطراً ليس على مستقبل اليمن فحسب، بل أيضاً على الاستقرار الإقليمي والأمن الدولي. فالمزج بين المقاتلين العائدين من ساحات متعدّدة، والمهمَّشين المحلّيين والمهاجرين من القرن الأفريقي، يخلق بيئة خصبة لنموّ العنف والتطرّف، وهو ما يجعل من اليمن ليس مجرد ساحة صراع فحسب، بل مركز لتصدير عدم الاستقرار على حدّ سواء. فهؤلاء المقاتلون، حين يعودون محمّلين بخبرات قتالية وشبكات علاقات وأيديولوجيات متطرّفة، يشكّلون تهديداً جدّياً للسِّلم الاجتماعي وفرص الاستقرار المستقبلي في اليمن خاصة، والمنطقة عامة.

 

ولعلّ تجربة المقاتلين اليمنيين العائدين من أفغانستان في الثمانينات خير مثال على هذه المخاطر، إذ جرى توظيفهم لاحقاً في الصرعات الداخلية، وخصوصاً في خلال الحرب الأهلية اليمنية سنة 1994، والتي شاركوا في القتال فيها إلى جانب القوّات الحكومية ضد الحزب الاشتراكي اليمني. غير أنّ الفشل في جني ثمار هذا القتال على المستويين الشخصي والمجتمعي، قد دفعهم إلى البحث عن بديل تجسّد في المساهمة في تأسيس تنظيم القاعدة في الجزيرة العربية سنة 1996، ما زاد من تعقيد المشهد السياسي والأمني في اليمن.23 فأمام تعقيدات المشهد الإقليمي والفوضى المنتشرة فيه، لم تعد القراءة المحلّية للأحداث كافية لفهم التغيّرات، ذلك بأنّ التدخّلات الخارجية في اليمن والسودان قد تجاوزت حدود الدعم التقليدي لطرف أو قوّة على حساب الأُخرى لتصبح حلقة متصلة ومعقّدة من الاستثمار في العنف كأداة لتحقيق المصالح.

 

وتتجاوز ظاهرة المقاتلين اليمنيين في الخارج أبعاد المأساة الإنسانية الفردية لتشكّل تحدّياً هيكلياً متعدّد المستويات. فعلى المستوى الاجتماعي، تؤدّي هذه الظاهرة إلى تفكيك شبكات الدعم التقليدية في المجتمعات اليمنية في المهجر، حيث سيسود مناخ من الخوف والشكّ يقوّض قدرتهم على التكيّف والاندماج الاقتصادي. كما أنّ تجارب الاستغلال المتكرّرة قد توجِد أزمة ثقة بين المهاجرين والمؤسّسات الرسمية، الأمر الذي سيعوّق جهود المنظّمات الشرعية في تقديم المساعدة والدعم. وفي المقابل، ستجد الدول المستضيفة نفسها أمام معضلة التوازن بين واجب حماية العمالة والمهاجرين واللاجئين، وبين متطلّبات أمنها القومي، الأمر الذي سيفرض عليها تحدّيات إدارية وقانونية إضافية. أمّا على الصعيد الإقليمي، ستؤدّي تحول المقاتلين اليمنيين إلى فئة مرتزقة عابرة للحدود إلى زيادة التوتّرات الدبلوماسية بين دول المنشأ والعبور والمقصد، وبالتالي إلى تعقيد جهود السلام في اليمن، والتعاون في مكافحة الاتجار بالبشر، وتنامي شبكات المرتزقة.

 

ولهذا، يتعيّن أولاً على الحكومة اليمنية المعترَف بها دولياً، تعزيز آليّات الرقابة عبر إنشاء قاعدة بيانات مركزية لرصد حركة المقاتلين اليمنيين خارج البلد، بهدف تتبّع الأفراد والشبكات الضالعة في التجنيد. كما يجب عليها إطلاق حملات توعية وطنية تهدف إلى توضيح أخطار الانضمام إلى الصراعات الخارجية وتأثيرها المدمّر في المجتمعات المحلّية، وكذلك تفعيل دور البعثات الدبلوماسية لحماية العمالة اليمنية في الخارج من خلال تقديم الإرشاد القانوني والاجتماعي.

 

ثانياً، يجب على دول الجوار الإقليمي تطوير آليّة مشتركة لمكافحة شبكات التجنيد والاتجار بالبشر، بما يشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية والتنسيق الأمني من أجل تقوية رصد حركة المقاتلين عبر الحدود وتوثيقها. إلى جانب ذلك، وفي ظلّ تدهور الأوضاع الاقتصادية، يُعدّ تعزيز إيجاد فرص عمل للشباب خطوة أساسية لمواجهة البطالة التي تمثّل عامل جذب لشبكات تموّل الصراعات المسلّحة. ولذا، ينبغي على الدول المانحة دعم برامج التنمية الاقتصادية والتأهيل المجتمعي والمهني في اليمن، وتحديداً في المناطق الأكثر فقراً، باعتبار أنّ تحسين الوضع المعيشي يُعتبر أداة فعّالة لتقليل دوافع الهجرة والتجنيد. ومع أنّ القرار الأمريكي بتصنيف الحوثيين جماعة إرهابية ربّما يشكّل فرصة ضغط على الجماعة وشبكات تمويلها، إلّا أنّه قد يعقّد فرص الحلّ السياسي، ويؤثّر في دعم اليمنيين تنموياً وانسانياً.

 

وأخيراً، يجب على المجتمع الدولي دعم تطبيق قرارات الأمم المتّحدة بشأن إنهاء الحرب وإحلال السلام في اليمن، وحظر تصدير الأسلحة وفرض العقوبات على الجهات المتورّطة في تجنيد المقاتلين، مع ضمان تعزيز آليّات مراقبة فعّالة لهذه القرارات.


Endnote
1 Kersten Knipp and Safia Mahdi, “Yemenis forcefully recruited to fight for Russia in Ukraine,” DW, December 7, 2024, https://www.dw.com/en/yemenis-forcefully-recruited-to-fight-for-russia-in-ukraine/a-70988973.
2 World Bank, Yemen Economic Monitor: Navigating Recovery Amid Fragility, (Washington, D.C.: World Bank, 2024), https://documents1.worldbank.org/curated/en/099943010292431765/pdf/IDU1f65eefe71d79414f1618a511921980f32f1b.pdf; World Bank, Human Capital Country Brief, (Washington, D.C.: World Bank, 2024), https://thedocs.worldbank.org/en/doc/3abb02540fb7369c6dba159f84f8e95f-0140042024/related/Republic-of-Yemen.pdf.
3 Lucia Porras, “Yemen’s Cessation of Oil Exports Worsens Yemen’s Economic Situation,” Atalayar, June 6, 2023, https://www.atalayar.com/en/articulo/economy-and-business/yemens-cessation-of-oil-exports-worsens-yemens-economic-situation/20230606132408186069.html
4 Save the Children, “Humanitarian Aid in Yemen Slashed by Over 60% in Five Years,” Reliefweb, September 25, 2023, https://reliefweb.int/report/yemen/humanitarian-aid-yemen-slashed-over-60-five-years.
5 Organization of the Petroleum Exporting Countries, “Yemen Crude Oil: Production,” CEIC Data, accessed March 26, 2025, https://www.ceicdata.com/en/indicator/yemen/crude-oil-production.
6 World Bank, Yemen poverty and equity assessment 2024: Living in dire conditions (Washington, D.C.: International Bank for Reconstruction and Development / World Bank, 2024), https://openknowledge.worldbank.org/entities/publication/c27e0986-284a-408d-ba79-7d7d8f4b9b9d.
7 Faozi al-Goidi, ” Kayfa yubā‘ bu’s al-shabāb al-yamanī ‘alā jabhāt al-ḥarb al-rūsiyya al-ukrāniyya?” [How is the misery of Yemeni youth being sold on the fronts of the Russian-Ukrainian war?], Megazine, October 25, 2024, https://megazine.ultrasawt.com/سياق/كيف-يُباع-بؤس-الشباب-اليمني-على-جبهات-الحرب-الروسية-الأوكرانية؟.
8 Mohammed Nasser, “WFP: 70% of IDPs in Yemen Have No Access to Minimum Food Needs,” Asharq Al-Awsat, February 5, 2025, https://english.aawsat.com/arab-world/5108734-wfp-70-idps-yemen-have-no-access-minimum-food-needs.
9 World Bank, Yemen poverty and equity assessment.
10 Haid Haid, “al-Ḥūthiyyūn fī Sūriyā… tahdīd ḥaqīqī am istiʿrāḍ siyāsī?” [The Houthis in Syria… A Real Threat or Political Posturing?], Al-Majalla, last updated September 24, 2024, https://www.majalla.com/node/322346/سياسة/الحوثيون-في-سوريا-تهديد-حقيقي-أم-استعراض-سياسي؟.
11 Michelle Nichols and John Irish, “Iran, Hezbollah enabled Houthis’ rise, says UN report,” Reuters, September 26, 2024, https://www.reuters.com/world/middle-east/iran-hezbollah-enabled-houthis-rise-says-un-report-2024-09-26/. See also: United Nations, Final report of the Panel of Experts on Yemen established pursuant to Security Council resolution 2140 (2014), October 11, 2024, https://documents.un.org/doc/undoc/gen/n24/259/53/pdf/n2425953.pdf.
12 المُهمَّشون: فئة اجتماعية يمنية تُعرَف سلبياً بـ “الأخدام” كونهم من ذوي البشرة الداكنة والملامح الأفريقية، وعانت تاريخياً جرّاء التمييز والإقصاء الممنهج. ويعيش أفراد هذه الفئة في تجمّعات هامشية من أكواخ القشّ والصفيح، وخصوصاً في المحافظات الحارّة كالحُدَيْدة وعدن ولَحْج وأَبْيَن وحَضْرَموت، ويفتقرون إلى الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه نظيفة وصرف صحّي، وهو ما يجعلهم عرضة للأمراض والأوبئة. كما أنّهم محرومون من الخدمات التعليمية، ويُعاملون دون مستوى المواطنة الكاملة في المجتمع اليمني.
13 “Baynahum Yamanīyūn.. Wathāʾiq: al-Imārāt tursil “quwāt sirriyyah” ilā al-Sūdān limusānadat “al-Daʿm al-Sarīʿ,” [There are Yemenis among them… Documents: The UAE is sending ‘secret forces’ to Sudan to support the ‘Rapid Support’], Al-Masdar Online, July 25, 2024, https://almasdaronline.com/articles/298987; “Al-Burhān: Nuqātil murtazaqah Yamanīyīn fī al-Khurṭūm,” [Burhan: We’re fighting Yemeni mercenaries in Khartoum], Al-Mawqea Post, September 12, 2023, https://almawqeapost.net/news/89338.
14 Declan Walsh, Christoph Koettl, and Eric Schmitt, “Talking Peace in Sudan, the U.A.E. Secretly Fuels the Fight,” The New York Times, September 29, 2023, https://www.nytimes.com/2023/09/29/world/africa/sudan-war-united-arab-emirates-chad.html.
15 “Egypt delivered drones to Sudan’s military, Wall Street Journal reports,” Reuters, October 14, 2023, https://www.reuters.com/world/africa/egypt-delivered-drones-sudans-military-wsj-2023-10-14/; Simon Marks and Mohammed Alamin, “Russian Guns, Iranian Drones Are Fueling Sudan’s Brutal Civil War,” Bloomberg, December 18, 2024, https://www.bloomberg.com/features/2024-sudan-civil-war/; Declan Walsh and Christoph Koettl, “How a U.S. Ally Uses Aid as a Cover in War,” The New York Times, September 21, 2024, https://www.nytimes.com/2024/09/21/world/africa/uae-sudan-civil-war.html; Abdelrahman Abu Taleb, “Evidence of Iran and UAE drones used in Sudan war,” BBC News, June 13, 2024, https://www.bbc.com/news/articles/c2vvjz652j1o.
16 Anita Powell, “US sanctions Sudan army leader, citing atrocities,” Voice of America, January 16, 2025, https://www.voanews.com/a/us-sanctions-sudan-army-leader-citing-atrocities/7939740.html.
17 “Huge Sudanese losses in Yemen highlight fighters’ role in the conflict,” Middle East Eye, November 10, 2019, https://www.middleeasteye.net/news/thousands-saudi-paid-sudanese-mercenaries-die-frontline-yemen.
18 Author interview, September 10, 2024. The victim’s name was changed on request. See also: “Murtazaqah Yamanīyūn fī Rūsyā yunāshidūn al-ḥukūmah inqādhahum,” Yemen Shabab TV, September 30, 2024, https://www.youtube.com/watch?v=3PGlsg_VZvw; Kersten Knipp and Safia Mahdi, “Yemenis forcefully recruited to fight for Russia in Ukraine,” DW, December 7, 2024, https://www.dw.com/en/yemenis-forcefully-recruited-to-fight-for-russia-in-ukraine/a-70988973.
19 Charles Clover, Andrew England, and Christopher Miller, “Russia Recruits Yemeni Mercenaries to Fight in Ukraine,” Financial Times, November 24, 2024, https://www.ft.com/content/da966006-88e5-4c25-9075-7c07c4702e06.
20 Michael R. Gordon and Lara Seligman, “U.S. Launches Effort to Stop Russia from Arming Houthis with Antiship Missiles,” Wall Street Journal, July 19, 2024, https://www.wsj.com/world/middle-east/u-s-launches-effort-to-stop-russia-from-arming-houthis-with-antiship-missiles-98131a8a.
21 Emily Milliken, “What Russia, Iran, and the Houthis get out of Moscow recruiting Yemeni mercenaries,” Atlantic Council, November 27, 2024, https://www.atlanticcouncil.org/blogs/new-atlanticist/what-russia-iran-and-the-houthis-get-out-of-moscow-recruiting-yemeni-mercenaries/.
22 Africa Defense Forum, “Russia Sends Africans to Fight in Ukraine,” DefenceWeb, September 5, 2024, https://www.defenceweb.co.za/african-news/russia-sends-africans-to-fight-in-ukraine; Yashraj Sharma, “Families of Indians Duped into Russia’s War Hope Modi Will Bring Them Home,” Al Jazeera, July 9, 2024, https://www.aljazeera.com/news/2024/7/9/families-of-indians-duped-into-russias-war-hope-modi-will-bring-them-home.
23  Anwar Qasem Al-Khudhari, “Utilizing Religious Groups in Political Conflicts: Yemen as a Case Study,” Lubab for Strategic Studies, Issue 22, May 1, 2024, https://lubab.aljazeera.net/article/توظيف-الجماعات-الدينية-في-النزاعات-ال/.