خسائر بيئية غير مسبوقة: تتسبّب الحرب المستمرّة في السودان في معاناة إنسانية لا توصف وتدمير النظم البيئية في البلاد. ويهدّد الصراع التنوّع البيولوجي والاستقرار البيئي على نطاق واسع، وتترتّب عليه تداعيات طويلة المدى على المجتمع السوداني، بما في ذلك زيادة قابلية التأثّر بتغيّر المناخ، وإزالة الغابات، وانحلال التربة.
النزوح والتدهور البيئي: يشكّل أحد أهمّ التحديات تمركز النازحين داخلياً في مناطق معيّنة، ما يزيد الطلب المحلّي على الموارد المحدودة. ويتسبّب ذلك بحلقة مفرغة من الهجرة الناجمة عن الصراع والتدهور البيئي، والتي لا يمكن كسرها إلّا من خلال التدخّلات الشاملة.
إجراءات فورية ومنسّقة: يتطلّب التصدّي لهذه التحديات من أصحاب المصلحة كافة أن يتّخذوا إجراءات سريعة ومنسّقة. ومن الضروري وقف إطلاق النار لمنع وقوع كارثة إنسانية وبيئية في السودان، فضلاً عن تلبية الاحتياجات الإنسانية في مناطق الصراع الساخنة والمناطق التي تستضيف أعداداً كبيرة من النازحين داخلياً.
بناء المرونة: يتطلّب الصراع والتحديات البيئية المرتبطة به إستراتيجيات عاجلة لبناء المرونة. ويشمل ذلك إنفاذ القوانين البيئية، وتعزيز الاستخدام المستدام للأراضي، والاستثمار في تدابير المرونة والتكيّف مع تغيّر المناخ للحدّ من آثار الصراع وتغيّر المناخ على البيئة والسكّان.
يُعدّ السودان من الدول الأكثر عرضة لتغيّر المناخ في العالم.1 ويشكّل ارتفاع درجات الحرارة، وعدم انتظام هطول الأمطار الموسمية، وفترات الجفاف الطويلة، والفيضانات المتكرّرة، تهديدات متزايدة للبيئة والمجتمع البشري على حدّ سواء. وعلى الرغم من الجهود المبذولة للتخفيف من هذه الظواهر، فقد سلّط الصراع الأخير في السودان الضوء على العلاقة المعقّدة بين الهشاشة البيئية والاضطرابات الجيوسياسية.
في 15 أبريل 2023، توسّع الصراع المطوّل على السلطة بين القوات المسلّحة السودانية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية إلى حرب مدمّرة في أنحاء البلاد كافة. وأدّت الحرب التي تلت ذلك إلى مقتل الآلاف من الأشخاص، ونزوح الملايين داخلياً وخارجياً، كما تسبّبت في أزمة إنسانية مروّعة.2 وتتجذّر هذه الكارثة في التحدّيات الهيكلية القائمة من قبل، بما في ذلك إرث الاستعمار، وغياب الاستقرار السياسي والاقتصادي، والنمو السكاني وتغيّر المناخ. وبالفعل أدّى تراكم هذه التحدّيات إلى تسريع وتيرة العنف وتفاقم الانقسامات السياسية التي تعزّزها.3
لقد خلّفت الحرب مشهداً كئيباً من الدمار.4 إذ شكّلت كارثة على الاقتصاد الهشّ في الأساس وزادت من انعدام الأمن الغذائي، حيث يعاني 42 في المئة من سكان السودان انعداماً حاداً في الأمن الغذائي على مستويات عالية.5 وقد تسبّبت الحرب كذلك بانهيار قطاع الرعاية الصحية، بسبب النقص الحاد في التمويل والإمدادات الأساسية.6
وقد وصلت آثار الصراع إلى حدّ تدمير البنية التحتية الهشة في السودان وبيئته الطبيعية الضعيفة. وقد نقلت تقارير إعلامية جزءاً من المعاناة الإنسانية التي سبّبتها الحرب، إلّا أنّ تغطية التداعيات البيئية كانت محدودة. لقد ارتكبت الأطراف المتحاربة جرائم وانتهاكات تصل إلى مستوى الإبادة البيئية، مثل التدمير المتعمّد للمنشآت النفطية، وإتلاف النظم البيئية الأساسية، والتعدّي على البنية التحتية لإمدادات المياه والصرف الصحي.7 وقد سلّط تراكم النفايات والجثث في الشوارع الضوء على الآثار البشرية ومخاطر الصحة العامة الناجمة عن التدمير البيئي.
وحتى وقت كتابة موجز القضية هذا، لم تتوصّل الجهود المبذولة للتفاوض على السلام في السودان إلى نتيجة. ومع ذلك، تظهر التجارب في البلدان المجاورة المتأثّرة بالصراعات – وتحديداً ليبيا، حيث تسبّب انهيار أحد السدود في فيضانات كارثية في مدينة درنة في الساعات الأولى من يوم 11 سبتمبر 2023 –بوضوح ضرورة عدم إهمال القضايا البيئية في جهود السلام. وينبغي على أصحاب المصلحة تقييم انعاكاسات الحرب على البيئة والبنية التحتية ومعالجتها، واعتبار المخاطر التي يشكّلها تغيّر المناخ والتدهور البيئي مشاكل خطيرة تتطلّب تدخّلاً عاجلاً.
يتناول موجزالقضية هذا تداعيات الصراع البيئية في السودان من خلال تحليل الروابط بين الحرب وتغيّر المناخ بشكلٍ شامل. ويشير إلى أنّ معالجة التحدّيات البيئية والإنسانية تتطلّب نهجاً شاملاً يتضمّن وقف تصعيد الصراع، وإدارة الموارد، وتمكين المجتمع. وفي الواقع، لا بدّ من إشراك الجهات الفاعلة الداخلية والخارجية في هذه العملية من أجل التغلّب على التحدّيات.
يُظهر السودان علامات واضحة على قابلية التأثّر بتغيّر المناخ. وبحسب مصفوفة مبادرة التكيف العالمية لجامعة نوتردام (GAIN-ND)8 فهو يأتي في المرتبة الثامنة من حيث قابلية التأثّر بتغيّر المناخ من أصل 185 دولة في العالم، وفي المرتبة 175 من حيث الاستعداد ما يضعه في المربّع العلوي الأيسر من المصفوفة، ما يشير إلى وجود تحدّيات كبرى وحاجة ملحّة لاتّخاذ الإجراءات. وبالفعل، فقد سجّل السودان درجات عالية من حيث مقياس درجة قابلية التأثّر9 ومنخفضة من حيث الاستعداد10 (الرسم البياني 1).11 وتعكس هذه الأرقام العقبات الكبيرة التي تحول دون قدرة السودان على تحقيق الأمن الغذائي والتنمية المستدامة، حتى في غياب الصراع. كما يعيق تدهور النظم البيئية في البلاد واستنزاف مواردها الطبيعية قدرة الدولة على معالجة الفقر وعدم المساواة.
الرسم البياني 1: قابلية التأثّر بتغيّر المناج والاستعداد النسبيّان في السودان
لقد أثّر تقاطع تغيّر المناخ مع الصراعات الطويلة الأمد بشكل كبير على الإنتاج الزراعي على مرّ السنين. وقد أدّى الصراع في مناطق مختلفة من البلاد إلى نقص الغذاء، وانخفاض الإنتاجية الزراعية، وتقلّص المساهمات في نمو الناتج المحلّي الإجمالي.13 على سبيل المثال، أثّر الصراع في دارفور، الناشئ عن قضايا متعدّدة الأوجه بما في ذلك التنافس على ملكية الأراضي والموارد المائية، بشكل مباشر في نزوح حوالي 2,7 مليون مزارع وراع.14 علاوة على ذلك، تعرّضت البنية التحتية الحيوية، مثل الطرق والجسور وأنظمة الري وشبكات الطاقة، لأضرار كبيرة أو دمار بسبب الصراعات، ما قيّد الأنشطة الاقتصادية إلى حدّ كبير.
وفي الوقت نفسه، يمكن أن يُعزى انخفاض إنتاجية القطاع الزراعي إلى ارتفاع درجات الحرارة، والأمطار غير المتوقّعة، والجفاف المتكرّر وانحلال التربة وعدم كفاءة البنية التحتية للري.15 في الواقع، ترتفع درجة الحرارة في البلاد بمعدّل يعادل ضعف المتوسّط العالمي، حيث من المتوقّع أن يرتفع متوسّط درجات الحرارة بما يتراوح بين 1,5 و3,1 درجة مئوية في شهر أغسطس بحلول العام 16.2060 وهذا يعني موجات حرّ شديدة تؤثّر في سبل عيش المزارعين وزيادة التبخّر وإجهاد مائي هائل، ما يجعل من بعض المناطق المنتجة في السابق غير صالحة للزراعة. وسيعرّض انخفاض مستويات هطول الأمطار وفترات الجفاف الطويلة الإنتاجية الزراعية والأمن المائي والغذائي إلى مزيد من الخطر.17
ويحذّر برنامج العمل الوطني السوداني للتكيّف لعام 2007 من أنّ تغيّر المناخ سيؤدّي إلى زيادة التصحّر في المناطق الصالحة للزراعة.18 تغطّي المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية حوالي 72 في المئة من مساحة السودان.19 وتعتمد نسبة 60 إلى 80 في المئة من الأسر السودانية بشكل كبير على الزراعة المتأثّرة بالمناخ، ما يعني أنّ بلادهم تقترب بشكل خطير من أن تصبح غير صالحة للسكن.20 ومن المتوقّع أن تنتقل المنطقة المناخية الزراعية في السودان – وهي المنطقة المناسبة لزراعة المحاصيل الغذائية – نحو الجنوب، بحيث يصبح معظم الشمال غير مناسب للزراعة. ومن المتوقّع أيضاً أن تنخفض المساحة الإجمالية الصالحة للزراعة وحزام إنتاج الصمغ العربي، ما سيؤدّي إلى عواقب اقتصادية وخيمة. ويهدّد الجفاف نحو 19 مليون هكتار من الأراضي البعلية، وتحديداً في كردفان ودارفور والولايات الشمالية، ما ينذر بخطر المجاعة وشح المياه.21
كما أدّى تلوّث التربة والممارسات الضارة مثل إزالة الغابات والرعي الجائر إلى زيادة خطر الجفاف في السودان. بالإضافة إلى ذلك، أثّر ارتفاع ملوحة التربة، بسبب الظروف القاحلة وممارسات الري غير المناسبة، سلباً على جودة التربة وألحق مزيداً من الضرر بالإنتاجية الزراعية.
وأظهر بناء سدّ النهضة الإثيوبي الكبير التفاعل المعقّد بين الموارد المائية وتقلّب المناخ في حوض النيل الأزرق.22 ففي حين قد يحقّق السد بعض الفوائد، إلّا أنّه يطرح تحدّيات وتعقيدات جيوسياسية على حدّ سواء. أنذر افتقار السودان إلى التنسيق الفعّال وتبادل البيانات مع إثيوبيا بضعفه وعدم استعداده للتعامل مع الأزمات.23 بالإضافة إلى ذلك، يثير سدّ النهضة الكبير المخاوف بشأن سلامة السدود في السودان.24 وحذّر الخبراء من أنّ الأمطار الغزيرة أو الفيضانات المفاجئة، التي تستلزم الإفراج عن كميات كبيرة من المياه من السد الإثيوبي، قد تضع سدود السودان تحت ضغط لا يمكنها تحمّله، ما قد يتسبب في انهيارات في البنى وفيضانات واسعة النطاق – كما حصل في درنة.25 وعلى الرغم من تأكيد إثيوبيا على أنّ سدّ النهضة لن ينعكس سلباً على السودان أو على حصّته من مياه النيل، إلّا أنّ المشروع يسبّب مزيداً من التوترات الجيوسياسية للمنطقة.26 يستلزم ذلك تقييماً شاملاً للمخاطر، وآليات شفافة وتعاونية لتبادل البيانات، فضلاً عن مفاوضات لمعالجة التداعيات الجيوسياسية لهذا السدّ.
لقد خلّف تغيّر المناخ والتدهور البيئي بالفعل آثاراً عميقة على المجتمع السوداني في مختلف قطاعاته. ففي العامين 2021 و2022 على سبيل المثال، شهد السودان فيضانات شديدة أودت بحياة أكثر من 146 شخصاً وإصابة 122 آخرين، كما ألحقت أضراراً بالبنية التحتية، وشرّدت مئات الآلاف.27 وقد تحمّل سكان الريف العبء الأكبر من هذه الآثار. وقد أثّر الجفاف وعدم انتظام هطول الأمطار في المزارعين والرعاة28 في الريف، ما أدّى إلى تدهور النظم البيئية الطبيعية، والحدّ من الوصول إلى المراعي الأساسية، والتسبب في خسائر في الماشية.29 وقد تأثّرت الفرص الاقتصادية المتاحة للمرأة بشكل خاص، بسبب تعطيل الأنشطة الزراعية والرعوية التقليدية. إذ كثيراً ما تنخرط النساء في العمل غير مدفوع الأجر وفي زراعة الكفاف، مع محدودية فرص وصولهن إلى الأراضي والتكنولوجيات والمعلومات.30
على الرغم من أنّ حصّة السودان ضئيلة من انبعاثات الكربون العالمية، إلّا أنّه شارك بفعالية في المفاوضات بشأن تغيّر المناخ، ودعا إلى سياسات تعالج الآثار غير المتناسبة لتغير المناخ على البلدان الضعيفة شأنه.31 أطلقت حكومة الرئيس عمر البشير، قبل رحيله في العام 2019 بسبب احتجاجات حاشدة، عدداً من المبادرات المناخية، بما في ذلك خطة التكيّف الوطنية، وبرنامج العمل الوطني لمكافحة التصحّر، وممارسات التكيّف وتحسين البنية التحتية للتخفيف من الضائقة الناجمة عن تغيّر المناخ.32 كما أعطت الحكومة الانتقالية التي تولّت السلطة في العام 2019 الأولوية لمعالجة قضية تغيّر المناخ.33 ومع ذلك، أحبِطت هذه المبادرات بسبب الانقلاب العسكري في 25 أكتوبر 2021، وما تلا ذلك من اضطرابات سياسية.
وقد شاركت منظّمات غير حكومية كذلك في مشاريع مختلفة منذ العام 2013، مثل مشروع إدارة مستجمعات المياه في وادي الكو، والذي يهدف إلى تعزيز القدرة على الصمود في مواجهة تغيّر المناخ في شمال دارفور.34 كما يهدف مشروع التكيّف مع تغيّر المناخ المدعوم من بريطانيا إلى إدراج المرونة المناخية في البرامج الإنسانية والتنموية في السودان.35
بيد أنّ النقص في الموارد والاضطرابات السياسية وتضارب الأولويات وتنافسها كلّها ساهمت بشكل أساسي بالحدّ من أثر هذه الاستجابات حتى قبل اندلاع الحرب في العام الماضي. ومنذ ذلك الحين، يزيد الصراع من درجة تأثّر السودان بتغيّر المناخ، ما يقوّض مرونة الدولة أكثر من خلال الحدّ من وصولها إلى التمويل وإضعاف هياكل الحوكمة.
لقد شهد السودان صراعات أهلية مختلفة منذ استقلاله في العام 1956، أثّرت في المقام الأول على المناطق المهمّشة، بما في ذلك ولايات دارفور والنيل الأزرق وكردفان وجنوب السودان، والتي بلغت ذروتها بانفصال جنوب السودان في العام 36.2011 وينبع الصراع الذي يعصف بالبلاد حالياً من ديناميات سياسية معقّدة يعود تاريخها على الأقل إلى عهد البشير والصراع في دارفور قبل عقدين من الزمن. ومع ذلك، تؤكّد الأدلة على أنّ تغيّر المناخ والعوامل البيئية قد فاقمت هذه الديناميات.
ظهر الصراع في دارفور في أوائل القرن الحادي والعشرين بشكل خاص في سياق تغيّر المناخ. فعلى الرغم من دور التوترات الإثنية والتهميش السياسي، يشير الخبراء إلى أنّ تغيّر المناخ قد ساهم في تفاقم هذه القضايا بشكل حاد، ما أدّى إلى نقص الموارد الطبيعية وانعدام الأمن الغذائي وتدهور سبل العيش، وبالتالي النزوح الجماعي والعنف.37 وقد واجهت البلاد فترات طويلة من الجفاف والتصحّر خلّفت ندرة في المياه والأراضي الصالحة للزراعة. وقد زاد هذا الضغط البيئي من حدّة المنافسة على الموارد المتضائلة والانحدار إلى العنف. ويشكّل الصراع في دارفور مثالاً مؤثّراً على كيفية تصاعد الضغوط البيئية، مقترنة بنقاط الضعف الاجتماعية والسياسية القائمة، لتتحوّل إلى أزمة إنسانية كاملة وصراع مسلّح.
ويذكّر الصراع الحالي بما حدث في دارفور. وبينما يبدو الأمر في الظاهر صراعاً سياسياً على السلطة بين البرهان وحميدتي، إلّا أنّه يتغذّى أيضاً من الهشاشة البيئية والصراع على الموارد وزيادة تواتر الظواهر المناخية المتطرّفة وشدّتها. وبالتالي، فهو يدلّ على الآثار الأمنية المتعدّدة لتغير المناخ، إذ تؤدّي ندرة الموارد الطبيعية والاقتصادية إلى انعدام الأمن الغذائي، وإضعاف سبل العيش، والنزوح الجماعي، ما يتطوّر في نهاية المطاف إلى صراع مسلّح. وعلى الرغم من أنّ آثار الحرب الحالية على البيئة ليست موثقة بشكل جيّد، إلّا أنّها تطوّرت إلى صراع أكثر حدّة وانتشاراً من الصراع في دارفور، ما يطرح تحدّيات جديدة ترافقها آثار بيئية كبيرة.
دارت الصراعات السابقة في السودان بشكل أساسي بعيداً عن العاصمة الخرطوم، واعتمد المقاتلون في المقام الأول على الأسلحة الخفيفة. وبالمقابل، استُخدمت المدفعية الثقيلة في الصراع الحالي من الجانبين وشنّت القوات المسلّحة السودانية الغارات الجوية، لينتقل الصراع من مناطق مثل دارفور وكردفان إلى الخرطوم ومنطقة الجزيرة القريبة، بين رافدي نهر النيل. ولسوء الحظ، تضمّ الخرطوم عدداً من المنشآت العسكرية بالقرب من المناطق المدنية. وفضلاً عن المخاطر المباشرة التي يتعرّض لها المدنيون، تزداد المخاطر البيئية المرتبطة بالصراع. وتشمل هذه المخاطر البيئية التلوّث الناجم عن الحرب وعدم التخلّص من النفايات الصحية، ما يهدّد بانتشار الأمراض المعدية مثل حمى الضنك والملاريا والكوليرا والإسهال بسبب تلوّث المياه، بالإضافة إلى الجثث غير المدفونة وانقطاع الخدمات الطبية وتدمير البنية التحتية الحيوية.38
كان السودان يواجه أساساً عدداً من التحديات المناخيّة قبل الصراع الحالي، إلّا أنّ الأشهر الماضية من العنف قد فاقمت الوضع بشكل كبير. وتزيد الحرب من حدّة المخاطر البيئية الشديدة القائمة أصلاً والتي يرزح تحتها السودانيون،39 وتتسبّب أيضاً في أضرار جسيمة للبنية التحتية للبلاد وتهدّد الجهود المبذولة لتلبية الاحتياجات العاجلة للفئات السكانية الضعيفة.
أُجبر أكثر من ستة ملايين سوداني على الفرار من منازلهم بسبب الصراع،40 ما أدّى إلى أزمة إنسانية ذات آثار بيئية بعيدة المدى.41 ويؤدّي تدفّق النازحين داخلياً إلى المجتمعات الضعيفة أساساً إلى التنافس على الموارد المحدودة، وتحديداً الأراضي الخصبة والمياه. ويمكن أن تؤدّي هذه المنافسة إلى تصاعد التوترات ونشوب الأعمال العدائية بين المجموعات المختلفة، والتي تتفاقم بسبب الانقسامات السياسية والقبلية والإثنية القائمة مسبقاً، بالإضافة إلى زيادة التدهور البيئي.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الدينامية كانت قائمة على نطاق أصغر قبل الحرب. وفي العام 2022، أُجبر أكثر من 70 ألف فرد على الفرار من منازلهم بسبب المنازعات حول ملكية الأراضي، والتي أثّر معظمها في قبائل الهوسا والفونج في ولاية النيل الأزرق.42 إنّ العلاقة بين هذا النوع من العنف والتنافس على الموارد موثّقة بشكل جيد؛ وتشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أنّه يمكن ربط 40 في المئة من الصراعات الداخلية في السودان على مدى الأعوام الستين الماضية باستغلال الموارد ذات القيمة العالية مثل الأخشاب والماس والذهب والنفط.43
ومع ذلك، فقد تسبب الصراع الحالي في النزوح على نطاق أوسع. وتعدّ زيادة استخدام الفحم والحطب كوقود من بين النتائج المباشرة على البيئة. وفي حين ساهم إلغاء الدولة لدعم الوقود الأحفوري في العام 2020 بالفعل في تفعيل هذا الأمر، إلّا أنّ الارتفاع الهائل في عدد النازحين داخلياً وانقطاع إمدادات الوقود الناتج عن الصراع قد ساهم في زيادة استخدام الفحم والحطب كوقود، ما أدّى بالتالي إلى إزالة الغابات بطرق عشوائية. وحتى في العام 2019، أبلغ صندوق النقد الدولي عن نقص كبير في غاز الطهي وإمداداته غير المستقرّة في السوق السودانية، حيث يُستورّد حوالي 50 في المئة من احتياجات البلاد من غاز البترول المسال.44 ومن المرجّح أن يؤدّي انقطاع إمدادات الوقود الناتج عن الصراع إلى تفاقم هذا الوضع، مع ما يترتّب على ذلك من تداعيات ثانوية على البيئة. ويؤدّي هذا التفاعل بين ندرة الغاز الناجمة عن الصراع وتداعياتها البيئية إلى توليد حلقة مفرغة من التحديات.
لقد ساهم انهيار سلطة الدولة والحوكمة في مناطق من السودان في جعل المجتمعات المحلية أكثر ضعفاً، ومنح المجموعات المسلّحة غير الحكومية والمجموعات الإجرامية حرية التصرف.45 وقد أدّى ذلك إلى استخراج الموارد الطبيعية بشكل غير منظّم وغير مستدام، مع ما نتج عن ذلك من تدهور بيئي وتهديد ندرة الموارد الذي يلوح في الأفق، الأمر الذي تسبّب في المقابل إلى تقليص القدرة على مواجهة الكوارث الطبيعية وزيادة التهديدات على التنوع البيولوجي والاستقرار البيئي. وتسهم ممارسات مثل التعدين غير القانوني الذي يستخدم مواد كيميائية سامة وإزالة الغابات في إدامة التدهور البيئي وتفاقم أزمة المناخ.46 كما تُستخدم مثل هذه الممارسات لتمويل عمليات عدد من المجموعات المسلّحة وإشعال صراعات محلّية حول حقوق الاستخراج.47
لقد انعكس الصراع المستمرّ بشكل كبير على مختلف الجهات الفاعلة في قطاعي الزراعة والغذاء. فقد تسبّب بتعطيل مواسم الزراعة وإنتاج المحاصيل، وقطع طرق التجارة، وإيقاف أنشطة التصنيع.48 وبما أنّ الأسر السودانية تعتمد بشكل كبير على المحاصيل المزروعة محلّياً، تفاقم هذه الاضطرابات الجوع وتهدّد بإحداث المجاعة. وتفيد التقارير بأنّ أكثر من ستة ملايين شخص في السودان يتعرّضون لخطر المجاعة من بين 20,3 مليون (أكثر من 42 في المئة من إجمالي السكان) يعانون انعداماً حاداً في الأمن الغذائي.49
وبحسب رويترز، أوقف عدد من المزارعين ومنتجي الأغذية عملياتهم وغادروا بسبب انعدام الأمن، وتعطّلت سلاسل التوريد المتمركزة في العاصمة على نطاق واسع. وقد نُهب بعض مستودعات المستلزمات، مثل الأسمدة والبذور والمبيدات الحشرية. وأفاد عدد من المزارعين بمواجهة صعوبات في جمع الأموال لشراء المدخلات الزراعية مثل الأسمدة والبذور للزراعة إذ أنّهم يعتمدون عادة على عائدات بيع محاصيل الموسم السابق.50 وقد جعل الصراع هذا الأمر شبه مستحيل لأنّ السوق تقع في الخرطوم. وزاد كلّ ذلك من احتمال حدوث المجاعة في السودان في ظلّ توقّف المساعدات الإنسانية وشلل النظام المالي الزراعي.
يواجه السودان مجموعة واسعة من التحدّيات البيئية والسياسية والمناخية التي تتطلّب معالجتها نهجاً شاملاً وجامعاً يركّز على حلّ الصراعات، وبناء نظام قوي للحوكمة، وتعزيز مرونة البلاد المناخية. سيحتاج السودان إلى دعم دولي لوقف إطلاق النار، والوصول إلى الصناديق الدولية للصمود في وجه تغيّر المناخ والتكيّف معه للتخفيف من آثار تغيّر المناخ والصراع. وفي الوقت عينه، ستحتاج المجتمعات إلى تمكينها للتكيّف مع التغيّرات البيئية من أجل ضمان الاستقرار في مواجهة التحدّيات البيئية.
ينبغي على المجتمع الدولي أن يعطي الأولويّة لمعالجة الاحتياجات الإنسانية الماسة في السودان51 والتي نتجت عن الصراع المستمرّ والنزوح الجماعي. ونظراً لتعقيد الأزمة، سيكون من الضروري بذل جهود إقليمية تعاونية، إذ أنّ دولة السودان لا تستطيع وحدها التغلّب على هذه التحديات. إنّ توفير المساعدات الأساسية للنازحين داخلياً واللاجئين أولوية، وسيحتاج إلى دعم من المنظمات الدولية والدول المجاورة والمجتمع المدني. كما تتّسم المساعدة الطبية لمكافحة انتشار الأمراض بأهمية بالغة. وتعتبر استعادة الوصول إلى الأنظمة المالية والمصرفية والخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء ضرورية أيضاً لتحقيق استجابة إنسانية فعّالة.52
فعلى المدى الطويل، سيحتاج السودان إلى المساعدة لإعادة بناء هيكله لإدارة الموارد والحوكمة في المناطق المتأثّرة بالصراع سعياً منه نحو مستقبل مستدام. ومن المهم إنفاذ القوانين البيئية، والحدّ من الأنشطة غير القانونية مثل التعدين وقطع الأخشاب، وتعزيز ممارسات الاستخدام المستدام للأراضي للحفاظ على البيئة للأجيال القادمة. وسيؤدّي الفشل في القيام بذلك إلى الاستغلال غير المستدام للموارد، والتدهور البيئي، وبالتالي زيادة الصراعات.53 ويتطلّب هذا الأمر بذل جهود جادة لمعالجة أوجه القصور في الحوكمة. ويتعيّن على الوكالات الدولية أن تعمل على إنشاء أنظمة بيئية قوية وإنفاذها عبر الحدود ووضع إستراتيجيات تعاونية لمكافحة الأنشطة غير القانونية، وتحديداً من خلال جهود الرصد المنسّقة وإنفاذ القوانين في المناطق المتأثّرة بالصراع. فضلاً عن ذلك، يُعد تعزيز ممارسات الاستخدام المستدام للأراضي أمراً بالغ الأهمية، ويستدعي التعاون لتبادل أفضل الممارسات، وتقديم المساعدة الفنية، وتسهيل تبادل المعرفة.
سيكون الوصول إلى الأموال الدولية للصمود في وجه تغيّر المناخ والتكيّف معه أمراً حاسماً بالنسبة إلى السودان في سعيه إلى معالجة الآثار المزدوجة للحرب وتغيّر المناخ.54 وستحتاج البلاد إلى الموارد لإصلاح البنية التحتية الحيوية وضمان قدرة أنظمة الرعاية الصحية والغذاء والمياه والطاقة على تحمّل الظواهر المناخية المتطرّفة. ففي العام 2020، وافق صندوق المناخ الأخضر على توفير تمويل بقيمة 25,6 مليون دولار أمريكي لمشروع مبتكر لمقاومة تغيّر المناخ في السودان يهدف إلى تعزيز الرعاية الصحية والغذاء والأمن المائي لـ 3,7 مليون شخص في عشر ولايات، إلّا أنّ الانقلاب الذي حدث في أكتوبر 2021 منع البلاد من الحصول على تلك الأموال.55
وكان من شأن الحصول على التمويل أن يدعم السودانيين في تحسين الممارسات الزراعية وضمان الأمن الغذائي، من خلال اعتماد نُهج ذكية مناخياً مثل المحاصيل المقاوِمة للجفاف وأنظمة إدارة المياه الفعّالة. على سبيل المثال، يسهم تخصيص الأموال للمساعدة في استعادة النظم البيئية وعزل الكربون في المساعدة على استعادة إمكانية حزام الصمغ العربي في السودان على امتصاص الكربون.56 لا يمكن للسودان ضمان انحلال التربة بشكل آمن ومستدام وتحسين سبل عيش شعبه إلاّ من خلال مواجهة التحدّيات التي يفرضها تغيّر المناخ وآثار الحرب بشكل استباقي.
من شأن الاستثمار في أنظمة الإنذار المبكر وبناء قدرات المجتمع أن يمكّن المواطنين من الاستجابة بفعالية للتهديدات المناخية، ما يقلّل من الخسائر في الأرواح والممتلكات. علاوة على ذلك، يعدّ تعزيز التعليم ورفع الوعي حول البيئة مسألة ضروريّة لحماية الموارد الطبيعية في السودان والتشديد على دور كل مواطن. وينبغي على منظّمات المجتمع المدني والمدارس ووسائل الإعلام أن تتعاون لنشر الوعي حول الممارسات المستدامة، وضمان مشاركة الجميع في الحلّ. وتعدّ مشاركة المواطنين الفعالة في الإدارة البيئية وحلّ النزاعات حقاً ومصدراً للمرونة في الوقت نفسه. فالمجتمعات المتمكّنة مجهّزة بشكل أفضل للتكيّف مع التغيّرات البيئية، ما يضمن في نهاية المطاف الاستقرار في مواجهة التحديات البيئية. تُعتبر مبادرات الإصلاح البيئي والممارسات المستدامة أمراً مهماً لإصلاح الأضرار التي لحقت بالنظم البيئية ويمكن أن تعزّز الاستدامة على المدى الطويل. وتشمل الخطط برامج إعادة التشجير، وجهود الحفاظ على التربة والمياه، وممارسات الزراعة والرعي المستدامة. على سبيل المثال، يشكّل مشروع مستجمعات المياه التابع لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة في شمال دارفور أحد الحلول المبتكرة القائمة على الطبيعة لمعالجة القضايا البيئية في المناطق المتأثّرة بالصراع وتغيّر المناخ.57
يواجه السودان مجموعة معقّدة من التحديات التي تتطلّب انتباهاً عاجلاً. لقد تسبّبت الحرب في أزمة إنسانية حادّة تؤدّي إلى تداعيات بيئية غير مسبوقة. وبالإضافة إلى طيف تغيّر المناخ الذي يلوح في الأفق، لقد عرّض تزعزع أطر إدارة الموارد والحوكمة بشكل عام السودان لخطر مواجهة كارثة بيئية. وتتخطّى الخسائر البيئية الناجمة عن الصراع المخاوف المباشرة إذ تتغلغل في النظم البيئية الضعيفة وتفاقم تأثّر السودان بتغيّر المناخ. وقد ساهمت الممارسات غير المستدامة، مثل زيادة معدّلات قطع الأخشاب، إلى جانب فقدان الأراضي الزراعية والنزوح الداخلي، في زيادة إزالة الغابات والتصحّر وانحلال التربة، بالإضافة إلى الصراعات المحلية.
وللتخفيف من هذه الآثار العميقة، لا بدّ من اتخاذ تدابير وإجراءات استباقية لتعزيز بناء السلام البيئي. ويجب أن تركّز مثل هذه التدابير على إيقاف الحرب الحالية وتطوير نظام إنذار مبكر للأزمات المرتبطة بالمناخ. يسلّط التقارب بين الصراع وقابليّة التأثّر بتغيّر المناخ الضوء على الحاجة إلى تبنّي نهج شامل يشدّد على الترابط بين المخاوف البيئية والإنسانية والأمنية. وستتطلّب هذه العملية زيادة الموارد المالية، وتحسين الحوكمة، وتنسيق الجهود بين الوكالات الحكومية والشركاء الدوليين.