كما أظهر هذا الملف، تشهد الديناميّات الأمنية الإقليمية في منطقة البحر المتوسّط، سواء الداخلية منها أو الخارجية، تحوّلاً جذرياً.
على الصعيد الداخلي وعلى الرغم من انحسار التوتّر وتحسّن العلاقات التركية اليونانية، لا تزال أزمة شرق المتوسّط بعيدة كلّ البعد عن الحل. وسيرسم تطوّر هذه الأزمة ملامح جديدة لطبيعة التنافس بين دول المنطقة ولمكانة القوى الخارجية فيها.
يُظهر طارق المجريسي في فصله التداخل بين قضايا الأمن الإقليمي والهجرة وسياسات الخوف في منطقة المتوسّط من منظور أوروبي. وعليه، تُعدّ قضيّة أمن المتوسّط بالنسبة إلى أوروبا قضيّة متعدّدة الأوجه، إذ تربط بين السياسة الداخلية وسياسات الهوية من جهة، والسياسة الخارجية من جهة أخرى.
في هذه الأثناء، تُعيد الحرب على غزة تشكيل مشهد الأمن الإقليمي وتهدّد مستقبل الكثير من المبادرات الإقليمية التي تشمل إسرائيل والدول الخليجية، مثل منتدى الطاقة للشرق الأوسط والممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC). وبالنظر إلى ارتفاع الكلفة السياسية والصورة السلبية المترتّبة على التعاون مع إسرائيل بالنسبة إلى الدول العربية، قد يصبح عدم التعاون مع إسرائيل القاسم المشترك الأدنى للرّد العربي عليها. وكما يشير روبرت ماسون، فقد قوّضت الحرب على غزة مشروع الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، وبالتالي مجموعة “I2U2” التي تضمّ إسرائيل والهند والإمارات العربية المتّحدة والولايات المتّحدة.
كذلك، تُعيد التطوّرات الأخيرة في سوريا هيكلة المشهد الأمني في شرق البحر المتوسّط. ومن المتوقّع أن يوثّر سقوط نظام الأسد تأثيراً كبيراً في الأمن والنظام الإقليميين في المنطقة. فقد أدّى هذا السقوط إلى قطع الوصول المباشر من إيران إلى شرق المتوسّط وألقى بظلال ثقيلة على مستقبل دور روسيا ووجودها في سوريا وفي شرق البحر المتوسّط. في الواقع، لقد شكّلت سوريا حجر الأساس في الحضور والنفوذ الروسيَّين في المنطقة، وبالتالي ستشكّل طبيعة العلاقات الروسية السورية ما بعد سقوط نظام الأسد ومستقبلها عنصراً محورياً.
وفي هذا السياق، يسلّط أندريه كورتونوف الضوء على الأهميّة الحاسمة لقاعدتي طرطوس البحريّة وحميميم الجويّة في سوريا، ويَعتبر أنّ “هاتين القاعدتين أساسيّتان لتعزيز مصالح روسيا في منطقة المتوسّط وفي الشرق الأوسط الأوسع، إذ تُوفّران لموسكو قدرات فريدة لبسط سلطتها في المنطقة”. علاوة على ذلك، يُشدّد كورتونوف على أنّ قاعدة حميميم الجوّية تُشكّل “نقطة عبور حاسمة لدعم العمليّات الروسيّة في الأماكن البعيدة في أفريقيا”.
إذا وضعنا جانباً مناقشات مرحلة ما بعد الصراع، تُمثّل منطقة المتوسّط أيضاً مركزاً مهماً لعددٍ من مشاريع الربط والمبادرات الإستراتيجية الإقليمية المتنوّعة. ومن هذا المنطلق، باتت المنطقة تُجسّد صورة مصغّرة عن الرؤى المتنافسة حول النظام الإقليمي، ليس في منطقة البحر المتوسّط فحسب، بل أيضاً في الشرق الأوسط الأوسع. في الواقع، تتّسم مبادرة الحزام والطريق الصينية (BRI) والممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا المدعوم من الولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي ومشروع “طريق التنمية” في العراق المدعوم من تركيا، بأبعاد متوسّطية هامة. على سبيل المثال، يرى جين ليانغ زيانغ أنّ “منطقة المتوسّط تشكّل جزءاً لا يتجزّأ من رؤية الصين للعالم، على الرغم من غياب سياسة موحّدة تجاهها”. ويضيف أنّ “مبادرة الحزام والطريق تُحدّد اليوم الانخراط بين الصين ومنطقة البحر المتوسط بشكلٍ رئيسي”.
تستند هذه المبادرات كافة إلى تصوّرات مختلفة للنظامين الإقليمي والعالمي. فعلى الصعيد الإقليمي مثلاً، يُجسّد الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا نموذجاً آخر للرؤية الأمريكية للنظام الإقليمي القائمة على التعاون الوثيق بين الدول الخليجية وإسرائيل (بدعمٍ أمريكي). أمّا من الناحية العالمية، فيهدف المشروع إلى منافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية وتقليص دور بكين الإقليمي. غير أنّ المنطق الجيوسياسي وراء هذا المشروع طغى على أبعاده الاقتصادية، وهو يواجه اليوم اختبار الواقع الجيوسياسي في الشرق الأوسط. وكما ترى دالية غانم، فإنّ نجاح الممرّ الاقتصادي الرابط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا يعتمد على التعاون والاستقرار الإقليميين، غير أنّ الواقع على الأرض يطرح تحدّيات كبيرة، أبرزها غياب السلام المستدام وعدم التوصّل إلى تهدئة بين إسرائيل وحماس، وهو ما يهدّد وجود الممرّ بحدّ ذاته، وقد ينسف كامل المبادرة قبل أن تبصر النور فعلياً.
باختصار، تُعدّ منطقة المتوسّط، شأنها شأن الخليج، مركز ثقل في السياسة الإقليمية الأوسع حيث تتقاطع مصالح الشرق الأوسط مع شمال أفريقيا وأوروبا. ويمكن اعتبار إعادة الهيكلة الإقليمية الجارية حالياً تجسيداً مصغّراً للتحوّلات الكبرى التي يشهدها العالم.