لو تغيّر النظام في سوريا في ديسمبر 2021 بدلاً من ديسمبر 2024، لكان أدّى على الأرجح إلى نقاشٍ عاطفي عام وواسع النطاق حول “من خسر سوريا”. لقد ألقى الصراع الروسي الأوكراني، الذي يشكّل الأولوية المطلقة بالنسبة إلى القيادة الروسية وليس مجرّد أولوية، بظلاله على انخراط روسيا في سوريا وفي منطقة الشرق الأوسط الأوسع. بالتالي، بقي الرأي العام الروسي غير مكترث في غالبيّته لسقوط بشار الأسد الذي غالباً ما اعتُبر عبئاً على روسيا أكثر منه ميزة قيّمة، وذلك منذ العام 2016.1 حاولت وسائل الإعلام الرسمية الروسيّة جاهدةً البقاء محايدة في تغطيتها لسقوط النظام في سوريا، فألقت المسؤولية الكاملة على القادة العسكريين والسياسيين السوريين وقلّلت من الانعكاسات السلبيّة المحتملة للتطوّرات السورية على مواقع روسيا داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وخارجها. وسارع عددٌ من الخبراء النقاد إلى الإعلان أنّهم توقّعوا منذ زمن بعيد سقوطاً مدوّياً لنظام الأسد وللمواقع الروسية في سوريا.2
على الرغم من كلّ هذه التصريحات اللاحقة، يبدو أنّ روسيا، شأنها شأن الجهات غير الإقليمية الأخرى، لم تكن مستعدّة لانهيارٍ سريع لا يمكن وقفه أو عكسه لنظام بشار الأسد في دمشق. فقد حكمت عائلة الأسد البلاد لأكثر من نصف قرن، وأثبت بشار الأسد قدرة لافتة على الصمود السياسي في ظلّ ظروف عصيبة للغاية. والسؤال المفتوح هو: متى استنتج استراتيجيو الكرملين أنّ موسكو يجب أن تكفّ عن محاولة إيقاف هجوم المعارضة وتدع النظام غير الشعبي وغير الفعّال يسقط؟
تدعو أسباب متعدّدة إلى الافتراض بأنّ روسيا قرّرت القبول بتغيّر النظام في سوريا في مرحلة مبكرة نسبياً من هجوم قوات المعارضة الأخير، وحتى أنّها ساعدت بشكلٍ غير مباشر في تحقيق انتقال سياسي سلس من دون إراقة الدماء، على نحو غير متوقّع. تُشير تقارير عسكرية روسية رسمية إلى أنّ الدعم الجوّي الروسي لنظام الأسد استمرّ حتى 7 ديسمبر 2024 على الأقل، وألحق أضراراً جسيمة بوحدات المعارضة في محافظات إدلب وحلب وحماة.3 وفي اليوم نفسه، أكّد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في النسخة الثانية والعشرين لمنتدى الدوحة على دعم موسكو لبشار الأسد وإدانتها الشديدة لهجوم المعارضة.4 غير أنّ الحجم الحقيقي للمساعدة الروسية للأسد في القتال والاستخبارات والتزام السلاح الجوّي الروسي بالقتال ضد المعارضة في مطلع ديسمبر، لا يزال غير واضح. بحسب صحيفة “ذا نيويورك تايمز”، اتّهم الجنرال الإيراني بهروز إثباتي روسيا لاحقاً بتضليل إيران بإخبارها أنّ الطائرات الروسية كانت تقصف فصائل المعارضة السورية، بينما كانت في الواقع تسقط قنابل على حقول مفتوحة.5 وأضاف أنّه في العام 2024 “عندما ضربت إسرائيل أهدافاً إيرانية في سوريا، أغلقت روسيا الرادارات، ما سهّل هذه الهجمات فعليّاً”.6
وقد أكّد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بشكلٍ غير مباشر هذه الرواية عن امتناع روسيا المزعوم عن مساندة حليفها الطويل الأمد في أواخر نوفمبر ومطلع ديسمبر 2024 في مقابلة أجرتها معه وكالة الأنباء “تاس” مؤخّراً، حيث قال: “أعتقد أنّه كان هناك بعض التصعيد بعد الاستيلاء على حلب. وكان لدى الروس القدرة العسكرية على الرد وكان بإمكانهم استخدامها، لكنّهم قرّروا عدم القيام بذلك. وكانت لدينا اتصالات مكثّفة بشأن هذه المسألة. والحقيقة أنّ روسيا تصرّفت بعقلانية”.7 وأضاف فيدان أنّ موسكو “لم تتدّخل في أثناء سقوط دمشق”، وأنّ “قوى الثورة ضمنت الانسحاب الآمن للقوات الروسيّة ولم تهاجم قواعدها”.8
تملك روسيا اليوم نقطتَين إستراتيجيّتين في وجودها العسكري في سوريا: قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية. طرطوس هي المنشأة البحرية الوحيدة التي تمتلكها روسيا في البحر الأبيض المتوسط. أُنشئت في السبعينات وشهدت توسيعاً وتحديثاً إلى حد كبير منذ بداية الانخراط العسكري الروسي في سوريا. أمّا قاعدة حميميم الجوّية، فقد بدأت عمليّاتها في العام 2015 لمساندة العمليات الجوية الروسية في خلال الحرب الأهلية السورية. تُعتبَر هاتان القاعدتان أساسيّتين لدفع مصالح روسيا قدماً في منطقة المتوسّط وفي الشرق الأوسط على نطاقٍ أوسع، وتُوفّران لموسكو قدرات فريدة لبسط سلطتها في المنطقة. علاوة على ذلك، تُستخدَم القاعدتان (وبالأخص قاعدة حميميم الجوّية) كنقطتي عبور حاسمتين لدعم العمليات الروسية في الأماكن البعيدة في أفريقيا.9
أصبحت المحافظة على هاتين القاعدتين العسكريتين أحد الأهداف الرئيسية لمقاربة روسيا تجاه سوريا ما بعد الأسد. في يناير 2025، اقترحت وزارة الخارجية الروسية تحويل القاعدتين إلى “مركزين إنسانيين” بغية تلبية الحاجات الطارئة للشعب السوري.10 لم يتّضح بعد ما إذا كانت روسيا في موقع يسمح لها بتقديم كميات كبيرة من المساعدة الإنسانية إلى سوريا وتنسيق هذه الجهود بفعالية مع المانحين الدوليين الآخرين.
تُشكّك الإدارة السورية الجديدة على ما يبدو في ما يمكن أن تقدّمه موسكو من مساعدة إنسانية أو إنمائية. بصورةٍ عامة، من الصعب الافتراض أنّه بإمكان روسيا كسب ثقة قادة هيئة تحرير الشام بسهولة بعدما وصفهم الكرملين بالإرهابيين الدوليين المقرّبين من القاعدة والشبكات المتطرّفة الأخرى. وقد ألغت دمشق عقداً مع شركة روسية لإدارة ميناء طرطوس وتشغيله كان قد وُقّع في عهد الرئيس السابق بشار الأسد. يُزعَم أنّ رياض جودي، رئيس الجمارك في طرطوس، قال إنّ عقد الاستثمار أُلغي بعدما فشل المتعهّد الروسي بتنفيذ بنود اتفاق العام 2019 الذي تضمّن استثمارات كبيرة في البنى التحتية للميناء.11 وقد سرّبت وسائل الإعلام أيضاً أنّ ميناء طرطوس استرعت انتباه مطوّرين أتراك كبار يسعون إلى السيطرة على تحديث الميناء. قد يبرز سبب أكثر إقناعاً وراء إعادة النظر في الترتيب السابق، ألا وهو أنّ الدبلوماسيين الممثلين للاتحاد الأوروبي مارسوا ضغوطاً شديدة على القادة السوريين الجُدد وأدرجوا القطيعة مع موسكو على لائحة الشروط المسبقة لتكثيف التعاون بين بروكسيل ودمشق.12
بيد أنّ المراجعة الأخيرة للترتيبات بين سوريا وروسيا تقتصر حتى الآن على القسم المدني من ميناء طرطوس ولا تؤثّر مباشرةً على وضع قاعدة طرطوس البحريّة التي تنوي روسيا إبقاءها تحت سيطرتها.13وصرّح رئيس الحكومة الانتقالية السورية أحمد الشرع أنّ الحكومة الجديدة لم تكن تريد أن “تخرج روسيا بطريقة لا تليق بعلاقتها بسوريا”.14 وقد زار وفدٌ روسي رفيع المستوى دمشق في يناير 2025 لمناقشة مستقبل العلاقات الثنائية مع السلطات السورية الجديدة. وفي بيان تلى المفاوضات، شدّدت القيادة السورية على أنّ “استعادة العلاقات يجب أن تعالج أخطاء الماضي وتحترم إرادة الشعب السوري وتخدم مصالحه”.15 وتطرّقت المحادثات أيضاً إلى “العدالة لضحايا الحرب الوحشية التي شنّها نظام بشار الأسد”.16 باختصار، حتى لو احتفظت روسيا بمستوى معيّن من وجودها العسكري في سوريا، من المرجّح أن تتغيّر شروط هذا الوجود إلى حدّ بعيد، ما يدفع موسكو إلى البحث عن بدائل محتملة.
وكذلك، فإنَّ التوقّعات الفورية للتعاون الاقتصادي بين روسيا وسوريا قاتمة في أحسن الأحوال. بلغ حجم التجارة الثنائية مليار دولار في السابق، مع فائض كبير من الجانب الروسي. وكانت موسكو أحد الموردين الرئيسيين للمخزون الغذائي إلى سوريا، بما في ذلك القمح والدقيق وزيت دوار الشمس، وكذلك الآلات والأدوية.17 ويكتسب شراء القمح الروسي أهميّة خاصة بالنسبة إلى سوريا، لا سيّما أنّ موسكو توفّر نصف إجمالي الواردات تقريباً. في أعقاب سقوط النظام، تمّ تعليق إمدادات القمح الروسية إلى سوريا.18 علاوة على ذلك، يُقال إنّ السلطات الجديدة حظرت كل الواردات من روسيا في يناير 2025، علماً أنّ هذا القرار لم يتأكّد بعد. وتجدر الإشارة إلى أنّ مؤسّسات سورية متعدّدة تستخدم معدّات روسية الصنع؛ لذا ستتطلّب صيانتها و(من المحتمل) تحديثها الاستمرار في الاعتماد على موسكو، أقلّه لبعض الوقت في المستقبل.
كما كان متوقّعاً، حاول المسؤولون الروس جاهدين التقليل من أهميّة تغيّر النظام في سوريا وتأثيره على المواقع الروسية ككل في الشرق الأوسط ومنطقة المتوسّط. لقد صرّح رئيس جهاز الاستخبارات الخارجيّة الروسيّة سيرغي ناريشكين أنّ “روسيا لا تزال لاعباً مؤثّراً للغاية في الشرق الأوسط، وهذا أمر تدركه الدول العربيّة وتركيا. لذا ما من تهديدٍ لمواقع روسيا في هذه المنطقة”.19 لكنّ هذا الكلام المتفائل يخفي سعياً حثيثاً ومستمرّاً إلى إعادة ضبط مكانة روسيا في المنطقة.
يقول المنطق إنّه بعدما مُنيت موسكو بانتكاسة كبرى في سوريا، من المفترض أن تكون حريصة على توازن مستمرّ بين اللاعبين الخارجيين لمنع أيّ جهة إقليمية أو عالمية من ممارسة نفوذ سياسي حصري على السلطات السورية الجديدة. وبما أنّ الكرملين أصبح من أقليّة المساهمين في اللعبة السورية الجديدة، قد يأمل في الاحتفاظ بجزء من نفوذه السابق من خلال تحقيق توازن دقيق بين الجهات الفاعلة الأخرى في سوريا اليوم. من المثير للاهتمام أنّه عندما تحدّث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن سوريا بنهاية ديسمبر، أشار إلى إسرائيل أكثر من تركيا كـ”المستفيد الرئيسي” من تغيّر النظام في دمشق،20 متوقّعاً أن تترتّب على العمليّات البريّة والجويّة الإسرائيليّة المكثّفة والمستمرّة تبعات خطيرة جداً على مستقبل العلاقات بين سوريا وإسرائيل، وعلى الاستقرار الإقليمي بشكلٍ عام.21 أمّا بالنسبة إلى أنقرة، فقد كان التقييم الروسي الرسمي للموقف التركي في سوريا حتى الآن ليّناً وحذراً؛ إذ يبدو أنّ موسكو لا تزال تعتمد على أنقرة كلاعب مسؤول في سوريا لا يسعى بالضرورة إلى إزالة المواقع الروسية في البلاد بشكلٍ كلّي.
غير أنّ العلاقات الروسية التركية قد تتعقّد بسبب المزاعم حول نقل روسيا لعتادها وعديدها من سوريا إلى شرق ليبيا.22 يمكن اعتبار إعادة الانتشار هذه جزءاً من إستراتيجيّة موسكو لتشكيل ما يُسمى بـ”فيلق أفريقيا” خلفاً للشركة العسكريّة الخاصة أو مجموعة “فاغنر”.23 قد تكون حكومة خليفة حفتر في طبرق قد أيّدت هذه الخطوة، لكنّ عبد الحميد الدبيبة المدعوم من أنقرة في طرابلس يعارضها بصراحة. ومن الممكن أن تُعقّد خلافات أخرى بشأن ليبيا أيّ تعاون روسي تركي في سوريا في المستقبل.
قد يتخيّل المرء أنّ أفضل خيار بالنسبة إلى الكرملين يتمثّل بتوافقٍ دولي بشأن سوريا على غرار التوافق حول أفغانستان بعد عودة طالبان إلى السلطة في كابول في أواخر صيف 2021. في نهاية المطاف، من غير المفترض أن تُحبّذ الدول المجاورة لسوريا انقسامها إلى عدد من الدول الفاشلة تحت سيطرة جهات غير حكومية غير مسؤولة وغير خاضعة للمساءلة- أو تحوّلها إلى مركز للإرهاب الدولي. ولن يستفيد أحد من تدفّق لا يمكن إيقافه للأسلحة أو للمهاجرين من البلاد. وللجهات الحاكمة المحيطة بدمشق مصلحة في تجنّب كارثة إنسانية، وفي وجود حكومة شاملة وقابلة للتنبؤ، وفي عودة سوريا إلى الأسرة العربية. وقد انعكست تطلّعاتها في بيان مجلس الأمن الدولي بشأن سوريا الصادر في ديسمبر 2024.24لكن بسبب التعقيدات الجيوسياسية في أوكرانيا، لم تجرِ أيّ استشارات ملحوظة بين الكرملين وإدارة بايدن/ترامب أو أيّ قوّة أوروبيّة رئيسيّة بشأن مستقبل سوريا. وتُشكّل عدم القدرة هذه على التواصل مع الغرب حافزاً جديداً لموسكو لكي تنخرط في حوارٍ وثيق مع اللاعبين الإقليميين.
في الخلاصة، لا يزال الكرملين يعمل على إستراتيجيات للحدّ من الأضرار وعلى تحديد مقاربات جديدة تجاه المشهد العسكري والسياسي المتغيّر بسرعة في منطقة المتوسط في أعقاب تغيّر النظام في دمشق مؤخّراً. في الوقت نفسه، من الواضح أنّ هذه المنطقة، على الرغم من أهميّتها، سيظلّ يطغى عليها الصراع الروسي الأوكراني المستمرّ الذي يتصدّر كل أولويات موسكو وتحدّيات سياستها الخارجية.