عملاق الغاز الطبيعي المسال وحلم الطاقة الشمسيّة: مستقبل الطاقة في قطر

يناير 2025
زميل أول زائر

26 يناير، 2025

المقدّمة

يُعزى صعود قطر الاقتصادي السريع إلى استغلالها حقل الشمال، وهو أكبر حقل للغاز الطبيعي في العالم، ما جعلها أحد أبرز مصدّري الغاز الطبيعي المسال. في مشهد الطاقة المتوتّر الذي ساد في أوائل العقد 2020، والذي أجّجته الاضطرابات الجيوسياسيّة في أعقاب اجتياح روسيا لأوكرانيا وبؤر التصعيد الإقليميّة الأخرى، ارتفعت عائدات قطر من تصدير الغاز إلى 132 مليار دولار.1 وأدّت الإيرادات الكبيرة من الغاز الطبيعي دوراً أساسياً في تعزيز صندوق الثروة السيادية في قطر، جهاز قطر للاستثمار، الذي بلغت قيمته نحو 450 مليار دولار في العام 2023.2 وقد أسهم نمو الصندوق في تنويع الاقتصاد الوطني من خلال استثماراته العالميّة، ما عزّز نمو القطاع الخاص ووسّع نفوذ الدوحة على الساحة الدبلوماسيّة العالميّة. ستعتمد المرحلة المقبلة في تنمية قطر الاقتصاديّة على توسيع صادرات الغاز الطبيعي المسال لضمان الاستقرار المالي، مع الاستثمار في الوقت نفسه في مصادر الطاقة المتجدّدة كبديلٍ مستدام في الأمد الطويل.

قطر توسّع إنتاج الغاز الطبيعي المسال لدعم التحوّل العالمي

تُوسّع قطر بسرعةٍ قدرتها السنويّة على إنتاج الغاز الطبيعي المسال من 77 مليون طن متري في العام 2024 إلى 142 طن متري بحلول العام 2030 -أي بزيادة 85 في المئة.3 تهدف هذه الزيادة إلى تعزيز مكانتها كجهة فاعلة رائدة في السوق العالميّة للغاز الطبيعي المسال، مع إمكانيّة السيطرة على حوالي 25 في المئة من السوق بحلول نهاية العقد. تهدف قطر، من خلال تفوّقها على منافسين مثل الولايات المتحدة وأستراليا، إلى تعزيز دورها القيادي والمحافظة على هيمنتها في صناعة الغاز الطبيعي المسال العالميّة. من المتوقّع أن تبقى الزيادة المترقّبة في إنتاج الغاز الطبيعي المسال المحرّك الرئيسي للتنيمة الاقتصادية في قطر على مدى السنوات المقبلة. إلى جانب توسيع الغاز الطبيعي المسال، عملت قطر على تعزيز موقعها الإستراتيجي في المفاوضات العالمية حول تغيّر المناخ. وقد ابتعدت عن موقفها الهادئ نسبياً في أوائل العقد 2000 وأصبحت تؤيّد باستمرار استخدام الغاز الطبيعي كوقود انتقالي منخفص الكربون ضمن مزيجٍ متنوّع من الطاقة. وقد التزمت قطر أيضاً بخفض اعتمادها المحلّي على الهيدروكربونات، إنّما يجب النظر إلى هذا الهدف في سياقه. خلافاً للمملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربية المتحدة، اللتين واجهتا تحدّيات كبيرة متعلّقة بتخصيص الغاز في أواخر العقد 2000 وأوائل العقد 2010 بسبب الخلل في التوازن بين الطلب والإنتاج، تمكّنت قطر باستمرار من تلبية الاحتياجات المحلّية والطلب على الصادرات في الوقت نفسه من خلال إنتاجها القوي للغاز الطبيعي.4 تُعزى هذه المكانة المميّزة بشكلٍ رئيسي إلى عدد السكان القليل نسبياً (نحو 2,7 مليون نسمة) والاستهلاك المحلّي المحدود، ما يضمن عدم تأثّر قدراتها التصديريّة. بالإضافة إلى ذلك، إنّ مستويات تصدير النفط اليومية (زهاء 670 ألف برميل) هي أقل بكثير من مستويات منتجي النفط الرئيسيين في منطقة الخليج (المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت).

ساهم تركيز قطر الإستراتيجي على صادرات الغاز الطبيعي المسال، أكثر منه على صادرات النفط الواسعة النطاق، في إبعادها نوعاً ما عن التوتّرات الجيوسياسيّة المتكرّرة في سوق النفط العالميّة. بالإضافة إلى هذه الحماية من الإضطرابات الجيوسياسية، عدّلت قطر تدريجيّاً إطار التسعير التعاقدي ليعكس التحوّلات الأوسع داخل سوق الغاز الطبيعي المسال. ويشمل ذلك اعتماداً أكبر على تسعير مركز الغاز الطبيعي ومشاركة أكبر في السوق الفوريّة، ما يُعزّز بالتالي مرونة مصادر إيراداتها الخارجية في وجه تقلّبات أسعار النفط العالميّة.5 لكن فيما يزداد اعتماد الدول على الغاز الطبيعي لتوليد الطاقة وفيما بدأت سوق الغاز الطبيعي المسال تشبه سوق النفط الدوليّة، من المتوقّع أن تصبح تجارة الغاز الطبيعي المسال العالميّة أكثر تعقيداً من الناحية الجيوسياسيّة. ورغم أنّه من غير المرجّح أن يخضع الغاز الطبيعي المسال للمستوى نفسه من التقلّبات الجيوسياسيّة كالنفط، لا شكّ في احتمال تصاعد التوتّرات واضطراب الإمدادات والمنافسة الإستراتيجيّة.

 

إضافة مصادر الطاقة المتجدّدة إلى مزيج الطاقة في قطر: ميزة إستراتيجيّة

يتجاوز استكشاف قطر لدور مصادر الطاقة المتجدّدة في مزيج الطاقة الوطني، والذي بدأ في العام 2005، المخاوف المتعلّقة بتغيّر المناخ. على غرار الدول الخليجيّة الأخرى، إنّ هذا الاعتمادَ الإستراتيجي على مصادر الطاقة المتجدّدة مدفوع بأهداف متعدّدة، من بينها تطلّعات قطر لأن تصبح مركزاً رائداً للابتكار التكنولوجي وتشجيع الخبرات المحلّية وربما اكتساب ميزة تنافسية في سوق الطاقة النظيفة العالمية. علاوة على ذلك، تسعى قطر، من خلال إدماج مصادر الطاقة المتجدّدة بشكلٍ ناشط، إلى تعزيز مكانتها الدوليّة كجهةٍ فاعلة مسؤولة في جهود الحدّ من آثار تغيّر المناخ. ويساهم سعي قطر هذا وراء الطاقة المتجدّدة إلى مواجهة الانتقادات المحتملة المرتبطة بالاعتماد على استخراج الهيدروكربونات. علاوة على ذلك، من شأن إضافة مصادر الطاقة المتجدّدة إلى مزيج الطاقة أن يطوّل عمرَ احتياطاتها من الغاز الطبيعي. ورغم أنّ نسبة خفض الطلب المحلّي التي يمكن تحقيقها من خلال مصادر الطاقة المتجدّدة قد تكون ضئيلة نسبياً مقارنةً مع موارد الغاز الواسعة في قطر، تسمح هذه المقاربة بإدارة أكثر استدامةً لهذا المورد المحدود. ويسمح خفض الاعتماد المحلّي على الغاز الطبيعي باستنفاذ أبطأ، ما يعظّم قيمتها الاقتصادية مع مرور الوقت.6 وأخيراً، تملك قطر، شأنها شأن الدول الخليجيّة المجاورة الأخرى، موارد طبيعية هائلة تُمكّنها من تحقيق نجاح بارز في قطاع الطاقة المتجدّدة. في ظلّ متوسّط يومي من أشعّة الشمس يصل إلى 9,5 ساعة وحدّ أدنى من التغطية السحابية وتَوفّر مساحات شاسعة من الأراضي، تتمتّع قطر بظروف استثنائيّة لتوليد الطاقة الشمسيّة. بالتالي، توفّر هذه المزايا المتأصّلة ركيزةً متينة لتسريع تطوير إنتاج الطاقة الشمسيّة في قطر.7

فيما بدأ دخول قطر في مجال الطاقة المتجدّدة في أوائل العقد 2020، تختلف المراحل بشكل جوهري بدءاً من الاستكشاف النظري الأوّلي ومروراً بدراسة الجدوى الاقتصادية والتصريحات العلنيّة ووصولاً إلى تطبيق السياسات الملموس. لم يُترجَم ميلٌ سابق لإطلاق مشاريع بحوث وداراسات متعدّدة دائماً إلى أُطر سياسات مهمة وقادرة على إحداث تحوّل كبير بعيداً عن الوقود الأحفوري. بيد أنّ استكشاف قطر المستمرّ لمصادر الطاقة المتجدّدة وبعض الاستثمارات، على الرغم من حدود التطبيق المحتملة، يوحي بوعي واهتمامٍ متزايدين، إن لم يكن التزاماً متبلوراً بالكامل، بتنويع مزيج الطاقة أبعد من اعتمادها التاريخي على الهيدروكربونات. تتماشى محاولة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجدّدة هذه مع اتّجاه أوسع داخل مجلس التعاون الخليجي، حيث تعترف الدول المنتجة للنفط بشكلٍ مطّرد بالمكاسب الاقتصاديّة والجيوسياسيّة الطويلة الأمد لمحفظةٍ أكثر تنوّعاً للطاقة.

 

مقاربة قطر تجاه الطاقة المتجدّدة: من الحذر إلى ضرورةٍ إستراتيجيّة

أقرّت رؤية قطر الوطنية 2030، التي أطلقتها الدوحة عام 2008، بالمخاوف البيئية وبإمكانات الطاقة المتجدّدة.8 إلّا أنّ السياسات والأهداف الأوّلية كانت حذرة. منذ ذلك الحين، تبلورت مقاربة قطر لتصبح أكثر وضوحاً وباتت تعكس اعترافاً متزايداً بالحاجة إلى التنويع وإزالة الكربون. وبدأ هذا التحوّل مع إستراتيجيّة التنمية الوطنيّة الأولى في العام 2010 (2011-2016) التي أبرزت إمكانات الطاقة المتجدّدة في تحفيز النمو الاقتصادي.9 ويشير ذلك إلى أنّ إستراتيجيّة قطر المتنامية تُعطي الأولويّة للمنافع البيئية والاقتصاديّة في آن واحد. غير أنّ هذا الاعتراف اقترن بافتراضٍ كامن، وهو أنّ تقنيات الطاقة المتجدّدة يبنغي أن تصبح أكثر كفاءة من حيث التكلفة لتبرير اعتمادها على نطاقٍ واسع. وقد أدّى هذا التركيز على التكلفة المعقولة إلى تشكيل اللجنة الوطنية للطاقة المتجدّدة المكلّفة بتطوير خطّة وطنية مرتبطة بالتقدّم التكنولوجي بهدف خفض التكاليف. وبرزت الخطوة نحو مقاربة أكثر استباقاً مع إطلاق إستراتيجية التنمية الوطنية الثانية (2018-2022) في العام 2018، التي أقرّت بوضوحٍ أكبر بأهميّة الطاقة المتجدّدة الحاسمة بالنسبة إلى مستقبل قطر. وقد أكّدت هذه الوثيقة الإمكانات الكبيرة للطاقة المتجدّدة وقيّمت في الوقت نفسه وبشكلٍ واقعي التقدّم المحدود الذي أُحرِزحتى ذلك الحين. حقّقت جهود قطر في مجال الطاقة المتجدّدة قفزة نوعيّة مع افتتاح محطة الخرسعة للطاقة الشمسيّة التي تبلغ سعتها 800 ميغاواط؛ والتي تعمل على توفير 7 في المئة من الطلب وقت الذروة بحلول العام 2023 والتي من المزمع أن تحدّ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنحو 26 مليون طن في خلال عمرها التشغيلي. ويشكّل هذا المشروع الرئيسي الذي أُطلق في العام 2022 خطوةً مهمة نحو تطبيق أهداف اتفاق باريس. كما تُوسّع قطر حافظتها من الطاقة الشمسيّة من خلال مشاريع ضخمة مثل مشروع المدن الصناعية الذي سينتج 875 ميغاواط والمشروع المرتقب لبناء محطة للطاقة الشمسيّة في منطقة دخان بقدرة إنتاجية تبلغ 2 جيغاواط. ومن المتوقّع أن تبلغ قدرة الطاقة الشمسية لشركة البترول القطرية “QatarEnergy” 4 جيغاواط، ما يساهم في حوالي 30 في المئة من إجمالي الطاقة في الدولة.10

في حين يُعتبر الغاز الطبيعي حالياً وقوداً انتقالياً أقل استهلاكاً للكربون مقارنةً بالفحم والنفط، فهو يخضع لرقابةٍ متزايدة في ظلّ الخطاب المتطوّر بشأن المناخ. ومع تسارع الوتيرة العالمية للانتقال نحو الطاقة المتجدّدة، تواجه استثمارات قطر الضخمة في الغاز الطبيعي خطر التحوّل إلى “أصول متعثّرة”. وقد تتكّبد قطر هذه الخسارة الاقتصادية المحتملة في حال أدّت القوانين المستقبليّة المتشدّدة بشأن الكربون إلى عدم قابليّة هذه الاستثمارات للتطبيق. وقد أظهرت المفاوضات الدوليّة حول المناخ نمطاً يستهدف تدريجياً مصادر انبعاثات محدّدة، بدءاً بالفحم ثم النفط، وفيما يمرّ الغاز الطبيعي حالياً بزيادةٍ مؤقتة، من المرجّح أن يصبح موضع نزاع في الأجلين المتوسّط والطويل.

يتمثّل أحد المخاطر التي تلوح في الأفق المنظور بإدخال اللوائح التنظيمية للاتحاد الأوروبي في أغسطس 2024 الرامية إلى خفض كثافة غاز الميثان من النفط والغاز الطبيعي المنتجَين محليّاً والمستوردَين. وتتطلّب هذه اللوائح من مزوّدي الغاز الطبيعي المسال تقديم تقارير عن أداء الميثان.11 علاوة على ذلك، وسّع الاتحاد الأوروبي نظام تداول الانبعاثات (ETS) ليشمل قطاع الشحن، ما يفرض ضريبة الكربون على شحنات الغاز الطبيعي المسال التي تدخل أوروبا.12 وقد عزّزت قطر في الماضي “أمن الطلب” من خلال تأمين عقود ثنائية طويلة الأمد مع عملاء في مناطق مختلفة. وتشكّل لوائح الاتحاد الأوروبي الجديدة، التي قد تحذو حذوها أنظمة أخرى في ولايات قضائية أخرى، تحدّياً وفرصة في الوقت نفسه أمام قطر لتمييز نفسها عن منتجي الغاز الطبيعي المسال الناشئين. على سبيل المثال، غالباً ما يرتبط منتجو الغاز الطبيعي المسال الأمريكيّين بمشاريع الغاز الطبيعي المسال كثيفة الكربون.13 في هذا السياق، يمكن لقطر الاستفادة من موقعها من خلال الإسراع في مواءمة إنتاجها للغاز الطبيعي المسال مع لوائح الاتحاد الأوروبي الصارمة المتعلّقة بكثافة الميثان والكربون، بل وتجاوزها. يشكّل التزام قطر بإزالة الكربون في إنتاجها للغاز الطبيعي المسال خطوةً إستراتيجيّة مهمة استجابةً للمخاوف البيئيّة المتصاعدة في ما يتعلّق بآثار دورة الحياة لإنتاج الوقود الأحفوري. وحدّدت قطر أهداف طموحة لخفض كثافة الكربون في منشآتها للغاز الطبيعي المسال بنسبة 35 في المئة وفي العمليات الأوليّة بنسبة 25 في المئة بحلول العام 2035، بغية تعزيز ميزتها التنافسيّة في سوق الغاز الطبيعي المسال العالمية. وتسمح هذه الإستراتيجيّة الاستباقيّة لقطر بتلبية الطلب المتزايد على طاقة أكثر نظافة وعلى غاز طبيعي مسال منخفض الكربون.

قد يساعد التنويع في قطاعات التكرير والبتروكيماويات في الحدّ من آثار هذا الخطر؛ لكنّه يأتي على حساب انخفاض الربحيّة بشكلٍ كبير. يُعزى ذلك إلى زيادة الإنتاج العالمي للمواد البتروكيماوية وغيرها من المنتجات النهائية، إذ تسعى دول أخرى غنيّة بالهيدروكربونات إلى التركيز على القطاع النهائي. كما وتخضع الصناعة البتروكيماويّة لمراقبة مطّردة بسبب المخاوف البيئيّة والصحيّة، لا سيّما تلك المتعلّقة بـ”الكيماويات الأبدية” والمثبطات الهرمونيّة وعدم التحلّل البيولوجي للبلاستيك.14 ومن المرجّح أن يواجه هذا القطاع في خلال العقد المقبل تخمةً ولوائح أكثر صرامة، ما من شأنه أن يحدّ الربحيّة بشكلٍ متزايد. وفيما يوفّر التنويع في القطاعات النهائية تدفّقاً أكثر استقراراً للإيرادات وتراجعاً في تقلّب الأسعار، قد يكون في نهاية المطاف أقل ربحيّة من صادرات الغاز الطبيعي المباشرة بسبب العوامل الآنفة الذكر.

مقاربة قطر الفريدة لإزالة الكربون

تختلف قطر في مقاربتها لإزالة الكربون عن الدول المجاورة. ففيما تسعى هذه الدول إلى أهداف وطنية لتحقيق الحياد الكربوني، تُركّز قطر على قطاعات معيّنة. ويعكس ذلك مخاوف بشأن الجدوى المبرّرة للتكييفات الاقتصاديّة السريعة ضمن المهل المقترحة لتحقيق هدف الحياد الكربوني.15 عوضاً عن ذلك، تهدف قطر إلى إزالة الكربون في صناعات محدّدة مثل الشقّ الأوّلي من قطاع الغاز الطبيعي المسال الضخم. وتُحقّق هذه المقاربة المدروسة توازناً بين المسؤوليّة البيئيّة والنمو الاقتصادي. في ظلّ الجهود المبذولة للحدّ من حرق الغاز، تشكّل إزالة الكربون على نطاقٍ أوسع في هذا القطاع تحدّياً بسبب العقبات التكنولوجية والاقتصادية التقنية المعقّدة مثل احتياجات البنى التحتيّة والمعدّات القديمة وتركيبات الغاز المتنوّعة.16 وقد أصبح تركيز قطر على توسيع الغاز الطبيعي المسال ومصادر الطاقة المتجدّدة أولويّةً تلقي بظلالها على الاستثمارات في الحدّ من حرق الغاز.

أعادت إستراتيجيّةُ قطر الوطنيّة للبيئة والتغيّر المناخي التي أُطلقت في العام 2021 التأكيد على مقاربة إزالة الكربون القطاعي، إذ حدّدت أهداف ملموسة على غرار ما ذُكر آنفاً من خفض كثافة الكربون بنسبة 25 في المئة في إنتاج الغاز الطبيعي المسال والعمليّات الأوّلية بحلول العام 2030. ويكمن العامل الرئيسي في مخطّط إزالة الكربون للغاز الطبيعي المسال في مشروع توسيع حقل الشمال، الذي يلحظ بناء أكبر منشأة لاحتجاز الكربون وتخزينه في صناعة الغاز الطبيعي المسال في رأس لفان لاحتجاز وتخزين ما يصل إلى 11 مليون طنًً من الكربون سنوياً.17 هذا ليس مشروعاً جديداً لقطر التي بنت على ممارسة قائمة لاحتجاز وتخزين 2,5 مليون طن من الكربون سنوياً منذ 2015/16.18 على الرغم من هذه الجهود المنسّقة والقطاعية، تحاول قطر احتلال مكانة رائدة من حيث المسؤوليّة البيئيّة داخل صناعة الغاز الطبيعي المسال الأوّلية. بيد أنّ نجاح هذه المبادرات رهن بالتطبيق العملي الفعّال والتقييم المستمرّ والابتكار التكنولوجي. لم يتّضح بعد ما إذا كانت مقاربة قطر المحدّدة الأهداف تستجيب بشكلٍ مناسب للضعوط الدوليّة المتصاعدة من أجل عملٍ مناخي شامل وسريع، ما سيكون له تداعيات طويلة الأمد على مكانة قطر العالمية وأهدافها المتعلّقة بالتنويع الاقتصادي

يُعدّ التزام قطر بالطاقة المتجدّدة وبالحدّ من آثار الكربون واعداً، على الرغم من أنّ تأثيره الكامل قد يستغرق وقتاً ليظهر. في مطلع العقد 2020، اتّخذت قطر نهجاً أكثر توازناً في تبنّي الطاقة المتجدّدة، فميّزت نفسها عن الإستراتيجيات ذات الوتيرة الأسرع التي اتّبعتها نظيراتها الإقليمية على غرار المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. إلّا أنّ هذا النهج يعكس نظرة قطر المتأنّية لأهداف الاستدامة في الأجل البعيد وإستراتيجيّها الأوسع في مجال الطاقة. وينبع هذا التباين من تداخل فريد لعوامل داخليّة، حيث يشكّل عدد سكان القليل ووضعها المالي المتين والحجم الهائل لاحتياطيها من الغاز الطبيعي معالم إستراتيجيّتها في مجال الطاقة وتساهم كل هذه العوامل في هذا التفاوت.

بالإضافة إلى ذلك، يُشار إلى قطر أحياناً -وبشكل غير منصف- كواحدة من الدول ذات أعلى انبعاثات الكربون للفرد عالمياً، خاصةً بسبب قلة عدد سكانها، ومع ذلك، يجب الاعتراف بأنّ إجمالي انبعاثاتها الوطنية يُعتبر منخفضاً نسبياً. وتطرح هذه المفارقة أسئلة مهمّة حول المسؤولية التاريخية والإرث الاستعماري للشمال العالمي في رسم معالم الجهود العالمية للحدّ من آثار تغيّر المناخ. نتيجةً لذلك، قد يبرز تصوّر بأنّ قطر لا تستعجل في تسريع تحوّلها وابتعادها عن الاقتصاد المعتمد على الهيدروكربونات.

 

التوصيات والخاتمة: السُبُل الإستراتيجية لتحوّل قطر في مجال الطاقة

على الرغم من التقدّم المحرز، لا يزال اتّجاه قطر وسرعتها المحدّدة في ما يتعلّق بالتحوّل في مجال الطاقة المتجدّدة قيد التطوّر. مع ذلك، قد يساهم وضع سياسة شاملة وإطار تنظيمي لدعم توسيع مشاريع الطاقة المتجدّدة وتحرير قطاع الطاقة واعتماد تقنيّة احتجاز الكربون وتخزينه وإزالة الكربون في مختلف القطاعات، في تسريع التقدّم نحو تحقيق أهداف الدوحة حول المناخ ورؤية قطر 2030.

تتطلّب أهداف قطر لتوسيع قدرات الطاقة المتجدّدة وتحقيق غايات إزالة الكربون إطاراً قانونياً وتنظيمياً شاملاً يتمحور حول المناخ. وفيما تُشرف “كهرماء” حالياً على تنظيم إنتاج الكهرباء، سيكون من الضروري اتّباع نهج تنظيمي أكثر تخصّصاً لدعم هذا التحوّل في مجال الطاقة. ورغم أنّ قطاع الطاقة في قطر لا يزال متكاملاً رأسياً إلى حدّ بعيد، تتبنّى الدولة تدريجيّاً نموذج منتج الطاقة المستقل (IPP)، تماشياً مع أهداف رؤية 2030 لتشجيع الابتكار وجذب الاستثمار. ولتسهيل هذا التوسّع، يمكن أن يتضمّن الإطار التنظيمي آليات مثل شهادات الطاقة المتجدّدة وبرامج دعم تقنيات احتجاز الكربون وتخزينه (CCS)، بما في ذلك الشراكات بين القطاعين العام والخاص (PPPs) بشروط تمويل موجّهة نحو الاستدامة لمشاريع الطاقة المتجدّدة الواسعة النطاق، وأدوات التمويل الأخضر مثل السندات الخضراء. فيما تفتقر قطر حالياً إلى العوامل الضروريّة التي تُمكّنها من إنشاء سوق وطنيّة ناجحة للكربون، مثل اقتصاد صغير نسبياً وسيولة سوقيّة محدودة، قد تنشأ مقاييس النجاح المحتملة بالتزامن مع سوق إقليمية أوسع للكربون. وبينما تُطوّر الدول المجاورة على غرار المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة أُطرهما الخاصة، قد تربط قطر سوقاً وطنيّة مستقبليّة للكربون بإطارٍ إقليمي.

من شأن كل هذه المبادرات المتمحورة حول البيئة أن تساهم في دفع تطوير الطاقة المتجدّدة وتعزيز جهود قطر لتتماشى الأهداف الإنمائية لرؤية 2030 مع الأهداف الدوليّة بشأن المناخ وإرساء قاعدة للإصلاحات المستقبليّة واستثمارات القطاع الخاص الواعية بيئياً. وتجدر الإشارة إلى أنّه نظراً لاعتماد قطر الكبير على تصدير الغاز الطبيعي، تكمن مصالحها الطويلة الأجل في تعزيز فعّالية تقنيّات احتجاز الكربون وتخزينه بشكلٍ نشط كأداةٍ رئيسيّة للحدّ من المخاطر المحتملة المرتبطة بالأنظمة المناخية الدوليّة التي تزداد صرامةً. ورغم ثروتها الهائلة من الغاز الطبيعي وفي ظلّ تسارع عملية إزالة الكربون على المستوى العالمي، لا تزال الطاقة المتجدّدة تقدّم لقطر منافع جيوسياسية واقتصادية وبيئية كبيرة.19 لا يخلق هذا الإطار المعزَّز بيئةً مستقرّة للاستثمار والابتكار في قطاع الطاقة المتجدّدة الناشئ في قطر فحسب، لدعم جهودها الرامية إلى التنويع الاقتصادي الكلّي، بل يؤمّن أيضاً فرصة إستراتيجيّة لتعزيز مكانتها الدولية ودفع طموحاتها الجيوسياسية قدماً. وبإمكان قطر، من خلال فرض نفسها في طليعة العمل المسؤول في مجال المناخ، أن تنسج “شراكات مناخية” إستراتيجية ذات استثمارات موجّهة نحو سوق الكربون والطاقة النظيفة في الجنوب العالمي. ومن خلال توظيف مبادرات التعاون المناخي بين دول الجنوب بشكل إستراتيجي كعنصر أساسي في سياستها الخارجيّة، تستطيع قطر أن تعزّز نفوذها الجيوسياسي جذرياً في “عالم ما بعد النفط” الذي يقترب بسرعة.

 


الهوامش

1 Jamie Ingram, “Qatar Revenues Soar on Record LNG Prices,” MEES, February 10, 2023,
2 A. Narayanan and F. Lacqua, “Qatar Fund to Reposition $450 Billion Portfolio Amid Turmoil,” Bloomberg News, January 16, 2023.
3 Jennifer Gnana, “QatarEnergy Boosts LNG Expansion Plans Again to 142 Million MT/Year,” S&P Global, February 25, 2024, https://www.spglobal.com/commodityinsights/en/market-insights/latest-news/natural-gas/022524-qatarenergy-boosts-lng-expansion-plans-again-to-142-mil-mtyear.
4للمزيد من القراءة حول بداية النقص في تخصيص الغاز وآثاره التي أثّرت في الدول الخليجية كافة ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الغنيّة بمصادر الطاقة، باستثناء قطر، في أواخر العقد 2000 ومطلع العقد 2010، أنظر:
Justin Dargin, “Trouble in Paradise – The Widening Gulf Gas Deficit,” Middle East Economic Survey, September 29, 2008; Raed Kombargi, Otto Waterlander, George Sarraf, and Asheesh Sastry, Gas Shortage in the GCC: How to Bridge the Gap (Booz & Co., 2010).
5 Suyash Pande et.al, “Qatar Energy’s Long-Term LNG Contracts with European Buyers Likely to Include Natural Gas Indexation,” S&P Global, October 31, 2023, https://www.spglobal.com/commodityinsights/en/market-insights/latest-news/lng/110923-qatarenergy-sinopecs-long-term-lng-contract-likely-priced-around-127-slope-to-oil#:~:text=The%20LNG%20contracts%20between%20Qatar%20Energy%20and%20Shell%2C,contract%20will%20have%20to%20be%20delivered%20within%20China.
6 من المتوقّع أن تدوم موارد الغاز الطبيعي في قطر، بمعدّلات الاستخراج الحالية، نحو 200 عام أو أكثر.
7 “Climate in Doha (Qatar),” Weather & Climate, n.d., https://weather-and-climate.com/average-monthly-Rainfall-Temperature-Sunshine,doha,Qatar.
8 State of Qatar General Secretariat for Development Planning (GSDP), Qatar National Vision 2030, (Doha, Qatar: Government Communications Office, July 2008), 5, https://www.gco.gov.qa/wp-content/uploads/2016/09/GCO-QNV-English.pdf.
9 Qatar Ministry of Development Planning and Statistics, Qatar National Development Strategy 2011–2016 (Doha: Qatar Ministry of Development Planning and Statistics, 2016), https://www.psa.gov.qa/en/knowledge/Documents/Qatar_NDS_reprint_complete_lowres_16May.pdf.
10 Oliver Kleinschmidt, “QatarEnergy Set to Double Qatar’s Solar Capacity,” Energy Global, September 4, 2024, https://www.energyglobal.com/solar/05092024/qatarenergy-set-to-double-qatars-solar-capacity/; Anna Ivanova, “QatarEnergy Unveils 2 GW Solar Project,” Renewables Now, September 2, 2024, https://renewablesnow.com/news/qatarenergy-unveils-2-gw-solar-project-867697/.
11 European Commission, “New EU Methane Regulation to Reduce Harmful Emissions from Fossil Fuels in Europe and Abroad,” press release, May 27, 2024, https://energy.ec.europa.eu/news/new-eu-methane-regulation-reduce-harmful-emissions-fossil-fuels-europe-and-abroad-2024-05-27_en.
12 European Commission, “Reducing Emissions from the Shipping Sector,” Europa, https://climate.ec.europa.eu/eu-action/transport/reducing-emissions-shipping-sector_en/.
13 Ben Cahill and Hatley Post, “EU Methane Rules: Impact for Global LNG Exporters,” Center for Strategic and International Studies, May 3, 2024, https://www.csis.org/analysis/eu-methane-rules-impact-global-lng-exporters.
14 مواد السلفونات المشبعة بالفلور ألكيل (PFAS)والمعروفة أيضاً بـ”الكيماويات الأبدية”، هي مجموعة من أكثر من 10 آلاف مادة كيميائية اصطناعية شديدة الثبات، غالباً ما تكون من نواتج صناعة البتروكيماويات، ولا تحدث بشكلٍ طبيعي. هذه المواد الكيميائيّة مقاومة للغاية للتحلّل وقد وُجدت في دم الإنسان وحليب الثدي والحياة البريّة في شتّى أنحاء العالم. وهي منتشرة في المنتجات اليومية مثل تغليف الأغذية والملابس ومستحضرات التجميل وورق التواليت. وأظهرت دراسات متعدّدة أنّها مرتبطة بمجموعة من المشاكل الصحيّة مثل السرطان وارتفاع الكوليسترول وأمراض الغدة الدرقية وتلف الكبد والربو والحساسية وضعف الاستجابة للقاحات لدى الأطفال. وترتبط أيضاً بانخفاض الخصوبة وانخفاض الوزن عند الولادة والعيوب الخلقية وتأخّر النمو عند حديثي الولادة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمواد المسبّبة باختلال الغدد الصمّاء، التي تشمل المركبات الاصطناعية والمعادن الثقيلة، أن تتداخل مع وظيفة الهرمونات وتزيد من خطر الإصابة بالسرطان وبأمراض القلب والأوعية الدموية والعقم ومشاكل صحيّة أخرى. أنظر: Program on Reproductive Health and the Environment, “Petrochemical Proliferation Contributing to Rise in Health Problems,” March 6, 2024; Harvard T.H. Chan School of Public Health, “Protecting Against ‘Forever Chemicals,’” March 16, 2023.
15 A. Mills and T. Hepher, “Qatar Airways CEO Suggests 2050 Net-Zero Goal Beyond Reach,” Reuters, May 23, 2023, https://www.reuters.com/business/aerospace-defense/qatar-airways-ceo-doubts-2050-net-zero-goal-can-be-reached-2023-05-23/.
16 بدأت قطر برنامجها للحدّ من حرق الغاز في العام 2012، محرزةً بعض التقدم رغم استمرار التحدّيات. جزء كبير من الغاز المشتعل هو الغاز المصاحب الذي يتطلّب استثمارات كبيرة في البنية التحتية – مثل خطوط الأنابيب ومرافق المعالجة وقدرات إعادة الحقن – لاحتجازه واستخدامه. ويستخدم عدد من المرافق الموجودة في قطر معدّات قديمة، ما يجعل من الصعب احتجاز الغاز ومعالجته ويزيد من كلفة تحديثه. علاوة على ذلك، تتطلّب تركيبة الغاز المصاحب المتنوّعة تقنيات معالجة مرنة في حين تؤثّر التكاليف التشغيلية المرتفعة في الجدوى الاقتصادية لمشاريع الحدّ من الحرق. بالإضافة إلى ذلك، غالباً ما يؤدّي التركيز في قطر على توسيع قدرة تصدير الغاز الطبيعي المسال والطاقة المتجدّدة إلى تهميش استثمارات الحدّ من الحرق. للحصول على المزيد من المعلومات حول مبادرات قطر في الحدّ من الحرق والتقدّم المحرز، يرجى مراجعة: World Bank Group, Qatar’s Journey to End Routine Gas Flaring, Global Flaring and Methane Reduction Partnership (GFMR) Brief, n.d.; Mohsin Raja, et al, Qatargas Flare Reduction Program, in Advances in Gas Processing: Proceedings of the 4th International Gas Processing Symposium, ed. Mohammed J. Al-Marri and Fadwa T. Eljack (Elsevier, 2015), 261-271.
17 “GE Helps QatarEnergy Develop a Carbon Capture Hub at Ras Laffan,” Gas to Power Journal, October 3, 2022, https://www.gastopowerjournal.com/markets/item/13020-ge-helps-qatarenergy-develop-a-carbon-capture-hub-at-ras-laffan.
18 Santhosh V. Perumal, “Qatar plans to capture up to 11mn tonnes of carbon per annum,” Gulf Times, June 21, 2022, https://www.gulf-times.com/story/719637/Qatar-plans-to-capture-up-to-11mn-tonnes-of-carbon-per-annum.