أظهر الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مهارةً في إدارة العلاقات الدولية المعقّدة على عكس توقّعات الكثيرين بأن تتّسم ولايته بالعزلة والجدالات. يشير هذا الفصل إلى أنّ رئيسي قد عزّز مكانة إيران على الساحة الدولية، لا من خلال تطوير إستراتيجية جديدة، بل من خلال البناء على الأساس الذي وضعه أسلافه. إذ استفاد من الإستراتيجيات الدبلوماسية التي تبنّتها الإدارات السابقة، بما فيها الردع غير المتماثل والتوجه الإقليمي وإستراتيجية “التوجّه شرقاً”. علاوة على ذلك، لقد أحيت إدارته “سياسة الجوار” وعزّزت العلاقات مع أمريكا اللاتينية.
يوضّح القسم الأول من هذا الفصل التحديات التي ورثها رئيسي، يليها تقييم لردوده اللاحقة. ويناقش بأنّ سياساته ليست إلّا استمراراً للسياسة الخارجية الإيرانية القائمة بدلاً من تقديم نهج مختلف. علاوة على ذلك، أثبتت هذه الاستمرارية فعّاليتها في التخفيف من حدّة عزلة البلاد وإعادة تأكيد نفوذها في الخليج والمنطقة ككل. وفي ظلّ الحرب المستمرّة على غزة والمناورات الدبلوماسية الإيرانية بعد 7 أكتوبر 2023، وضعت هذه الإستمرارية طهران في موقع المستفيد بصرف النظر عن نتيجة الحرب.
أثارت وفاة مهسا أميني عندما كانت محتجزة لدى شرطة الأخلاق في 16 سبتمبر 2022، اضطرابات اجتماعية وسياسية في إيران. وعندما قامت تظاهرات شعبية حاشدة، انتشرت التكهّنات حول مستقبل الجمهورية الإسلامية الإيرانية على المدى القريب ومكانتها في المنطقة. في ذلك الوقت، كان قد مرّ عام واحد فقط على تولّي إبراهيم رئيسي الرئاسة، والذي كان يواجه أساساً انتقادات حادّة بسبب سجلّه في مجال حقوق الإنسان كرئيس للسلطة القضائية من العام 2019 إلى العام 1.2021 وضمن رئيسي الفوز في انتخابات العام 2021، بعد هزيمته السابقة أمام حسن روحاني في العام 2017، على الرغم من أنّ نسبة المشاركة كانت في أدنى مستوياتها على الإطلاق حيث بلغت 48,8 في المئة.2 وقد جعله هذا الفوز، بفارق 18 مليون صوت فقط، الرئيس الأقل شعبية في إيران منذ العام 1997. وفي العام 2018، انسحبت الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA) في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب وأعادت فرض عقوبات صارمة على إيران . وأدّى ذلك، بالتزامن مع أزمة جائحة فيروس كورونا المستجد إلى تفاقم الانكماش الاقتصادي في البلاد وزيادة تعقيد المشهد السياسي. واندلعت الاحتجاجات الشعبية في أنحاء البلاد كافة، حيث طالب الجمهور بحلول فورية، مشكّكة في ارتياحها من الرئيس المنتخب حديثاً.
بحلول العام الثاني من ولاية رئيسي، بدأت مكانة طهران العالمية والإقليمية تتحسّن. تاريخياً، استغلّ القادة الإيرانيون سياسة الدولة الخارجية لاكتساب المصداقية في الداخل. واستمرّ رئيسي في تبنّي هذا النهج، مستخدماً نجاحات السياسة الخارجية لتعزيز فرص إعادة انتخابه في العام 2025 وتطلّعاته في أن يصبح المرشد الأعلى القادم للجمهورية الإسلامية. وقد حقّق الرئيس مكاسب كبيرة على الساحة الدولية، إذ أعاد تفعيل مكانة إيران العالمية وعزّز التحالفات الإقليمية من خلال تخلّيه عن دبلوماسية التباهي التي اعتمدها أسلافه.
وشكّلت مصالحة إيران المعجّلة مع خصمها الإقليمي المملكة العربية السعودية، والتي تحقّقت في بكين في 10 مارس 2023 بدعم من العراق وسلطنة عمان، إنجازاً مهماً.3 وفي حين لا تزال المزايا والتفاصيل الدقيقة لاتفاقية 2023 قيد المناقشة، تمثّل سرعة إعادة فتح السفارتين في الرياض4 وطهران منعطفاً مهمّاً في الدبلوماسية الإقليمية.5 وكانت العلاقات بين الدولتين قد انقطعت بعد أن اقتحم متظاهرون غاضبون من إعدام رجل دين شيعي مكاتب دبلوماسية سعودية في إيران في العام 6.2016 وذكّرت إتفاقية 2023 لإعادة العلاقات الدبلوماسية باستئناف العلاقة بين إيران والإمارات العربية المتحدة في وقت سابق من العام 7.2022 وانعكس هذا التوجّه الجديد في المحادثة الهاتفية الأولى بين الرئيس رئيسي وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في خلال الحرب على غزة، ما يشير إلى مرحلة من التحوّل في العلاقات الدبلوماسية الإيرانية. كما فتح التقارب السعودي الإيراني آفاقاً للحوار مع دول إقليمية أخرى مثل البحرين ومصر. ومع ذلك، فإنّ هذه الصفقة بالكاد تعيد إحياء إتفاقية التعاون الأمني بين السعودية وإيران التي جرى توقيعها في أبريل 2001 في عهد محمد خاتمي.8
لقد تخطّت إنجازات إيران الدبلوماسية مجرّد تعزيز العلاقات مع الدول المجاورة وتقوية مكانتها على الصعيد العالمي، ووصلت إلى حدّ حصول إيران على العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي للتعاون في العام 9،2022 تليها دعوة في العام 2024 للانضمام إلى مجموعة البريكس.10 بالإضافة إلى ذلك، ظهرت إيران كداعم رئيسي لسوريا، حيث طالبت بعودتها إلى جامعة الدول العربية، وبالتالي تعزيز الاعتراف الإقليمي بها بعد عقد طويل من العزلة داخل المجتمعات العربية.11
وعلى الرغم من التقدّم الكبير الذي أُحرِز على المستوى الإقليمي، إلّا أنّ النزاع مع الولايات المتحدة في الملف النووي وصل إلى طريق مسدود في ظلّ غياب أي إنجاز يُذكر منذ تولّي الرئيس جوزيف بايدن الرئاسة، على الرغم من عملية تبادل الأسرى الأخيرة.12 ومع ذلك، لم يعق هذا الطريق المسدود الجوانب الأخرى من أجندة رئيسي للسياسة الخارجية. فقد استخدم بمهارة الأساليب الدبلوماسية التي اتّبعتها الحكومات السابقة، بما في ذلك إستراتيجية الردع غير المتماثل والتركيز على التوجّه الإقليمي وسياسة “التوجّه شرقاً”. وأدّت هذه المقاربات التي تبنّتها الإدارات السابقة، بما في ذلك إدارة الرئيسين محمود أحمدي نجاد (2005–2013) وحسن روحاني (2013–2021)، دوراً هاماً في الحدّ من عزلة إيران وإعادة التأكيد على دورها المركزي في منطقة الخليج والشرق الأوسط الأوسع.
ويشير تحليل سياسة رئيسي الخارجية إلى اعتماد إستراتيجي على البنية التحتية الدبلوماسية التي طوّرها أسلافه، بدلاً من رسم مسار جديد في العلاقات الخارجية. وقد شهدت ولاية رئيسي عودة نهج “حسن الجوار” تجاه الدول الخليجية المجاورة ــ وهي السياسة التي طرحها الرئيس هاشمي رفسنجاني لأول مرّة في التسعينيات – وإعادة تنشيط سياسة أحمدي نجاد تجاه أمريكا اللاتينية. ويعكس ذلك تطويراً للسياسات التقليدية أكثر منه تحوّلاً. كما يتوافق الانفتاح الأخير على دول مجلس التعاون الخليجي مع المسار الذي حدّدته مبادرة هرمز للسلام التي أطلقها روحاني في ديسمبر 13.2019
وتشير صفقة تبادل السجناء بين إيران والولايات المتحدة، التي أُعلن عنها في أغسطس 2023 وجرت في سبتمبر، إلى جانب الإفراج عن ستة مليارات دولار كانت مجمّدة سابقاً في كوريا الجنوبية بسبب العقوبات الأمريكية، إلى اتّساع المجال الدبلوماسي أمام رئيسي للمناورة في مواجهة بايدن.14 ولم يشر هذا التطوّر إلى احتمال رأب الصدع في العلاقات الثنائية فحسب، بل كشف أيضاً عن إمكانيات جديدة للحوار واحتمال إنشاء “خطة عمل شاملة مشتركة 2.0” تكون أكثر شمولاً. وقد تتضمّن هذه الاتفاقية اعتبارات تتعلّق بدور إيران الإقليمي، الأمر الذي لم ترغب طهران النظر فيه في السابق.
وقد تؤدّي الحرب الحالية على غزة إلى عرقلة سبل التقارب المحتملة هذه. وفي أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، حمّل عدد من الدول والمحلّلين إيران المسؤولية باعتبارها الداعم المالي والسياسي الرئيسي لحماس. وزعمت صحيفة وول ستريت جورنال أنّ وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان قد عقد اجتماعات في غزة ولبنان مع ممثّلين عن مختلف الفصائل لتخطيط الهجوم وتنظيمه.15 وقد دحض المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي هذه الادّعاءات، مؤكّداً أنّه في حين تدعم إيران حماس باستمرار، غير أنّها لا تتحكّم بإستراتيجياتها أو قراراتها السياسية.16 وعلى الرغم من ذلك، أشادت وسائل الإعلام الإيرانية بالهجمات، وعلّق عدد من المسؤولين الإيرانيين على ضعف إسرائيل وإرادة الفلسطنيين المستمرّة في تحدّي الكيان الصهيوني، بدعم من “محور المقاومة”، وبقيادة إيران. كما انتقدوا الدول العربية لسعيها للتطبيع مع إسرائيل.17 وأشار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بعد أيام قليلة من أحداث 7 أكتوبر إلى عدم وجود دليل ملموس يربط إيران بالهجوم بشكل مباشر،18 ما يعزّز مزاعم إيران بعدم تورّطها. وصرّح المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي، دانيال هاغاري، أنّه لا يمكن لإسرائيل ربط إيران بشكل قاطع بالتخطيط للهجمات أو تنفيذها،19 بصرف النظر عن دعمها المعروف لحماس على مرّ السنوات.
لقد رفضت إيران من دون تردّد إبرام أي اتفاق مع إسرائيل، بدءاً من اتفاقيات كامب ديفيد (1979) إلى اتفاقيات مدريد-أوسلو (1991-1994)، وآخرها اتفاقات أبراهام (2020). ويلقى هذا الموقف صدى لدى الشعوب العربية التي غالباً ما تعبّر عن دعمها للقضية الفلسطينية أكثر منه للقادة الإيرانيين. وتشير التوجّهات الجيوسياسية الأخيرة إلى أنّ دعم إيران المستمرّ لمجموعات مثل حماس قد أدّى إلى تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط والعالم العربي بشكل عام.20 ولا يقتصر هذا الشعور على المسلمين أو العرب فحسب، بل يمتدّ إلى الفئات المناهضة للإمبريالية في الجنوب العالمي. وبتجاوز إيران للأعراف الدبلوماسية التقليدية، تسعى طهران من خلال تأييدها الصريح لهذه الهجمات إلى التواصل والانسجام مع الجهات المحرومة من حقوقها بسبب توطيد حكوماتها للعلاقات مع إسرائيل. والأهمّ من ذلك هو أنّ هذا التوجّه الذي يقوده رئيسي ليس بجديد، بل هو امتداد لنهج السياسة الخارجية القديم والذي تعود جذوره إلى حقبة مؤسس الجمهورية الإسلامية روح الله الخميني.
وفي هذا السياق، خدمت لقاءات أمير عبد اللهيان مع إسماعيل هنية في الدوحة منذ 7 أكتوبر هدفين.21 أولاً، أظهرت علناً دعم إيران الثابت لحماس والقضية الفلسطينية أمام المجتمع الدولي. ثانياً، شكّلت استعراضاً للقوة أمام المنطقة الأوسع، وأمام إسرائيل والولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، أشار الاتفاق الأمريكي الإيراني لتبادل السجناء والافراج عن ستة مليارات دولار من الأصول الإيرانية إلى انفتاح واشنطن لتخفيف الضغط على إيران، أقلّه قبل 7 أكتوبر. كما أشار إلى أنّ الولايات المتحدة قد تجد صعوبة في التراجع عن الاتفاق الذي توسّطت قطر في تحقيقه من دون إثارة رد فعل أكبر من إيران.22
علاوة على ذلك، برزت إيران في استجابتها للصراع في غزة كجهة فاعلة إقليمية تدعو إلى احتواء التداعيات الإقليمية، حتى في ظلّ تحذيراتها المتكرّرة لإسرائيل. وكانت المحادثة الهاتفية غير المسبوقة بين رئيسي وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان،23 والتي تمحورت حول غزة، بمثابة مؤشّر واعد على الجهود الدبلوماسية التي تبذلها المنطقة لوقف التصعيد. ويمكن وصف هذا التقارب الخاص بين العناصر المختلفة لنهج السياسة الخارجية الذي يتبنّاه رئيسي بـ”البراغماتية الثورية”.24 ومع ذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا المزيج من الإستراتيجيات لا يُعزى إلى رئيسي وحده؛ فهو يعكس التكتيكات التي سبق أن استخدمها أسلافه مثل أحمدي نجاد.
وبينما توقّع الكثيرون أن تتّسم إدارة رئيسي بالعزلة، أظهر الرئيس الإيراني مهارةً في خوض غمار الدبلوماسية الدولية المعقدّة. فبدلاً من رسم مسار جديد، أحرز تقدّماً كبيراً من خلال البناء على الأساس الذي وضعه أسلافه، وبالتالي أعاد إيران إلى الخارطة العالمية وعزّز انخراط إيران في الشأن الإقليمي من خلال تبنّي مقاربة استباقيّة. وعلى الرغم من التحدّيات الكبيرة التي تهدّد إيران وتحديداً في القطاعين الاقتصادي والاجتماعي، إلّا أنّ إستراتيجيات رئيسي لا تعكس صورة إيران القوية داخل المنطقة فحسب، بل تلك العازمة على توسيع نفوذها على المستوى الدولي على حدّ سواء.
لعلّ الإستراتيجية التي تبنّاها رئيسي تقوم على “غياب الإستراتيجية” نظراً لأنّه لم يصغ خطة إقليمية أو عالمية لإدارته، بل يبني على مقاربات أسلافه، وأبرزهم روحاني وأحمدي نجاد. وفي حين حقّقت هذه المقاربات الموروثة المكاسب في بداية ولاية رئيسي، إلّا أنّ مساعيه لتمييز أسلوبه في القيادة عن أسلوب أسلافه لم تظهر بشكل واضح بعد.