أعلن إبراهيم رئيسي بعد فترة وجيزة من انتخابه رئيساً لإيران في العام 2021، أنّ تحسين علاقات إيران مع الدول المجاورة لها يمثّل هدفاً من أهداف سياسته الخارجية الرئيسية. وفي غضون أشهر، قامت الإدارة الجديدة في طهران بصياغة “سياسة الجوار” التي نصّت على تحسين علاقات إيران مع الدول العربية المجاورة لها، وتحديداً المملكة العربية السعودية.1 إنّ الجهود الرامية إلى تحسين علاقات إيران مع الدول المجاورة لها في مرحلة ما بعد الثورة ليست جديدة، فقد برزت في خلال إدارات الرؤساء السابقين أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي وحسن روحاني. ولكنّها المرة الأولى التي تتبنّى فيها الحكومة الإيرانية رسمياً سياسة حسن الجوار كنهجٍ رسميّ.
يتناول هذا الفصل المعايير والأهداف غير المستكشفة حتى الآن لنهج السياسة الخارجية الجديد الذي اعتمده رئيسي. ويناقش بأنّ سعي طهران المدروس لبناء علاقات جيدة مع الدول المجاورة لها قد تضافر مع عدد من العوامل الخارجة عن سيطرة إيران – لا سيّما تقبّل المملكة العربية السعودية الأخير للمبادرات الإيرانية – ليحقّق نتائج مهمّة. وبذلك يكون رئيسي، المعروف بأنّه محافظ، قد حقّق نجاحاً كبيراً حيث فشلت محاولات الإصلاحيين والمعتدلين الإيرانيين. ولا يُنسَب هذا النجاح الجزئي إنّما المهمّ إلى رئيسي وحده، إذ ساعده إلى حدّ كبير عدد من العوامل الهيكلية الأكبر التي تتكشّف في منطقة الخليج ومنطقة الشرق الأوسط الأوسع وغيرها. ومع ذلك، يستحقّ الرئيس الإيراني الثناء لأنّه نجح في خفض التوتّرات بين إيران ومعظم الدول المجاورة لها إلى حدّ كبير.
على الرغم من الجهود العابرة التي بذلها قادة الجمهورية الإسلامية لتحسين علاقات إيران مع الدول العربية المجاورة لها – ولا سيما الرؤساء رفسنجاني وخاتمي وروحاني – ظلّت العلاقات الإيرانية العربية متوتّرة باستمرار منذ الثورة الإيرانية في العام 2.1979 في الواقع، اندلعت حرب باردة بين إيران والدول العربية، عندما اقتحمت حشودٌ السفارةَ السعودية في طهران والقنصلية السعودية في مشهد في يناير 2016، وأضرمت النار في المبنيين.3 وقعت هذه الهجمات على خلفية الحروب الأهلية في سوريا واليمن، حيث دعمت إيران ودول عربية مجاورة لها أطرافاً متعارضة. في الواقع، أصبحت سوريا واليمن ساحات قتال رئيسية بين المجموعات المسلّحة المدعومة من إيران وتلك المموّلة من المملكة العربية السعودية ودول عربية حليفة لها. وفي الوقت نفسه، اتّهمت طهران الرياض والمنامة مراراً بالتدخل في شؤونها الداخلية وإثارة الاضطرابات في البلاد.4 وأكّدت كلّ من المملكة العربية السعودية والبحرين على أنّ إيران تواصل طموحاتها المتمثّلة في تصدير ثورتها، وزعزعة استقرار المنطقة، وتعطيل تدفّق الطاقة الحرّ إلى خارج منطقة الخليج.5 وقد شبّه وليُّ العهد السعودي محمد بن سلمان المعروف بعلانيته المرشدَ الأعلى الإيراني علي خامنئي بهتلر.6
ورأت طهران، في سياق سعيها إلى تحسين العلاقات مع البلدان المجاورة لها، أنّ المملكة العربية السعودية أساسيّة لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية الأخرى. ترى طهران أنّ المملكة العربية السعودية تنخرط في “دبلوماسية الدولار”، مستخدمة براعتها المالية لضمان بقاء الدول الأقل ثراء ذات الأغلبية المسلمة على مسافة من إيران.7 ورأت الحكومة الإيرانية أنّ العلاقات العربية الإيرانية الأوسع لن تتحسّن طالما تقوم السعوديّة باستمالة العواصم العربية الأخرى أو بتهديدها للحفاظ على مسافة من طهران.8 لذلك، عندما يتعلّق الأمر بالمملكة العربية السعودية، فإنّ إيران المعروفة بانقساماتها الداخلية، موحَّدة بشكل ملحوظ منذ العام 2021 في دعوتها المستمرّة لتحسين العلاقات مع المملكة. وعلى الرغم من الإصرار الإيراني، لم ترَ الرياض أيّ مكاسب إستراتيجية تُذكر في الانخراط في حوار وتدابير مكثّفة للحدّ من التوتّر مع إيران إلّا حتّى الاتفاق الذي حصل في مارس 2023. إذ اتّسمت العلاقات بين الجانبين بانعدام متبادل للثقة.9
صحيح أنّ تبنّي إيران سياسة حسن الجوار حديث، إلّا أنّ المقاربة العامة وفوائدها المتعدّدة ليست بالأمر الجديد. ولذلك يستهلّ الفصل بعرض موجز لمفهوم الجوار، والشروط المسبقة الضرورية لتحقيقه، والدافع المحتمل لتبنّيه. ثمّ يتناول الفصل سعي إيران لبناء علاقات حسن الجوار، وإن كانت فاترة في معظم الأحيان. وبصرف النظر عن بعض الاعتبارات السياسية والإستراتيجية التي قد تظهر من وقت لآخر، تقوّض ثلاث مجموعات من العوامل الهيكلية – على المستويات المحلية والإقليمية والدولية – تطبيق طهران بفعاليّة لسياسة حسن الجوار مع معظم الدول العربية في المنطقة. وما لم تُحلّ هذه العقبات المحلية والإقليمية والدولية، ستبقى الجهود الإيرانية الرامية إلى تحسين العلاقات مع الدول المجاورة لها، وتحديداً العربية منها، في أحسن الأحوال فعّالة بشكلٍ جزئيّ ليس إلّا.
انطلقت محاولة إيران الجادة الأولى منذ عقد من الزمن لتوطيد علاقاتها مع البلدان المجاورة لها في العام 2017 في قضية قطر في أعقاب ما يُعرف اليوم بـ”الأزمة الخليجية”.10 واتّخذت الدولتان، اللتان كانتا على طرفي نقيض في العام 2011 بعد بداية الانتفاضات العربية، خطوات لتوطيد العلاقات بعد فرض السعودية وحلفائها حصاراً على الدوحة.11 وقد دفع تطوّر هذه العلاقات تدريجيّاً بإيران إلى أن تأمل في تحسين علاقاتها مع الدول العربية الأخرى. وفي هذا الصدد، اتّخذت طهران أهمّ خطوة في سياسة حسن الجوار التي اعتمدتها في العام 2019 تحت مظلّة مبادرة هرمز للسلام (HOPE)، التي طرحتها إدارة الرئيس حسن روحاني.12 صُمّم الاقتراح، الذي طُرح للمرة الأولى في الدورة الرابعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، لإيجاد حلول لضمان الأمن في منطقة الخليج وضمان “أمن الطاقة، وحرية الملاحة، وتبادل المعلومات، والحدّ من التسلّح، ومنع الصراعات، وعدم الاعتداء”.13
وعلى الرغم من أنّ الاقتراح تضمّن سلسلة من التدابير التي هدفت إلى بناء الثقة وتعزيز التعاون المتعدّد الأطراف، إلّا أنّه فشل في إحداث ردود فعل إيجابية من جانب الدول العربية المجاورة لإيران.14 في ذلك الوقت، كانت المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة تأمل بشكلٍ خاص في أن تثمر سياسة “الضغط الأقصى” التي تنتهجها الولايات المتحدة إزاء إيران وتؤدّي إلى تغيير النظام، أو أقلّه تغيير سلوك القادة الإيرانيين. إلّا أنّها أثبتت عدم فعاليّتها. تولّت إدارة أمريكية جديدة مهام الرئاسة في العام 2021، وبدأت كلّ من السعودية والإمارات تشعر بخطورة أخطائها في الحرب التي شنّتها في اليمن في العام 2015. وبدأت المملكة تدرك تدريجيّاً أنّ الانفراج مع إيران قد يصبّ في مصلحتها.15
بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، أدّت عوامل متعدّدة دوراً مؤثّراً؛ منها الحرب في اليمن التي لا تحظى بتأييد شعبي ولا يمكن الفوز بها؛ الفشل الواضح لسياسات المواجهة تجاه كلّ من إيران وقطر؛ الآثار المركّبة لجائحة فيروس كورونا المستجدّ؛ فضلاً عن الحاجة إلى تحسين صورتها العالمية في أعقاب مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي. ويبدو أنّ التركيز على التنمية الاقتصادية الداخلية – وخاصة على تطلّعات “رؤية 2030” وعلى مشاريع البنية التحتية الضخمة – قد ساهم في تقبّل السعودية لتدابير خفض التوتّر مع إيران.
وجاء كلّ ذلك في سياق خفض الولايات المتحدة انخراطها الدبلوماسي في الشرق الأوسط، أقلّه كما يظهر في عواصم المنطقة.16 فبالنسبة إلى السعوديين، لم يؤدِّ الانسحاب الأمريكي الواضح من المنطقة إلى جعل التقارب مع إيران أمراً مرغوباً فيه فحسب، بل أصبح ضرورة من نواحٍ متعدّدة. وساهم احتدام الحرب الأهلية السورية وعودة سوريا بشكل ثابت إلى جامعة الدول العربية، وتحديداً في مسألة رأب الصدع في علاقاتها مع الرياض، بشكلٍ كبير في تقبّل السعودية لتحسين العلاقات مع إيران.17 خفّف العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود من حدّة موقفه السابق تجاه إيران في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2021، حيث قال: “إيران دولة جارة”. وأضاف: “نأمل بأن تؤدّي المحادثات الأولية مع إيران إلى نتائج ملموسة لبناء الثقة، والتمهيد لتحقيق تطلّعات شعوبنا في علاقات تعاون مبنية على الالتزام بمبادئ وقرارات الشرعية الدولية، واحترام السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية”.18
أمّا إيران، فهي تعتبر خفض التوتّرات مع المملكة العربية السمة الأكثر أهميّة في سياسة الجوار التي تنتهجها. ومن وجهة نظرها، يمكن أن يشكّل تحقيق الانفراج مع المملكة العربية السعودية نقطة انطلاق لتحسين العلاقات مع الدول العربية الأخرى وإحلال السلام والاستقرار في المنطقة. ولهذا السبب، وضعت إدارة رئيسي سياسة الجوار على رأس أولوياتها في علاقات إيران الدولية. وأخيراً، ونتيجة للمفاوضات السرية في بكين، والتي كانت تجري منذ فترة من خلال جهود الوساطة التي بذلاها العراق وعُمان، أعلنت إيران والمملكة العربية السعودية، في مارس 2023، عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما وبدء حقبة جديدة في سياساتهما تجاه بعضهما البعض.19
ومن الجدير بالذكر أنّه بعد فترة وجيزة من بدء التقارب الإيراني السعودي، أعلنت إيران والبحرين عن استهلال سلسلة من الإجراءات لبناء الثقة والحدّ من التوتّر، من بينها استئناف الرحلات الجوية، وزيارات الوفود البرلمانية، وفي نهاية المطاف، استعادة العلاقات الدبلوماسية التي قطعت في العام 20.2016 وفي الوقت عينه، باشرت إيران والإمارات العربية المتحدة بإنشاء عدد من العلاقات الأمنية رفيعة المستوى التي يعود تاريخها إلى عهد إدارة روحاني. وأصبحت مثل هذه التبادلات أكثر تواتراً وفعاليّة مع وصول رئيسي إلى سدّة الرئاسة، لتبلغ ذروتها مع إنشاء علاقات دبلوماسية رسمية كاملة بين الجانبين في أبريل 21.2023
ولاطالما شكّلت حدود إيران الشرقية التي يسهل اختراقها مع أفغانستان وباكستان نقطة خلاف محتملة بالنسبة إلى إيران. ففي السنوات الأخيرة، قُتل عدد من حرس الحدود والجنود الإيرانيين في هجمات نسبتها الحكومة الإيرانية إلى المهربين و”الإرهابيين”.22 ومع ذلك، استمرّت السلطات الإيرانية في سعيها للتقليل من خطورة الوضع، وركّزت على مدى ودّية العلاقات بين إيران وكلّ من إسلام أباد وكابول. وإثر مقتل ستة جنود إيرانيين بالرصاص في مايو 2023 من داخل أفغانستان على يد قوات طالبان، سارع مسؤولون إيرانيون إلى توصيف الحدث على أنّه مجرّد “حادث بسيط”، شبيه بـ”نزاع عائلي”.23 وشدّد وزير الداخلية الإيراني على أنّ الحوار هو السبيل الوحيد أمام الجانبين لحلّ خلافاتهما.24
وقد أشار وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى أنّ التهدئة مع المملكة العربية السعودية أمرٌ أساسي لتحقيق المصالحة مع الدول العربية الأخرى، قائلاً: “نحن بحاجة إلى مزيد من الحوار. لقد توصّلنا نحن والمملكة العربية السعودية إلى اتفاقات بشأن بعض القضايا، ونرحّب بهذا الحوار. فالحوار الجاري مع المملكة العربية السعودية مفيد للمنطقة وبنّاء، إذ إنّ إيران والمملكة العربية السعودية دولتان مهمّتان وتؤثّران في تحقيق الستقرار الأمني في المنطقة”.25 وردّد محمد جمشيدي،26 مسؤول آخر رفيع المستوى في الإدارة الإيرانية، فحوى تصريح وزير الخارجية، قائلاً: “تشكّل سياسة الجوار والتفاعل الأقصى والتعددية الاقتصادية أسساً رئيسية لسياسة الحكومة الخارجية”.27 وفي يناير 2022، عقدت وزارة الخارجية الإيرانية مؤتمراً رفيع المستوى بعنوان “الجوار”، اقترح في خلاله وزير الداخلية أحمد وحيدي إنشاء وزارة تُعنى بشؤون الجوار مهمّتها تعزيز سياسة الجوار التي تنتهجها الحكومة.28 وأجاب متحدّث آخر “إنّ المشكلة مع البلدان المجاورة ليست بسبب غياب منظّمة ما أو عدم وجود وزارة شؤون الجوار، بل بسبب التصوّرات والسياسات والأحداث التاريخية والسياسية، والأفعال وردود الفعل التي تغيّر اتّجاه الأحداث في المنطقة”.29
على نطاق أوسع، إنّ ما يحرّك سياسة الجوار الإيرانية هو الهدف الشامل المتمثّل في إنشاء نظام إقليمي جديد. ووصولاً لهذه الغاية، تسعى الجمهورية الإسلامية إلى تحقيق عدد من الأهداف التي يمكن تصنيفها بشكلٍ عام على أنّها سياسية وأمنية وثقافية واقتصادية. وهذه السياسة هي المرة الأولى التي تقوم فيها الحكومة الإيرانية بالفعل منذ الثورة بصياغة نهج استباقيّ لسياستها الخارجية وتبنّيه إذ كانت السياسة الخارجية الإيرانية في الماضي في معظم الأحيان تفاعلية بسبب الاقتتال الداخلي بين الفصائل.30 وفي عهد رئيسي، يبدو وكأنّ علاقات حسن الجوار وسياسة “التوجّه شرقاً” المكمّلة لها، قد حقّقت حتى الآن عدداً من أهدافها المعلَنة. تولّى الرؤساء الإيرانيون كافة منذ العام 1981 الرئاسة لولايتين متتاليتين. وباستثناء التطورات غير المتوقّعة، من المرجح أن يستمرّ نهج السياسة الخارجية الذي تبنّاه رئيسي أقلّه حتى العام 2029. وفي حال حدث ذلك بالفعل، من المرجّح أن تشهد إيران تعمّقاً إضافياً في العلاقات السياسية والاقتصادية، لا بل وربما تعاوناً أمنياً مع الدول المجاورة لها.