برزت إيران في السنوات العشرة الأخيرة كلاعبٍ إقليمي رئيسي في الشأن اليمني، كما ارتبط ذكرُها بجماعة أنصار الله (الحوثيين) وبأنّها الداعم الأساسي للجماعة التي اتّهمتها أطرافٌ متعدّدة أنّها وكيلتها في اليمن ضد النفوذ السعودي. كذلك، يكثر الحديث في الدوائر السياسية والبحثية عن النفوذ الإيراني في اليمن الذي اتّخذ ثلاثة اتجاهات: الأول هو تضخيم حجم النفوذ الإيراني في اليمن واعتبار جماعة الحوثي أحد وكلائها في المنطقة. ويدعم هذا الاتجاه الحكومة المعترف بها دولياً وحلفاءها من المملكة العربية السعودية.1 بينما ينفي الاتجاه الثاني – والذي يمثّل موقف ايران ومناصريها – أنّ العلاقة بين إيران وجماعة الحوثي علاقة تبعية، ويرى أنّ الحوثيين كيانٌ يمثّل الجمهورية اليمنية وأنّ العلاقة بينهما لا تتعدّى التوافق في الأهداف والرؤى والمواقف.2
أمّا الاتجاه الثالث، فيتمحور حول العلاقة المعقّدة بين إيران والحوثيين. لقد استخدمت الجماعة صواريخ إيرانية وطائرات بدون طيار وأسلحة أخرى “إيرانية”،3 إلّا أنّه ليس واضحاً ما إذا كانت علاقة تبعية محض أو علاقة بينية تقوم على مصالح مشتركة. وتوضّح محدّدات أخرى شكل العلاقة التي نشأت قبل سيطرة الحوثيين على صنعاء وتعزّزت بعد أن شنّ التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية عاصفة الحزم في مارس 4.2015
وعلى الرغم من ذلك، يرى البعض أنّ تأثير إيران في حرب اليمن يبقى محل نقاش،5 وعلى الرغم من المصالحة الإيرانية السعودية التي توسّطت الصين في تحقيقها في مارس 2023، لم تقدّم إيران أي تنازلات مهمّة في الملف اليمني ولم تتغيّر الشروط التي طرحها الحوثيون.6 بينما يجادل بعض المحللين بأنّ المصالحة الإيرانية السعودية ستفتح آفاق السلام في اليمن – حيث أنّ الحوثيين قد يقدّمون تنازلات تحت ضغط إيراني – من غير المرجّح أن يحدث ذلك على المدى القصير.7
ولإيضاح هذه التعقيدات وتقديم مقاربة توضّح دور إيران في اليمن ومدى تأثيره المحلي ومكاسبه الإقليمية، يناقش الفصل في قسمه الأول سياسة إيران الخارجية ودوافعها في اليمن، وبناءً عليه يتطرّق القسم الثاني إلى العلاقة بين الحوثيين وإيران ويطرح السؤال ما إذا كانوا وكلاء إيران أم حلفاءها. أمّا القسم الأخير، فيبيّن نفوذ إيران في المنطقة وتأثيرها في حرب اليمن.
تتشكّل سياسة إيران الخارجية من دورها الإقليمي النشط8 ومعارضتها لإسرائيل والغرب، بالإضافة إلى سعيها لإيجاد بديل سياسي قادر على تغيير المعادلة لصالح شعوب المنطقة بدلاً من أن تكون لصالح الحكومات المتوجّهة نحو الغرب.9 تجدر الإشارة إلى أنّ بروز سلطة مركزية ضعيفة ووجود أطراف نشطة غير راضية قد مكّنا إيران من التدخّل في الشؤون الإقليمية، كما حدث في لبنان وأفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، وفي العراق بعد الغزو الأمريكي، وفي اليمن بعد الربيع العربي.
وتدعم طهران مجموعات مسلّحة غير شيعية بسبب توافقها الأيديولوجي مع الركيزة الثانية لسياسة إيران الخارجية، أي مع معارضتها لإسرائيل والغرب. ويمنح موقع اليمن الجغرافي الإستراتيجي على طول أحد أهم الممرّات المائية في العالم، مضيق باب المندب، نفوذاً كبيراً على الشحن العالمي كجزء حاسم من هذه المعارضة. ومن أجل تعزيز نفوذها في البلاد، دعمت إيران في السابق الحراك الجنوبي المسلّح كعنصر أساسي في سياستها الإقليمية.10 ولاحقاً، تماشت مصالح إيران في اليمن مع الحوثيين أكثر من الحراك الجنوبي؛ والأهم من ذلك، أنّ حركة الحوثي تعارض الولايات المتحدة بشكل نشط، على عكس بعض الجهات اليمنية الأخرى.11 وعليه، فإنّ أي زيادة في قوة الحوثيين تعزّز نفوذ إيران الإقليمي. علاوة على ذلك، إنّ تنمية العلاقات مع هذه المجموعات قد سمحت لطهران بالسعي لتحقيق الركيزة الثالثة لسياستها الخارجية، بهدف إنشاء نظام سياسي بديل عبر “محور المقاومة”.
وبخلاف ما هو متصوَّر، كانت العلاقات بين إيران والدولة الزيدية في شمال اليمن مطلع القرن العشرين محدودة للغاية، كما أنّها قدّمت دعماً محدوداً للإمام الزيدي محمد البدر إبان حربه مع الجمهوريين في ستينيات القرن الماضي،12 والتي انتهت بإقامة الجمهورية العربية اليمنية. ودرس بعض مؤسّسي حركة الحوثي، بما في ذلك حسين بدر الدين الحوثي، في الجمهورية الإسلامية ما بعد الثورة، ما يشير إلى تأثّرهم بالإيديولوجية الثورية الإيرانية.13
ومنذ أن أمسك الحوثي بزمام التنظيم في أواخر التسعينيات حتى تمرّد الحوثيين في 2004، لم يبرز أي دليل يشير إلى أنّ إيران قدّمت أي دعم للجماعة.14 وتشير تقارير بأنّ أول دعم عسكري ومالي محدود حدث في العام 2009، ومن ثمّ بدأت كرة الثلج بالتدحرج.15 أدركت إيران مبكراً أنّ دعم الحوثيين بشكل علني يمكن أن يؤدّي إلى تصاعد التوتّرات وصولاً إلى صدام مباشر مع السعودية، وهو سيناريو فضّلت طهران تجنّبه؛ ولكنّها حافظت على ارتباطها الهامشي مع الحوثيين.
عادة ما يتكرّر النقاش حول العلاقة بين إيران والحوثيين. في حين يعتبر البعض الحوثيين وكلاء لإيران، يرفض آخرون وجهة النظر هذه، بينما يرى غيرهم أنّ الجماعة هي جهة فاعلة مستقلّة. ويبيّن هذا الفصل أنّ العلاقة بينهما مركّبة ومعقّدة، وتختلف مصالحهما باختلاف العوامل الدينية والسياسية والتاريخية. من الأنسب ألّا تُعتبر جماعة الحوثي وكيلة لإيران في اليمن، بل يجدر النظر إليها كقوى منظّمة تسعى لتحقيق أهدافها عبر سياسة براغماتية جعلتها تحوّل مواقفها بحسب أهدافها. وفي الوقت نفسه، استغلّت إيران صعود الحوثيين ليكونوا حلفاءها في اليمن.
تختلف نشأة الحوثيين عن المليشيات الأخرى الموالية لإيران، فهي لم يؤسّسها الحرس الثوري الإسلامي على غرار حزب الله اللبناني أو بعض الميليشيات العراقية. انبثقت جماعة الحوثي من قلب تنظيم “الشباب المؤمن” في أواخر تسعينيات القرن الماضي كحركة زيدية إحيائية للمذهب وللفكر الزيدي في شمال اليمن.16 وسيطر حسين بدر الدين على الجماعة في العام 17.1999
بالإضافة إلى ذلك، ترتكز جماعة الحوثي على الإرث التاريخي للدولة الزيدية التي حكمت شمال اليمن لقرون عديدة حتى إسقاطها في ثورة سبتمبر الجمهورية عام 1962. انبثقت الحركة من التعاليم والأيديولوجية السياسية الزيدية،18 بما في ذلك الالتزام بالثورة ضد الظلم. وفي حين أنّ حركة الحوثي متجذّرة في الأيديولوجية الزيدية، هي أيضاً حركة سياسية تقوم على الثورة ضد الظلم والإمبريالية.19 وبالمثل، تأثّر الحوثيون بالنموذج الثوري الإيراني، القائم على السلطة السياسية الدينية. على سبيل المثال، كثيراً ما أشاد مؤسّس الجماعة، حسين الحوثي، بمقاومة الإمام الخميني للإمبريالية، وتبنّى شعارات من الثورة الإيرانية.20 وفي نهاية المطاف، من الصعب أن نحدّد بشكل قاطع درجة الانتماء المذهبي بين الحوثيين وإيران.
وكما جاء في القسم السابق، لقد بدأ الدعم الإيراني للحوثيين حوالي العام 2009 وشهدت الأعوام التالية الدعم بالأسلحة والخبرات.21 وقد نمت العلاقات بينهما بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء في سبتمبر 2014، فقد زاد عدد رحلات الطيران بين صنعاء وطهران.22 وفي مارس 1520، أعلن التحالف بقيادة السعودية، والذي خشي من سيطرة إيران على مضيق باب المندب، بدء عمليات عاصفة الحزم لطرد الحوثيين من عدن والضالع.23 والمفارقة أنّ القوات الجنوبية التي قاتلت الحوثيين في الضالع ضمّت وحدات تتبع الزعيم الجنوبي علي سالم البيض كانت قد تلقّت التدريب والدعم من إيران24 في وقت سابق قبل أن تنتهي العلاقة بين الطرفين بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء.25 بالتالي، يمكن الاستنتاج أنّ إيران سعت لإيجاد حليف في اليمن – مهما كانت أيديولوجيته – يضمن لها تحقيق مصالحها.
وقد تبنّت حركة الحوثيين سياسة براغماتية في مسار صعودها السياسي والعسكري؛ فنشأتها كانت بهدف الحفاظ على الأقلّية الزيدية وقد خاضت ست حروب مع الدولة لأجل ذلك الهدف. وفي إبان أحداث ثورة الشباب عام 2011 كانت تطالب بحقوق أبناء صعدة، وفي الحوار الوطني عام 2013، قدّمت نفسها كممثل لقبائل شمال الشمال. وبعد عاصفة الحزم، قدّمت الجماعة نفسها كممثل للشعب اليمني وثمّ كعضو فاعل في محور المقاومة أو الممانعة الذي يعارض الإمبريالية والصهيونية.26
وقد تبنّت حركة الحوثي براغماتية مماثلة في صعودها السياسي والعسكري. لقد نشأت بهدف الحفاظ على الأقلية الزيدية، وخاضت ست جولات من الصراع لتحقيق هذا الهدف. وفي العام 2011، قدّمت الحركة نفسها كمدافع عن شعب صعدة؛ ثمّ كممثل للقبائل الشمالية؛ وأخيراً بعد عاصفة الحزم كجهة رسمية تمثّل الشعب اليمني.27
بعد عاصفة الحزم، لم يكن للحوثيين حليف سوى إيران التي اعترفت به وتبادلت معه السفراء ومَدّته بالأسلحة النوعية والطائرات المسيّرة وطوّرت له منظومة الصواريخ.28 وفي الوقت نفسه، استطاع الحوثيون بناء كيان له مؤسساته العسكرية والاقتصادية، بخاصةٍ بعد الاستيلاء على مؤسّسات الدولة اليمنية في شمال البلاد. وقد جعل ذلك من جماعة الحوثي رقماً صعباً في المنطقة واستطاعت أن تضرب أهدافاً إستراتيجية في السعودية والإمارات، ما غيّر قواعد اللعبة وميزان القوى. لم تتغيّر العلاقات بين إيران والحوثيين بعد المصالحة بين الرياض وطهران التي لم يتوقّف دعمها العسكري والسياسي للجماعة. ولكن إذا تغيرت محدّدات سياسة إيران الخارجية فحينها قد تتغيّر علاقتها بجماعة الحوثي.
لم تعترف إيران أبداً بتورّطها في حرب اليمن، لا بل تُنكر دعمها للحوثيين على الرغم من كل التقارير الدولية التي تثبت العكس.29 ولكن مع عاصفة الحزم، تغيّرت قواعد اللعبة في اليمن. سعت المملكة العربية السعودية إلى تقليص النفوذ الإيراني في اليمن واحتواء الحوثيين، إلّا أنّ الحرب اشتدّت وتسبّبت في أزمة إنسانية حادّة، ومقتل عشرات الآلاف من المدنيين.30 وقد دفع هذا بالبعض لاحقاً إلى إلقاء اللوم على السعودية لفشلها في منع الحوثيين من التحالف مع طهران.
بالتالي، رمت الحربُ الحوثيين في أحضان إيران وعمّقت العداء مع السعودية. وفي العام 2018، استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) ضد قرار للأمم المتحدة يدين إيران لانتهاكها حظر الأسلحة المفروض على الحوثيين.31 وفي إشارة إلى أهمية اليمن المتزايدة بالنسبة إلى طهران، عُيِّن حسن إيرلو،32 الذي يُقال إنّه ضابط في الحرس الثوري الإيراني، سفيراً لإيران في صنعاء في العام 33.2020
وبذلك، ضمنت إيران شريكاً فعّالاً لها في اليمن يزيد من نفوذها الإقليمي، في حين لم يكلّفها خسائر مادية كبيرة على عكس السعودية التي خسرت ملايين الدولارات في هذا الصراع.34 لقد مدّت إيران الحوثيين بطائرات مسيّرة وصواريخ كروز،35 فمكّنتهم من تهديد السفن المارّة عبر مضيق باب المندب، وبالتالي ممارسة الضغوط الدولية والتأثير في التجارة العالمية، من خلال تهديد السفن المارّة عبره.36 وتستمرّ هذه التهديدات على الرغم من الحصار البحري المفروض على الحوثيين. في الواقع، ربما يكون المدى التقريبي لصواريخ الحوثيين المضادة للسفن قد زاد مقارنة بما كان عليه في العام 2017، كما هو مبيّن في الخريطة أدناه
الرسم البياني 1: تهديد جديد في اليمن
وتخدم قدرات الحوثيين وأسلحتهم البحرية مصالح إيران في البحر الأحمر، وهو منطقة حيوية للتجارة العالمية والأمن الإقليمي. ويستحوذ البحر الأحمر على نحو تسعة بالمئة من إجمالي حركة النفط العالمية ويمرّ عبره معظم طرق التجارة بين أوروبا والصين والهند.38 وفي العام 2018، اعترف ضابط كبير في الحرس الثوري الإيراني، ناصر شباني، بأنّ منظّمته قد “أصدرت تعليمات للحوثيين بمهاجمة ناقلتَين نفطيتَين سعوديتين في البحر الأحمر، غرب ميناء [الحديدة] الإستراتيجي”،39 ما دفع السعودية إلى تعليق مرور شحنات النفط لفترة معيّنة.40
وفي حين قد لا تستطيع إيران إيقاف حرب اليمن، لكنّها قد تساهم في تحقيق التهدئة. ويعود ذلك لطبيعة الصراع اليمني الذي تمتدّ جذوره للحروب الأهلية السابقة بين الأطراف المحلية حول السيطرة على السلطة. لذلك، فهي ليست حرباً بالوكالة أو حرباً طائفية كما تُصوَّر غالباً. صحيح أنّ التنافس الإقليمي المحموم بين إيران والمملكة العربية السعودية قد أشعل الصراع الداخلي، إلّا أنّه ليس ما يحرّكه. بالتالي، يمكن القول إنّ المسبّبات الرئيسية للصراع في اليمن هي محلّية وإنّ التدخّلات الإقليمية كانت بغرض الإبقاء على توازن القوى المحلّية للحفاظ على النفوذ السعودي للأهمية الكبرى التي يشكّله اليمن بالنسبة إليها، بينما هي ثانوية لإيران ولكنها تعطيها قيمة مضافة لنفوذها الإقليمي.
لا شك في أنّ إيران استطاعت استمالة الحوثيين إلى صفّها عبر استثمار بسيط أدّى إلى نتائج فعّالة عزّز مكانتها الإقليمية وأثبت نجاح سياستها الخارجية. لكن في الوقت نفسه، لا يمكن التعامل مع جماعة الحوثي على أنّها بيدق لإيران ولا ينبغي تضخيم الطابع الطائفي للصراع، لأنّ في ذلك تسطيح للعلاقة وتجاهل لديناميتها ولأبعاد الارتباط التي أوضحها هذا الفصل. بل ينبغي التعامل مع الحوثيين من منظور دوافعهم وعلاقاتهم المحلّية التي تعطيهم أفضلية على الأطراف اليمنية الأخرى، وأضاف الدعم الإيراني إلى قدراتهم الإستراتيجية، الأمر الذي مكّن الحوثيين من تهديد الدول المجاورة وطرق الملاحة البحرية بما يخدم أهدافهم المحلّية وأهداف إيران الإقليمية.