يشجّع اتفاق باريس التعاونَ الطوعي بين الأطراف في تنفيذ مساهماتها المحدّدة وطنيّاً “لإتاحة مستوى أعلى من الطموح في إجراءاتها المتعلّقة بالتخفيف والتكيّف وتعزيز التنمية المستدامة والسلامة البيئيّة”.1وقد أدّى هذا الالتزام إلى خلق أسواق كربون جديدة بموجب المادة 6 من اتفاق باريس.
تُعتبَر أسواق الكربون جزءاً من الأُطر المناخية الدوليّة. فقد أدخل بروتوكول كيوتو آليّة التنمية النظيفة والتنفيذ المشترك لتسهيل تجارة الكربون. وقد هدفت أسواق الكربون أساساً لتوفير المرونة للدول المتقدّمة من أجل تحقيق أهدافها المتعلّقة بالمناخ، من دون أن تترتّب عليها أيّ التزامات على الدول النامية التي غالباً ما تكون مصدراً لأرصدة الكربون. على مرّ التاريخ، كان الدافع وراء المشاركة في هذه الأسواق خفض التكاليف لتمكين الدول من تحقيق أهدافها بطريقة أكثر اقتصادية. وتُشير بحوث حديثة2 إلى أنّ استخدام أسواق الكربون عالمياً يمكن أن يقلّل الكلفة الإجماليّة لتنفيذ المساهمات المحدّدة وطنيّاً بأكثر من 50 في المئة (أي نحو 250 مليار دولار سنوياً في العام 2030) أو عوضاً عن ذلك، يمكن أن يسهم في إزالة انبعاثات إضافية بنسبة 50 في المئة (أي ما يعادل 5 غيغاطن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً بحلول العام 2030) من دون أيّ تكلفة إضافيّة.
أحدث اتفاق باريس نقلة نوعية نحو تحقيق المواءمة، إذ أصبحت جميع الدول ملزمة الآن بوضع أهداف وطنية محدّدة وتتمتّع بمرونة متساوية للتعاون مع الآخرين لتحقيق هذه الأهداف. ويهدف هذا التعاون الدولي إلى تعزيز مستوى أعلى من الطموح وتحقيق فوائد ملموسة للإجراءات المناخية. وقد أيّدت الدول النامية هذا التوجّه في العام 2015 شرط التزام الدول المتقدّمة بتوفير 100 مليار دولار سنوياً لدعم جهودها في تحقيق مساهماتها المحدّدة وطنياً. وبموجب الاتفاق، يتعيّن على الدول إجراء تعديلات مقابلة على مساهماتها الوطنية لضمان الشفافية والمحاسبة الدقيقة في ما يتعلّق بخفض الانبعاثات. تشكّل هذه الآلية تحوّلاً كبيراً مقارنة ببروتوكول كيوتو الذي ركّزت فيه أسواق الكربون بشكلٍ رئيسي على منح الدول المتقدّمة المرونة لتحقيق أهدافها بتكلفةٍ أقل.
يحمل هذا الإطار المتطوّر في طياته فرصاً وتحدّيات لقطر.3 فكونها اقتصاداً يعتمد على الهيدروكربون، يمكن لقطر أن تستفيد من إدماج آليات المادة 6 لتمويل انتقالها نحو نموّ منخفض الكربون ومتنوّع، بما يتماشى مع رؤية قطر الوطنية 2030. تُشدّد رؤية قطر الوطنية على تحقيق “اقتصاد متنوّع يقلّل تدريجيّاً من اعتماده على الصناعات الهيدروكربونيّة” كهدف رئيسي.4 وتساهم آليات التمويل الواردة في المادة 6 في جعل التحوّل نحو اقتصاد منخفض الكربون أكثر كفاءة من حيث التكلفة. غير أنّ إجراءات جديدة ستكون ضروريّة لتشكيل الأُطر التنظيميّة والترتيبات المؤسسيّة من أجل تفعيل المادة 6 على المستوى المحلّي.
تنصّ المادة 6 من اتفاق باريس على إنشاء آليّتين مختلفتَين لسوق الكربون—المادة 6.25 والمادة 6.46—بهدف تعزيز التعاون الدولي في تحقيق المساهمات المحدّدة وطنيّاً. تتيح هذه الآليات نقل أرصدة الكربون بين الدول أو الكيانات عبر طريقتَين: نتائج التخفيف المنقولة دولياً بموجب المادة 6.2، وتخفيضات الانبعاثات بموجب المادة 6.4. ويمثّل كلاهما إجراءات مناخية قابلة للقياس، بحيث تعادل الوحدةُ الواحدة عادةً طناً واحداً من ثاني أكسيد الكربون المكافئ الذي تم تخفيضه أو إزالته من الغلاف الجوي.
فيما توفّر هذه الآليات المرونة اللازمة لتحقيق المساهمات المحدّدة وطنيّاً، تتجاوز غايتها الأساسية مسألة المواءمة، إذ تهدف إلى تعزيز مستوى أعلى من الطموح في العمل المناخي العالمي.7 تضع المادة 6.2 إطاراً للتعاون الثنائي والمتعدّد الأطراف، ما يتيح للدول صياغة مقارباتها الخاصة لتنفيذ المساهمات المحدّدة وطنياً، شرط أن تلتزم بالإرشادات المنصوص عليها في القرار 2/CMA.3 الصادر عن الدورة السادسة والعشرين لمؤتمر الأمم المتحدة بشأن تغيّر المناخ (COP26).8 يوفّر هذا النظام اللامركزي للدول المشاركة مرونة كبيرة للدول المشاركة في هيكلة ترتيباتها التعاونيّة. في المقابل، تخضع المادة 6.4 لإشرافٍ مركزي من اتفاقيّة الأمم المتحدة الاطارية بشأن تغيّر المناخ في ظلّ قواعد وإجراءات موحّدة تشبه آلية التنمية النظيفة لبروتوكول كيوتو. ويسمح الإطار لمشاريع مؤهّلة من آلية التنمية النظيفة بالتحوّل إلى آليّة المادة 6.4. في هذا السياق، تعمل قطر على مشروعَين يسعيان إلى الانتقال إلى آلية المادة 6.4، هما مشروع استصلاح وإعادة استخدام غاز حقل نفط الشاهين ومشروع إعادة استخدام المياه الصناعية المعالجة بالبخار متوسّط الضغط في مدينة راس لفان الصناعية.9
توفّر آليات المادة 6 لقطر سُبُلاً إستراتيجية تمكّنها من مواءمة أهداف النمو الاقتصادي مع التزاماتها المناخية. وباعتبار أنّ اقتصاد البلاد يعتمد بشكل رئيسي على الموراد الطبيعية وقطاع صادرات الطاقة الحيوي، فإنّ هذين العاملين يخلقان فرصاً فريدة وفقاً للآليّتين:
ترمي أسواق الكربون إلى تعزيز تخصيص الموارد بفعّالية بغية تحقيق أهداف الحد من الكربون. وقد صُمّمت المقاربة المدفوعة بالسوق بحيث تعطي الأولوية لإجراءات خفض الكربون بأقل تكاليف الخفض الهامشية،11 ما يضمن استخدام الموارد بكفاءة من حيث التكلفة.
بيد أنّ الهدف المقصود من التعاون بموجب المادة 6 يتمثّل في تسهيل نقل التكنولوجيا وحشد الاستثمارات في القطاعات الإستراتيجية، ما يمكّن الدول من اعتماد تقنيات متقدّمة كانت بعيدة المنال. في الحالة المثاليّة، تركّز الدول على استخدام مواردها للتعامل مع “الثمار المنخفضة” (التقنيات المنخفضة التكلفة) وتستفيد في الوقت نفسه من المادة 6 لتمويل حلول أكثر تشعّباً، أو “الثمار المرتفعة” (التقنيات العالية التكلفة) التي تسهم في إزالة الكربون في الأجل الطويل. وفي حين أنّ هذا الهدف ما زال في طور التحقيق، يتجلّى التقدّم المحرز في المشاريع المرخّصة ثنائياً بموجب المادة 6.2،12 على غرار نشر الحافلات الكهربائية في تايلاند وتحويل النفايات الصلبة البلدية إلى سماد في غانا ومبادرات الطاقة الشمسية في فانواتو- والتي تُعتبَر جميعها “ثمرةً مرتفعة” في سياقها. وفيما تنضج الأُطر التنظيمية، من المتوقّع أن تتوسّع قائمة المشاريع في المستقبل.
يمكن تطبيق هذه المقاربة بشكل إستراتيجي ضمن السياق الاقتصادي في قطر. في الواقع، تشمل “الثمارُ المنخفضة” الحد من الحرق وتحسين الكفاءة في الصناعات التي تستهلك طاقة كثيفة وتعزيز فعّالية البنى التحتية والأبنية. وتُعدّ هذه الإجراءات فعّالة من حيث التكلفة وقابلة للتحقيق باستخدام الموارد الحالية، حيث تكون تكاليف التطبيق أقل من الأرباح أو مدخرات الموارد الناتجة عنها، ما يؤدّي في كثير من الأحيان إلى تكاليف سلبية (أي أنّها مربحة) لخفض الكربون.13 بمجرّد أنّ بعض هذه الإجراءات سارٍ بالفعل من دون الحاجة إلى تمويل الكربون، هذا يثبت فعاليتها من حيث التكلفة. على سبيل المثال، التزمت “قطر للطاقة” بالقضاء على الحرق الروتيني للغاز بحلول العام 2030 وتعمل حالياً على تحسين كفاءة الطاقة في قطاع النفط والغاز، مثل تحسين مولدات توربينات الغاز وأنظمة استرداد الحرارة، كما هو ملحوظ في مساهمة قطر المحدّدة وطنيّاً.14
قد تشمل “الثمار المرتفعة” بالنسبة إلى قطر مبادرات أكثر تحوّلاً، على غرار توسيع نطاق احتجاز الكربون وتخزينه وزيادة قدرات الطاقة المتجدّدة، لا سيما الطاقة الشمسيّة والهيدروجين الأخضر15 في الأجل16 البعيد.17 تتطلّب هذه الحلول المتقدّمة استثمارات كبيرة في رأس المال والتكنولوجيا، ما يجعلها مرشّحة مثاليّة للاستفادة من دعم المادة 6، ربما من خلال شراكات دوليّة تسهّل الوصول إلى تقنيّات إزالة الكربون المتقدّمة. علاوة على ذلك، فيما تواجه مشاريع الطاقة المتجدّدة في شتّى أنحاء العالم موجة من الانتقادات بشأن النزاهة18 والإضافة الماليّة،19 قد تكون قطر في موقع جيّد لمناقشة الإضافة الماليّة لمحطات الطاقة الشمسية، نظراً لكلفة الغاز الطبيعي المحلّي المنخفضة. في المناطق حيث تكون تكلفة الغاز الطبيعي أعلى، غالباً ما تصبح الطاقة الشمسيّة خياراً فعّالاً من حيث التكلفة وتُعتبر من “الثمار المنخفضة”. لكن في قطر، تؤدّي وفرة الغاز الطبيعي إلى إضعاف التنافسيّة الاقتصادية للطاقة الشمسية في معظم الحالات من دون حوافز أو إعانات إضافيّة. تجدر الإشارة إلى أنّ مشاريع الطاقة الشمسيّة قد انتشرت في قطر بالفعل، مثل محطة الخرسعة للطاقة الشمسية بقدرة 800 ميغاوات،20 ما يوحي بأنّ الطاقة الشمسيّة يمكن أن تبقى فعّالة من حيث التكلفة في ظل ظروف أو مقاييس معيّنة. وفي نهاية المطاف، قد تُحدّد منحنيات تكاليف الخفض الهامشية21 للاقتصاد القطري ما إذا كانت بعض أنشطة التخفيف ستصنّف ضمن “الثمار المنخفضة” أو “الثمار المرتفعة”.22
صُمّم عدد من المساهمات المحدّدة وطنيّاً باستخدام هذه المقاربة، بما فيها الإجراءات المنخفضة التكلفة كجزءٍ من التزاماتها غير المشروطة مع إدراج التقنيّات الأكثر تقدّماً كخيارات مؤهّلة للحصول على الدعم بموجب المادة 6. ومع ذلك، لم تتطوّر سوق التقنيات المتقدّمة بشكلٍ كامل بعد، ما يحدّ من إمكانية تحقيق تحوّل كبير على مستوى القطاعات. على سبيل المثال، غالباً ما يكون عمر مشروع سريع يحتوي على عدد قليل من الأجزاء المكوِّنة (cookstove project) أقصر من دورة المساهمة المحدّدة وطنيّاً التي تستمرّ خمس سنوات، ما يحدّ من تأثيره على إزالة الكربون في الأمد الطويل.
تشمل المشاركة في المقاربات التعاونيّة بموجب المادة 6 نقل نتائج التخفيف من دولةٍ مشاركة إلى أخرى أو من كيان مشارك إلى آخر، مثل شركة طيران خاضعة لخطة التعويض عن الكربون وخفضه في مجال الطيران الدولي (كورسيا). هذا يعني أنّ دولة المنشأ لا يمكنها استخدام نتائج التخفيف المنقولة هذه لتحقيق مساهماتها المحدّدة وطنيّاً. يضمن مفهوم التعديلات المقابلة، الذي وُضع من خلال برنامج عمل اتفاق باريس (القرار رقم 1/مؤتمر الأطراف 21، الفقرة 36)،23 أن تعكس سجلّات الانبعاثات نقل نتائج التخفيف أو استلامها.
النزاهة البيئيّة ومعايير الإبلاغ ومتطلّباته
بهدف تعزيز النزاهة البيئيّة، ينبغي على المقاربات التعاونيّة الالتزام بمتطلّبات الإبلاغ المعزّزة المنصوص عليها في اتفاق باريس، والتي تشمل الإبلاغ عن السجلات الوطنية والتقارير حول الشفافية لفترة سنتين، بالإضافة إلى معلومات مفصّلة عن مستويات الأهداف والخطوط الأساسية ونتائج التخفيف. ويتوجّب على الدول أيضاً إثبات أنّ مقارباتها التعاونية لا تؤدّي إلى زيادةٍ صافية في الانبعاثات العالمية في خلال فترات تنفيذ المساهمات المحدّدة وطنيّاً. ويَعتبر صانعوا القرار أنّ احترام هذه المعايير جوهري لضمان الإيفاء بالالتزامات المناخية بشفافيّةٍ وفعاليّة، وبالتالي لتعزيز مصداقيّة أسواق الكربون.
تتطلّب اتفاقيّة الأمم المتحدة الاطارية بشأن تغيّر المناخ من الدول المشاركة في المشاريع المنصوص عليها في المادة 6 تقديم تقارير أوّلية تشرح بالتفصيل مقارباتها التعاونيّة. وتخضع هذه التقارير لدراسة من قِبل الخبراء التقنيّين لضمان أنّ التعاون لا يُعيق قدرة الطرف على تحقيق أهدافه المتعلّقة بالمساهمات المحدّدة وطنيّاً. ويجب على الدول أن تثبت أنّ مشاركتها تتماشى مع مساهماتها المحدّدة وطنيّاً والإستراتيجيات الإنمائية الطويلة الأجل والمنخفضة الانبعاثات (عند تقديمها) وأهداف اتفاق باريس وفقاً للقرار 2/CMA.3.
يُسلّط إطار المادة 6 الضوء على الحوكمة المتينة ونتائج تخفيف عالية الجودة، ما يتطلّب خطوط أساس ما دون التوقّعات المعتادة. ويُلزم تقليص مخاطر عدم الاستمرارية في فترات مختلفة من المساهمات المحدّدة وطنيّاً ويعالج الانعكاسات المحتملة في خفض الانبعاثات. ويولي اهتماماً خاصاً إلى تجنّب الآثار البيئية والاقتصادية والاجتماعية السلبية ويُعزّز في الوقت نفسه حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسَين وغيرها من المبادئ الأساسيّة الملحوظة في اتفاق باريس. علاوة على ذلك، تبرز هذه المتطلّبات ضرورة توافق المقاربات التعاونيّة مع أهداف التنمية المستدامة وتُلزم المساهمة في موارد التكيّف وخفض الانبعاثات العالمية بشكلٍ عام. تضمن هذه المقاربة الشاملة دعم العمل المناخي لأهداف التنمية المستدامة الأوسع.
التحدّيات في تحقيق أهداف المساهمات المحدّدة وطنيّاً من خلال أسواق الكربون
تواجه الدول المشارِكة في نقل نتائج التخفيف المنقولة دولياً تحدّيات كبيرة في سعيها لتحقيق توازن بين طموحاتها والنزاهة البيئيّة. وفيما توقّعت الدول النامية تمويلاً مناخياً لا يقلّ عن 100 مليار دولار سنوياً من الدول المتقدّمة لدعم مساهماتها المحدّدة وطنياً، لم يبلغ هذا التمويل المستوى المنشود. بالتالي، سعت دول متعدّدة إلى استخدام نقل نتائج التخفيف المنقولة دولياً لسد فجوات التمويل الخاصة بها، فقدّمت أرصدة مقابل الاستثمارات في مشاريع العمل المناخي التي تحقّق فوائد مشتركة على غرار خلق الوظائف والحدّ من المخاطر البيئية. لكن هذا ليس الغاية المقصودة من آليات المادة 6. فقد صُمّم الإطار لتمكين الدول من التجارة بخفض الانبعاثات الفائضة الحقيقية، ما يسمح للدول المشترية بتعزيز طموحاتها المناخية بما يتجاوز التزاماتها الأولية في مساهماتها المحدّدة وطنياً. لم يتم تصوّر نتائج التخفيف المنقولة دولياً كبديلٍ عن التمويل المناخي، حيث كان الإطار يفترض أنّ التمويل الكافي سيكون متاحاً لدعم الأهداف المناخية في الدول النامية.
أثارت العلاقة بين نقل نتائج التخفيف المنقولة دولياً وأهداف المساهمات المحدّدة وطنيّاً نقاشاً كبيراً بين أصحاب المصلحة. في الواقع، تنادي الدول النامية ومؤسّسات التمويل المناخي بالمرونة في استخدام نتائج التخفيف المنقولة دولياً لسدّ الثغرات في التمويل في حين أنّ المنظمات البيئية وبعض الدول المتقدّمة تُشدّد على الحاجة إلى المحافظة على النزاهة البيئية. تتعلّق نقطة خلافية رئيسية بما إذا كان يجب أن يقتصر نقل نتائج التخفيف المنقولة دولياً على الإجراءات المدوّنة في الأهداف المشروطة للمساهمات المحدّدة وطنياً. وفيما يجادل البعض بأنّ هذه المقاربة تساعد في التأكّد من أنّ الدول الناقلة لا تزال قادرة على تحقيق أهداف مساهماتها المحدّدة وطنياً، لا تُميّز قواعد المادة 6 بين الأهداف المشروطة وغير المشروطة للمساهمات المحددة وطنياً، إذ تتطلّب القيام بالتعديلات المقابلة على نتائج التخفيف كافة.
كما أنّ الاعتماد المتزايد على نقل نتائج التخفيف المنقولة دولياً كآلية تمويل يثير تساؤلات جدّية حول فعاليّة إطار المادة 6 بشكلٍ عام. من الممكن أن يقوّض ذلك نزاهة أسواق الكربون الدوليّة ويعرقل التقدّم العالمي نحو تحقيق الأهداف المناخية المنصوص عليها في اتفاق باريس
لكي تدعم أسواق الكربون العمل المناخي بفعاليّة وتحافظ على النزاهة البيئية في الوقت نفسه، ينبغي على الدول النامية تحقيق توازن دقيق في ما يتعلّق بمشاركتها. يتمثّل أحد الاعتبارات الرئيسية بتكلفة الفرصة البديلة لنقل نتائج التخفيف المنقولة دولياً – قيمة نتائج التخفيف التي تتخلّى عنها الدول لدى بيع أرصدة الكربون. بنبغي أن تعكس هذه التكاليف الاحتياجات المستقبلية المحتملة لإجراءات خفض الانبعاثات الأكثر تكلفة لتحقيق أهداف المساهمات المحدّدة وطنياً. وفي حين يمكن أن تساعد منحنيات تكاليف الخفض الهامشية في توجيه قرارات التسعير، تقع أسعار السوق الحاليّة ما دون تكاليف الفرصة البديلة هذه إلى حدّ بعيد، ما يجعل المشاريع ذات النزاهة العالية أقلّ جاذبية للمشترين.
من المتوقّع أن يحفّز برنامج “كورسيا” الخاص بقطاع الطيران جزءاً كبيراً من الطلب على الأرصدة المعدّلة المقابلة. ويشكّل ذلك فرصة إستراتيجية أمام شركات الطيران الكبرى، لا سيما في منطقة الخليج، لتطوير خبراتها في الحصول على أرصدة كربون عالية الجودة. يُعدّ بناء هذه القدرات أمراً بالغ الأهمية قبل بدء المرحلة الإلزامية لبرنامج “كورسيا” في العام 2027.24 ويمكن لشركات الطيران أيضاً أن تساهم في إنشاء أسواق كربون محلّية من خلال إطلاق مشاريع إقليمية لتداول أرصدة الكربون أو التعاون فيها بما يتوافق مع الأهداف الإنمائية.
ويتثمّل تحدّ جوهري في أنّ تمويل الكربون صُمّم ليكون مكمّلاً لتمويل المناخ، وليس لاستبداله. وقد خلق عدم الإيفاء بالتمويل المناخي الموعود للدول النامية هوّة بين توقّعات السوق والواقع. وللتعامل مع هذا، يجب تعديل القواعد بما يتناسب مع الاعتراف بمساهمات القطاع الخاص في تحقيق أهداف المساهمات المحدّدة وطنياً. وقد شدّدت المفاوضات الأخيرة بشأن المناخ، بما فيها المناقشات التي جرت في قمة COP29 في أذربيجان، على أهمية توسيع آليات التمويل لدمج الاستثمارات العامة والخاصة.
توفّر أدوات التمويل المختلط سبيلاً واعداً للمضي قدماً. يمكن استخدام الأموال العامة لتغطية المخاطر المرتبطة بالمشاريع الأوّلية، مثل دراسات الجدوى وتقديرات خفض الانبعاثات، ما يخلق بيئة أكثر مؤاتية للاستثمارات الخاصة. تسهم هذه المقاربة في توظيف الموارد العامة بفعالية وتشجّع على مشاركة أكبر للقطاع الخاص، وهو عنصر ضروري لرفع مستوى العمل المناخي. وفي ظلّ عدم إيفاء الدول المتقدّمة بالتزاماتها المالية تجاه المناخ، بات من الضروري تطبيق التعديلات المقابلة بالنسبة إلى الدول النامية. من شأن مقاربة أدقّ تأخذ بعين الاعتبار المساهمات التاريخية في تغيّر المناخ، أن تمكّن العمل المناخي الموسّع وتحافظ في الوقت نفسه على أسعار كربون تنافسيّة وعلى سيولة السوق.
بإمكان سوق كربون عالمي فعّال أن يحرّك مبالغ بالتريليون25 من مالية القطاع الخاص،26 ويُسرّع الابتكار في التكنولوجيا النظيفة، وأن يسهم في خفض الانبعاثات على نطاقٍ واسع. تتمتع قطر ودول مجلس التعاون الخليجي الأخرى بموقع إستراتيجي يسمح لها بتأدية دور قيادي في هذا التحوّل من خلال استخدام شبكاتها وعلاقاتها لتشكيل ديناميات السوق ووضع معايير عالية للشفافية والنزاهة البيئية. ويتماشى هذا الدور القيادي مع رؤيتها للتنويع الاقتصادي ويعزّز مكانتها كفاعل رئيسي في العمل المناخي العالمي.
يقدّم إدماج أسواق الكربون، بموجب اتفاق باريس، فرصاً وتحدّيات كبرى للدول النامية التي تسعى إلى تحقيق مساهماتها المحدّدة وطنياً. وبالنسبة إلى قطر كونها مصدّر رئيسي للنفط والغاز يطمح إلى تحقيق التنويع الاقتصادي، توفّر هذه الأسواق فرصة للانتقال نحو نموذج اقتصادي أكثر استدامة يسهم في دفع أهداف التنمية الوطنية قدماً. مع ذلك، يبقى العائق الأساسي الفجوةَ في التزامات الدول المتقدّمة بالتمويل المناخي. وبما أنّ تمويل الكربون صُمّم لتكملة تمويل المناخ وليس لاستبداله، يعيق هذا العجز فعالية أسواق الكربون في تحقيق تطلّعات الدول المتقدّمة والنامية على حد سواء.
ومن أجل تعزيز التزام قطر وفعاليتها في أسواق الكربون، نقترح التوصيات التالية التي تنطبق أيضاً على دول أخرى تشهد سياقاً سياساتي مماثلاً:
يمكن لسوق كربون عالمي فعّال أن يحشد مبالغ تريليونات الدولارات من استثمارات القطاع الخاص ويسرّع وتيرة الابتكار في التكنولوجيا النظيفة، وأن يمكّن من تخفيف الانبعاثات على نطاقٍ واسع. تتمتّع قطر وشركاؤها في مجلس التعاون الخليجي بموقع إستراتيجي يخوّلها قيادة هذا التحوّل، بما يسهم في تعزيز التنمية المستدامة والتنويع الاقتصادي وترسيخ دورها في الجهود العالمية لمواجهة تغيّر المناخ.