توطّدت العلاقة بين إيران وسوريا بشكلٍ ملحوظ منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979. وقد ترسّخ هذا التحالف أكثر فأكثر في خلال الحرب الأهلية السورية، التي بدأت في العام 2011. وطوال تلك الفترة، برزت إيران كمؤيّدٍ ثابت للرئيس السوري بشار الأسد، وقدّمت لنظامه دعماً عسكرياً ومالياً كبيراً.1 ولم يكن هذا الدعم المطلق دليلاً على تحالف النظامين فحسب، بل مؤشّراً على مصالح إيران الإستراتيجية في المنطقة على حدّ سواء.2
وفي الآونة الأخيرة، شهد الشرق الأوسط تحوّلات دبلوماسية وجيوسياسية ملحوظة. وبرزت ثلاثة توجّهات محورية لعمليّة إعادة الضبط الإقليميّ، يمكن لكلّ منها إعادة تشكيل ديناميّات العلاقات الإيرانية السورية. أولاً، شكّلت عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية في مايو 2023 نقطة مرحلية في التطبيع بين البلاد والدول العربية.3 ثانياً، أشار تحسّن العلاقات بين المنافسَين الإقليميَين، إيران والمملكة العربية السعودية، في مارس 2023، إلى بداية عهد جديد من العلاقات الدبلوماسية المحتملة.4 والواقع أنّ هاتين الديناميتين مترابطتان بشكل وثيق؛ فالقرار الذي اتّخذه القادة الإيرانيون والسعوديون بتعزيز العلاقات سهّل عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية. وأخيراً، أدخل توجّه الدول العربية المتزايد نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل5 بُعداً جديداً للحسابات الإقليمية.
ويهدف هذا الفصل بشكلٍ أساسي إلى البحث في تداعيات توجّهات إعادة الضبط الإقليميّ هذه على العلاقات بين إيران وسوريا. وتقوم الحجّة الأساسية على أنّه في حين تمنح علاقات الأسد المزدهرة مع الدول العربية سوريا المزيد من الاستقلال الذاتي عن إيران، إلّا أنّها لا تعني بالضرورة تقلّص النفوذ الإيراني في سوريا، وتحديداً في المجالين العسكري والأمني.
في هذا السيناريو المتغيّر، من المرجّح أن تستغلّ إيران العلاقات المتجدّدة مع نظرائها العرب – وتحديداً سوريا – لتعزيز مكانتها الإقليمية وإضفاء الشرعية عليها. ومع ذلك، فإنّ العداء المشترك بين طهران ودمشق تجاه إسرائيل يتناقض بشكل صارخ مع التطبيع العربي الإسرائيلي، ما قد يصعّب انخراط الدول العربية في سوريا.
في مايو 2023، استعادت سوريا، بعد طول انتظار، مقعدها في جامعة الدول العربية6 بعد تعليق عضويّتها لما يقارب الاثني عشر عاماً. وهذا التطوّر المهم – الذي أعقب عقداً من الفظائع التي ارتكبها نظام الأسد بحقّ مواطنيه على نطاق واسع7 – يرمز إلى تردّد قبول معظم الدول العربية لحكومة الأسد كممثل رسمي لسوريا.
لم يكن قرار جامعة الدول العربية بإعادة عضوية سوريا بمثابة تأييد لنظام الأسد بقدر ما كان اعترافاً بالحقائق الجيوسياسية التي لا يمكن تفاديها والتي شكّلتها سيطرته المستمرّة على السلطة. كما سلّطت هذه الخطوة الضوء على الاختلاف في وجهات النظر بين العالم العربي والغرب إزاء معالجة الأزمة السورية المستمرّة.8 يُضاف إلى ذلك الاختلاف في المواقف بين بلدان المنطقة، حيث حافظت قطر (وبدرجة أقل الكويت9) على موقفها المعارض من إعادة العلاقات مع نظام الأسد.10
ومن وجهة نظر إيران، أثار هذا التطوّر أسئلة مثيرة للاهتمام. ففي حين يرى عددٌ من المحلّلين أنّ قبول الدول العربية لنظام الأسد كان مدفوعاً في المقام الأول بالرغبة في موازنة نفوذ إيران في دمشق، يعرض آخرون وجهة نظر مغايرة.11 وفي الواقع، اعتبرت طهران عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية بمثابة إعادة تأكيد على شرعية سوريا و”استعادة قوّتها”.12 كما سلّطت وسائل الإعلام الرسمية في إيران الضوء على دور طهران المؤثّر في تسهيل عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية.13
وكان توقيت قرار جامعة الدول العربية جديراً بالملاحظة بشكل خاص، حيث جاء في أعقاب اتفاق تاريخي بين إيران وخصمها الإقليمي الرئيسي، المملكة العربية السعودية، أنهى سبع سنوات من العداء العلني. ومن المحتمل أن يكون هذا التقارب قد شكّل أساساً لقبول سوريا من جديد في جامعة الدول العربية.
وبشكل عام، جاء موقف طهران الرسمي بشأن عودة سوريا إيجابياً. وأشاد المتحدّث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني بهذه الخطوة ووصفها بأنّها داعمة “للاستقرار الشامل والسلام” في المنطقة.14 وبالمثل، شدّد علي أصغر خاجي، كبير مستشاري وزير الخارجية الإيراني، على فوائد عودة سوريا للأمن الإقليمي.15
ومع ذلك، يضع هذا المشهد المتغيّر إيران أمام مجموعة من الفرص والتحدّيات. صحيح أنّ عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية من شأنها أن تعزّز انتعاشها الاقتصادي، ما قد يوفّر لإيران سبلاً للتعاون الاقتصادي مع عددٍ من الدول العربية، إلّا أنّها تنطوي على مخاوف كامنة. والأهم من ذلك، يمكن لمزيد من الانخراط العربي في سوريا أن يطغى على مصالح إيران الاقتصادية.16 بالإضافة إلى ذلك، لقد أثار احتمالُ تأثير الدول العربية في الحكومة السورية للحدّ من الأنشطة العسكرية الإيرانية في المنطقة، أو للتطبيع مع إسرائيل،17 المخاوفَ في طهران، حتى لو كانت النتيجة الأخيرة تبدو بعيدة المنال وسط الحرب في غزة. باختصار، صحيح أنّ عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية قد لا تغيّر مشروع إيران في سوريا بشكل جذري، إلّا أنّها تستدعي إعادة ضبط إستراتيجيات طهران في مواجهة التحدّيات الجديدة.
شكّل استئناف العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية في مارس 2023 حدثاً مهمّاً على الساحة الدبلوماسية الإقليمية. تاريخياً، أدّى التنافس بين القوّتين إلى توتّرات، حيث رسمت مواقفهما المختلفة معالم الكثير من الصراعات والتحوّلات في السلطة في أنحاء الشرق الأوسط كافّة.
بالنسبة إلى سوريا، تتأتّى عن هذه المصالحة نتائج متعدّدة. من الممكن أن تساهم العلاقات الدبلوماسية المتجدّدة بين إيران والمملكة العربية السعودية في تخفيف التوتّرات بين سوريا والبلدان العربية المجاورة لها. وبوجود إيران في الصورة، قد تحظى سوريا بمزيد من الفرص للتعامل مع الدول العربية الأخرى. وقد أعرب النظام السوري علناً عن دعمه للتقارب الإيراني السعودي، إذ اعتبره نذيراً للاستقرار الإقليمي.18 علاوة على ذلك، يؤكّد استعداد إيران لتيسير التعاون بين دمشق والرياض على التزام طهران بتعزيز علاقات أقوى بين حليفتها الوثيقة، سوريا، والدول العربية على نطاق أوسع.19
ومع ذلك، ونظراً لأنّ إيران لم تعد تواجه درجة التنافس نفسها من الدول العربيّة المجاورة لها، قد تميل أكثر إلى تعزيز نفوذها في سوريا وفي أنحاء المنطقة كافة بحزم أكبر. بيد أنّه من المرجّح أن تسعى طهران جاهدة إلى عدم تحدّي مصالح الدول الخليجيّة بشكل مباشر. ومن الممكن أن ترى الولايات المتحدة وإسرائيل، نفوذ إيران في سوريا على أنّه تهديدٌ لمصالحه الأمنية.
علاوة على ذلك، في حين قد تعزّز المصالحة التعاون الاقتصادي في سوريا بين إيران والدول العربيّة، غير أنّها لا تضمن بالضرورة تقليص وجود إيران العسكري في سوريا. ولطالما أعربت الدول الخليجية عن مخاوفها بشأن نفوذ إيران العسكري في سوريا ودعمها لمختلف الميليشيات. ومن غير المرجّح أن تتبدّد هذه المخاوف بين ليلة وضحاها، حتى مع تحسّن العلاقات الدبلوماسية.
وبالتالي، وعلى الرغم من أنّ التقارب السعودي الإيراني يبدو واعداً في الظاهر، إلّا أنّه ينطوي على شبكة معقّدة من الفرص والتحدّيات أمام سوريا. صحيح أنّه يفسح المجال أمام التعاون الاقتصادي والسياسي، إلّا أنّه يُبرز كذلك توازن القوى الدقيق في المنطقة. وستحدّد السنوات المقبلة ما إذا كانت هذه المصالحة ستؤدّي إلى حقبة جديدة من الاستقرار أو ستُبرز تحدّيات جديدة في سوريا والمنطقة.
تنعكس عمليّة تطبيع العلاقات الجارية بين عدد من الدول العربية وإسرائيل كذلك على مصالح إيران ودورها في سوريا. وقد افتتحت اتفاقات أبراهام هذه العملية في العام 2020، لتتصدّرها20 الإمارات العربيّة والبحرين، وتبعتها دول عربية أخرى بتوطيد علاقاتها مع إسرائيل وتسعى دول أخرى لذلك. ولكن لم تركب الدول العربية كلّها هذه الموجة، إذ امتنعت كلّ من قطر21 والكويت22 عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ولا يبدو أنّ ذلك سيتغيّر في أي وقت قريب.
ومع ذلك، سيكون لعملية التطبيع العربي الإسرائيلي بلا شك انعكاسات على العلاقات الإيرانية السورية. وفي الوقت الذي يحاول فيه بعض الدول العربية الأخرى الاصطفاف مع إسرائيل وسوريا في وقت واحد، قد تواجه الدول العربية صعوبة متزايدة في دعم الحكومة السورية في تشكيلتها الحالية، نظراً لتحالفها السياسي والعسكري الوثيق مع إيران، التي تعارض إسرائيل بشدّة.
بالمقابل، قد تعتبر إيران سوريا قيمة إستراتيجية أهم وسط توجّه دول المنطقة نحو التطبيع مع إسرائيل، ما يؤدّي إلى ترسيخ النفوذ الإيراني بشكل أعمق في سوريا. ومن شأن ذلك أن يفاقم التوتّرات بين إيران وإسرائيل، ما قد يجرّ سوريا إلى معركة. وجاءت الحرب الأخيرة في غزة لتزيد من الأمور تعقيداً. علّقت الحرب مؤقّتاً المناقشات حول التطبيع بين إسرائيل والسعودية، إلّا أنّها لم توقفها تماماً. ولكن على أي حال، تمثّل حرب غزة تذكيراً صارخاً بالمشاكل القديمة التي تعانيها المنطقة والتي قد تدفع الدول العربية لتوخّي المزيد من الحذر في نهجها تجاه إسرائيل.
وبالتالي، في حين تنذر عملية تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل بعهد جديد من التعاون، إلّا أنّها تفرض تحديات جديدة على حدّ سواء. ويؤكّد إحجام عدد من الدول مثل قطر والكويت عن التطبيع، جنباً إلى جنب مع تداعيات حرب غزة، على بقاء الديناميات الإقليمية غير ثابتة ومعقّدة، إذ تقع العلاقات الإيرانية السورية في قلب الكثير من الأحداث الجارية.
يقف الشرق الأوسط على أعتاب تحوّلات جذريّة. وتقع ثلاثة توجهات محوريّة لعمليّة إعادة الضبط الإقليمي في صميم هذه التغييرات: عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، والتقارب بين إيران والمملكة العربية السعودية، وعمليّة تطبيع العلاقات بين الدول العربيّة وإسرائيل. وينعكس كلٌّ من هذه التطورات على ديناميات العلاقات الإيرانية السورية إلى حدّ بعيد.
أولاً، تفسّر طهران إعادة سوريا إلى جامعة الدول العربية على أنّها اعترافٌ على نطاق أوسع بنظام بشار الأسد، والأهم من ذلك، تأييدٌ لـ”محور المقاومة” المدعوم من إيران. ومن هذا المنظور، لا تعزّز عودةُ سوريا مكانةَ إيران في سوريا فحسب، بل تضفي الشرعية على إستراتيجيّتها الإقليمية الأوسع على حدّ سواء.
وفي الوقت عينه، تتوقّع إيران أن تعزّز مصالحتُها مع السعودية نفوذَها في سوريا. وبوجه خاص، يمكن أن تمهّد الطريق أمام التعاون مع الدول العربية في إعادة بناء الاقتصاد السوري الذي مزّقته الحرب. ويمكن لإيران، من خلال البناء على دعمها القديم للأسد، أن تضع نفسها كجهة فاعلة رئيسية في إعادة إعمار سوريا، مستهدفة قطاعات إستراتيجية مثل البنية التحتية والطاقة.
ومع ذلك، يمثّل التوجّه المتزايد نحو تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل تحدّياً لإيران، خاصة في ظل الحرب في غزة. فبالنسبة إلى طهران، تثبت الحرب أهمية الحفاظ على تأييد سوريا لموقفها المناهض لإسرائيل. ويخدم هذا التحالف غرضاً مزدوجاً: فهو يتعارض مع التطبيع العربي الإسرائيلي ويحافظ على سوريا كحليف أساسي في إستراتيجية إيران الإقليمية الأوسع. ومع ذلك، وفي الوقت عينه، قد يقود تكثيف العلاقات العربية الإسرائيلية سوريا في نهاية المطاف إلى صراعات مباشرة، ما يزيد من تعقيد الديناميات الإقليمية.
وحتى الآن، حافظت دمشق على موقف منضبط من الصراع في غزة، مبتعدة عن الانخراط العسكري المباشر. غير أنّ تصاعد عمليات الميليشيات المدعومة من إيران ضدّ مصالح واشنطن، والذي دفع الولايات المتحدة إلى الرد على هذه الميليشيات في شرق سوريا وفي العراق، قد برهن أنّ الصراع يمكن أن يمتدّ بسهولة إلى الأراضي السورية.23 ويمكن أن يكون الأسد قد أمل أنّه من خلال عدم المشاركة المباشرة في الحرب، يمكن لسوريا أن تتجنّب مزيداً من عدم الاستقرار فضلاً عن التورّط في الصراعات الإقليمية. ومن شأن هذه الإستراتيجية أن تسمح لها بالحفاظ على اصطفافها مع موقف إيران المناهض لإسرائيل من دون تفاقم وضعها الداخلي غير المستقر أساساً أو المخاطرة بمواجهة مباشرة. ولكن حتّى هذه المقاربة قد تتغيّر في المستقبل، وخاصة في حال عزّز الأسد سيطرته على بقية الأراضي السورية واكتسب ثقة أكبر بفضل شرعية نظامه الدبلوماسية المتزايدة.
وبشكل عام، تجبر هذه التطورات إيران على تبنّي موقف أكثر حزماً في سوريا. ولا تحرص طهران على الحفاظ على نفوذها في البلاد فحسب، بل على توسيعه أيضاً. تطرح هذه التوجهات معضلة إستراتيجية كبيرة أمام الدول العربية، إذ يشكّل تحقيق التوازن بين علاقاتها المتنامية مع دمشق وتحسين العلاقات مع طهران مقابل علاقاتها مع إسرائيل تحدّياً متزايداً. كما وأنّ مصالحها الوطنية الفردية والتيّارات الجيوسياسية الأوسع التي ترسم مسار المنطقة تجعل عملية التوازن هذه أكثر تعقيداً.
علاوة على ذلك، يلقي احتمال زيادة التوتّرات بين إيران وخصومها، لا سيما الولايات المتحدة وإسرائيل، بظلاله على مستقبل سوريا. وتخاطر البلاد ببقائها ساحة معركة لصراعات القوى الإقليمية، ما يقوّض إمكانيّة تحقيقها الاستقرار والتعافي. باختصار، تشير العلاقة المتطوّرة بين إيران وسوريا – على خلفية التحالفات الإقليمية المتغيّرة والإستراتيجيات الجيوسياسية – إلى المصالح المعقّدة التي ترسم معالم الشرق الأوسط. وفي ظلّ هذه التوجّهات، ستطال انعكاساتها البعيدة المدى ليس إيران وسوريا فحسب، بل المنطقة بأكملها.