شهدت العلاقات بين الصين ومنطقة المتوسّط تاريخاً طويلاً من التفاعل، تجسّد في رموز ثقافية وتاريخية مثل طريق الحرير القديم وماركو بولو وابن بطّوطة، التي تعكس عمق الروابط بين المنطقتَين.
تطوّرت العلاقات بين الصين وشمال أفريقيا منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية في العام 1949، وازدادت متانةً بفضل الدعم السياسي المتبادل في كفاحهما من أجل الاستقلال، كما في حالتي الصين والجزائر، وكذلك الصين ومصر. وشهدت العلاقات الاقتصادية بين الصين وشمال المتوسّط نمواً ملحوظاً منذ اعتماد سياسة الإصلاح والانفتاح في الصين في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات. واليوم، تمثّل مبادرة الحزام والطريق (BRI) الإطار الأبرز الذي يحدّد طبيعة انخراط الصين في هاتين المنطقتَين الفرعيتين من البحر المتوسط.1
ومع تحوّل الصين إلى قوةٍ ذات نفوذ عالمي متصاعد، من المتوقّع أن تنمو علاقاتها مع منطقة المتوسّط بشكلٍ كبير، وأن تتنامى مصالحها فيها تباعاً. لكن خلافاً للجهات الفاعلة الخارجية الأخرى، لا تملك الصين إستراتيجيّة متكاملة للتعامل مع هذه المنطقة. وفي رؤية الصين، لا تُعدّ منطقة المتوسّط حالياً كياناً متكاملاً، بل تتكوّن من أجزاء متفرقة تشمل جنوب أوروبا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط. ولهذا، تصوغ الصين أهداف سياستها الخارجية تجاه أوروبا 2 وأفريقيا 3 والدول العربية 4 على نحو منفصل، من دون أن تطرح رؤية أو سياسة موحّدة تخصّ منطقة المتوسّط ككلّ.
يكمن تحليل دور الصين في منطقة المتوسّط ضمن الإطار العام لمبادئ سياستها الخارجية وفي هياكلها. وعلى الرغم من الطبيعة المتعدّدة الأوجه للسياسة الصينية في المنطقة، تجدر الإشارة إلى المبادئ الثلاثة التالية: أولاً، الالتزام بإرث الصداقة الناتج عن النضال المشترك ضد الاستعمار؛ ثانياً، تعزيز جهود المصالحة؛ وثالثاً، تعزيز الوحدة من خلال مبادرة الحزام والطريق باعتبارها مقاربة اقتصادية للانخراط الإقليمي.
قال السياسي البريطاني جون هنري تمبل، المعروف باللورد بالمرستون، في منتصف القرن التاسع عشر قولاً شهيراً مفاده أنّه في الجيوسياسة، لا يوجد عدو دائم ولا صديق دائم، بل مصالح دائمة.
على الرغم من أنّ هذه المقاربة شائعة على نطاقٍ واسع، لم تعتمدها الصين يوماً كمبدأ في علاقاتها مع الدول الأخرى. بل على العكس، تُصر الصين على الالتزام بإرث صداقاتها وتجعل منه ركيزة أساسية في تطوير علاقاتها مع الدول الصديقة. وغالباً ما يشير القادة الصينيون في لقاءاتهم مع نظرائهم الأفارقة إلى تاريخ الدعم المتبادل والنضال المشترك ضد الاستعمار من أجل الاستقلال، الذي امتدّ من خمسينات إلى سبعينات القرن الماضي. فعلى سبيل المثال، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ في اجتماعه مع نظيره الجزائري عبد المجيد تبون في 18 يوليو 2023: “لقد كان بلدانا صديقين حقيقيين وشريكين طبيعيين في السعي لتحقيق التنمية المشتركة والنهضة الوطنية”.5
تُعدّ جهود الصين في تعزيز علاقاتها مع الجزائر مثالاً بارزاً في هذا السياق. ففي خمسينات وستينات القرن الماضي، خاض الجزائريون واحدة من أعنف حروب الاستقلال ضد الاستعمار في تاريخ البشرية. وقد ساندت الصين نضال الجزائريين بحزمٍ من خلال تقديم الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري. وعندما سحبت فرنسا طواقمها الطبية من المرافق الصحية الجزائرية في أواخر الخمسينات، سارعت الصين إلى سدّ هذا الفراغ بإرسال فرقٍ طبية، في خطوة أصبحت لاحقاً سمة بارزة في علاقاتها مع الدول الأفريقية المستقلّة حديثاً.6
لطالما اتّسمت العلاقات بين الصين والجزائر بالدعم المتبادل. فقد وقفت الجزائر إلى جانب الصين في أبرز ملفاتها الدولية. ففي العام 1971، تقدّمت الجزائر بالاشتراك مع ألبانيا، بمشروع قرار إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة يؤيّد استعادة الصين مقعدها في المنظّمة، في خطوة تُعدّ من أبرز المحطّات في تاريخ الأمم المتحدة. وقد صمدت هذه الصداقة المتجذّرة في الدعم المتبادل أمام اختبار الزمن. ففي العام 2014، أعلنت الصين والجزائر رسمياً عن إطلاق شراكتهما الإستراتيجية الشاملة،7 والتي تُعدّ من أوائل الشراكات بين الصين والدول العربية. وعلى مدى أكثر من ستة عقود، واصلت الصين إرسال فرقها الطبية إلى الجزائر، كما دعمتها في تنفيذ عددٍ من المشاريع الكبرى، مثل مشروع “الطريق السيار شرق غرب” الذي اكتمل أخيراً في العام 8.2023ورغم الإعتبارات الإستراتيجية خلف هذا التعاون، تبقى الصداقة ركيزة في العلاقة بين الدولتين.
الجزائر ليست الدولة الوحيدة في شمال أفريقيا التي تترجم الصين من خلالها التزامها بمبدأ تقدير الصداقة، فمصر تُعدّ مثالاً آخر على ذلك. لقد ساهمت الصين بشكلٍ كبير في دعم التنمية الاقتصادية وتحديث البنية التحتية في مصر، ومن أبرز هذه المشاريع التنموية التي استثمرت الصين فيها موارد اقتصادية ضخمة: مشروع المنطقة الاقتصادية لقناة السويس ومشروع العاصمة الإدارية الجديدة.9وقد استقطبت المنطقة الاقتصادية لقناة السويس أكثر من 6 مليار دولار في الفترة الممتدّة بين 2023 و2024، شكّلت الاستثمارات الصينية منها ما نسبته 40 في المئة.10
لقد طغت سياسة “فرّق تسد” الاستعمارية على ممارسات الحوكمة العالمية، فتركت بصماتها العميقة في منطقتي المتوسّط والشرق الأوسط وأثقلت مسار تطوّرهما. أمّا الصين، فقد سلكت نهجاً مغايراً، إذ تبنّت فلسفة تقوم على الوحدة والمصالحة، وجعلت منهما ركيزتين أساسيتين في مقاربتها التقليدية للحكم وبناء العلاقات الدولية.
على الرغم من الاضطرابات المستمرّة في المنطقة وانعكاساتها على الساحة العالمية، تضع الصين التنمية على رأس أولوياتها11 انطلاقاً من قناعة راسخة بأنّ المحافظة على السلام والاستقرار هو السبيل الأمثل لتهيئة بيئة ملائمة للتنمية. وتؤمن القيادة الصينية بأنّ المثابرة في تنفيذ أجندتها التنموية ستمنحها القدرة على المدى البعيد لمعالجة معظم التحدّيات التي تواجهها اليوم.
في الآونة الأخيرة، سخّرت الصين مواردها السياسية والاقتصادية بشكل لافت لتعزيز المصالحة والوحدة في المنطقة. ففي مطلع مارس 2023، رعت محادثات بين إيران والمملكة العربية السعودية تُوّجت بمصالحة تاريخية بين الخصمين الإقليميين.12 وفي 23 يوليو 2024، احتضنت بكين توافقاً بين أربعة عشر فصيلاً فلسطينياً،13 ما أنعش الآمال بإعادة تشكيل المشهد السياسي الفلسطيني في المستقبل.
على الرغم من حالة عدم الاستقرار الناجمة عن الفظائع المرتكَبة في غزة، بقيت مناطق مجاورة، وعلى رأسها الخليج، مستقرّة إلى حدّ بعيد. ويُعزى هذا الاستقرار، إلى حدّ بعيد، إلى الجهود الحثيثة التي بذلتها الصين لتعزيز المصالحة بين إيران والمملكة العربية السعودية. وقد ساهم هذا الاستقرار، الذي بات ضرورة ملحّة، في خدمة مصالح المنطقة والصين وبقية العالم أيضاً.
رغم التوثيق الواسع للحالتين السابقتين، فإنّ جهود الصين تتخطّاها بكثير. إذ تبنّت منذ وقتٍ مبكر سياسة تقوم على بناء علاقات جماعية مع الدول العربية، حتى وإن لم تحظَ هذه السياسة بالكثير من الاهتمام الإعلامي. ويمثّل “منتدى التعاون الصيني العربي” نموذجاً حيّاً على هذا التوجّه، كونه آليّة متعدّدة الأطراف تعكس التزام الصين بدعم الوحدة العربية بعيداً عن سياسات التفريق والسيطرة.
في ظلّ غياب سياسة موحّدة ومتكاملة تجاه المنطقة، تبرز منطقة المتوسّط بوصفها امتداداً طبيعياً لجهود الصين في تعزيز مبادرة الحزام والطريق. ونظراً لأهميّة طبيعتها الجغرافية وعمقها الثقافي، تشكّل المنطقة جزءاً أصيلاً من تاريخ طريق الحرير، ما يفرض على الصين ضرورة تكثيف حضورها واستثمار جهودها في منطقة المتوسّط.
تُعدّ اليونان مثالاً نموذجياً على الشراكة في إطار مبادرة الحزام والطريق. ففي أواخر الألفينات، كانت تواجه أزمةً مالية خانقة ألقت بظلالها على مختلف القطاعات الاقتصادية، وكان ميناء بيرايوس، أحد ركائز الاقتصاد اليوناني الأساسية، في حالة من الركود الشديد. على هذه الخلفيّة، بدأ التعاون مع الصين. ومنذ ذلك الحين، شهد الميناء نمواً هائلاً في حجم مناولة الحاويات، إذ بلغ عدد الحاويات المتداولة في العام 2010 نحو 880 ألف حاوية من قياس عشرين قدماً، في حين تجاوز هذا العدد في السنوات الأخيرة حاجز الخمسة ملايين وحدة.14
تشير تقارير إلى أنّ اليونان تتميّز عن الدول الأخرى بالنمو الحاد في القيمة الحقيقية لسوق الأسهم، التي سجّلت ارتفاعاً بنسبة 43,8 في المئة بين 2022 و 2023.15 وشهد الاستثمار نمواً بنحو 15,1 في المئة في العام 2024، أي أكثر من الضعف مقارنة بالسنة السابقة. وفي العام 2023، تصدّرت اليونان التصنيف السنوي لمجلّة “ذي إيكونوميست” (The Economist) لأفضل أداء اقتصادي بين دول العالم المتقدّم.16 شكّلت كل هذه التغييرات الإيجابية تبايناً واضحاً مع المشهد العام المُثقل بالمشاكل الاقتصادية في شتّى أنحاء جنوب أوروبا. قد يُعزى نجاح اليونان في التغلّب على أزمتها المالية إلى أسباب متعدّدة، من ضمنها التعاون في إطار مبادرة الحزام والطريق.
تُعدّ اليونان مثالاً واحداً فحسب على التعاون الناجح في إطار مبادرة الحزام والطريق، الذي يشمل دولاً أخرى في المنطقة مثل الجزائر ومصر والمغرب وإيطاليا، وجميعها حقّقت إنجازات ملموسة في هذا السياق. وعلى الرغم من تنامي العقبات الجيوسياسية، ومنها انسحاب إيطاليا من مبادرة الحزام والطريق بضغطٍ من الولايات المتّحدة، ستستمرّ بكين في دفع المبادرة قدماً لمصلحة الصين والمنطقة على حد سواء.
تشكّل منطقة المتوسّط جزءاً لا يتجزّأ من رؤية الصين للعالم، على الرغم من غياب سياسة موحّدة تجاهها. لقد ارتكزت العلاقات بين الصين وشمال أفريقيا، عبر الزمن، على إرثٍ من الصداقة وُلد من كفاحٍ مشترك ضد الاستعمار الغربي. وفي المستقبل، ستسعى الصين إلى مواءمة هذه الصداقة التاريخية مع مبادراتها السياساتية الجديدة وأجنداتها المستقبلية.
تَعتبر الصين غرب الشرق الأوسط منطقةً تشهد اضطرابات متواصلة نتيجةً لإستراتيجية “فرّق تسد” التي تنتهجها قوى مُهيمنة متعدّدة. وستواصل الصين دعم جهود تحقيق الوحدة والمصالحة في المنطقة، انطلاقاً من حسّها بالمسؤولية كقوة دولية صاعدة، وحرصاً على مصالحها الاقتصادية التي تقتضي وجود بيئة إقليمية مستقرّة.
سُتحدّد الجهودُ المشتركة الرامية إلى تعزيز مبادرة الحزام والطريق ملامح انخراط الصين مع المناطق الثلاثة من المتوسّط، غرب آسيا وشمال أفريقيا وجنوب أوروبا. وستؤدّي دول جنوب أوروبا، التي تمثّل نقطة اتصال لوجستية رابطة الأجزاء الأخرى من أوروبا، دوراً مهمّاً كشركاء للصين في هذا الصدد.
وعلى الرغم من أنّ دور الصين في منطقة المتوسّط لا يتناسب مع مكانتها الاقتصادية والسياسية في العالم، إلّا أنّ دورها سيشهد نمواً، ونأمل بأن يولّد آثاراً إيجابية في المدى الطويل.