لقد أدّت الحرب المستمرّة على غزة وحملة الإبادة الجماعية العسكرية التي تشنّها إسرائيل إلى زيادة التوتّرات بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل. وتعزو واشنطن وحلفاؤها هذه التوتّرات أيضاً إلى دعم طهران المستمرّ للجهات الفاعلة الإقليمية – أعضاء ما يسمى بـ “محور المقاومة“. ويتألّف المحور، بالإضافة إلى حماس وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، من الحوثيين في اليمن ونظام الأسد في سوريا، بالإضافة إلى عدد من الميليشيات الشيعية العراقية. وكما بيّنت فصول هذا الملف بالتفصيل، لقد ردّت القيادة الإيرانية في خضم الحرب على غزة مشدّدة على دورها كمحرّك لهذا المحور. ويؤكّد هذا الرّد من جديد ادّعاء طهران القديم بدعم القضية الفلسطينية، وعلى نطاق أوسع، مصالح العالم الإسلامي. وهو ما يميّز إيران عن الدول المجاورة لها من خلال تذكير المراقبين بمعارضتها المستمرّة لإسرائيل، بعد أن أُزهِقت الدماء والأموال في مقاومة الهيمنة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية.
ومع ذلك، يخدم المحور غرضاً مزدوجاً. فقد أشار شهرام أكبر زاده في الفصل السادس، إلى أنّ طهران تعتبر أيضاً شبكة الجهات الفاعلة الموالية لإيران رادعاً ضدّ الأعمال العدائية وعنصراً أساسياً في إستراتيجية “الدفاع الأمامي“. بالتالي، من المفارقة أن يؤدّي الهجوم الذي شنّته حماس في السابع من أكتوبر من العام الماضي إلى لفت الانتباه الدولي إلى إيران واستعراض قوّتها في الشرق الأوسط. ويتزايد هذا الانتباه مع التحدي المتزايد الذي يشكّله الحوثيون على التجارة البحرية الدولية وحركة الملاحة في البحر الأحمر. ولكن كما أشار فوزي الغويدي في الفصل الرابع، فإنّ الحوثيين ليسوا مجرّد وكلاء طهران ولا مجموعة مستقلّة تماماً عنها.
وتشير التطوّرات في نهاية العام 2023 إلى أنّ الرئيس إبراهيم رئيسي لم يكن مستعدّاً لتحديات جديدة. فقبل التصعيد الأخير بين إيران والولايات المتحدة، بدا وكأنّ طهران تحرز تقدّماً ملحوظاً في إصلاح العلاقات مع الدول المجاورة لها وخدمة مصالحها الخاصة. على سبيل المثال، تناول مهند سلوم في الفصل الخامس نفوذ إيران المتزايد في السياسة العراقية. وعلى نحو مماثل، وفي سياق العلاقات الإيرانية السورية، أكّد حميد رضا عزيزي على استمرار انخراط طهران في سوريا على الرغم من تنامي علاقات بشار الأسد مع الدول العربية.
والأهمّ من ذلك، شكّل استئناف العلاقات الدبلوماسية الإيرانية مع المملكة العربية السعودية في مارس 2023، تحت رعاية الصين، إنجازاً مهمّاً لحكومة رئيسي وفق ما لحظه عدد من المؤلفين. وظهر هذا التقارب على ثلاثة مستويات على الأقل. وكما أشار مهران كامرافا في الفصل الأول، لقد أكّد هذا التقارب أوّلاً على إعطاء إيران الأولوية لسياسة الجوار لتخفيف العزلة الدولية. ثانياً، أظهر تغيّر حسابات المملكة العربية السعودية في علاقاتها مع إيران، كما أوضحت فاطمة الصمادي في فصلها. وثالثاً، كشف عن النفوذ الدبلوماسي للصين كضامن لاتفاق مهمّ بين منافسَين إقليميين.
ومع ذلك، فقد تجاوزت آثار استئناف العلاقات الدبلوماسية مع المملكة العربية السعودية المنطقة المباشرة، كما يوضح الملف بقسمه الثاني بالتفصيل. إذ سمح ذلك للقيادة الإيرانية بتقديم نفسها لبكين كشريك موثوق وعقلاني، ما عزّز سياسة “التوجه شرقاً”. وشكّل حصول إيران على العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي للتعاون في يوليو 2023، بعد سنوات من الجدل والمفاوضات، نتيجةً ملموسةً لهذا التوجّه.
توفّر المكاسب التي حقّقها الرئيس رئيسي من خلال الدفع بسياسة “التوجه شرقاً” الإيرانية مزايا ملموسة للطموحات الإيرانية بنظام عالمي جديد. واعتبرت إدارات سابقة هذه السياسة بمثابة فرصة اقتصادية وحلّ سحري لعزلة إيران. فقد دمّرت العقوبات الأمريكية والدولية المتعدّدة المفروضة على طهران الاقتصادَ الإيراني وأثارت استياءً شعبياً واسع النطاق واحتجاجات عنيفة بسبب الخبز. وكان من المتوقّع أن تخفّف سياسة “التوجه شرقاً” من الأثر الاقتصادي للعقوبات، إلّا أنّها اكتسبت في عهد رئيسي وفي خضمّ الحرب على غزة، أهمية سياسية أكبر.
وقد أشار عدد من المؤلّفين إلى أنّ نجاحات رئيسي كانت مبنيّة على المقاربات السياسية التي تبنّتها الإدارات السابقة. ووصف لوتشيانو زاكارا ذلك بـ “غياب الإستراتيجيّة“، إذ يمثّل “استمراراً للسياسة الخارجية الإيرانية القائمة بدلاً من تقديم نهج مختلف“. ومع ذلك، تعارضت تحليلات الفصول الأخرى مع هذا الرأي. فقد أشار كامرافا إلى أنّه على الرغم من بناء رئيسي سياسته على مقاربات سابقة، إلّا أنّه كان أول من تبنّى رسمياً سياسة “التوجه شرقاً” كنهج رسميّ. وعلى نحو مماثل، أكّدت آزادي زاميريراد على التكامل المتزايد بين سياستي “التوجه شرقاً” و”الجوار” في عهد رئيسي، رغم إقرارها باستمراريّة بعض السياسات.
في النهاية، وعلى الرغم من اختلاف تحليلات المؤلّفين حول موضوعات معيّنة، إلّا أنّ الفصول كافة شدّدت على دور إيران الأساسي في تشكيل المشهد السياسي الإقليمي. وسيكون العام 2024 حاسماً بالنسبة إلى المنطقة. وستساهم الحرب المستمرّة في غزة، والانتخابات الأمريكية والسياسة الإيرانية الداخلية جميعها في رسم معالم السياسة الخارجية الإيرانية.
ويمكن القول إنّ القيادة الإيرانية عادت بشكلٍ متعمّد إلى التصريحات الأيديولوجية كما في الأيام الثورية القديمة وجدّدت الدعوات إلى نظام عالمي جديد. وقد أشاد المرشد الأعلى علي خامنئي بنهضة آسيا وتراجع الولايات المتحدة.i ومن وجهة نظره هذه، لا تخفّف العلاقات الوثيقة مع الصين وروسيا من آثار العقوبات فحسب، بل تبشر ببداية عصر جديد.
وقد اكتسبت السياسة الخارجية الإصلاحيّة حياة جديدة في خلال ولاية رئيسي وإثر التصعيد الأخير للتوترات. فهي تختلف عن المقاربات العملية السابقة وتستهدف الولايات المتحدة باعتبارها قوة مهيمنة تسيطر على المؤسسات الدولية وتضع بشكل أحادي معايير النظام العالمي غير العادل، ويمكن القول إنّها وجهة نظر مبرّرة بسبب تهاون الولايات المتحدة بشأن الحرب المستمرّة على غزة. وتقدّم هذه النظرة العالمية الإطار لمشاركة إيران الخارجية وصنع القرار؛ ويجب أن يتوافق أي تقارب مع الدول المجاورة لها مع هذا الإطار الشامل، ما يصبّ في قلب المقاربة الإيرانية.
ومن غير المرجّح أن تتخلّى إيران عن شبكة المحسوبية الخاصة بها على الرغم من ردود الفعل الإقليمية العنيفة تجاه علاقاتها بالوكالة على مدى العقد الماضي. وتعتبر القيادة الإيرانية، والتي تنشط الآن في عهد الرئيس رئيسي، التوتّرات الإقليمية المتصاعدة إثباتاً لرؤيتها؛ فهي ترفض الجهود السابقة لإيجاد أرضية مشتركة مع الغرب باعتبارها مضلّلة في أحسن الأحوال، وغادرة في أسوئها. وقد أدّى فوز المحافظين المؤيّدين لرئيسي في الانتخابات البرلمانية في مارس 2024 إلى تعزيز هذا التحوّل السياسي. وفيما يعمل مناصرو رئيسي على ترسيخ السلطة وعكس مسار السياسة الداخلية والخارجية، تتضاءل احتمالات التوصّل إلى تسوية بشأن القضايا المتنازع عليها، مثل الاتفاق النووي، أكثر فأكثر. وسيفرض هذا المشهد السياسي المتغيّر – إلى جانب سياسة إيران الخارجية الإصلاحيّة بحثاً عن نظام عالمي ما بعد الغرب –عقبات خطيرة أمام تحسين العلاقات بين إيران والدول المجاورة لها.