في العام 2015، وقّعت إيران والاتحاد الأوروبي والأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالإضافة إلى ألمانيا – أي مجموعة 1+5 – على خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA).1 وفرض الاتفاق نظام رقابة ومراقبة صارماً على مستويات تخصيب اليورانيوم في إيران لمنعها من استخدامه عسكرياً. وفي المقابل، رفعت الأمم المتحدة العقوبات التي فُرضت على إيران كردٍّ على عدم امتثالها لطلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) للوصول إلى المنشآت النووية في البلاد ومراقبتها.
وعلى الرغم من اعتبار تخفيف العقوبات إنجازاً مهماً، إلّا أنّ فوائده كانت محدودة. استمرّت واشنطن في النظر إلى طهران على أنّها راعية للإرهاب، بسبب إستراتيجية التدخّل الإيرانية في الشرق الأوسط المتمثّلة في دعم الجهات الفاعلة المسلّحة غير الحكومية، وحافظت واشنطن على مجموعة منفصلة من العقوبات التي تهدف إلى تغيير سلوك إيران2 وربما حتى إلى محاولة التحريض على تغيير النظام.3 وفي العام 2018 في عهد الرئيس دونالد ترامب، انسحبت الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة.4 وردّاً على ذلك، خفّفت إيران تدريجياً من امتثالها – عبر زيادة تخصيب اليورانيوم تدريجياً – لتقلب المعادلة من مكاسب الصفقة الدبلوماسية.5
وأشارت تقارير حول المحادثات السرّية بين واشنطن وطهران في العام 2023 إلى دفعة حذرة من إدارة الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن لإعادة إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة.6 ومع ذلك، تعيق جهود التفاوض على “خطة العمل الشاملة المشتركة 2.0” عوائق مترابطة، بما فيها التصعيد الأخير في الشرق الأوسط في أعقاب الحرب الإسرائيلية على غزة، وهيمنة جناح متشدّد تحت قيادة الرئيس إبراهيم رئيسي في إيران. سيتناول هذا الفصل العوامل الجيوسياسية والأيديولوجية المترابطة التي تعيق الجهود الرامية إلى إعادة إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة وتقييم آفاق مستقبل الاتفاقية.
شكّلت فكرة “تصدير الثورة” حجر الأساس في السياسة الخارجية الإيرانية لعقود من الزمن.7 ورُوِّج لهذه السياسة تحت شعار دعم المستضعَفين، وفُعِّلت من خلال إنشاء الروابط مع الجهات المسلّحة غير الحكومية، وتحديداً حزب الله في لبنان8 وحركة حماس الفلسطينية.9 كما دعمت إيران المجموعات الشيعية في العراق10 والبحرين11 والمملكة العربية السعودية12 تحت عنوان التضامن الإسلامي ضدّ الظلم.
في أعقاب ثورة 1979، رأت واشنطن وحلفاؤها في المنطقة أنّ السياسة الخارجية الإيرانية هي سياسة تدخّلية وتخريبية. ويفسّر هذا القلق الدعمَ الإقليمي للعراق في حربه الطويلة مع إيران بين 1980 و1988، والتي خلّفت أثراً عميقاً على صناع السياسة الخارجية الإيرانيين وتقييماتهم الإستراتيجية. وعلى الرغم من محاولة بعض القادة الإيرانيين، وأبرزهم الرئيس محمد خاتمي،13 التخلّص من عقلية إيران في مواجهة الغرب، إلّا أنّ هذه الثنائية تبقى راسخة في قلب الفكر السياسي في البلاد. وقد أدّى فوز رئيسي في الانتخابات الرئاسية في العام 2021 إلى تعزيز هذا المنظور المتشدّد. وقد انتقد رئيسي خطة العمل الشاملة المشتركة باعتبارها تسوية غير مقبولة قوّضت مهمّة إيران الثورية،14 وما من مؤشّر يدلّ على أنّ وجهات نظره قد تغيّرت.
منذ أكثر من أربعة عقود وإيران دولة منبوذة، على الرغم من تعدّد الفرص للخروج من دوامة انعدام الثقة والعداء المتبادل بينها وبين الولايات المتحدة. وأتت إحدى هذه الفرص بعد الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة في العام 2001، إذ تماشت العمليات الأمريكية ضدّ طالبان بعد 11 سبتمبر مع المصالح الإيرانية.15 ولكن سرعان ما ضاعت هذه الفرصة عندما وضع المحافظون الجدد في واشنطن إيران نصب أعينهم كهدف في “محور الشر”.16 وفي الوقت نفسه، أنكر منتقدو خاتمي المحافظون جهوده لإعادة ضبط العلاقات مع الغرب من خلال “الحوار بين الحضارات”، باعتبارها مجرّد أمنيات.
وظهرت فرصة أخرى لإعادة ضبط السياسة في العام 2014، إثر استيلاء فصائل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على الموصل في سوريا.17 وشكّل التنظيم بأجندته المناهضة للشيعة تهديداً كبيراً لطهران. ردّاً على ذلك، حثّت إيران على الحشد الشعبي ضدّ داعش – وهذا ما ردّده آية الله العظمى علي السيستاني في العراق،18 والذي أدّت فتواه إلى تشكيل قوات الحشد الشعبي.19 وفي وقت لاحق، ساعدت قوات الحشد الشعبي القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة والجيش العراقي في تحرير الموصل في العام 20.2017 ومع ذلك، لم يخفّف توافق المصالح الأمريكية والإيرانية ضد داعش من العداء الراسخ بين البلدين. بل رأت السلطات الإيرانية تنظيم داعش على أنّه نتاج إستراتيجية أمريكية طويلة المدى لتقويض إيران.21
تتأثّر سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران بمزيج من المظالم التاريخية – لا سيما عملية احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران22 بين العامين 1979 و1981 – والتقييم بأنّ إيران تهدّد مصالح واشنطن الحالية. تهدف العقوبات الأمريكية على إيران إلى كبح قيادة طهران الثورية. وقد خفّفت إيران جزئياً من أثر العقوبات من خلال تحويل التجارة إلى الأسواق الآسيوية، وخاصة الصين، إلّا أنّ نموّها الاقتصادي وتنميتها لا يزالان متعثّرين. كما حوّلت السلطات الإيرانية الصعوبات الاقتصادية إلى وسام شرف – تمجيد “اقتصاد المقاومة” في البلاد – وربطت بين تقدير العزلة والتركيز على الاكتفاء الذاتي. أمّا بالنسبة إلى القوات المسلّحة الإيرانية، فقد عنى ذلك تعزيز البحث والتطوير في مجال الأسلحة، مثل تكنولوجيا الطائرات المسيّرة.
في ظلّ تدهور العلاقات بين واشنطن ومنافسَيها العالميين روسيا والصين، وجدت إيران فرصاً جديدة لتعزيز علاقاتها.23 وتعتبر القيادة الدينية التحوّلات الأخيرة في التحالفات الجيواستراتيجية مجدية في تعاملها مع واشنطن.24 ووقّعت طهران في مارس 2021 اتفاقية تعاون إستراتيجي لمدة 25 عاماً تشمل استثمارات في مجال النفط والبنية التحتية للسكك الحديدية.25 وقد دفعت هذه التطوّرات السلطات الإيرانية إلى الأمل في إمكانية تخفيف جزءٍ من آثار العقوبات الشديدة. كما تبرز دينامية مماثلة بالنسبة إلى روسيا. لقد أثبت توافق المصالح الروسية والإيرانية في سوريا أهميّته في بقاء نظام الرئيس بشار الأسد. كما أثبتت طهران نفسها كشريك موثوق لروسيا في الحرب على أوكرانيا.26
صمّمت مجموعة 1+5 خطةَ العمل الشاملة المشتركة لتجزئة القضايا المثيرة للقلق، من خلال اتّباع نهج تدريجي في التعامل مع التهديد الذي تشكّله إيران على الأمن الإقليمي. وقد أعطِيَت الأولوية لمعالجة طموحات إيران النووية على ردع سياسة التدخّل التي تعتمدها البلاد. ولم ترحّب الدول المجاورة لإيران بفصل القضية النووية عن باقي سياسة طهران الإقليمية، لأنّها تحمّلت العبء الأكبر من تدخّلات إيران. ومع ذلك، أصرّت إدارة أوباما، ولفترة قصيرة، على أنّ هذا النهج يحرز تقدّماً. إلّا أنّ المشهد تغيّر بعد انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي في العام 2018.
وفي السنوات الفاصلة، ضاعفت إيران أفضليّاتها غير المتماثلة. فقد عزّزت رعايتها لحلفائها بالوكالة،27 وأحرزت تقدّماً ملموساً في التكنولوجيا الباليستية،28 ووضعت قمراً صناعياً في المدار،29 وزادت من فعالية طائرتها المسيّرة وقدرتها على الفتك.30 باختصار، استثمرت إيران السنوات الماضية لتعزيز قدرتها على بسط قوّتها في المنطقة. ويشير تصدير إيران للطائرات المسيّرة الانتحارية إلى روسيا إلى زيادة هذا التفوّق غير المتكافئ، ما يقوّض أكثر منطق التجزئة.31
وقد اتّخذت إيران كذلك إجراءات غير متكافئة تحت عنوان “الدفاع الأمامي”.32 إذ استثمر النظام في طرق لاستباق التهديدات على الحدود نظراً لاستنفاد معدّاته العسكرية التقليدية. وتتمتّع الصواريخ الإيرانية بالقدرة على الوصول إلى الأراضي الإسرائيلية.33 بالإضافة إلى ذلك، يستخدم حزب الله تكنولوجيا الصواريخ الإيرانية وقد أظهر بالفعل استعداده لمساندة طهران.34 لم تُصمّم خطة العمل الشاملة المشتركة للتصدي لهذه العوامل، ومن شبه المستحيل أن تتجاهلها واشنطن في أي محادثات مستقبلية.
لعلّ أهمية تصدير الثورة في السياسة الخارجية الإيرانية تراجعت، إلّا أنّ المفهوم الأساسي للمقاومة ضدّ النظام الدولي “غير العادل” الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة لم يتلاشَ. وفي حين فشلت إيران في صياغة بديل واضح للنظام الدولي الليبرالي، إلّا أنّها تدافع عن بعض المبادئ الأساسية: التحرّر من “غطرسة” الولايات المتحدة و”بلطجتها”؛ “العدالة”؛ واحترام السيادة الوطنية والتقاليد الثقافية.35 وتتأثّر رؤية طهران بتاريخ من الاختلال في توازن القوى بين إيران والولايات المتحدة قبل ثورة 1979. واشتكت القيادة الدينية في تلك الفترة من تعدّي الثقافة والقيم الغربية المستمرّ على إيران واحتشدت ضدّ “التسمّم الغربي”. وقد أصبح هذا التفكير الآن واضحاً بشكل كبير في نظرة إيران العالمية وسياستها الخارجية.
تميل إيران إلى الشراكة مع الدول التي تشاركها كراهيتها للولايات المتحدة، مثل سوريا وفنزويلا. إلّا أنّ احتمال تشكيل تحدّي وجيه للولايات المتحدة والنظام الدولي الليبرالي لم يكتسب مصداقية إلّا بعد أن تشدّدت روسيا والصين في مواقفهما. وتنظر الدولتان إلى الولايات المتحدة على أنّها قوّة مهيمنة وتسعيان إلى إيجاد ثقل موازن في الوكالات المتعدّدة الأطراف، مثل منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة البريكس التي تضمّ البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. وأدّى انضمام إيران إلى منظمة شنغهاي للتعاون في العام 2023 وإلى مجموعة البريكس في العام التالي، إلى تعزيز الفكر التعديلي في طهران.
توفّيت مهسا أميني في سبتمبر 2022 لدى شرطة الأخلاق بعد احتجازها بتهمة عدم ارتداء الحجاب الإلزامي. وقد أشعل موتها حركة احتجاجية على مستوى البلاد، حيث تردّدت هتافات “المرأة والحياة والحرية” و”الموت للديكتاتور” في شوارع المدن الإيرانية الكبرى لأشهر طويلة. وعلى الرغم من قمع النظام العنيف للاحتجاجات، استمرّت المظاهرات إلى ما بعد العام 2023.
وشكّل ردّ النظام العنيف صدمةً للإيرانيين في الشتات والمراقبين الدوليين.36 وتحدّث عدد من المسؤولين في العواصم الغربية علناً عن مساءلة مرتكبي أعمال العنف.37 وبالتالي، وبعد مرور عام على الاحتجاجات، تعكس المحادثات حول تجديد خطة العمل الشاملة المشتركة صورة سيئة عن الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب. وقد أشار مراقبون في الغرب إلى أنّ التفاوض مع إيران بشأن برنامجها النووي في هذه المرحلة سيكون بمثابة تبييض لفظائع النظام.38
لقد أملت إدارة بايدن في إصلاح الضرر الذي ألحقه الرئيس ترامب بخطة العمل الشاملة المشتركة. ومع ذلك، أدركت إيران منذ العام 2015، أنّه حتى مع تخفيف العقوبات بموجب الاتفاق النووي، قلّصت العقوبات الأخرى التي ظلّت سارية – وتحديداً تلك المفروضة على القطاع المالي – فوائد الاتفاق بشكل كبير. وفي الوقت عينه، قامت إيران بتوطيد علاقاتها مع الصين وروسيا، ما خفّف ضرورة التوصّل إلى اتفاق لإنهاء عزلتها. وفي الوقت نفسه، أصبح من الصعب أكثر على واشنطن أن تتجاهل التهديدات الأمنية التي تشكّلها أصول إيران غير المتكافئة على المنطقة وأن تحافظ على مقاربة تمكّنها من الخوض في المحادثات النووية على حدة بعيداً عن تطلّعات طهران الإقليمية. وعليه، فإنّ احتمالات أن تتوّج الجهود المبذولة لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة بنجاح ضئيلة.