في العام 2015، أقرّ اتفاق باريس، الذي اعتُمد في مؤتمر الأطراف الحادي والعشرين (COP21) التابع لاتفاقيّة الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغيّر المناخ (UNFCC)، بالخطر الوجودي الذي يُمثّله تغيّر المناخ على البشرية وكوكب الأرض. وقد حدّد الاتّفاق هدفاً طموحاً يقضي بحصر ارتفاع متوسّط درجات الحرارة العالمية عند أقل من 1,5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية. غير أنّ الانبعاثات العالمية لا تزال في ارتفاع مستمرّ، ما يجعل تجاوز هذا السقف أمراً حتميّاً،1 ويدفع العالم نحو أزمات بيئية متفاقمة وظواهر مناخيّة متطرّفة. بالفعل، كان العام 2024 الأكثر احتراراً على الإطلاق، حيث ارتفع متوسّط درجات الحرارة العالمية بمقدار 1,55 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية.2
لا بدّ من تضافر الجهود العالمية وتنسيقها للحدّ من التأثيرات السلبية المحتملة لتغيّر المناخ، وهو تحدّ يستدعي استجابات طموحة وفاعلة. وفي هذا السياق، تملك قطر مقوّمات تمكّنها من تأدية دور قيادي في العمل المناخي. فمنذ تسعينات القرن الماضي، كانت قطر سبّاقة في إنتاج الغاز الطبيعي المسال وتصديره، والذي يُعدّ وقوداً انتقالياً أنظف من الفحم والنفط من حيث انبعاثات الاستخدام النهائي. وقد أثمر هذا للتوجّه، إذ حلّ الغازُ الطبيعي بديلاً للفحم الأكثر تلويثاً في الكثير من الدول حول العالم، ما أسهم في الحدّ من الانبعاثات العالمية، وأتاح لقطر تحقيق ازدهار اقتصادي جعلها من بين أغنى دول العالم. واليوم، تجد قطر نفسها في موقع فريد يمكّنها من الإسهام في دفع الجهود الدولية الرامية إلى خفض الانبعاثات ومواجهة تحدّيات المناخ.
لقد مهّدت ثروة قطر الطريق لتسريع عجلة التنمية الاقتصادية، . إذ شهد اقتصادها نمواً هائلاً بين عامَي 1995 و2015، حيث ارتفع الناتج المحلّي الإجمالي من أقل من 20 مليار دولار إلى أكثر من 160 مليار دولار (بحسب سعر الدولار الثابت لعام 2015) وتضاعف عدد سكانها أربع مرّات من 650 ألف نسمة في العام 2000 إلى أكثر من 2,7 مليون نسمة بحلول العام 2017.3 غير أنّ لهذا التوسّع السريع تبعاته، إذ أصبحت قطر من بين الدول الأعلى ف يالعالم من حيث انبعاثات غازات الدفيئة للفرد. ومع ذلك، إذا ما قورنت هذه الانبعاثات بحجم الناتج المحلّي الإجمالي، فهي تبقى أقلّ من متوسّط دول مجلس التعاون الخليجي كافة، باستثناء دولة واحدة.4 علاوة على ذلك، نظراً لحجم قطر الضغير، فإنّ مساهمتها في إجمالي الانبعاثات العالمية لا تتجاوز 0,3 في المئة.5وعلى الرغم من أنّ قطر ليست المحرّك الأساسي لهذه المشكلة ولا يمكن أن تكون جوهر الحلّ، إلّا أنّها تبقى ملتزمة بتأدية دورها ف يالجهود العالمية للحدّ من الإنبعاثات.
تُبرز رؤية قطر الوطنية 2030 أهميّة التوازن بين احتياجات التنمية وحماية البيئة، بما في ذلك من خلال دعم الجهود الدولية الآيلة إلى التخفيف من آثار تغيّر المناخ.6 ففي العام 2021، أطلقت قطر “خطة العمل الوطنية لتغيّر المناخ” التي تهدف إلى تقليص انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 25 في المئة (مقارنة بالوضع الحالي) بحلول العام 2030. وحدّدت الخطة أيضاً 36 إجراءً للتكيّف مع تغيّر المناخ وأكثر من 300 مبادرة. وفي العام 2024، دعت “إستراتيجيّة التنمية الوطنيّة الثالثة” القطرية إلى تعزيز تقنيّات احتجاز الكربون واعتماد الطاقة المتجدّدة (بزيادة القدرة الحالية إلى 4 جيغاوات)، فضلاً عن اتّخاذ إجراءات لخفض استهلاك الطاقة وتحسين كفاءتها.7
على مدى العقدين الماضيين، استثمرت قطر بكثافة في بناء قاعدة معارفها وتعزيز قدرتها التقنيّة على معالجة القضايا البيئية وتحدّيات تغيّر المناخ. ففي العام 2010، أسّست “معهد قطر لبحوث البيئة والطاقة” (QEERI)، وأنشأت في العام 2021 وزارة البيئة والتغيّر المناخي في العام 2021، و”إرثنا مركز لمستقبل مستدام” في العام 2022. علاوة على ذلك، تستضيف قطر “المجلس العالمي للبصمة الكربونية” (GCC)، وهو أوّل برنامج دولي لأرصدة الكربون مقرّه في الجنوب العالمي، والذي أسّسته “المنظمة الخليجية للبحث والتطوير” (GORD) في العام 2016.
استناداً إلى ثروة الخبرات المحلّية، نظّم مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدوليّة و”إرثنا” ورشة عمل لاستكشاف سياسات عمليّة تهدف إلى خفض انبعاثات الكربون والحدّ من تداعياتها، بما يتماشى مع رؤية قطر الوطنية 2030 والسياق الاجتماعي والاقتصادي، ويتوافق مع الاعتبارات البيئية. وقد ضمّت ورشة العمل مجموعة متنوّعة من الباحثين المتخصّصين في دراسة إستراتيجيات إزالة وخفض الانبعاثات في قطر، ناقشوا تأثير بحوثهم على مستوى السياسات. وشاركت في المناقشات مجموعةٌ من الخبراء المتخصّصين والمستشارين من وزارة البيئة والتغيّر المناخي و”مؤسّسة قطر” و”مؤسّسة العطية”، وغيرها من الجهات المعنية.
في ختام ورشة العمل، اتّفق عددٌ من المشاركين على التعاون لإعداد ملف شامل يرتكز على إستراتيجيات فعّالة لخفض انبعاثات الكربون في قطر. وقد انضمّ إلى هذا الجهد عشرون خبيراً متخصّصاً، ليقدّموا مجموعةً من عشر موجزات السياسات تندرج ضمن أربعة أقسام رئيسية، بما يساهم في تشكيل إطار عمل مبتكر وملموس لتحقيق أهداف الاستدامة البيئية في الدولة.
يناقش القسم الأول الترابط بين خفض انبعاثات الكربون والاقتصاد القطري، ويتضمّن ثلاثة فصول. يتناول الفصل الأول، وهو من تأليف معزّ علي وعبد الفتاح حامد علي وغونزالو كاسترو دي لا ماتا وأليكس أماتو، دورَ صادرات قطر من الغاز الطبيعي المسال في تعويض الانبعاثات على الصعيد العالمي. أمّا الفصل الثاني، بقلم ظبية المهندي وبيفرلي ميلتون-إدواردز، فيستعرض موضوع صادرات الطاقة والمناقشات حول التكنولوجيا المنخفضة الكربون. والفصل الثالث الذي ألفّه مارسيلو كونتستابيلي وكارلوس منديز وبانكاج كومار ومروة بن لحرش، فيُحدّد مسارات إزالة الكربون والتنويع الاقتصادي في قطر.
أمّا القسم الثاني، فيركّز على بدائل الكربون والتقنيّات المنخفضة الكربون في قطر، ويضمّ أربعة فصول: الأوّل حول مستقبل الطاقة الشمسية، من تأليف جاستين دارغين؛ والثاني عن دور الطاقة النووية في إزالة الكربون، من تأليف دويغـو سـيفر؛ والثالث حول دور الهيدروجين كمحفّز لخفض الانبعاثات، بقلم عائشة السريحي؛ والرابع عن خفض انبعاثات الكربون من خلال تحلية المياه، من تأليف ديما المصري ومحمد أبو هواش.
أخيراً وليس آخراً، ينظر القسم الثالث في أسواق الكربون، ويتألّف من ثلاثة فصول: الأول حول دور أسواق الكربون في اتفاق باريس والتداعيات بالنسبة إلى قطر، وهو من تأليف ألكسندرا سويزر؛ والثاني عن أسواق الكربون وإستراتيجيّات خفض الانبعاثات لتحقيق صافي الإنبعاثات الصفرية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بقلم ﻧﻴﺸﺎد ﺷﺎﻓﻲ؛ والثالث عن أسواق الكربون كمسارٍ إستراتيجي لإزالة الكربون، من تأليف عمر آقجا وأحمد أيسان.
تستعرض فصول هذا الملف، مجتمعةً، طيفاً واسعاً من القضايا المتعلّقة بجهود قطر الحثيثة للحدّ من انبعاثات الكربون. ويُسلّط الملف الضوء على التقدّم الملحوظ التي أحرزته الدوحة في هذا المجال، فضلاً عن الفرص المتاحة أمام الجهات الفاعلة في السياسات لاستكشافها وتعزيزها، بهدف دعم البلاد في تحقيق أهدافها الطموحة لخفض الانبعاثات. وبذلك، يساهم هذا العمل في تسليط الضوء على دور قطر الحيوي والمستدام في الجهود العالمية الرامية إلى إزالة الكربون والتخفيف من الآثار السلبية لتغيّر المناخ، ما يفتح آفاقاً جديدة للابتكار والتعاون في مواجهة التحدّيات البيئية التي تواجه العالم.