حرصت قطر على تحقيق توازن دقيق بين متطلّبات التنمية المستدامة والتزاماتها البيئيّة، فوضعت هدفاً طموحاً بخفض انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 25 في المئة (مقارنة بمستوياتها الإعتيادية) بحلول العام 2030. وانطلاقاً من هذا الالتزام، نظّم مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدوليّة و”إرثنا مركز لمستقبل مستدام” في سبتمبر 2024 ورشة عمل جمعت نخبة من الباحثين المتخصّصين وخبراء السياسات المرموقين لاستكشاف أثر البرامج التنموية والبيئية في قطر على صناعة السياسات. يقدّم هذا الملف موجزات السياسات التي تعكس خلاصة الرؤى القيّمة الناتجة عن ورشة العمل، مسلّطة الضوء على سُبل خفض انبعاثات الكربون والحدّ من تداعياتها، بما يتماشى مع أهداف رؤية قطر الوطنية 2030، ويراعي السياق الاجتماعي والاقتصادي، ويتوافق مع الاعتبارات البيئية.
يُشير المساهمون في هذا الملف إلى أنّ استبدال الوقود الأحفوري عالي الانبعاثات بصادرات قطر من الغاز الطبيعي المسال قد أسهم في الحدّ من الانبعاثات العالمية. ولكن، من الظاهر أنّ هذا التأثير الإيجابي ربما بدأ بالتراجع منذ العام 2011، عندما بلغ الطلب على الفحم ذروته ثم بدأ بالإنخفاض. ولضمان استمرار قطر في المساهمة في الجهود العالمية لخفض الانبعاثات ومواجهة تغيّر المناخ، لا بدّ من تبنّي نهج متكامل يجمع بين التنويع الاقتصادي والإستراتيجيات الفعّالة للحدّ من الانبعاثات عبر جميع القطاعات ومختلف الأبعاد. ومن أجل تحقيق هذه الأهدافها الطموحة، يمكن لقطر تعزيز كفاءة الطاقة، وتوسيع نطاق مشاريع الطاقة المتجدّدة، واعتماد تقنيّات احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه، إلى جانب تطوير أدوات التمويل الأخضر مثل السندات الخضراء.
تتميّز جهود قطر لخفض الانبعاثات ببعدٍ تنموي دولي فريد من نوعه، نابع من دورها الريادي كأحد المصدّرين الرئيسيين للطاقة. وفي هذا الإطار، يمكن لإنتاجها من الغاز الطبيعي المسال وخططها التوسّعية الإسهام في خفض الانبعاثات العالمية من خلال تبنّي إستراتيجية تصدير موجّهة نحو الدول التي لا يزال الفحم يشكّل حصّةً كبيرة من مزيجها للطاقة. ويمكن لقطر كذلك أن تدعم تطوير البنى التحتية للغاز الطبيعي المسال في الدول التي تعاني شحّاً في الطاقة والتي يُتوقَّع أن تشهد نمواً اقتصادياً متسارعاً. فضلاً عن ذلك، تستطيع قطر أن تعزّز شراكاتها المناخية من خلال نقل التكنولوجيا والاستثمارات المستدامة في دول الجنوب العالمي، ما يعزّز دورها كلاعب أساسي في التحوّل العالمي نحو مستقبل أكثر استدامة.
أمّا في ما يتعلّق بالطاقة النظيفة، فيمكن لقطر تعزيز تعاونها مع شركائها الدوليين لدفع استخدام التكنولوجيا النووية المدنية قدماً، بما في ذلك المفاعلات النمطية الصغيرة، في مجالات حيوية مثل الأغذية والصحة والمياه. ويجب أخذ التحدّيات السياسية المرتبطة بنشر الطاقة النووية بعين الاعتبار، مع ضرورة تطبيق ضوابط صارمة لضمان السلامة في مختلف المجالات. من جانب آخر، يقدّم الهيدروجين بديلاً واعداً لقطر في مسار تحوّلها نحو الطاقة النظيفة، ومع ذلك، وفي ظلّ التحدّيات العالمية التي تواجه إنتاج الهيدروجين وسلاسل الإمداد، فإنّ من الحكمة أن تنتظر قطر نضوج سوق الهيدروجين قبل القيام باستثمارات ضخمة في هذا القطاع.
إضافة إلى ذلك، يمكن لقطر أن تحقّق فوائد كبيرة من الاستثمارات المستمرّة في التقنيّات المنخفضة الكربون الناشئة، لا سيّما أنّ تطوير وتعزيز تقنيات مثل احتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه يتطلّب استثمارات ضخمة وشراكات دولية قويّة في مجالات البحوث والتطوير والبنية التحتية. علاوة على ذلك، توفّر الاستثمارات في البحث والتطوير في مجال تحلية مياه البحر فرصاً تفتح آفاقاً جديدة أمام قطر لخفض الانبعاثات، لا سيما إذا كانت مدعومة بالتزامات مؤسّسية طويلة الأمد. في البداية، سيكون من الضروري إيجاد حلول مبتكَرة لإدارة الطلب وتحفيز القطاع الخاص على المشاركة الفعّالة في تطوير الخبرات وصونها. على المدى المتوسّط والطويل، ستستفيد قطر من إستراتيجية بحث وتطوير ترتكز على تبسيط اختبار التقنيات الجديدة في تحلية المياه ونشرها.
وتقدّم أسواق الكربون لقطر فرصة إستراتيجية ليس للحدّ من الانبعاثات فحسب، بل أيضاً لتنويع اقتصادها وتعزيز قدرتها التنافسية على الساحة الدولية عبر تقليص التكاليف الإجمالية ونقل التقنيات النظيفة وتوظيف أدوات التمويل الأخضر. وللاستفادة من أسواق الكربون في مساعيها لإزالة الكربون، يتعيّن على قطر تحديد الإجراءات المشروطة وغير المشروطة للحدّ من التداعيات، والتوجّه نحو توقيع اتفاقات ثنائية للتعاون، وإعداد برنامج إلزامي لتعويض الانبعاثات لقطاع الطيران اعتباراً من العام 2027. كما ينبغي تعزيز التعاون الإقليمي في تطبيق المادة 6 من اتفاقية باريس، وتطوير آلية شراء أرصدة الكربون وصناديق الأسهم من أجل تعزيز دور مجلس التعاون الخليجي في أسواق الكربون العالمية.
يمكن لقطر أن تؤدّي دوراً رائداً في التحوّل الإقليمي والدولي في مجال الطاقة إذا تمكّنت من تجاوز بعض التحدّيات واعتماد مقاربة أكثر مرونة في صنع السياسات المتعلّقة بإزالة الكربون. تقدّم فصول هذا الملف، مجتمعةً، تحليلاً عميقاً للبدائل السياسية التي يمكن لصنّاع القرار القطريين اعتمادها لتنويع الاقتصاد من جهة، ولتحقيق الأهداف الطموحة التي وضعتها قطر لخفض الانبعاثات من جهة أخرى.