تأثير التحويلات المالية الواسع النطاق: تساهم الأموال التي يرسلها المهنيّون المغتربون إلى لبنان وسوريا في تعزيز استقرار اقتصاد الدولتين والحدّ من الفقر ومن جاذبيّة الشبكات المتطرّفة من خلال توفير البدائل لاقتصادات الكفاف التي تفرضها الصراعات.
مساهمة المغتربين تتخطّى إرسال الأموال: تَحوّل المغتربون اللبنانيّون والسوريّون، وتحديداً في أوروبا، من مجرّد مُرسِلين للتحويلات الماليّة إلى مساهمين فاعلين عابرين للحدود الوطنية في مجال الحوكمة وبناء المؤسّسات والدعوة إلى السلام، إذ تَجاوز هذا الدور إرسال الأموال ليشمل تعزيز القدرة على الصمود والخدمات والسلام المستدام.
دور الدول الخليجيّة في تحفيز مشاركة الجاليات: تعكس التطوّرات التي تقودها الدول الخليجية في سوريا تحوّلاً نحو الاستقرار الإقليمي، ما قد يشجّع أفراد الشتات على إعادة الانخراط للمساهمة في تجنّب الصراعات، من خلال مواءمة جهودهم مع الأُطر الأمنيّة المستجدّة بقيادة عربية.
السياسات الرشيدة تُضاعف تأثير الشتات: بهدف تعظيم تأثير الجاليات، ينبغي على حكومات الدول المضيفة ودول المنشأ إضفاء الطابع المؤسّساتي على الانخراط، ودعم المنصّات الشاملة، وخفض تكاليف التحويلات المالية، وتمكين الهجرة الدائريّة. كما يُمكن للشتات أن يمثّل عاملاً معزّزاً للأمن، بحيث يُعيد بناء الثقة ويمنع الانزلاق مجدداً نحو الصراع.
وضعت التحوّلات الجذريّة في المشهد الجيوسياسي كلاً من سوريا ولبنان على مفترق طرق. فبينما تُعيد الجهات الفاعلة الإقليمية والدولية تقييم انخراطها في المشرق، تشهد ديناميّات بناء السلام وتعافي الدولة تغيّرات سريعة. وتبرز الدول الخليجيّة، ولا سيّما المملكة العربية السعودية وقطر، كجهات رئيسيّة في إعادة إعمار سوريا التي أنهكتها الحرب، منتقلةً من سياسات الوكالة إلى أنماط نفوذ تحفّزها التنمية. وفي الوقت نفسه، تُعيد الدول الأوروبيّة تقييم سياساتها المتعلّقة بالهجرة والأمن، إدراكاً منها أنّ الهشاشة غير المُعالَجة في الشرق الأوسط تحمل في طيّاتها مخاطر إستراتيجيّة طويلة الأجل، بدءاً من النزوح القسري وصولاً إلى التطرّف العابر للحدود.1
وفي خضم هذه التحوّلات، لا تزال قوّتان أساسيتان غير مستغلّتين بالقدر الكافي: الشتات اللبناني والشتات السوري، إذ يحتلّ هذان المجتمعان مكانة فريدة تؤهّلهما للمساهمة في تعزيز الاستقرار والأمن من خلال معالجة العوامل الجوهريّة التي تطلق شرارة الصراع معالجةً مباشرةً، مثل ضعف الدولة والانهيار الاقتصادي والتفكّك المجتمعي. وفي العراق حيث أدّت الحوكمةُ الفوقيّة المفروضة من الخارج إلى تقويض الشرعيّة، وتعميق الانقسامات الطائفية، وتأجيج عدم الاستقرار الطويل الأمد، تُسلّط إخفاقات الحرب الضوء على مخاطر عمليّة إعادة الإعمار التي تمليها جهات خارجيّة على لبنان وسوريا. على هذه الخلفيّة، يوفّر انخراط الشتات بديلاً محليّاً راسخاً، وقائماً على الثقة المجتمعية، والشبكات العابرة للحدود الوطنية، والالتزام الطويل الأمد.
يتناول موجز القضية هذا سُبُل الاستفادة من الشتات اللبناني والسوري، وتحديداً المقيم في أوروبا، كعنصر أساسي من عناصر تحقيق الأمن وإعادة الإعمار وبناء السلام على المدى الطويل. ويعطي هذا النهج الأولويّة للملكيّة المحليّة، في ظلّ تسخير الموارد المالية والخبرات المؤسساتية والقدرات المدنيّة للتعافي في مرحلة ما بعد الصراع. وتُساهم الجاليّات بالفعل في إعادة بناء المؤسّسات، وتعزيز القدرة على الصمود، وشقّ مسارات مستدامة نحو الاستقرار، من خلال التحويلات المالية، ونقل المهارات، والدعوة إلى السلام، ودعم المجتمع المدني. في هذا السياق، لا يُعدّ المغتربون مساهمين فحسب، بل يجسّدون رصيداً إستراتيجياً لمعالجة أسباب الصراع الجذريّة بوسائل غير عسكريّة.
يُعدّ الشتات اللبناني والسوري من أكبر جاليات الاغتراب وأكثرها انتشاراً وتجذّراً في العالم، لا سيّما في أوروبا وأمريكا الشمالية. وقد شهد الشتات اللبناني، الذي يعود تاريخه إلى ما قبل استقلال لبنان الحديث، توسّعاً ملحوظاً في فترة الحرب الأهليّة (بين عامَي 1975 و1990)، ومن ثمّ في أعقاب الأزمة السياسية في العام 2005، والانهيار الاقتصادي في العام 2019. واليوم، بات عدد المقيمين في الخارج يفوق عدد السكان المقيمين في لبنان.
كما ازدادت أعداد الشتات السوري ازدياداً مطّرداً بعد اندلاع الحرب الأهليّة في العام 2011. فقدأفادت المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR)، أنّه منذ العام 2023، يعيش نحو 6,6 مليون لاجئ سوري في الخارج، ما يسلّط الضوء على حجم النزوح الواسع الناجم عن الصراع في سوريا.2 فبالإضافة إلى المسجّلين رسمياً، يعيش ملايين آخرون في وضع مؤقّت أو غير موثّق في مختلف دول الشرق الأوسط وأوروبا. ووفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فقد استضافت الدول الأوروبية أكثر من مليون طالب لجوء ولاجئ سوري منذ العام 2021، توزّع نحو 70 في المئة منهم بين ألمانيا والسويد فقط.3 ففي ألمانيا، نما المجتمع السوري إلى حدّ كبير، إذ تشير التقديرات إلى أنّ نحو 1,3 مليون فرد من أصل سوري أقاموا في البلاد في العام 2023.4 كما شهدت السويد أيضاً زيادة لافتة في عدد سكانها من السوريين، حيث حصل أكثر من 27 ألف سوريّ على الجنسية السويديّة في العام 2021 وحده.5
لقد تحوّل دور هذه الجاليات من مساهمين اقتصاديّين بالدرجة الأولى إلى جهات فاعلة عابرة للحدود الوطنية في العمليّات السياسية والاجتماعية والمؤسسّاتية في أوطانها، إذ لا تقتصر أهميّة هذه الجاليات على تحويل الأموال فحسب، بل تساهم أيضاً في تعزيز الحوار حول التعافي الوطني ودعم المنظّمات الشعبية التي تسعى إلى سدّ الثغرات في مجال الحوكمة في ظلّ غياب مؤسّسات حكومية متينة.
لطالما كان لبنان من أكثر الدول اعتماداً على التحويلات المالية. ففي العام 2023، تلقّى ما يُقدّر بـ6,7 مليار دولار أمريكي من التحويلات، ما يُمثّل نحو 30 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي للبلاد.6 ولا تُعدّ هذه التدفّقات جوهريّة للمحافظة على سُبل العيش فحسب، بل تُمثّل آليّةً ضروريّة لتحقيق الاستقرار على حدّ سواء، إذ تُخفّف من وطأة المظالم الاقتصادية التي قد تُؤجّج الاضطرابات. فمن خلال حماية الأُسر من الفقر والبطالة، تُقلّل التحويلات الماليّة من احتمال حدوث الاضطرابات الاجتماعية، وتُشكّل درعاً واقياً في وجه مسبّبات الصراع. كما تدعم التحويلات المالية إحتياجات الأُسر الأساسيّة من غذاء ومسكن وتعليم ورعاية صحية، ما يُعزّز الاستهلاك المحلّي تعزيزاً مباشراً. وتُؤكّد مرونة تدفّقات التحويلات المالية، على الرغم من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية، أهميّتها بالنسبة إلى التعافي الاقتصادي والاستقرار السياسي والسلام في لبنان.
كما أدّت التحويلات الماليّة دوراً حاسماً في سوريا، إذ شكّلت شريان حياة أساسياً في ظلّ الحرب الأهلية وعجز الحكومة عن تقديم الخدمات. وعلى الرغم من الصراع والعقوبات الاقتصادية، تُقدر التحويلات المالية إلى سوريا بنحو مليار دولار سنوياً، معظمها من الشتات السوري في أوروبا.7 ولا تدعم هذه الأموال الاحتياجات الأساسية والمشاريع الصغيرة فحسب، بل تساهم في تخفيف حدّة الصراع على حدّ سواء من خلال تقليص اعتماد السكان على اقتصادات الحرب والشبكات غير المشروعة أو المجموعات المتطرّفة. وفي ظلّ غياب نظام حكوميّ فعّال للرعاية الاجتماعية، تُساهم تحويلات المغتربين مباشرةً في تعزيز الأمن الإنساني وقدرة المجتمع على الصمود. كما أنّ هذه الأموال غير مشروطة، أيّ أنّها لا ترتبط بالقيود السياسية أو المؤسّساتية التي غالباً ما ترافق المساعدات الخارجية، ما يتيح للأُسر استخدامها وفق ما تراه مناسباً.
وفي كلّ من السياقَين، لا بدّ من النظر إلى تحويلات المغتربين ليس كمصدر دعم اقتصادي أساسي فحسب، بل كأداة أمنيّة وقائيّة لمعالجة أسباب عدم الاستقرار الجذريّة، من فقر وتهميش وإهمال مؤسّساتي. فمن خلال تمكين الأُسر وتوفير الخدمات المحلّية، تُعزّز مجتمعات الشتات التماسك الاجتماعي تعزيزاً غير مباشر وتقوّض جاذبية السرديّات المتطرّفة أو التعبئة العنيفة.
يُقدَّر عدد المغتربين اللبنانيين حول العالم بـ 15 مليون شخص، ما يفوق بأشواط عدد المواطنين المقيمين في لبنان نفسه، والذي يبلغ نحو 5,7 مليون نسمة.8 وفي فترة الانهيار المالي الذي شهده لبنان بعد العام 2019، ازدادت أهميّة التحويلات المالية التي يرسلها المغتربون، إذ ساهمت في تلبية احتياجات الأسر الأساسية في ظلّ تفشّي البطالة والتضخّم. ويقدّم الجدول 1 لمحة عامة عن تدفّقات التحويلات المالية إلى البلاد كل خمس سنوات.
الجدول 1: تدفّقات التحويلات المالية السنويّة إلى لبنان9
السنة | التحويلات الشخصيّة (مليار دولار أمريكيّ) |
2003 | 4,7 |
2008 | 7,2 |
2013 | 7,6 |
2018 | 7 |
2023 | 6,7 |
منذ العام 2011، تسبّبت الحرب الأهليّة السوريّة بنزوح جماعي، وازداد عدد المغتربين السوريين ازدياداً ملحوظاً، لا سيّما في ألمانيا والسويد وهولندا وأجزاء أخرى من أوروبا. ووفقاً لتقديرات المفوّضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، تخطّى عدد السوريين الذين يعيشون بصفتهم لاجئين خارج بلادهم ستة ملايين حتى العام 2024. 10
تعكس التحويلات المالية الشخصيّة المُرسَلة إلى سوريا رغبةً جليّةً لدى المغتربين في دعم الاستقرار والتماسك المجتمعي. ويشير مبلغ التحويلات السنوية المُقدّر بمليار دولار أمريكي والمذكور أعلاه، إلى احتمال توافر مصدر غير مقيّد لرأس مال يمكن توجيهه لتلبية الاحتياجات المحلية، ما يتيح إعادة الإعمار وفقاً للطلب المحلّي، ويعزّز التقدّم المستدام، أي إعادة بناء سوريا بإرادة شعبها وبإشرافه.
إلى جانب التحويلات المالية، أصبح دور المغتربين السوريين واللبنانيين محوريّاً في تحقيق الاستقرار في فترة ما بعد الصراع، من خلال المساهمة بخبراتهم المهنية، وجهود الإغاثة الإنسانية، ومبادرات بناء السلام. وتلبّي هذه الجهود الاحتياجات الفوريّة وتعالج في الوقت نفسه الدوافع الهيكليّة الأعمق للصراع، ما يُساهم في سدّ الفراغات في الحوكمة وتعزيز الصمود على المدى الطويل.
ففي سوريا، يشارك المهنيّون المغتربون، ولا سيما المنخرطون منهم في قطاعات الرعاية الصحية والتعليم والتكنولوجيا في أوروبا، في التدريب الافتراضي والدعم المؤسّساتي وتنمية المجتمع المدني بفعاليّة. فعلى سبيل المثال، تستضيف ألمانيا أكثر من 6 آلاف طبيب سوري، وهو التجمّع الأكبر للأطباء في ألمانيا المولودين في الخارج.11 ويقدّم كثير منهم استشارات عن بُعد للمرضى في سوريا، ويدرّبون العاملين في القطاع الصحي في مناطق الصراع، كما ينسّقون سلاسل الإمداد الطبية. وتؤدّي منظّمات مثل المنتدى الاقتصادي السوري و”تبنَّى ثورة” (Adopt a Revolution) دوراً مركزياً في هذه الجهود، حيث تُسهّل المشاركة في السياسات، وتطوير القيادات المحلية، ونقل المعرفة.
أما الجالية اللبنانية فتضطلع بدور تحويلي مماثل. فقد شكّلت برامج مثل الطاقة الاغترابية اللبنانية (LDE) ومؤسّسة المديرين التنفيذيين الماليين الدوليين اللبنانيين (LIFE) صلة وصل بين المهنيّين في الخارج وروّاد الأعمال المحليّين والمؤسّسات الأكاديمية والهيئات الحكومية. كما تستفيد مراكز التكنولوجيا التي يقودها المغتربون مثل بيريتك (Berytech) وآلت سيتي (AltCity) من خدمات الإرشاد والشراكات التي تعزّز الابتكار وتخلق فرص عمل. وقد جمعت “LIFE” وحدها 3,1 مليون دولار في العام 2023 لدعم سُبل الوصول إلى التعليم وتوفير فرص عمل، عبر مؤسّسات مثل الجامعة الأميركية في بيروت (AUB) والجامعة اللبنانية الأميركية (LAU).12 وتساهم هذه الجهود في تعزيز رأس المال البشري والحدّ من التهميش الاقتصادي، الذي يُعدّ عاملاً موثّقاً في إشعال الصراعات.
فمن خلال الاستثمار في البنية التحتية الاجتماعية، ولا سيّما في مجالات الصحة والتعليم وريادة الأعمال، يوفّر المهنيّون المغتربون بدائل للاقتصادات العسكرية أو الاستغلالية. وتعزّز هذه المساهمات قدرة الدولة على الصمود، وتحدّ من الظروف التي تؤدّي إلى تجنيد المتطرّفين أو تَجدّد العنف.
وبالإضافة إلى نقل المهارات وتقديم الخدمات، تساهم الجاليتان في بناء السلام مساهمةً ملموسة. فقد بذلت الجالية السورية جهوداً حثيثة في مجال العدالة الانتقالية، ولا سيّما عبر المركز السوري للعدالة والمساءلة (SJAC) الذي يوثّق جرائم الحرب ويُعدّ الأدلّة من أجل الإجراءات القانونية المستقبلية. ويساهم ذلك في وضع أُطر للمساءلة لفترة ما بعد الصراع، الأمر الذي يُعدّ ضروريّاً لترسيخ السلام على المدى الطويل. كما تواصل الجمعية الطبية السورية الأمريكية (SAMS) عملها في مناطق عالية الخطورة، من خلال الحفاظ على تقديم الرعاية الصحية وتدريب الطواقم على الرغم من الظروف الخطيرة. ويجسّد قصف مستشفى الأتارب في محافظة حلب في العام 2021 مثالاً على البيئة الشديدة المخاطر التي تعمل فيها المؤسّسات المرتبطة بالشتات، وكذلك على دورها في حماية الخدمات الأساسية وآليات المساءلة.13
أمّا في ما يتعلق بالتماسك الاجتماعي، فقد أنشأ مجلس المدونة السورية واحدة من المنصّات القليلة الشاملة للحوار بين مكوّنات المجتمع السوري المفكّك. وقد تأسّس المجلس في العام 2019، ويضمّ ممثّلين عن الاغتراب، وأصدر وثيقة بعنوان “مدوّنة سلوك لعيش سوري مشترك” وهي وثيقة تشدّد على الاحترام المتبادل والوحدة الوطنية.14
سارع المغتربون اللبنانيون إلى الاستجابة للأزمات المتداخلة. ففي أعقاب انفجار مرفأ بيروت في العام 2020 وخلال جائحة فيروس كورونا المستجد، ضخّت منظّمات مثل الصليب الأحمر اللبناني ملايين الدولارات على شكل مساعدات طارئة.15 وقد عوّضت هذه الاستجابات عن حالة الشلل الحكومي وساعدت في منع الانهيار المجتمعي. وفي الوقت عينه، ساهمت المبادرات التعليميّة المدعومة من الشتات، مثل أكاديميّة التواصل والقيادة التابعة للجامعة اللبنانية الأميركية (Outreach and Leadership Academy)، في تعزيز انخراط الشباب والتفاهم بين الطوائف، ما يدعم الثقة الاجتماعية في سياق تطغى عليه الانقسامات العميقة.
كما تُعزّز جهود المناصرة الدولية بقيادة الشتات هذه المبادرات، إذ تستمرّ الشبكات في الضغط من أجل إجراء إصلاحات، ووصول المساعدات الإنسانية، وحماية الحريّات المدنية. ففي سوريا ولبنان، يعالج هذا النشاط العابر للحدود ثغرات الحوكمة ويساهم في منع نشوب الصراعات وبناء السلام المستدام.
فيما تنطلق سوريا على درب التعافي في أعقاب سقوط نظام الأسد، صعد نجم قطر والمملكة العربية السعودية كجهتين فاعلتين مؤثّرتين تأثيراً مطّرداً في مرحلة ما بعد الصراع، ما يمثّل تحوّلاً ملحوظاً في مقاربة المنطقة إزاء عمليّة إعادة الإعمار. فبدلاً من الاكتفاء بالقنوات السياسية أو العسكرية، باتت الدولتان الخليجيّتان توظّفان أدوات اقتصادية وإستراتيجيّات تنموية لترسيخ حضورهما والتحكّم بمخرجات الأمور. ويعكس هذا التطور انتقالاً أوسع من التنافس الجيوسياسي إلى الانخراط الاقتصادي وبناء الدولة، انطلاقاً من قناعة راسخة بأنّ النفوذ المستدام في المنطقة يجب أن يستند إلى إعادة الإعمار والتعافي المؤسّساتي بقيادة محلية.
ترسّخ التطوّرات الأخيرة هذا التحوّل، لا سيّما عقب القمة الخليجيّة الأمريكيّة التي عُقدت في الرياض في 14 مايو. ومن اللافت أنّ ردود الفعل الإيجابية على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفع العقوبات ساهمت في تعزيز أهليّة سوريا للحصول على التمويل المتعدّد الأطراف والمساعدات التنموية. وعلى هذه الخلفيّة، اتّخذت قطر والمملكة العربية السعودية خطوات ملموسة لترسيخ دورهما القيادي على الساحة الإقليمية. وشملت هذه الخطوات تسديد الديون المستحقّة على سوريا لصالح المؤسّسة الدولية للتنمية التابعة للبنك الدولي والبالغة 15,5 مليون دولار،16 فضلاً عن اتفاق قطر لتزويد سوريا بالغاز الطبيعي عن طريق الأردن بغية الحدّ من نقص الطاقة المزمن.17 ولا تقتصر هذه المبادرات على تلبية الاحتياجات العاجلة للبنية التحتية السورية فحسب، بل تؤكّد أيضاً تأكيداً رمزيّاً أنّ مسار البلاد المستقبلي ستُحدّده أُطر أمنيّة تقودها الدول العربية لتعزيز الاستقرار الإقليمي.
ومن أبرز آثار هذا الانخراط الإقليمي المتجدّد قدرته على تحفيز مشاركة الشتات. فبالنسبة إلى الجاليات اللبنانية والسورية التي لطالما كانت متحفّظة تاريخياً على الاستثمار في أوطانها غير المستقرّة، تُشكّل المشاركة الفعّالة لقوى إقليمية موثوقة وغنيّة بالموارد مؤشّراً قوياً على الاستقرار الناشئ والالتزام الطويل الأمد. وفي مثل هذا السياق، من المرجّح أن تستأنف مجتمعات الشتات انخراطها، حاملةً معها رؤوس الأموال والخبرات المهنيّة والمبادرات الريادية التي يمكن أن تساهم في استكمال جهود بناء الدولة والالتزام بالسلام المستدام.
وعلاوة على ذلك، تسهّل الروابط الثقافية والمهنية والاقتصادية التي تربط الكثيرين من أفراد الشتات بالدول الخليجية عمليّة إعادة الانخراط هذه. فبعد عقود من هجرة العمالة والاندماج المهني في الدول الخليجية، باتت شرائح واسعة من الجاليتين السورية واللبنانية مندمجة في الشبكات الإقليمية، ولا تَعتبر التعاون مع المبادرات التي تقودها قطر أو السعودية ممكناً فحسب، بل امتداداً طبيعياً لهويتها الإقليمية. ويوفّر هذا التوافق في المصالح والهويات بين الشتات والقيادة الخليجيّة والتعافي الوطني، أساساً واعداً لعمليّات إعادة إعمار أكثر شمولية واستدامة في شتى أنحاء المشرق.
من أجل الاستفادة القصوى من إمكانات الجاليات اللبنانية والسورية في مرحلة إعادة الإعمار ما بعد الصراع، يتعيّن على الحكومات الأوروبية والمنظمات الدولية والسلطات المحلية تبنّي عدد من الإستراتيجيات الرئيسيّة.
أولاً، ينبغي على الحكومات إضفاء الطابع المؤسّساتي على انخراط الشتات. ويشمل ذلك إنشاء آليات رسميّة مثل مكاتب خاصة بالشتات ضمن الوزارات المعنيّة، على غرار وزارات الخارجية والتنمية والتعليم، فضلاً عن إشراك ممثّلين عن الشتات في مجالس إعادة الإعمار الوطنية أو في فرق العمل المعنيّة بعملية تحقيق الاستقرار التي تقودها الأمم المتحدة. ومن شأن ذلك أن يضمن دمج أصوات الشتات في العمليّات الرسمية.
ثانياً، يمكن أن يساهم تعزيز الأدوات الماليّة وتسهيل الوصول إليها في زيادة مساهمات الشتات إلى حدّ كبير. ويمكن تحقيق ذلك عبر خفض رسوم التحويلات المالية من خلال الترويج للخدمات المالية الرقمية، ما يسهّل على المغتربين عملية إرسال الأموال إلى الوطن. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يساعد دعم إنشاء صناديق استثمارية مشتركة للشتات في تمويل مشاريع البنية التحتية ومساندة الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم في لبنان وسوريا.
ثالثاً، يعدّ الاعتراف بمساهمات الشتات في جهود بناء السلام أمراً بالغ الأهمية، لا لتحقيق المصالحة فحسب، بل لمنع نشوب الصراعات على حدّ سواء. ويمكن لدعم منصّات الشتات الشاملة وغير الحزبيّة أن يساهم في الحدّ من المخاطر الأمنية المرتبطة بالتشرذم السياسي والانقسام الأيديولوجي. ومن خلال إعطاء الأولويّة للانخراط المحايد القائم على الحقوق، يمكن لهذه المنصّات منع انتقال الصراعات من الوطن إلى الشتات، وتعزيز الوحدة في جهود إعادة الإعمار.
أخيراً، من شأن تيسير العودة والهجرة الدائرية من خلال سياسات مرنة للهجرة أن يحثّ المهنيّين في الشتات على العودة إلى تنفيذ مشاريع قصيرة الأجل بعيداً عن ضغط الالتزام بالإقامة الدائمة. وتتيح هذه المقاربة استمرار المساهمات على نحو مستدام من دون الحاجة إلى الانتقال الدائم.
وعلى الرغم من أنّ انخراط الشتات يحمل في طياته فوائد واضحة، فإنّه ينطوي أيضاً على خطر التشرذم السياسي، إذ غالباً ما تعكس المجتمعات في الخارج الانقسامات السياسية أو الطائفية أو الأيديولوجية في أوطانها. وقد تعود هذه الانقسامات إلى الواجهة في صفوف الجاليات، ما يقوّض جهود المناصرة المنسّقة والتعاون التنموي والوحدة في فترة ما بعد الصراع. وتتمثّل الطريقة الأكثر فعاليّة لمواجهة ذلك في إنشاء منصّات محايدة سياسياً تضع التعافي الوطني فوق الأجندات الفئوية، وتشجّع الحوار، وتعمل وفق الحوكمة الشفافة. ومن خلال السعي المتعمّد إلى الحدّ من الانقسامات وبناء التوافق، يمكن لمثل هذه المساحات أن تتجنّب تداعيات الصراع العابرة للحدود، وتحدّ من تأثير الجهات الفاعلة المفرِّقة، وتوفّر قنوات للاحتجاج البنّاء، ما يعزّز في نهاية المطاف السلام والاستقرار على المدى الطويل.
تؤدّي الجاليتان اللبنانية والسورية دوراً محورياً في بناء السلام والأمن الدائمين في أوطانهما. فمن خلال حشد الموارد الماليّة، ونقل المعرفة المؤسّساتية، وتعزيز الحوار الشامل، تساهم هذه المجتمعات مساهمةً فعّالةً في معالجة الأسباب الجذريّة لعدم الاستقرار، أيّ الحرمان الاقتصادي، والانهيار المؤسّساتي، والتفكّك الاجتماعي. كما توطّد مساهماتهما الأمن البشري، وتساعد في إعادة بناء هياكل الدولة القادرة على الصمود، وتوفّر بدائل للعنف من خلال ترسيخ المجتمع المدني والحدّ من الاعتماد على اقتصادات الصراع.
ومن خلال اعتماد إستراتيجيّات الانخراط المناسبة، يمكن للشتات أن يساهم في تحقيق الاستقرار ضمن البيئات الهشة في فترة ما بعد الصراع ويمنع تجدّد العنف، متجنّباً المخاطر التي شهدتها عمليّة إعادة الإعمار في العراق. لقد استعرض موجز القضية هذا المسارات الملموسة الآيلة إلى تعظيم تأثير الشتات من خلال مدّ عملية بناء السلام بدعمٍ شامل ومستدام ومُراعٍ للمخاطر. ويجب على صنّاع السياسات أن يجعلوا من هذه الأولويّة محور اهتمامهم، من خلال تحويل قدرات الشتات إلى ركيزة أساسيّة للاستقرار الإقليمي.