بعدما اندلعت تظاهرات “يوم الغضب” ضد الرئيس حسني مبارك في مختلف أنحاء مصر في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني/يناير، أعربت وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، عن ردة الفعل الأمريكية قائلة: حسب تقييمنا، إن الحكومة المصرية مستقرة، وهي تبحث عن الطرق الكفيلة بالاستجابة للاحتياجات والمصالح المشروعة للشعب المصري”، وهي ردة فعل فاترة افتقرت تماماً إلى قوة الإقناع؛ لأن المؤشرات الإستقرار التي اعتبرتها وزيرة الخارجية يمكن الاختلاف فيها وطرح السؤال حولها – فأدت التظاهرات في أول يومها إلى أربع وفيات واعتقال خمسمائة متظاهر وانتشار موجة الاحتجاجات المتسمة بالغضب في طول البلاد وعرضها، وقيل إن الحكومة حجبت مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك والتويتر، كما وردت شائعات فحواها أنها قطعت اتصالات الهواتف الجوالة. وكل هذه التطورات والأحداث لم يسبق لها نظير في تاريخ مصر الحديث إطلاقا وبكل المقاييس، فلا تتذكر الذاكرة الحية أن الشوارع المصرية شهدت احتجاجات بهذا الحجم وبهذه الضخامة ضد الرئيس حسني مبارك، والأهم من ذلك أن الشعب المصري تجاوز حاجز الخوف، فهم اليوم جاهزون للنضال، ويجب على الولايات المتحدة أن تدرك أهمية هذه اللحظة وخطورتها.
ومع أنه من السابق للأوان القول: إلى أين ستتجه التظاهرات، إلا أن مؤشرات انعدام الاستقرار في مصر تتماثل وبشكل ملفت مع النموذج التونسي الذي أدى إلى الإطاحة بالنظام التونسي. ومثل تونس، عاشت مصر أيضا تاريخاً من القمع من قبل الدولة لدرجة جعلت شريحة كبيرة من المواطنين يشعرون بالإحباط والغضب ضد سياساتها، وفيما كانت الأجواء مشحونة داخل تونس فإن انتحار محمد بوعزيزي حرقا أثار أعمال عنف بمستوى كبير أدت في نهاية المطاف إلى انهيار النظام. وإذا كان وقوع الانتفاضات في الشرق الأوسط لا يتطلب إلا وجود شخصية مثل بوعزيزي، فيبدو أن المصريين أيضا قد اكتشفوا مثل هذه الشخصية، حيث رفع الكثيرون صورة خالد سعيد، 28 عاما، الذي تزعم الجماعات المهتمة بحقوق الإنسان أن الشرطة عذبته تعذيباً أدى إلى وفاته في شهر تموز/يوليو الماضي.
ويتجلى من النموذج التونسي أن الثورات لا تقع بين ليلة وضحاها، بل إنها تحتاج إلى سلسلة من الأحداث والوقائع التي تمهد السبيل وتهيئ المناخ لاندلاع العنف، وتوفر الزخم المطلوب والقوة الدافعة لها، ويدرك التونسيون اليوم مدى تأثير “ثورة الخبز” التي وقعت عام 1984 في انتفاضتهم الحالية، وكذلك الانتفاضة الجزائرية التي وقعت عام 1988 فأسقطت النظام القائم على الحزب الواحد وقادت إلى تطبيق إصلاحات ديمقراطية في الجزائر، فكذلك يدرك المصريون أيضاً أهمية التظاهرات حول ارتفاع الأسعار وتدني أجرة العمل والتي وقعت في الثامن من شهر نيسان/أبريل لعام 2008 بجانب التظاهرات حول أسعار المواد الغذائية عام 2007، كما لا يقل العنف الطائفي المستمر بين المسيحيين والمسلمين في مصر خطورة كما يتجلى من حادث الهجوم الإرهابي الأخير الذي استهدف كنيسة القديسين بالإسكندرية، الذي أعاد إلى الأضواء التوتر الذي يتسم به المجتمع المصري منذ وقت طويل، ويفرض هو الآخر أيضا الضغوط على النظام.
وبجانب الضغوط السياسية والطائفية في مصر، يتفاقم الوضع في ظل ارتفاع معدل الفقر، وإذا كانت مشكلة الفقر عاملاً حاسماً في الانتفاضة التونسية فهي أكثر خطورة في مصر حيث لا تتجاوز نسبة السكان العائشين تحت خط الفقر 3.8 بالمائة في تونس، إلا أن هذه النسبة تصل إلى 20 بالمائة في مصر، كما أن متوسط الوضع المعيشي للسكان التونسيين هو أفضل بكثير من مصر، فيبلغ الناتج الإجمالي الوطني لكل فرد 9500 دولار أمريكي في تونس مقارنة بـ6200 دولار أمريكي في مصر، وأصبحت قاعدة الطبقة المتوسطة في مصر تنكمش بسبب احتكار النخبة المعدودة ثروات البلاد، مما أدى إلى تنامي عدم الاستقرار.
ومع أن مصر بلد فقير إلا أن شعبها متعلم نسبياً. وظهر في النموذج التونسي أن شعبا فقيراً ومتعلماً يستطيع تنظيم احتجاجات أكثر فعالية وبالتالي المساس باستقرار البلد، وبإمكان المصريين أيضا أن يحاكوا هذا النموذج، ولا غرو في ذلك، فإن معدل التعليم في مصر يصل إلى 71 بالمائة، وهو يماثل المعدل التونسي الذي يبلغ 74 بالمائة، فيحتضن البلدان سكانا متعلمين يمكنهم الإفصاح عن مطالبهم، كما أن مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيس بوك والتويتر تتيح منابر جاهزة لها تأثيرات بعيدة المدى لترويج الأفكار والآراء وتنظيم التظاهرات.
إن تصريح وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون القائل بأن النظام “يبحث عن الطرق الكفيلة بالاستجابة للاحتياجات والمصالح المشروعة للشعب المصري” يماثل، وبشكل خطير، تصريح أدلى به زين العابدين بن علي في كلمة ألقاها أمام شعبه بعد الانتفاضة قائلا: “إني أفهمكم الآن”. التونسيون ليسوا أغبياء ليؤمنوا بأن الرئيس بدأ، في نهاية المطاف، يفهم شعبه الآن بعد الاستمرار في الحكم لمدة 23 سنة، فكذلك يرفض المصريون أيضا الفكرة القائلة بأن نظام مبارك، وبعد بقائه في الحكم 30 سنة على التوالي، يسعى الآن لمعالجة “الاحتياجات المشروعة” للمصريين.
وبدلاً من الإدلاء بتصريحات غير مقنعة، ينبغي على وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون اغتنام هذه الفرصة الرائعة لإعادة النظر في سياسة واشنطن القائمة على التحالف مع الأنظمة الأتوقراطية في العالم العربي، لأن ذلك يمثل الخيار الوحيد المتاح للحفاظ على مصداقية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وينبغي لها أيضاً أن تتذ
كر ما قالته وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، كوندوليزا رايس: “إن بلادي، الولايات المتحدة، انتهجت منذ 60 سنة سياسة الاستقرار على حساب الديمقراطية في المنطقة، ولكننا لم نحقق أياً منهما”.
الاحتجاجات المصرية تمثل مشكلة شائكة بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وإن الولايات المتحدة، إذ تؤكد تمسكها بنظام مبارك، فإنها تراهن على بقائه. ولكن إذا انتهى الأمر بالرئيس مبارك إلى النفي إلى قصر سعودي فستواجه الولايات المتحدة صعوبة كبيرة في استعادة مصداقيتها المتضررة في مصر بشكل خاص ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام. ولكن تغيير الحلفاء ليس أمرا سهلاً بالضرورة، وهو ما اكتشفه جيفري فيلتمان في تونس عندما حيته الجماهير بلوحات كتب عليها “ليرجع فيلتمان، لا للتدخل الأجنبي”. تغير النظام أم لا، إلا أنه أصبح واضحاً أن النموذج المصري يشهد نقلة. وكما اتضح من موقف وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون حتى الآن، إنه يشهد نقلة خارج أسوار السياسة الأمريكية التقليدية في البلاد، ولكن يجب على الولايات المتحدة ـ لأجل حماية مصالحها ونفوذها في البلاد وفي المنطقة ـ أن تفهم حجم الاحتجاجات وضخامتها فهماً صحيحاً ليتسنى لها مواكبة التطورات.