يدرك الرئيس أوباما نهج رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو العنيد، والأناني ذو الوجهين، ولكن هل يمكن أن تغض الولايات المتحدة الطرف فعلاً عن محاولات نتنياهو الأخيرة الرامية إلى كسب تأييد أصوات ناخبي اليمين الاسرائيلي؟ حتى لو كان ذلك على حساب علاقته الودية الوحيدة في الشرق الأوسط مع الأردن المجاورة؟
لهذه التساؤلات جواب مدوي: كلا. فحتى عند استثناء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي والخسائر البشرية المرتبطة به، فإن مغامرات نتنياهو الأخيرة في ما يتعلق بالحرم الشريف، تهدد بتقويض استقرار الأردن – واحة الاستقرار الأخيرة والموثوقة في المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة. خسارة الأردن تعني المخاطرة بمليارات الدولارات التي تمّ استثمارها لتدعيم الاستقرار في المنطقة، كما أنها قد تعرض حياة المدنيين والعسكريين الأمريكيين للخطر. خيارات الولايات المتحدة معدومة، باستثناء اعتمادها على الأردن كقاعدة لها يمكن من خلالها ضمان أمن مصالحها في المنطقة.
وسط تصاعد أعمال العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين والذي أدى إلى مقتل 11 إسرائيلياً وعلى الأقل 80 فلسطينياً (نصف هذه الأرواح تقريبا ذهبت ضحية أعمال عنف ميدانية نفذها الجنود والمستوطنون الإسرائيليون في مواجهات ميدانية ومن دون أحكام قضائية)، تجد الحرم الشريف: وهو مجمع تصل مساحته إلى 35 فدان ويضم ثالث الأماكن المقدسة عند المسلمين بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة في المملكة العربية السعودية.
منذ العام 1924، بقي الأردنيون، وعلى الأخص العائلة الهاشمية، أوصياء على الحرم الشريف أو المسجد الأقصى، وهو المعروف في الأوساط اليهودية بجبل الهيكل. فعلى مدى عقود، حظي الهاشميون من خلال صلتهم بالحرم الشريف بمصدرٍ مهمٍ للشرعية في أعين العرب والمسلمين على حدّ سواء. ألقى مصدر الشرعية هذا الضوء على جزء مهم من الدور الذي لا يزال الهاشميون يؤدونه في المحافظة على التوازن بين الخصومات الدينية والعشائرية والجغرافية المعقدة في المنطقة.
فهمت إسرائيل الدور الحساس الذي يؤديه الأردنيون، وأهميته في التخفيف من وقع خسارة الحرم الشريف بالنسبة للعالم الإسلامي. وعلى هذا الأساس، فقد تم المحافظة على مكانتهم وموقعهم من هذه المسؤوليات تجاه الحرم (و المواقع المسيحية في البلدة القديمة) بعد احتلال القدس في عام 1967. بالإضافة إلى ذلك، عززت معاهدة وادي عربة للسلام في العام 1994 بين الأردن وإسرائيل من سيطرة الأردن وأكدت على حقه في إدارة الحرم الشريف، رغم أن المملكة الأردنية الهاشمية اختارت في بعض الأحيان توقيف أو إعادة النظر في مستوى دعمه، مثلما جرى مؤقتا بين العامين 2000 و2003. بالطبع لم يردع ذلك إسرائيل من إلحاق الضرر بالمسجد الأقصى منذ أيام الاحتلال الأولى من خلال حفر شبكة أنفاق تحته وإقامة أعمال حفر أثرية. يعود تاريخ حفر أول نفق إلى العام 1967 تحت رعاية سلطة الآثار الإسرائيلية. وهو يُعتبر الآن جزء من شبكة أنفاق تمتد على مساحة 1000 متر وعلى عمق عدة أمتار. وكانت فلسطين والمملكة قد قدمتا تقريراً مشتركاً إلى اليونيسكو تناول موضوع الأنفاق الإسرائيلية تلك، وأشارتا فيه إلى أن أعمال حفر الأنفاق المستمرة في الحرم المقدس والمناطق المحيطة بالمدينة القديمة تلحق ضرراً بنيوياً بهذه المناطق.
لم يستطع أعضاء متطرفون في الحكومة الإسرائيلية اليمينية، يغريهم حالة عدم الاستقرار السائدة في العالم العربي وحقيقة أن موسم الانتخابات الرئاسية الأمريكية يجري على قدمِ وساق، إلا أن يختبروا حدود قوتهم. وتحت وقع رغبة متنامية بين محافظين من النخبة السياسية الإسرائيلية – بقيادة وزير الزراعة أوري أرييل وعضو الكنيست موشيه فيجلين – والشعب الإسرائيلي الأوسع إلى تغيير الحالة الراهنة التي تتحكم في حق الصلاة في الحرم الشريف. في الحقيقة، منذ أواخر العام 2013، زادت زيارات السياسيين الإسرائيليين اليمنيين والمستوطنين إلى الحرم الشريف، التي ترافقت مع جهود جديدة بذلها الكنيست لسن قوانين جديدة ترمي إلى تغيير التشريع الإسرائيلي 1967/68. وبناءً على ذلك، سعت هذه الجهود إلى الحدّ من حقّ المسلمين في الدخول إلى الحرم الشريف، ومنح اليهود الإذن بالصلاة في المسجد. وهكذا، عادت إلى ذاكرة الفلسطينيين ذكريات القيود التي فرضتها الحكومة الإسرائيلية على المسجد الإبراهيمي في الخليل حيث تحوّلت القيود التي بدأت في العام 1994 كقيود مؤقتة على الفلسطينيين تحدد ساعات دخولهم إلى المسجد لأداء الصلاة إلى تقسيم دائم للموقع.
ماذا يتعين على الولايات المتحدة أن تفعل؟
وعلى الرغم من أن الجنود الإسرائيليين يقتلون الفلسطينيين بأسلحة تؤمنها لهم الولايات المتحدة، إلا أن هذه الأخيرة لا تدين إسرائيل وسياستها المستمرة القائمة على الإعدام بلا محاكمة. وفي الواقع، فإنه خلال موجة العنف الأخيرة، زادت الولايات المتحدة من مساعداتها العسكرية التي تقدمها لإسرائيل. يبدو من خلال الاستمرار في دعم إسرائيل عبر المساعدات العسكرية السخية، أن الولايات المتحدة توافق على تصرفات المستوطنين اليهود المتشددين وأعمال القتل من دون محاكمات التي يمارسها الجيش الإسرائيلي بحق الفلسطينيين. من وجهة نظر عربية، فإن هذا الدعم الثابت للمؤسسة العسكرية الاسرائيلية، يتعارض مع موقف الولايات المتحدة في ما يتعلق بمكافحة التطرف. فإنه بالإضافة إلى التهديد الذي تطرحه الأفعال الإسرائيلية على الاستقرار الأردني، فإن الحكومة الأمريكية تحتاج إلى تبيان مساندتها على ثلاث جبهات:
1. التمسك علناً وبوضوح بالوصاية الأردنية على الحرم الشريف.
إن تقويض السيطرة الهاشمية على المواقع المقدسة في القدس يؤثر مباشرةً على قدرة الملك عبدالله الثاني على الحكم. في حال فقد الملك عبدالله وصايته على المواقع المقدسة في القدس، فإن شرعيته كحاكم ستُقوّض. يعترف الملك عبدالله بضعف حكومته، لا سيما وأن بلاده قد شهدت احتجاجات شعبية تدعم الفلسطينيين وتدعو إلى إلغاء معاهدة السلام المبرمة بين الأردن وإسرائيل. في الحقيقة، للمرة الأولى منذ حرب الأردن مع إسرائيل، علت الأصوات بين مواطني الضفة الشرقية تطالب بإنشاء ميليشيا مسلحة لدعم الحرم الشريف نظراً لعجز الحكومة عن صدّ التقدم الإسرائيلي.
لإسرائيل مصلحة في استقرار الأردن. إن انهيار الحكومة الأردنية ستزعزع استقرار واحدة من الدول القليلة التي لا تزال تتمتع بالاستقرار في المنطقة. إن أردناً غير مستقر يعني أنه سيتعرض لتهديدات أمنية من قبل ما يُعرف باسم الدولة الإسلامية، وهي تهديدات قد تصل إلى إسرائيل عبر الحدود الشرقية. وقد يدخل اللاجئون المتدفقون إلى الأردن طلباً للأمن إلى إسرائيل، الأمر الذي من شأنه أن يخلق المزيد من المشاكل إضافة إلى ما تواجهه إسرائيل نتيجة احتلالها للأراضي الفلسطينية. وانطلاقاً من هذا المبدأ، فإن مصلحة إسرائيل، تستدعي المحافظة على الوضع الراهن للحرم الشريف وأن تساند الأردن كوصي تاريخي عليه.
2. مكافحة التطرف والإرهاب بغضّ النظر عن مصدرهما.
رغم محاربة الولايات المتحدة للتطرف الإسلامي في المنطقة، إلا أنها لا تندد بالعنف الذي يمارسه المتطرفون اليهود على الأراضي الفلسطينية المحتلة. إن المساعدات الأمريكية (الرسمية والخاصة) تتجه نحو تمويل أعمال بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتلة. في حال رغبت الولايات المتحدة في أن تبدو في موقف أكثر موضوعية في سياستها إزاء مكافحة الإرهاب، لا بدّ منها أن تضيف جماعات يهودية متطرفة على غرار “معهد الهيكل”، “شبيبة التلال” ومجموعة مستوطني يتسهار – الذين يعتقدون أنهم يتمتعون بموجب التوراة بحقّ بناء الهيكل الثالث في موقع قبة الصخرة، ويشنون هجمات ما يعرف “بالبرايس تاغ” على الفلسطينيين–، هؤلاء الجماعات الإسرائيلية المتطرفة ينبغي على الولايات المتحدة أن تضيف اسمائها إلى قاعدة بيانات الكشف عن الإرهابيين التابعة لمكتب التحقيقات الفيدرالي وتجميد أصولها. من المفارقة هنا أن هذه المجموعات تتشارك في إيمانهم بنبوءة “نهاية العالم” وهي ذاتها التي تسيّر المجموعات الإرهابية الإسلامية كالدولة الإسلامية.
3. دعوة إسرائيل إلى احترام مسؤولياتها الدولية كقوة محتلة.
باستطاعة أوباما في سنته الأخيرة من ولايته الرئاسية أن يفعل عملاً مفيداً بتذكّر إسرائيل تجاه التزاماتها باحترام القانون الدولي في ما يتعلق بمعاملة الشعوب المحتلة. وإذ تعمد إسرائيل إلى قتل المهاجمين الفلسطينيين من دون محاكمات، فإن المستوطنون الإسرائيليون من ناحيتهم يعملون على تبني مثل هذه السياسة فيحملون علناً السلاح ويطلقون النار من دون تمييز على العرب. هذا وتحتفظ السلطات الإسرائيلية بجثث الفلسطينيين لفترات إضافية حتى بعد قتلهم، علماً أن الديانتين اليهودية والإسلامية تنصان على ضرورة دفن الميت فوراً بعد وفاته. أنه يتعين على الإسرائيليين الكفّ عن هذه الممارسات ليستعيد الشعب الفلسطيني احساسه بالكرامة ولمنع التحريض على المزيد من العنف آخذين بعين الاعتبار هذه المرة أن الردّ الفلسطيني ينبثق من المستوى الشعبي؛ فالقيادة الفلسطينية ليست في وضعٍ يمكنها من استعادة النظام.